|
أسطورة التراث
محمد فيصل يغان
الحوار المتمدن-العدد: 4907 - 2015 / 8 / 25 - 20:12
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
التاريخ، بالأصح علم التاريخ هو جرد و سرد و نقد. الجرد هو ما يقارب التأريخ، في حصر و جدولة الأحداث كما هي، كمادة خام، جداول لا تحمل في طياتها (نظريا على الأقل) أية رسالة أو نظرة مسبقة أو موقف أخلاقي أو تصور. مصدرها الأول هو (وثائق حيادية، تلك التي نشأت أصلا لأغراض اجتماعية) حسب تعبير العروي، أي وثائق لا تحتمل السرد من مثل سجلات الدواوين و الرسائل الملكية و العقود التجارية، و مصدرها الثاني التأريخ لأحداث تقبل الانتظام في سرديات. أما السرد فهو إعادة صياغة هذه الأحداث في سردية معينة بناء على تصور و موقف مسبقين، بناء على أيدولوجية ظاهرة أو مضمرة. السرد ينقل مجموعة الحوادث و الأخبار من شتى مصادرها من وضع تكون فيه قابلة للتأويل، الى منظومة متكاملة متناسقة تستمد صدقيتها من بنيتها الداخلية أولا و من النظرة الأيديولوجية المغلفة لها من الخارج ثانيا. أما النقد، فهو إعادة قراءة السرديات من خلال إعادة قراءة جداول الأحداث من مصادرها المختلفة بمنهجية علمية تستحضر الظروف السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية السائدة و التي تشكل مسرح هذه الأحداث لمعرفة مدى التحريف و التدليس الذي وقع في السرد، بهدف تحديد مدى المعقولية و اللامعقولية التاريخية للسردية قيد النقد (نقد التناسق الداخلي-المتن)، و أيضا تلك الظروف التي تشكل المسرح الذي تشكلت فيه السردية المعنية و التي أملت على السارد موقفه و تصوره المسبق (نقد الأيديولوجيا المغلفة-الاسناد)، أي أن تشكل السردية بذاتها هو حدث تاريخي (و هو الأهم لنا) له مسرحه و له أبطاله. متن السردية الموروثة هي (لتاريخ أناس آخرين)، تاريخ أولئك الذين صاغوا السردية، أما تاريخنا نحن فيشمل ما جاء في متن السردية (لنقل التاريخ القديم) و واقعة تشكل السردية ذاتها (لنقل التاريخ القريب) مقروءتان بالتزامن، هكذا فقط نميز تاريخنا نحن القديم عن تاريخ من سرد. الجابري حين يقول: (فهل يمكن فهم أحداث الماضي البشري، بل هل يمكن تصورها، و لو بشكل أولي، بدون نظرة فلسفية، صريحة أو مضمرة؟ إنه بدون تصور معين للإنسان و علاقته مع الطبيعة و المجتمع لا يمكن إعادة بناء التاريخ كماض و لا بناء التاريخ كمستقبل..) فهو ينحاز للسرد و يتبرأ من الفكر النقدي العلمي، و يصرح ضمنا ان بحثه هو استراتيجية موجهة كأي سردية أخرى لخدمة مشروعه الخاص، و الخلط الواضح ما بين التاريخ كماض و التاريخ كمستقبل هو جزء من هذه الاستراتيجية، إن السرد الأسطوري للماضي يولد اشكاليات في الحاضر هي ما نحن في صدده الآن، أما المستقبل، فالصياغة السردية الأسطورية مشروعة. المثالي هو أسطوري، و نحن نبحث عن المثالية في المستقبل، و لن يحفز الناس للعمل الا الوعد بمستقبل مثالي، و ما شعارات الثورات الاجتماعية الا عناوين لأسطورة المستقبل و التي يمتلكها في ظل الثورة كل فرد و يصيغها كما يتمنى. هكذا كانت شعارات الثورة الفرنسية و الثورة الشيوعية عناوينا لأسطورة مستقبلية، أسطورة تتحقق فيها أحلام البشر في حل الأزدواجيات و التخلص من مطحنة جدل النقائض الى واقع تلتغي فيه الأزدواجية و ينفك اشتباك النقائض الى قطبين معزولين، كلٌ أبيض و كلٌ أسود، كلٌ خير و كلٌ شر. و اخيرا، في حين يلاحظ الجابري بحق (... كان التاريخ –المكتوب- سلاحا أيديولوجيا في يد الطبقات المستغلة المسيطرة) ينسى أن النقد العلمي لهذا التاريخ هو السبيل الوحيد لنزع هذا السلاح من يد هذه الطبقات. واضح أن التصنيف المذكور لعلم التاريخ هو بيداغوجي (بعدي)، أما البحث الواقعي فنقطة الانطلاق عادة ما تكون من السرديات المتوفرة ، و بتجريد هذه السرديات ضمن عملية النقد يمكن التحصل على الوقائع المجردة. إن تطور نظم المعلومات في بداياتها و تداولها تاريخيا، ابتداء من المنظومة الشفاهية بمراحلها المختلفة إلى المنظومة الكتابية بمراحلها المختلفة أيضا، أدت إلى تداخل الجرد بالسرد، و السرد بالنقد، تداخل مصبوغ بعلة الأيديولوجيا و ليس سوى النقد العلمي بقادر على إعادة الترتيب البيداغوجي المنطقي. هذا التصنيف العام لعلم التاريخ ينطبق أيضا على تواريخ العلوم الخاصة، فنرى مثلا في علم الحديث أن بداية (التدوين)، بمعنى التأريخ لسنة النبي، كان في غالبه جردٌ خالطه السرد كما يوحي ما ورد في نص الذهبي الشهير عن الحركة العلمية الإسلامية: (... و قبل هذا الزمان كان الناس يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة). و تداخل الجرد بالسرد هذا يلقي الضوء على اختلاف طرابيشي مع الجابري حول تفسير النص الكامل للذهبي المذكور آنفا، فالجابري في تكوين العقل العربي يرى أن: (... أن العلم جاهز و أن مهمة المدون، تنحصر أو تكاد في التقاطه و جمعه و تبويبه) ، و يرى طرابيشي في إشكاليات العقل العربي أن: (...