سعيد العليمى
الحوار المتمدن-العدد: 4906 - 2015 / 8 / 24 - 13:39
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تغرق البلاغة الشعرية الطقوسية مقدمة مشروع الدستور الذى سيستفتى عليه الشعب المصرى فى منتصف شهر يناير الحالى ( عام 2014 ) -مغطية القيود والسلاسل الواقعية الفعلية التى تتجلى صارخة فى نصوصه بزهور وهمية ( نحن المواطنات والمواطنين ، نحن الشعب المصرى ، السيد فى الوطن السيد ، هذه إرادتنا وهذا دستور ثورتنا ) . وهى تفعل ذلك متقمصة روح الثورات الأوروبية والأمريكية والمصرية متدثرة بعباءاتها محاولة اخفاء وجهها بكلماتها المزخرفة , لانها لاتستطيع ان تصارح الشعب وقوى الثورة بحقيقتها ، فبنية الكلمات تناقض بنية النص ، كما تناقض وهو الأهم الواقع الاقتصادى ، والإجتماعى ، والسياسي المعاش الذى ينبغى ان يكون مرجع محاكمة وهم او حقيقة أى نص دستورى أو قانونى .
ووراء الشاعر الذى صاغ المقدمة لم تقف ربات الشعر لتلهمه , وانما " رب الجنود" وشرطته الدستورية , ليوحى له بأن عليه أن يبدأ , وأن يخاطب شعبا على مستوى الخيال , وأن شعريته تخضع لقانونه وقواعده وإكراهاته التى يمليها , وأن السلطة التى قد تمنح تستمد منه , ومنه فقط , وأنه من يعين الحدود والنهايات , وأن مهمته تتقوم فى اخفاء الصراعات والتناحرات , والهزائم , والنكسات, والسلطة الطبقية الاستغلالية , والعبودية البوليسية , وموازين القوى .... الخ تحت رهافة الكلمات . لكن ممثل " رب الجنود " على الأرض لم يكن صورة مجسدة لديكتاتورية السلاح على المجتمع البورجوازى رغم الصراع الضارى العنيف بين جناحى الثورة المضادة , بل لديكتاتورية البورجوازية إجمالا بواسطة السلاح على القوى الشعبية , وهى لاتمارس بدون ارغام وإكراه ولابغير قسط واف من العنف .
المقدمة حافلة بتصورات ورؤى واضعيها الشوفينية الوهمية عن وطنهم , وذواتهم ودورهم , الذى توهموه دراما ترقى لمستوى الاحداث التاريخية , بقدر ماتقوم بتصدير أوهام دستورية للآخرين , مثلها مثل "السرديات الكبرى" , أو "المخاييل الإجتماعية " الأيديولوجية , التى تحاول أن تستر قهر الواقع الذى ينتهك هذه التصورات والرؤى . غير أن هناك معان خفية مضمرة بقدر ماهنالك من مضامين طبقية لاتفتقر لوقاحة الإشهار تخترق المقدمة والنصوص .
ورغم اعتراف الشاعر نفسه بأن المقدمة التى صاغها لم تعد كما هى وانما جرى التلاعب بها , ورغم ان عضوا فى "تمرد" من أعضاء ذات اللجنة ، قد أعلن أن مندوب "رب الجنود" فى لجنة الخمسين كان ينقض ما إتفقوا عليه بعد صياغته! ورغم أن أحد ابرز فقهاء القانون الدستورى فى مصر قد صرح : ( سأقول لك حقيقة مفجعة جدا لم يحدث فى تاريخ مصر أن تم إحترام نص دستورى واحد منذ سنة 1923 وحتى الآن ) !!! – د . ابراهيم درويش – جريدة الأهرام – عدد الجمعة 8 نوفمبر 2013 ) فلم يتوان بعض الاعضاء عن البكاء فرحا بإنجازهم التاريخى ! ونسي الجميع أن أهداف ثورة 25 يناير وموجتها الثورية الثانية فى 30 يونيو لم تعارض ثلاث سلطات من أجل مفاضلة فى الصياغات الشكلية الدستورية ، وانما عارضت أساس هذه السلطات الطبقى والسياسي ، على الأقل فى بعض تجلياته الصارخة , وأن التناقضات ليست بسيطة ، وانما تناحرية ولن تحل ببضع كلمات رائعة فى الدستور .
