|
الدماء المراقة بين ارسطو و ابن رشد
هيثم بن محمد شطورو
الحوار المتمدن-العدد: 4906 - 2015 / 8 / 24 - 16:53
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
هناك مفارقة حاصلة في التاريخ، و هي لازالت فاعلة إلى اليوم من حيث آثارها الواقعية العميقة. إنها بين الفيلسوف اليوناني "أرسطو"، المعلم الأول، حسب توصيف الفلاسفة المسلمين، و بين ابن رشد الفيلسوف الأندلسي العربي المسلم. فاليوناني كان شمسا أشرقت و الأندلسي أتى في وقت الغروب كطائر المينرفا حسب التوصيف الهيغلي لزمنية الحضور الفلسفي عند الشعـوب. "أرسطو" اليوناني، كان من ملك مقدونيا "فيليب" ان كلفه بتعليم ابنه، و هو يقـف إجلالا أمام نور العـقل الذي يحمله الفيلسوف، بقـناعة علو شأنه باعتباره عـقلا مفكرا على شخصه هو باعتباره في نهاية الأمر مجرد محارب يمتلك شيئا من الذكاء و الحكمة. طبعا السلطة عند العرب المسلمين لا يعلوها شيء و هي تحتـقـر العـقل المفكر برغم علو شأنه. فالفكر اتحاد بروح الكون و السلطة في نهاية الأمر مهما علا شانها فهي غـريـزة حيوانية دنيئة. تـشبع الأمير الشاب بحكمة أستاذه العـقل الجبار. كتب للشاب أن يكون عـظيما جدا إلى غاية يوم الناس هذا أي بعد ألفي سنة. و هو استـثـناء في التاريخ. أعظم و أشجع محارب ناشر للثـقافة اليونانية في عالم البحر الأبيض المتوسط ، و متوغلا في الشرق حتى بلغ بلاد السند و الهند. إننا نـتحدث عن "اسكندر المقدوني" الذي لا يمكن لأي مؤرخ إلا أن يقـف إجلالا له عند ذكر اسمه، فحتى القرآن ذكره بذو القرنين و كأن الالاه قـد سرب إعجابه بل ربما انـدهاشه مما يمكن للإنسان أن يـبلغه من عـظمة في الانجاز حين تـتحد قـوة الغريزة مع قوة العـقل في اكبر تجـلياته. قام "اسكندر المقـدوني" بتوحيد الشعوب مدخلا إليها الثـقـافة اليونانية مع الاعتراف بها و بثـقـافـاتها الخصوصية. بذاك العمل أدخل ثـقـافـة العـقل بضربات السيف القاطعة للحواجز البشرية التي تمثلت كتلا من الصخر و الأصنام ضد تـدفـق الأفكار الإنسانية الثورية المتجـددة. السيف المقـدوني الكاسر للسكون العـقائـدي العنكبوتي أسس ثـقـافة العـقـل بالعـقـل، أو ادخل المنطق الأرسطي في التاريخ البشري. تـزاوج بالشعوب التي فتحها عبر نساء أمرائها ليكسر مقولة المغـتـصب و أعلى كلمة المتواصل. كان "اسكندر المقدوني" قبل نحو ثلاثمائة عام من مولد السيد المسيح مسيرة تاريخية عـظمى و خالدة إلى اليوم عبر إعلائها نور العـقـل. و لعل ظهور المسيحية ثم الإسلام، حسب الفيلسوف الأندلسي "ابن رشد" ليس إلا تـدخلا الاهيا لانجاز ما لا يمكن للفلسفة انجازه من انـتـشار عند الشعـوب الغرائزية باعتبارها لغة عقلانية نخبوية تـتـطلب رياضة للعـقـل. ظهر التـدخل الالاهي ليكرس فكرة تجريد فكرة الله، و ليكرس الأخلاق الذاتية و ليكرس توحيد الشعـوب. و في القرآن يقول ربك: " خلـقناكم شعـوبا لتـتعارفوا". لو كنا شعبا واحدا، لآنـتـفت الحركة التي هي الحياة في تجـددها. فالحركة المنـتجة لقوى الطبيعة هي حركة تـقـابلات و تراكيب، و هي مطابـقـة في ايقاعها المنطقي لتكوين الوعي مثلما اكد على ذلك "فيخته". الحركة تـتمثل في الصراع بين المتـقـابلات ليتكون تركيب أعلى يتجاوز المتـقـابلين المتصارعين و بالتالي يتجاوز الحالة الأولى نحو حالة جديدة هي عنوان التجاوز و الصيرورة و التطور مثلما أوضح ذلك "هيغل" في فلسفته الاخـطبـوتية. و من بين أهم أدوات الحركة بين الشعـوب تاريخيا هي الحرب التي بـقـدر ما تمثله من تـنافر و صدام بـقـدر ما تمثله من تواصل. فمثلا الحرب ضد الإرهاب الإسلامي اليوم هي بين المدنية و الهمجية و هي تواصل مع ما تمثله من مضمون فكري. فهي عنوان