ما حدث في "عصر التدوين" –بغض النظر هاهنا عن الحدود الزمنية- لم يكن عملية تسجيل و لا عملية تفريغ و تظهير، بل عملية انتاج و بناء و تنظيم للثقافة العربية الإسلامية). أي أن الجابري يبرز الجرد و السرد فيما يبرز طرابيشي الجرد و السر و النقد (المشوب بالأيديولوجيا)، أو ما يسميه الأخير (انتاج و اعادة انتاج ثقافي) و أن (...المادة الأولية التي اشتغل عليه "عصر التدوين" كانت من طبيعة بذرية "حوادث قيد الجرد-يغان"، و تنمبتها إلى شجرة "سرد الحوادث في نسق واحد-يغان"، ثم تنمية الشجرة إلى غابة "وضع السردية في اطار الأيديولوجيا الأشمل-يغان"... و هذا بحيث لو كان لنا الخيار لتحدثنا بلا من "عصر التدوين" عن عصر تكوين للعقل العربي). في كل الأحوال، فالعملية سواء كانت تدوينا أو تكوينا للعقل العربي فهي في جوهرها عملية "تأصيل" للفكر، ففي هذا العصر يقول أمين في ضحى الإسلام (...كما لاحظ الذهبي، وضعت في اللغة العربية أسس كل العلوم تقريبا) فكان خطوة كبرى في انتاج الأسطورة التراثية كما سنرى لاحقا. عودة لعلم الحديث، نرى أن الجرد ابتدأ في عصر الصحابة الأوائل و في حياة النبي محمد و استمر بعد وفاته (حيث بدأ وضع الأحاديث و خلطها بالصحيح منها بعملية سرد بدائية) من خلال عملية تقييد الأحاديث على ما تيسر من جريد نخل أو عظام أو حجارة، ثم، (حسب المؤرخين) و اعتبارا من الربع الأخير من القرن الهجري الأول إلى نهاية القرن الثاني، انتظمت عملية الجرد و السرد تدريجيا مدفوعة في بعض الأحيان بدوافع أيديولوجية (فمثلا ليست كل أحاديث موطأ مالك مسندة و بعضها مرسل و بعضها منقطع مما يدل على أن الدافع الأيديولوجي قد طغى على العلمي البحت)، و كما ورد في ضحى الإسلام: (...أن كثيرا من هؤلاء الجامعين للحديث كان عملهم ردا على حركة فقهاء العراق القياسيين). ثم من خلال عملية تدوين الأحاديث و لاحقا السرد النقدي على أساس الأيديولوجيا (ظهور منهج الإسناد و ما يتطلبه ضمن أمور أخرى من "معرفة مذاهب الرجال" و تغليبه على فحص المتن، و كذلك البدء في تأليف المساند المعتمدة على مصدر الحديث لا على موضوع الحديث مما يعكس الخلافات الأيديولوجية بالنظرة إلى الأصول). و أيضا في عملية تصنيف الأحاديث و وضع المذاهب و المدارس الفقهية، و عموما في انتاج أسطورة التراث التي قاربت على الاكتمال مع مجيء القرن الثالث الهجري حيث نشط النقد المدفوع بالأيديولوجيا، فكان التدقيق في الأحاديث و حسب ما ورد في ضحى الإسلام: (تصنيف الصحيح من الضعيف، و تشريح الرجال و الحكم لهم او عليهم) و هكذا ظهرت الصحاح و باقي كتب الحديث الستة التي اعتبرت أصح كتب الحديث، و اكتملت بذلك أو كادت، منظومة التراث الأسطورية. و قياسا على علم الحديث، فلكل علم من العلوم هذا التدرج المتداخل خلال إنشائه لينتظم ضمن أسطورة التراث. ما هي الأسطورة؟ نعتقد أن صياغة جملة واحدة محكمة لتعريف الأسطورة هي مجازفة و فيها اجحاف للموضوع و تبسيط لطبيعته الغنية المركبة. وظيفة الأسطورة الرئيسية هي تثبيت الهوية، تبريرها و اعطائها بعدا لا تاريخيا من خلال تأصيلها في المقدس و إحالتها عليه. الأسطورة هي محاولة سبغ المعنى على الواقع، على الوجود، هي سردية لتاريخ الكون و المجتمع و الطبيعة و كل الموجودات الفاعلة في حياتنا، سردية تهدف، سواء اعتمدت على وقائع فعلية أو متخيلة، الى جمع الاجزاء في كل، و بالنتيجة تحديد الهوية الذاتية من خلال تحديد موقع الذات في هذا الكل. سبق و عرفنا الوعي بالقدرة على التساؤل، و العقل بالآلة التي تصيغ التساؤلات في أسئلة قابلة للإجابة و تبحث عن هذه الاجابات، و الأسطورة بهذا المعنى هي نتيجة تساؤل الوعي و محاولة من العقل لحل التساؤل. الأسطرة إذن آلية عقلية حاضرة أبدا و لا يتحدد وجودها بالضرورة بعصر محدد من عصور تطور الفكر البشري، بل شرطها الضروري هو غياب أو تغييب الفكر الموزون منتج العلم و حاضنته و بالتالي سيادة الفكر الحدسي العرفاني منتج الأسطورة و حاضنتها. هذا الغياب أو الحضور لكفتي العقل البشري مشروط حضاريا لا زمانيا، بمعنى انه ليس