والحال ان الوظيفة الاساسية لهذه المقدمة النرجسية القومية هى دغدغة ذوات المواطنين بنوع من المركزية المصرية الجامعة ، ولخلق ايهام بالتطابق بين سلطة الرأسمالية والشعب الكادح والمستغل ، وتمرير الحلف الرأسمالى الطبقى بتوزاناته وصفقاته ( التاريخية ) بين الاجنحة والإتجاهات المختلفة داخله وخاصة بضمان الامتيازات والالتزامات المتبادلة بين أجهزة الدولة القمعية : القوات المسلحة ، الشرطة ، القضاء ، البيروقراطية ، وأجهزة الدولة الأيديولوجية وفى القلب منها المؤسسة الدينية بفرعيها الاسلامى والقبطى – عامة او خاصة – التى تضفى شرعيتها اللاهوتية على النظام القائم .
تتخفى سيمياء الخطاب الدستورى السلطوى وراء الكلمات المجنحة قاصدة بصيغها اللغوية المضللة والملتبسة التعتيم الدلالى على المضمون الطبقى ، والسياسي الحقيقى الذى يحتويه ، وهو ان البورجوازية البيروقراطية العسكرية ، وهى تتصدى لقيادة حلف طبقى مضاد للثورة فى مواجهة جناح البورجوازية " الاسلامية " المضاد للثورة ايضا - تتصدى فى ذات الوقت لقوى الثورة بهدف تشييعها لمثواها الأخير ، بتجريدها من كل الاسلحة التى كسبتها ايام صراعها الثورى المكشوف وأخصها حرياتها السياسية وتخلق لذلك ركائز شرعية لهذ التتجريد فى الدستور . وهى تهدف من إصدار هذا الدستوربإصرار فى اللحظة الراهنة إضفاء شرعية على سلطتها امام العالم الذى لم يرها الا إنقلابا وتعزيز قدراتها القمعية الكلية ، واستكمال خطوات وأد الثورة التى يجرى جزرها معنويا وتشريعيا وماديا فى الآونة الأخيرة (بتلويث سمعتها اعلاميا ، وبإصدار قانون يقوض حق التظاهر ، وبالإصرار على محاكمة المدنيين عسكريا ، وبمشروع لقانون للارهاب ، وبمحاكمات قضائية رادعة عن "جرائم " ارتكبت إبان اعوام الثورة الثلاث ، وبتطهير الفضاء الالكترونى مما يهدد الامن القومى ! ) ، ووضع "بطل تحرر وطنى " عسكرى رجعى - من نمط الفرنسي كافينياك - على قمة الجهاز التنفيذى لإستعادة الإستقرار، والأمن ، والنظام ، وراغبى الاستثمار ، ولمواصلة السياسات الاقتصادية للرأسمالية الليبرالية المتوحشة ، وهى تتبع فى سبيل ذلك اساليب ترويع وترهيب وتضليل الشعب مغالية فى رفع راية محاربة الارهاب لدفع الشعب دفعا لصناديق الإستفتاء . وحتى نتصرف بعقلانية ينبغى ان نعرف كيف نتأمل / نفكر / كيف نحسب / ونقدر مايمكن ان نفعله . لكن فى كل الاحوال أزمتنا هى أزمة ثورية وليست دستورية .
توضع تلك الطاقة المجازية للنصوص الدستورية فى يد أعلى سلطة حيث تستطيع بأساليب معروفة التلاعب بها لصالحها . ولاشك أن الباحث الأمريكى ناثان براون كان محقا حينما كتب " لقد اتقنت مصر فن كتابة دساتير مناهضة للدستور " .
تبدأ المقدمة بالاشارة الى ان ( هذا دستورنا ) فترتاع لأنك ذات يوم فى الآخرة سوف تحمل " كتابك" بيمينك متضمنا حسناتك وخطاياك ، فأطلع اذن على ماخطته يد اللجنة متفاخرة ، فتسر إليك بأن مصر هبة النيل مسايرة فى ذلك المؤرخ الإغريقى هيرودوت ، ناسية أن أرض مصر قد انتزعها كدح الفلاح المصرى من براثن فيضانات النيل المدمرة ، ثم تنتقل مستعيرة من المفكر جمال حمدان عن شخصية مصر ماخطه عن عبقرية المكان بصدد موقع مصر ، وتغالى فتعتبرها قلب العالم كله ! وملتقى طرقه وحضاراته ! ، ومفترق طرق مواصلاته البحرية واتصالاته – وكأن ذلك قد اتصل تاريخيا فى كل الأزمنة على تغايرها متجاوزا العصور القديمة وشمل كل حضارات الارض من آسيا حتى امريكا اللاتينية ، وهى رأس أفريقيا المطل على المتوسط – و نسيت ان تضيف وكعب قدم إيطاليا ! –ومصب أعظم أنهارها النيل – حقائق جغرافية مثلها مثل حقيقة وجودالأمازون فى البرازيل والدانوب فى النمسا ، والجراند كانيون فى أمريكا مثلا .