استـنكار الشعـوب لمظاهر التوحش في تاريخها الذي كان باسم الإسلام، و هي عنوان الحسم تاريخيا مع فكرة تدخل الدين في السياسة و هو الشرط الوحيد لبناء ديمقراطيات و لدخول هذه الشعوب إلى المرحلة المتـقـدمة من الإنسانية. و الحرب تـنـتصر أخيرا لمبدأ الحضارة. فالاستعمار الفرنسي و البريطاني ادخلا العالم الحديث إلى البـيوت و العـقول العربية الإسلامية الساكنة و ادخلها إلى عصر القلق و الصراعات الداخلية الضرورية التي تعبر عن مضمون الحياة كحركة دائبة مستمرة. و الاحتلال الأمريكي للعراق اليوم قد يظهر استـثـناءا لأنه ادخل العراق إلى الهمجية بعد القـفـزة الحضارية التي حقـقها. فرغم عنف المعارضة لنظام صدام حسين من طرف المثـقـف العراقي إلا انه لا يمكنه أن ينكر الانجازات الحضارية الكبيرة التي أحـدثها في العراق، حتى جنود المارينز الذين دخلوا الى بغداد اندهشوا من الطرقات و البناءات و جمال بغـداد و تطورها المعماري. لا نتحدث عن ترسانة العـقول العلمية التي كونها "صدام حسين"، لكن "صدام" كان شرقيا مشبعا بجرثـومة السلطة الشرقية التي ترى في نـفـسها الاها. صدام كان مناقضا للملك المقـدوني فيليب. كان يعتبر نفسه اكبر شأنا من المفكر و الفيلسوف حتى ان نظامه خلق اجواءا من الرعب كبلت عـديد العـقـول، إضافة إلى عـدم التوجه نحو بناء ترسانة من العقول الحرة المفكرة و إعـطائها ما تستحق من مكانة مرموقة. كان يـريد نـفـسه يفكر و الشعب برمته يطبق. كان يمارس عمليه إقصاء شديدة الوطأة على العـقـل المفكر، و بالتالي لم نسمع بمجـلس حكماء يستـنـد إليه في حكمه، و لا بمفكر عـراقي كلف بتعليم أبنائه الفلسفة و المنطق. و كل ما حدث هو بـقـدر قـوة الانجاز كان بقدر قوة الدمار و الخراب لان الشخصنة القوية التي أغـدقت العراق بصوره، أغـلـقت الهواء الرحب للأفكار الحرة التي تغير المجتمع في عمقه و مضمونه و ليس في شكل ما يفرض عـليه انجازه. لا يمكن لأي انجاز بشري حقيقي أن يرتـفع إلى الإنسانية و الاستمرارية و الصلابة إلا إن كان بروح الحرية. ترى العراق اليوم كأنه لم يكن يوما عظيما. من جهة أخرى فان الاحتلال الأمريكي للعراق فضح همجية مضمونه و بربرية أمريكا. فهي الامبريالية الوحيدة في التاريخ التي انـتـقـلت من مرحلة القوة الهمجية إلى السقوط دون المرور بالحضارة. و لكن الحضاري دوما ينـتصر و التاريخ لم يقـل كلمته النهائية بعد بخصوص العراق. و ربما عملية التواصل الكامنة في الاحتلال الأمريكي هي ترسيخ عنوان سقوط فكرة الحاكم الشرقي الالاه برغم انجازاته العـظيمة. قالت أمريكا دون أن تـدري في العراق و في المنطقة العربية بأسرها أن الشعوب هي التي تصنع و ان كان من قـائـد نزيه شريف لها فانه ليس ببـديل عنها أو سارقا لانجازاتها و إنما قائم بدوره في خدمة الشعب. المدهش ان في بغداد زمن صدام كان يرفع شعار "خادم القوم سيدهم". يعتبر نـفسه خادما للشعب. حين ترى تلك الشخصنة الرهيـبة له تـتـفـطن إلى ان الرجل في ذاته لم يكن ليـريـد ذلك و إنما نظامه و حالة الوعي العامة الغارقة في الشخصنة حتى ان علي ابن ابي طالب مـقـدس أكثر من الله، هي التي أخرجته في صورة الحاكم الشرقي المستبد الجبار الأوحد.. الحرب في نهاية الأمر هي حياة الروح مثلما قال الفيلسوف الألماني "هيغل". الحرب تضعك مباشرة أمام قلق النهاية و الموت. النهائي يـفتح أفق الانهائي، الأزلي، الخالد. من هنا يتلامس القـتـل في الحرب مع تسمية الشهداء على فكرة بدمائهم و بالتالي كخالدين في الأزل. يبدو ان توطين الخالد في الأرض لا يكون إلا بالدماء المراقة. الم يكن الإنسان قربانا للآلهة في بابل و اليونان و مصر و قرطاج ؟ الم يقل ربك في قرآنه : "و لا تحسبن اللذين قـتـلوا في سبيل الله امواتا و إنما أحياء عند ربهم يرزقون". و طبعا فسبيل الله لا ينـتهي و عنوان سيره في الأرض أو علاماته لا تـنـتهي. فسبيل الله اليوم هو على مستوى المضمون التـقاء الإنساني بالروح أما على مستوى تضمينه و تعيـينه فانه يتجاوز ما تم التعبير عنه من تعيين في فترة تاريخية ما.. على كل فابن رشد العبقـرية الإنسانية الفــذة كان أول من انـتبه إلى عـدم تناقض سبل المعرفة، و معرفة الله بالعـقل لمن يتمكن من ذلك لا تـتـناقض مع معرفته بالإيمان الديني الحقيقي حسب ما أوفى به القرآن من معاني. ابن رشد حـدد بدقة مهام العقل في الاتجاه نحو الواقع و فتح مغاليقه أساسا، أما فيما هو ميتافيزيقي فهو في النهاية لا يتناقض مع المؤمن الصادق. ابن رشد الذي ذكرته مؤخرا الكاتبة المصرية "فاطمة ناعوت" في مقال لها بشبه حسرة. اسمه الأوربي "أفيروس" يحتل عدة أمكنة في اسبانيا و الاحتـفاء به شديد في أوربا، في الوقت الذي عرف في حياته النفي و الموت الوحيد حيث لم يحضر جنازته احد. تـتحسر على ما قوبل به من جحود بينما اخذ عـلمه و معرفته الأوربيون. هذا صحيح و لكنهم اوربيو اليوم اللذين بلغوا مرحلة الحضارة. كانت كتب ابن رشد في أوربا في القرن الخامس عشر محل تـفـتيش من محاكم التـفـتيش و التي يحكم على قارئه بالإعدام.. فالحالة الحضارية العامة للشعـوب هي التي تـنـزل منزلة المفكر. لكن اليوم. السلطة السياسية التي لازالت تعتبر نفسها اكبر شانا من المفكرين هي السبب الأساسي في عدم انـتـشار الأفكار النيرة التـقـدمية. إضافة إلى ذلك فأشباه المثـقـفين الذين يملئون الدنيا ضجيجا يساهمون في عدم انتـشار صيت المفكرين الحـقيقيـين الجـديـين. أشباه المثـقـفين الناقصين و اللـذين يعتبرون الثـقافة مجرد طريقة للتميز. أشباه المثـقـفين المتميزين بالجبن و الهروبية أمام الحقائق مفضلين الامتيازات الموهومة. إنهم هم من يبنون الحواجز بضجيجهم أمام المثـقف الحقيقي الذي يعشق الحقيقة و يمتلك الجرأة في قولها و العمل بها. فليست السلطة فقط هي الجاحدة في حق المفكر المصري "فرج فودة" أو " نصر حامد أبو زيد" و إنما المثـقـفين المشردين الممتلئين حسدا من القامات الحقيقية. و هكذا فبقـدر ما كان ابن رشد في فترة الانحسار للحضارة العربية شاهدا على أفول الحضارة و القوة و المناعة بسبب غرور السلطان الذي يعتبر نفسه أعلى شانا من المفكر و الفيلسوف، بقـدر ما كان محيـيا لفلسفة أرسطو و شارحا لها و هو الفيلسوف الذي حضي بمنزلة أرقى من الحاكم لان الشعب و الثـقافة التي كانت بحره تعتبر الأمر كذلك. إنها رسالة التاريخ التي تـقول الفكر هو الأرقى و الأعلى و الضامن الأساسي للانجاز الحضاري الباهر المستمر في التاريخ. تاريخ التواصل بين البشر الذي من الممكن ان يكون في الغد دون حروب. هذا ما قاله التاريخ مع "صدام حسين" الذي سيكون شاهدا كبيرا على تأسيس مرحلة تاريخية جديدة من عـدة مستويات و خطوط..
#هيثم_بن_محمد_شطورو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تساؤلات الى العراقيين
-
مدينة العشق
-
اليسار بين الانساني و السياسي
-
الإشفاق على الذات
-
نسبية القرآن
-
ما اروعك يا ناري المقدسة
-
مطرقة النقد لفتح ابواب المستقبل العربي
-
الجسد المقبور
-
رؤية في تحديد مسار الثورة
-
إنتصار الموت في تطاحن الأموات
-
المفكر التونسي -يوسف صديق- يدعو الى الغاء وزارة الشئون الدين
...
-
حديث الباب
-
مقهى الشعب
-
في ذكرى اغتيال الحاج -محمد البراهمي-
-
المنبتون يهددون الثورة
-
السؤال النووي
-
الله و الانسان
-
الموت المعقول
-
شكري حي
-
من الفن ينبثق العالم
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|