حكرا على عصر من العصور الزمانبة (كرونولوجية)، بل رهينة للظروف التاريخية و الاجتماعية السائدة و التي ينشط بها العقل البشري. من هنا نجد تجدد انتاج الأساطير، فلكل ظرف من الظروف الحضارية اساطيره، أساطير قديمة و أخرى حديثة، بدوية و قروية زراعية و أيضا مدنية. الأسطرة إذن آلية عقلية تنشط في مواجهة ضرورة حضارية مفروضة على العقل، ضرورة تمس وجود الجماعة و تهدد هويتها التاريخية و الحضارية. نتيجة لهذا الغنى و التعقيد للأسطورة، نلجأ بدلا من تعريف الأسطورة كشيء قائم بذاته الى تعريف العقل الأسطوري المنتج لها تعريفا امتداديا تعداديا حسب ما تمليه طبيعة الموضوع. اسطورة تنفي الجدل، فلا تناقضات و ازدواجية ضمن الأسطورة، بمعنى أن الانسان الحقيقي بتناقضاته الداخلية غائب و كذلك الطبيعة بتناقضاتها أيضا غائبة. الخير كله مجسد في جهة واحدة و الشر كله مجسد في جهة مقابلة، إله للخير و شيطان، جنة و نار، ناجون و ملعونون. مصدر الحركة و الديناميكية مفقود و البديل سكون و جمود، دورة رتيبة تعيد ذاتها للابد. فالناس صنفان، الذين رضي الله عنهم و رضوا عنه و الثاني الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين, و ظهر عنها خلال تطوير الأسطورة (دون سند من قرآن او سنة) دار إسلام و دار حرب (دار كفر)، فالعقل الأسطوري إذن سكوني غير جدلي. الأسطورة تفرض على العقل ان يكون مغلقا يرفض الانفتاح على التيارات الفكرية الخارجية، و أن بتعامل معها بانتقائية و حذر شديدين ليأخذ منها بعد تحوير و توليف بما ناسب البناء الأسطوري. و كمثال عن التراث و هو موضوعنا الأساس، يقول أمين في ضحى الإسلام: (... فكل المنطق الذي بين أيدينا هو منطق اليونان، و قد نقل نقلا صحيحا، فلم يدخله نقص و لا تهويش؛ كالذي كان في الإلهيات اليونانية "نتيجة التحوير و التوليف-يغان". و قد كان منطق أرسطو و شروحه العربية أوسع و أعمق مما بين أيدينا من كتب المنطق اليوم؛ فكان القياس يشغل فيه حيزا كبيرا، و فيه كتاب واسع في البرهان، و آخر في الجدل و كيف يكون، و كيف تسلك في افحام الخصم، و كان فيه باب للسفسطة، و باب في الخطابة و باب في الشعر، و كانت الأبواب الخمسة الأخيرة، و هي في البرهان و الجدل و الخطابة و الشعر و السفسطة تبح فيها بحثا وافيا. و لكن المتأخرين حذفوا هذه الأبواب أو ألموا بها إلماما يسيرا، و اقتصروا في الكلام في الكليات الخمي و القضايا و القياس "نتيجة التحوير و التوليف-يغان"؛ مع أن الذي حذفوا أهم من الذي أثبتوا، و بذلك أفقدوا المنطق روحه). و يقول لاحقا :(... كان لهذا القياس أثر كبير في تفريع المسائل و تنويعها، و وضع المسائل المتشابهة تحت قاعدة واحدة، و طرد أحكامنا على ما لم يرد فيه حكم مأثور سواء ذلك في الفقه و النجو و اللغة، و كان لهذا كله أثر في تضخيم العلم و ترتيبه و تبويبه). هكذا مثلا وظف العقل الأسطوري الإسلامي علم المنطق بانتقائية شديدة لصالح الأسطورة. الأسطورة تتطلب من العقل الإيمان بالجبر، صراحة او ضمنا، فالأسطورة تاريخ (ماضي و حاضر و مستقبل) منجز مقرر، السببية فيه سائلة، فهي من الماضي للمستقبل و من المستقبل للماضي سواء، فالأصل حسب الأسطورة هي الغائية المتضمنة فيها (إني جاعل في الأرض خليفة)، و الغاية ستتحقق لا محالة و الدليل هي الأسطورة ذاتها. من هنا مثلا (من التراث دائما) استعداد العقل الأسطوري للإصابة بالرضة التي يحملها طرابيشي وزر النكوص للتراث (هزيمة 1967)، فشروط حصول الرضة التي يبينها لنا طرابيشي في كتابه تحليل نفسي لعصاب جماعي متحققة في العقل الأسطوري التراثي فالرضة (...لا تكون رضة بالمعنى النفسي للكلمة الا إذا جاءت عن غير انتظار، و الا إذا كانت مسبوقة بشعور عارم بالثقة بالذات، و بالمغالاة في تقييم قوة الذات، و بالوهم المرفوع الى درجة اليقين بأن "شيئا من ذلك القبيل لا يمكن أن يحدث لي: ليس لذاتي أنا") و هكذا هي الأسطورة، تاريخ مكتمل متكامل غايته محددة مسبقا و تتحقق حتما، و يقول أيضا (ثانيا، لأن الهزيمة اللامتوقعة لم تكن مغطاة و لا قابلة للتغطية من وجهة نظر التمامية النرجسية) وأي تمامية نرجسية أشد من الرؤية الأسطورية التي تضعك مركزا للتاريخ و مبدأ له و منتهى لكونك خليفة الله في الأرض و وسيلة تحقيق رغبته فيها. و يقول أخيرا (ثالثا، لأن الهزيمة اللامتوقعة و اللامغطاة كانت هزيمة متجددة و غير قابلة للتصريف) وأي سبب أدعى للنكوص إلى الأسطورة و التقوقع بها من حضور الآخر الدائم و المؤلم و المهدد للوجود، ألم يكن هذا الحضور هو سبب انشاء هذه الأسطورة أصلا؟ العقل الأسطوري إذن هو عرفاني و عصابي. الزمن في الأسطورة دوري، الأحداث تتكرر على سنة الأسطورة، و الزمن الدوري كما أبنا في كتاب وحدة العقل البشري: (و هو المفهوم البدائي للزمن تمحور على ملاحظة الظاهرات الموسمية.. ويتميز هذا الزمن بكونه طبيعيا ولا تاريخيا, مكمما (QUANTIZED) وعدديا (SCALAR), فالإنسان الفرد يعاد خلقه دوريا وكل دورة هي في معزل عن الأخرى.). منع العقل من ولوج مساحة النظر الحدسي الكشفي، أي مساحة علوم الوجود و التكوين، أبقى على مفهوم الزمن الدوري كلامعقول عقلي و منع العقل من اكتشاف (معقول ميتافيزيقي) بديل ألا وهو الزمن الممتد والمتصل, التاريخي والمتجه (VECTORIAL)، زمن غاليليو و نيوتن. هكذا نفهم ملاحظة العروي عن تاريخ ابن خلدون: (لذا جاءت مقدمة ابن خلدون تاريخا خارج الزمن، إذا التحول الذي ما فتئ ينبه الى أهميته، عودة على بدوة. الزمن دولة و دورة، فهو شأن حادث ينتفي من ذاته. الكل واقع محقق أكان بالنسبة لنا ماضيا، حاضرا، او مستقبلا. فهو معلوم... اما المحجوب... فلا يعلم أصلا دون كشف، بدون رفع الحجاب...). فالعقل الأسطوري إذن لا تاريخي. الأسطورة لا تموت، وهي بلا تاريخ و خارج التاريخ، بالتالي، و بحسب العقل الأسطوري، يمكن لهذه الأسطورة أن تتجسد في المستقبل و هذا هو الموقف الذي يقود الفكر السلفي، الأسطورة حية في لاوعيه و السلفية السياسية تقوم على تجاوز كل الوقائع المادية و التاريخية القائمة و التي تنفي إمكانية إحياء الأسطورة. في حين أن الوقائع تخاطب الوعي و تفرض نفسها من خلاله، يلجأ السلفي إلى تغييب الوعي لحساب اللاوعي. فإن خالف الواقع الأسطورة، فللأسطورة الاولوية و لا بد من تصحيح الواقع ليتلائم معها . و المأساة أكثر ما تكون أشد في مجال التشريع، حيث يفرض على الواقع التأقلم مع تشريعات من زمن سابق مندثر. فالعقل الأسطوري إذن يشترط تغييب الوعي. الأسطورة تضحي بالفروق ما بين المسائل المجزئة بهدف ارجاعها (حصرها) في أصل واحد، فمن عناصر الأسطورة التراثية مثلا بقاء الله حاضرا بيننا من خلال القرآن و بقاء النبي حيا بيننا من خلال السنة المروية و يتبع هذا بقاء الخلفاء الراشدين أحياء و تجسد كل هذا في الفقهاء و الشيوخ (ورثة الأنبياء). الأسطورة تفرض حالة صوفية من حلول و اتحاد في الواحد الرمز و النتيجة واحدية شاملة خارج الزمان و المكان-مدينة الله (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح..). هكذا يتأسس الكهنوت في التراث، و تتخذ آراء و أفكار الكهنة الجدد مسوحا قدسية تكمم الأفواه و تحتكر باسم قدسيتها المزعومة العقل و التفكير. إذن فالعقل الأسطوري لا يتقبل العلوم الجزئية و هو عقل صوفي أسير الحلولية من جهة و الاتحاد من الجهة الأخرى. الأسطورة لها طبيعة إحيائية كامتداد للطبيعة التوحيدية، تميل لإحالة كل أثر أو فعل ملاحظ و لكن مجهول المصدر إلى فاعل حي، شيطاني أو ملائكي، و لا تضع فاصلا ما بين الغائب و الواقعي الحاضر، فالحاضر مسكون دوما بالغائب و يتحدد من خلاله و التعامل مع الحاضر يستدعي استفتاء الغائب من خلال طقوسية رمزية متمركزة حول الطوطم المقدس (في حالة التراث، الطوطم هو الكلمة و النص المقدس). العقل الأسطوري إذن هو احيائي طوطمي، يتعامل مع الواقع الحاضر من خلال الغائب، و يستنطق هذا الغائب من خلال الطوطم، واحدى تمثلات هذا العقل في التراث هي العودة دائما الى نص مقدس يسكنه غائب مقدس. من الملاحظ في الأعمال المتقدمة و المتأخرة، أن أسطورية التراث هاجس يسكن أعمال معظم الباحثين العرب و الأجانب، و لكن المشكلة الحقيقية تكمن في عدم الاعتراف الصريح بهذه الصفة للتراث و التعامل معها مباشرة بالنقد العلمي التاريخي، دون مواربة أو مجاملة أو وجل، المشكلة هي في غياب حيادية و علمية المقاربة للموضوع، فلكل باحث (لكونه إنسان) رغبة و حاجة كامنة لأسطورة يؤسس عليها نظرته و موقفه سواء نظرة و موقف المستشرق من العرب و المسلمين، أو نظرة و موقف العربي المسلم من ذاته و هويته. الهوية النموذجية (التي تسبغها الذات على ذاتها) أو الهوية النمطية (التي يسبغها الآخر على ذواتنا) تتأسس على أسطورة، و من هنا اقتصار جهد الباحثين على إعادة هيكلة أسطورة التراث أو محاولة استبدالها بأسطورة بديلة تخدم النظرة و الموقف المسبق. من الاصول التي ساندت أسطرة التراث و كانت قاعدة لها، الفهم الخاطئ لمقولة أن الاسلام هو دين الختم و دين الفطرة و دين الكمال. حسب هذا الفهم