ثم لاح فجر الضمير الانسانى فيها – ارجع لكتاب جيمس هنرى برستيد المسمى فجر الضمير – وتأسست اول دولة مركزية ،- وهو مايعنى ظهور اول مجتمع منقسم طبقيا أليس كذلك ؟ - ، ثم تبين انها مهد الدين ، وراية مجد الاديان السماوية ، فأثبتت المقدمة اسماء الانبياء المشهود لهم دستوريا بحق أتباعهم فى ممارسة العقيدة لاسواهم ، ممن يتبنون عقائد او حتى مذاهب معينة مغايرة ممن يخرجون عن دائرة حرية الاعتقاد المطلقة ! وهو ما يجعل من الدولة –دولة طائفية دينية ، لادولة مواطنة ديموقراطية . والصلة هنا تمتد لتبلغ المؤسستين الدينيتين : الازهر والكنيسة ( هذه مصر وطن نعيش فيه ويعيش فينا – اقتباس عن البابا شنوده ذكرته المقدمة ) ومعهما حزب النور . وتنتقل المقدمة الى التنويه ب" خير أجناد الأرض " مستندة الى هذا الحديث الضعيف المشهور عند من يعتمدون هذه المرجعية . وصولا الى " الدولة المصرية الحديثة وعمادها جيش وطنى " الذى انتصر للارادة الشعبية الجارفة فى ثورة 25 يناير و30 يونيو – ولم يزح رأس النظام حفاظا على النظام بكامله كما دلل مجرى الاحداث خلال السنوات الثلاث الماضية ، وقطع الطريق على تجذر الثورة الشعبية ! وخاصة حفاظا على ملكيته وثروته وسلطته وامتيازاته فى مواجهة جناح رأسمالى ينافسه -. ويستمر الحديث عن احمد عرابى وحركة يوليو وعبد الناصر وانتصارات الجيش قافزا على كل الهزائم المدوية المعروفة تاريخيا ، مبشرا " بتجاوز الجماهير للطبقات والايديولوجيات " محييا حماية الجيش ومباركة الازهر والكنيسة ل " الثورة " مغازلا حزب النور بذكر الارض التى" استخلفنا الله عليها " وضرورة حمايتها لينتهى بأن الشعب وحده مصدر السلطات ، وهو يتجه لاقامة الدولة العادلة ! ويستكمل بناء دولة ديموقراطية حديثة حكومتها مدنية – ثم يتفاخر كالطواويس التافهة العاجزة بأن الدستور يغلق الباب امام اى فساد واستبداد يصون الحريات ويحمى الوطن ويتسق مع مبادئ الشريعة والاعلان العالمى لحقوق الانسان . فلنحاول أن ننظر فى بعض هذا الهراء الدستورى فيما بعد !
ولكن مايمكن ان يقال هنا أن الانتلجنسيا المصرية غير الثورية بشعراءها ، ومتمرديها ، وأطباءها ، وقانونييها وخاصة تلك التى اسهمت فى أعمال لجنة الدستور المعينة غير المنتخبة قد فرطت حتى فى ابسط مطالبها لحد الخيانة وهى التى طالما صرخت بحرية الاعتقاد والتعبير والمواطنة وحق المواطن فى التحاكم امام قاضيه الطبيعى ، مبررة مواقفها بخضوعها لمتطلبات محاربة الارهاب . الواقع انها لم تلعب دور ممثلى الشعب فى لجنة الخمسين ، بل لعبت دور مروجى مطالب السلطة لتقييد الحقوق والحريات لدى الشعب ، مسهمة فى ترويج وهم دستورى ضخم يقايض محاربة الارهاب بالتفريط فى الحقوق والحريات فى صلب الدستور ذاته وبصفة أخص فى القوانين المكملة له او التى تفصله ، القائمة فعلا أو الآتية فى الطريق . ان مكسب الحد الأدنى الذى نرغبه من تلك العملية التى جرت – على الأقل – إضافة لتخلصنا من الأوهام الدستورية ، هوان نخسر أوهامنا عن أشخاص ظنهم البعض نماذج ديموقراطية ثورية وتوقع منهم مواقف مغايرة . لذا حق لنا أن نقول لهم ماقاله ذات يوم سان جوست الثورى الفرنسي الشهير لدانتون حين انحرف عن مسار الثورة الفرنسية : دانتون لقد خدمت الاستبداد !
#سعيد_العليمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