الخاطئ يكون التاريخ قد انتهى بالإسلام-بمفهومه التراثي. نقول التراثي، لأن العقلية التراثية لا ترى بتاريخ انقطاع تنزيل القرآن نهاية حقبة تاريخية و بداية أخرى، لا تنظر للمجتمع الإسلامي كأي مجتمع إنساني آخر ضمن مسيرة التاريخ و تطوره، بل أن الزمن الأسطوري المهيمن على هذه النظرة للتراث، و بحكم طبيعته، تجاوز التاريخ و ألغاه، فتمدد هذا الزمن الأسطوري ليشمل أعمال الصحابة و كبار الأئمة في عصورهم الزمنية المختلفة بانتقائية أيديولوجية مضمرة بحجة اعادة الفروع الى الاصول (حيث كانت كامنة منذ الأزل)، و كم من فروع استحالت أصولا بفضل هذه الاتقائية في ما نسميه اليوم بالإسلام التراثي، و الذي فيه يتزامن ابن تيمية مع البخاري مع الخلفاء الراشدين مع النبي. و نجد أن هاجس العاملين في العلوم النقلية حسب التصنيف الخلدوني على كافة أزمانهم و من بدايات تشكيل الدولة الإسلامية سواء في المرحلة المدينية أو الأموية أو العباسية هو التأصيل. و التأصيل بالسياق الأسطوري هو نفي حداثة الفرع و اختزاله إلى أصل متحقق، إلغاء زمنية الحادث و دمجه في الأسطورة الأزلية بزمانها الأسطوري الداخلي كحادث سابق على الزمن و خارج عنه. من هنا طبيعة المنهج المعتمد في العلوم النقلية، منهج الاعتماد على الرواية و صحة السند حتى لو خالف المتن مقاييس العقل. أثر و هيمنة الأسطورة-التراث كما أشرنا لا تقتصر على التراثيين، بل تلقي بظلالها على الحداثيين أيضا، فتقيدهم و تحد من حرية حراكهم الفكري، و تدفعهم لأشكال من التقية و المواربة في انتاجهم الفكري، فأن كانت الأسطورة حاجة بشرية لها مجالها في الحياة الفكرية عموما، الا أنها نقطة ضعف و عوار يعتري البحث العلمي لا ينتفي الا بالتقيد الصارم في المنهجية العلمية. بالنظر مثلا إلى سؤال كيف نتعامل مع التراث الذي يثيره الجابري في كتابه التراث و الحداثة، و الذي يتبعه بسؤال كيف نتعامل مع الفكر المعاصر، نراه يؤسس لقطبية فكرية، التعامل مع التراث في معزل عن الفكر المعاصر و مع الأخير في معزل عن التراث و دفع كلا منهما إلى نقطة وسط افتراضية (يتعايشان) فيها (... انجاز (قراءة عربية) للفكر الأوروبي تجعل منه موضوعا لذات تريد أن تحتويه بدل أن يحتويها هو: قراءة نقدية، متجددة و متواصلة...) و يقول الجابري أيضا: (إن الإسلام كعقيدة و شريعة يشكل مقوما أساسيا لوجودنا و عنصرا أساسيا في هويتنا القومية. و هذا لا يجوز تجاوزه أو انكاره أو التغاضي عنه..) فالجابري أيضا هاجسه الهوية، و هو يبحث عن أسطورة (مفبولة) لتأسيس الهوية المثالية عليها. و بالمثل نجد حسين مروة في كتابه تراثنا كيف نعرفه، يطمح للكشف عن (الكنوز الفكرية) المطموسة عمدا أو نتيجة اهمال لكي (تكون شاهد عدل على القيم الصحيحة الرفيعة لهذا التراث من جهة، ثم لكي تضيف إلى ثروة الفكر الإنساني غنا و خصبا مجهولين، فتصبح بذلك، جزءا عضويا في وحدة البناء الثقافي العالمي...) و كذلك (في هذا وذاك ما يؤكد ثقة الشعب بحقيقة ذاته، و ما يزيده اعتزازا بالصلة بينه و بين تاريخه...) أي أن التراث في فكر مروة لا يزال الأسطورة المؤسسة للهوية النموذجية، الهوية الأسطورة. هنا لا يجوز أن نغفل عن أن حقيقة ما نعنيه بالإسلام هو إسلام التراث، و التراث هو أسطوري بامتياز، و للأسطورة دور أساسي لا ريب في حياة البشر، و هو دور إيجابي في مناحي معينة و سلبي و هدام في مناحي أخرى. ملاحظة الجابري أعلاه تدمج في بوتقة الإسلام –التراث العقيدة بالشريعة في كل واحد، و يغفل بذلك عن كون العقيدة، أي عقيدة، تعتمد في حضورها و فعلها و فاعليتها على كونها بنية أسطورية تشبع الحاجات الروحانية و تتداخل بحدود الهوية، أما أسطرة الشريعة أو التشريع فشيء آخر تماما. التشريع يتعامل مع الواقع المباشر، مع معطيات الحياة الآنية و هي متغيرة في حين الأسطورة ثبات، و هذا هو التناقض الأساسي في فكر الاصلاحيين و الناتج كما ذكرنا عن هيمنة و سطوة الأسطورة-التراث. و هذه ظاهرة يشير لها محمد أركون أيضا حين يقول في كتابه قضايا في العقل الديني – كيف نفهم الاسلام اليوم: (... و لا تزال تلك المسلمات المعرفية الضمنية "للمؤرخين المسلمين-يغان" تؤثر تأثيرا كبيرا على كتابة المسلمين اليوم لما يسمونه تاريخ "الاسلام"، دون أن يميزوا بين ما فرضه العقل الدوغمائي على تصوراتهم للماضي البعيد و القريب و بين ما يفتحه الخطاب القرآني من آفاق عديدة متجددة للتفكير و التأويل و المعاني الاحتمالية و الابداعات الرمزية.) أي أن العقل الدوغمائي قد عمم الأسطورة على الشريعة فسجن و قيد العقيدة و حال دون تطورها في فضائها الأسطوري و أسس من ناحية أخرى لما يسميه أركون (اللاهوت السياسي). كما يشير أركون إلى عملية أسطرة التراث حين يتهم مؤرخي العصر العباسي (بنزع كل صبغة تاريخية) عن ما يسميه (الفترة التأسيسية للفكر الاسلامي). و في نظر جورج طرابيشي أيضا في كتابه اشكاليات العقل العربي، يُعزى فعل الأسطرة المتوارث من جيل إلى جيل، و بالأخص فيما يخص ابتداع عصر التدوين، إلى (حاجة أيدولوجية). هل ما زالت الحاجة الأيدولوجية قائمة ؟ الجواب نعم، كما رأينا في مثال حسين مروة و الجابري في بحثهما عن أسطورة مؤسسة للهوية المثالية. يقول طرابيشي في الكتاب المذكور: ص. 65 : (... فأهل الحديث, بالتحالف مع أهل الفقه ما أولوا فقط السنة عناية تعادل إن لم تفق العناية التي أولوها للقرآن كمصدر أول (للعلم) بل ضغطوا أيضا في اتجاه تغليب تجربة تاريخية بعينها للإسلام هي الإسلام المدني (التشريع-يغان)، على تجربة تاريخية بعينها هي الإسلام المكي (العقيدة و الروحانية-يغان). و على هذا النحو فقد أسهموا بقسط موفور في تحويل الإسلام من ديانة روحانية إلى شريعة، و من حضارة كتاب إلى حضارة فقه. فخلافا لما هو مشهور، فليست السنة "هي كل ما صدر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير"، بل أضافوا إلى ذلك قيدا وهو "مما يصلح لأن يكون دليلا لحكم شرعي". و على هذا النحو تحول اسلام الفقهاء إلى مدونة أحكام. و الأحكام هي على الدوام، في أي دين، الجانب الأقل روحانية و الأكثر عرضة للتقادم مع الزمن. و لعل مأزق العالم الاسلامي المعاصر مع الحداثة يعود في شق واسع منه إلى غلبة التفسير الفقهي للإسلام منذ قيام الحلف الكبير في القرن الثاني بين أهل الحديث و أهل الفقه. فالحداثة لا تدخل في تناقض جبهي الا مع الشريعة المقننة المغلقة، ليس بالضرورة مع الروحانية المنفتحة على تعدد من التأويلات و العابرة للتاريخ (بحكم طبيعتها الأسطورية الأصيلة-يغان): فالأحكام لا مناص من أن تتغير مع تغير الأحوال.). نعم الأسطرة مشروعة في الروحانيات لا في التشريع، فالأسطورة بطبيعتها رمزية اختزالية، تختزل التفاصيل و الفروقات في الرمز، في الواحد، و الروحانية تتغذى على الرموز من خلال آليات الحلول و التوحد الصوفية، أما التشريع فهو عالم الواقع المتعدد المتغير، لا ثابت فيه الا التغير نفسه و الحاضر الوحيد أبدا و الواحد هو التاريخ، و آلية التعامل معه هي العقل و العلم. أما اللجوء الى الترميز و آليات الصوفية فتحيله فورا الى اسطورة و نفقد كل اتصال لنا مع الواقع المتغير. الصوفية بالأصل هروب من الواقع الى واقع بديل، يكون الإله فيه هو الآخر الذي يحدد ماهيتنا، آخر أمن و مرغوب لا يشكل خطرا بل خلاصا، و من خلال الحلول أو التوحد نصل الى الخلاص الفردي في عالم ميؤوس من خلاصة الجماعي. و هذه الآليات هي نفسها الفاعلة في تماهي الذات مع التراث-الأسطورة، فالواقع الحالي يتم استبداله بواقع مثالي آمن و مرغوب إن حل فينا أو توحدنا معه كان الخلاص الجماعي أسوة بالخلاص الفردي الصوفي (خير خلف لخير سلف, أحفاد عمر و خالد) و يختفي الآخر، الغرب العدائي الشرس و كأن لم يكن. أو ليس هذا ما يصفه علي أومليل بكتابه (التراث و التجاوز) برغبة الاستعمار (هو في أساسه عملية منهجية لإخراجنا من التاريخ وإدخالنا في التراث)؟ نعم، العقل التراثي يهاجر من التاريخ الى التراث-الأسطورة تاركا الساحة للغرب المنافس. أولا تبدو دعوة العروي للبحث عن جرثومة الوعي الجدلي في التصوف الاسلامي كدعوة لتحليل جدلية الأسطورة و التاريخ في التراث؟ (الأيديولوجيا العربية المعاصرة): (... ان الأشكال التعبيرية، المجازات، البنية الذهنية، كل ما قاد العقل الغربي الى ادراك جدلي لذاته موجود بكيفية أو بأخرى في تراثنا الثقافي، يلزم فقط أن يؤول و يستحضر من جديد في ضوء تجربتنا الراهنة) بالمقارنة مع دعوات آخرين أمثال حسين مروة و محمد عابد الجابري، الذين تهيبوا من فضح الأسطورة و تفكيكها (نظرا لاستفحال أثرها و قدسيتها في المجتمع) و اختاروا بدلا من ذلك تطعيمها بعناصر أسطورية جديدة؟ المهابة من الأسطورة هي وراء كل دعوة (لتأصيل) فكر جديد، بمعنى ربطه بأصل من التراث، لا بمعنى ابداع لما سيكون أصلا للقادم. و العروي يؤكد على ملاحظة طرابيشي حين يقول في الإيديولوجيا العربية المعاصرة: (دولة المدينة كما يصورها عرب اليوم، أسطورة اكثر مما هي واقع، فليكن. هل يعني انها مجرد وهم خادع؟ أو لا يعني بالعكس أنها استشفاف للمستقبل؟ أو لم تشر خفية الى ما يتطلع اليه العرب من دولة عادلة؟ إذا صح هذا هل يحق لنا أن نندهش إذا لاحظنا أنها حالة باستمرار في مخيلتهم. انها تمثل المستقبل بالنسبة لهم، مستقبل يرسمونه في عهد من عهود الماضي و يرونه كحلم عذب، لا يجبر أحد فيه على العمل إذ تتساقط الخيرات من السماء كما في جنة عدن. لقد اختاروا عهد دولة المدينة لأنه وحده يلائم هذا التصور، إذ يعلمون أن الأمور قد تغيرت بسرعة تحت حكم الأمويين. فظهرت الفاقة مجددا. تنافس الناس على الأعطيات و انبعثت الحزازات القبلية القديمة. ثم جاء العباسيون فدخل العرب حيز التاريخ بكيفية نهائية، حيز الجهد و الكد، حيز التدافع و التغالب و القهر، بكلمة جامعة، حيز الصراع على البقاء) لا غرو في سيادة الدوغما إذ كان المحدِثون في عصر تكوين العقل الإسلامي أو عصر التدوين أيا كانت التسمية، هم المؤرخون، فالسنة لا تقتصر على ما له علاقة بالعبادات أو التشريع فقط، بل تمتد لحوادث التاريخ منذ بدايته (بداية الدعوة) و لما قبل التاريخ أي الجاهلية، و الى أبعد من ذلك من خلال جمع روايات أهل الكتاب السابقون. يقول أحمد أمين بهذا الخصوص في ضحى الإسلام: (...وكما فعل محمد ابن اسحاق، فقد جرد الأحاديث المتعلقة بالسيرة، و زاد عليها غيرها من أشعار قيلت و أخيار رويت و كون من ذلك كله السيرة النبوية). هكذا خلط المحدِثون التاريخي بالمقدس، فإن كان الحجر على العقل مقتصرا بمساحة المقدس، امتد هذا الحجر على العقل (نتيجة للخلط) ليشمل مساحة التاريخ أيضا فساد العقل الأسطوري التراثي. يقرر الجابري بأننا (مطالبون بخلق ثقافة جديدة) نعم، ملاحظة سديدة و لكنها يجب أن تعني ثقافة لا ترتضي عناصر أسطورية كأساس للتشريع، و ذلك لا يكون الا بتفكيك و فضح الطابع الأسطوري لجزء كبير من هذه الثقافة التراثية السائدة و المهيمنة، و الا سيستمر العقل التراثي بتحميل كل النكبات التي تمر بالأمة على هذه المحاولات الاصلاحية (التي تجنبت تهيبا هدم أسس الأسطورة) و إدانتها على أنها خروج عن الأصل، و تحميلها وزر الفشل، و تبرئة الأسطورة النقية، و يستثمر هذه النكبات لتبرير النكوص للتراث المرة تلو المرة، بل أدهى من ذلك أن يجعل العقل الأسطوري النكبات عقابا إلهيا لمحاولة التصرف الذاتي و التأثير على مجريات القدر بدلا من انتظار تحققها كما وعدت الأسطورة (و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم). فالسلفية التراثية تقيس الحاضر على أسطورة التراث و تدين هذا الحاضر بانحرافه عن الأسطورة، و السلفية التراثية ترفض أي قراءة تاريخية عقلية للتراث ، القراءة التي ستؤدي لإدانة التراث التاريخي الواقعي بما فيه من عيوب و سقطات بمقاييس الحاضر و بمقاييس الأسطورة سواء بسواء، فيصاب السلفي التراثي بفقدان الوزن و يصبح معلقا بالفضاء، المسألة لدى السلفي هي حماية الهوية الأسطورية التي شكلها لنفسه بناء على سردية أسطورية لتاريخه أي ما يدعوه تقديسا: التراث. أما مقولة الجابري بأن (إلغاء التراث لا يمكن أن يتم الا بتحقيقه)، فهي تتجاهل حقيقة أن التراث كما يقدمه لنا الفكر التراثي السلفي لن يتحقق الا بفرض اسطورة نعيشها بلا وعي. المُثل المحملة على الأسطورة لن تتحقق في الحاضر الا بأدوات الحاضر، حين يصبح الحاضر هو (ضمير الأمة) بدلا من التراث. نفي التراث و احتوائه لا يتم من داخله بل من خارجه، ليس هنا امكانية (لتطوير و تطويع) التراث ليصبح حداثيا، بل نقده و فضح تناقضاته و طابعه الاسطوري المتمثل باستحالة تحقيق مُثله من خلال أدواته، فمثلا لا يمكن تحقيق العدالة السياسية الحقة من خلال الشورى، و لا يمكن تحقيق العدالة الاقتصادية الحقة من خلال أدوات الاقتصاد البدائي القائم على الغنيمة و هكذا. التراث إذن هو نقيض للعقلانية كونه سردية أسطورية للتاريخ، و الأسطورة تاريخ شكلناه بأثر رجعي من خلال سردية للتاريخ ينظمها منطقها الخاص المخالف لمنطق التاريخ المادي. مقولة (لا بد إذن من الاختيار) للعناصر المفيدة و نبذ العناصر السيئة في التراث هي دعوة لتأسيس أسطورة جديدة من خلال سردية بعدية. أصحاب هذه الدعوة أنفسهم يستنكرون (سيطرة الاهتمام في الآونة الأخيرة على بعض المثقفين و الباحثين العرب ببعض "الثورات" و "الانتفاضات" و "الاتجاهات المعارضة التي عرفها تاريخنا) و بالتالي (إعادة بنائها بالشكل الذي لم تكن عليه، فنسقط عليها ميولاتنا و رغباتنا الحاضرة)، إذن هم يروجون لسردية دون أخرى و أسطورة دون أخرى و تبقى الإشكالية الأصلية قائمة، إشكالية التراث و الحداثة. و النتيجة هي أن الادعاء بتبني منهج (عقلاني و موضوعي) في دراسة التراث مستحيلة إذا لم يكن المنطلق أو الرؤية المؤسسة للبحث هي الطبيعة الأسطورية للتراث، و القول مع الجابري بأن ("الموضوعية" -هي- جعل التراث معاصرا لنفسه، الشيء الذي يقتضي فصله عنا. و بالمقابل نعني "بالمعقولية" جعله معاصرا لنا) أي إعادة وصله بنا ) يسقط و يصبح بلا معنى بناء على ما تقدم، فالأسطورة لا عصر لها و لا تاريخ بحكم كونها أسطورة، و التراث كما بينا أسطوري البنية. المنهج الوحيد الممكن إذا هو المنهج المادي التاريخي، و الذي من خلاله نفضح الطابع الأسطوري للتراث كما هو مترسب في عقول الكثيرين و نفكك صرحه الأسطوري فنطلق سراح التاريخ المسجون بداخله، هكذا فقط تتضح الطبيعة الحقيقية ل (الاشكالية النظرية و المحتوى المعرفي و المضمون الأيديولوجي). هذه هي الآلية التي تجاوزت من خلالها الشعوب المتقدمة تراثها إلى الحاضر و هي الآلية الوحيدة التي تمهد الطريق للمستقبل، أوروبا مثلا مارست النقد التاريخي لتراثها و عرًت طبيعته الأسطورية ابتداء بحركات الإصلاح من داخل المؤسسة الدينية و التي هي العمود الفقري للبنيان الأسطوري للتراث الأوروبي مرورا بعقلانية التنوير و انتهاء بالمادية التاريخية، المنهج الذي طبقته البورجوازية الأوروبية انتقائيا على الماضي دون الحاضر و المستقبل. إيجازا لما سبق، وبتعريف الوعي بكونه القدرة على التساؤل، و العقل بالآلة ألتي تصيغ التساؤل في سؤال يحتمل الاجابة، تكون مهمة العقل مزدوجة، صياغة السؤال و محاولة الاجابة عليه، و هي مهمة معقدة اشد التعقيد، من اختيار للفرضيات مرورا بتشكيل المفاهيم و تطبيق ملكات التحليل و التركيب و التجريد (العقل المكون بكسر الميم). نتيجة العملية هي صياغة للواقع في نموذج بُنيته تربط بين المقدمات و النتائج (العقل المكون بفتح الميم) برسم الاجابة عن تساؤلات الوعي. هذا النموذج-الرؤية للواقع تستفز الوعي لطرح تساؤلات جديدة فتتكرر الدورة. الأسطورة من هذه الزاوية هي نموذج للواقع يحمله (عقل تكون بلحظة تاريخية ما) غير قابل للتساؤل، نموذج بتبنيه كمطلق، كنهاية دورة الوعي، نكون قد ألغينا الوعي، الوعي الأسطوري هو لاوعي، الوعي التراثي هو لاوعي. هكذا نفهم ما أسماه العروي مثلا (انتحار الاعتزال) عندما انتقل من (الموقف)، أي من طرح التساؤلات على العقل، إلى (المدرسة الاعتزالية عندما انعكفت على ذلك النص الخاص الذي حدده غيرهم) و عند (... تحويل الاعتزال إلى سياسة رسمية تهدف إلى فرض عقيدة معينة)، أي انعكفت على أسطورة تشكلت من (حصر المادة المروية في شكل واحد ثم تنسب كل المرويات إلى ذلك الشكل وحده) و هذا يعادل لدى العروي الانتقال من (الاقناع) إلى (اليقين) وهو ما يعادل لدينا الانتقال من لحظة علم إلى لحظة إيمان، من فكر الى أيديولوجيا. و هكذا نفهم انتحار الفكر عموما بتحوله إلى أيديولوجيا، الفكر هو ممارسة الوعي لحرية التساؤل و توظيف العقل الأداة، و الأيديولوجيا هي كما الجذر (العرفاني للمثالية) عند غارودي (...عزل إحدى لحظات المعرفة واعتبارها كل المعرفة) أي (حصر المادة المروية في شكل واحد). لماذا إذن الأيديولوجيا؟ و الجواب هو حاجة البشر لليقين، الحاجة للتخلص من قلق السؤال المعلق دائما فوق رؤوسهم. طرح التساؤلات و صياغة الأسئلة و البحث عن الاجابات عبء ثقيل، (أمانة) حملها الانسان في لحظة جهل فظلم نفسه. الأيديولوجيا تحتاج لأسطورة، و الأسطورة تتحصن بالأيديولوجيا.
#محمد_فيصل_يغان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإسلام البدوي و العقل التراثي
-
آلية المماثلة و انتاج النصوص
-
الثلج الصامت، الثلج السري قصة مترجمة
-
خاطرة في اللغة
-
مفهوم الحرية
-
صراع الهوية في رواية موسم الهجرة الى الشمال
-
لمحة عن فكر ابن خلدون
-
حول موقف سارتر من العلم و المادية الجدلية
-
وحدة العقل و الوحي و جدلية المعقول و اللامعقول
-
الانماط الاساسية للمعرفة (ضد الجابري) الأخيرة
-
الأنماط الأساسية للمعرفة (ضد الجابري) 4
-
الأنماط الأساسية للمعرفة (ضد الجابري) 3
-
الأنماط الاساسية للمعرفة (ضد الجابري) 2
-
أنماط المعرفة الأساسية (ضد الجابري)-1
-
محاولة لتعريف العقل
-
في العقل
-
ملاحظات حول نظرية النسبية الخاصة
-
القيم ما بين العقل و الدين 2
-
القيم ما بين العقل و الدين 1 من 2
-
تأويل القديم أم إبداع جديد
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|