أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - مختار سعد شحاته - شوق الدرويش ما لها وما عليها















المزيد.....


شوق الدرويش ما لها وما عليها


مختار سعد شحاته

الحوار المتمدن-العدد: 4904 - 2015 / 8 / 22 - 02:15
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


قراءة في رواية "شوق الدراويش".. لحمور زيادة

توطئة للقراءة:
- انتصرت رواية "شوق الدراويش" وكاتبها حمور زياد لتراث هائل وتاريخ حساس لوطن ملهم هو السودان، لا يقل في تاريخه وتراثه عن غيره، بل يزيد في بعضه بما شهد من تواريخ وصراعات، جعلت من رصيد تراثها وحكاياته منبعًا ومصدرًا للإلهام، يتوازى مع كثير إرثنا العربي، وحكايات العشق التي لا تنتهي بكل تماهياتها ومستويات المحبة فيها، وهي ثقافة فريدة مقارنة بما قدمه الإنسان في مناطق أُخَر، فتميزت منطقتنا بتاريخها كله بتلك النصوص، ولا نبالغ أن نقول بأنها علَّمت منه، وغرِف منها الكثيرُ كثيرًا.

الغلاف والعنوان والتقديم:
- تقدم الرواية لنفسها منذ اللحظة الأولى التي تمسكها فيها، ومن خلال لوحة الغلاف التي، حيث صورة لهذا "المهدي" المجاهد وثلاث نساء، وهو ما يمكن تفسيره بعد الانتهاء من الرواية أو يجعل ثمة تشكل ما لتلك اللوحة من خلال جمعنا لتفاصيل الحكاية داخل هذا العمل، وحول دلالات هذا الغلاف على جملة المتن السردي –جملة من الإجمال- والانتباه لإشكالية ما، يثيرها البعض بين حين وحين، حول الغلاف وعلاقته بالمتن بين دفتيه، وهو ليس موضوعنا هنا، لكننا لن نغفل ما للعنوان من قوة شرائية وجذب إذ يمكن من خلاله أن نقرأ المتن بين دفتيه قراءة إبداعية مؤسسَة على تصميم وإبداع الغلاف.
- وعن العنوان "شوق الدراويش"، لعل الأجمل فيه هو محاولة تأويلاته حين القراءة، فهو صالح لتبريرات هؤلاء المريدين من أتباع الثورة المهدية، وكيف صاروا دراويشًا في شوقهم لفكرة الخلاص مع المهدي وشخصه، أو كيف يمكن للشوق أن يستبد بصاحبه فيحوله إلى درويش في عالم الشوق والمحبة وهو ما أميل له ومن خلال وصفه لمحبته في الحوار ص 364 "يشتاقها كشوق درويش للجنة"، أو في غيرة "بخيت" عن علاقة حبيبته بـ"يونس" ص 371، أو حديث "يوسف أفندي" وحبه لزوجته الذي جعله "درويشًا" يغفل عما حوله من الدنيا غير منتبه إلا لحبه وعشقه وهو يقرأه أبيات مجنون ليلى على قبرها،أو كيف يجعل الحب المحب درويشًا في الهوى كما جاء في ص 223، أو كما قالها في ص428 واصفًا حبه لها "أنا درويشها".. وكلها تأويلات لها وجاهة باعتبار الشوق والمحبة عند العامة أو عند المتصوفة والأشياع.

الإهداء:
- يجيء الإهداء في نفس خط الرواية الذي أسس له الغلاف بلوحته، والتي تضم رجلا ومن حوله نساء ثلاث، فيأتي الإهداء: "إلى التي..." ويترك جملتها مفتوحة على مشاعها، ليغلق عقل وخيال القاريء بجملة صلة الموصول والتي سيغيرها كلما تقدم في فصول الرواية، إذ تتنقل بين هذه وتلك، تلك الصلة، وربما تتعداهن إلى الأمكنة ذاتها، لتجد في نهاية الأمر أن إطلاق صلة الموصول على مشاعها كان أمرًا ذكيًا، حتى وإن كان له معنى في عقل الكاتب.

الخط العام للرواية:
- أميل إلى الاعتقاد بمظلومية تلك التصنيفات للكتابة، ومنها الرواية التي تراوغنا مسمياتها خشية الوقوف على عتبة واحدة، فتراها دائمة الانفلات من تسمية إلى أخرى ما بين الكلاسيكية أوالتاريخية والملحمية والواقعية والواقعية السحرية أو حتى السِيَرِية والشخصية، وهو الأمر الذي يمكن اعتبار "شوق الدراويش" مثالا له بوضوح. فالرواية سنظلمها إن اعتبرناها من جانب التسمية والتصنيف وحده، فهي ومن خلال تفاصيلها وتعاشيق أرابيسك حكايتها تحتمل الكثير من التنظير حول تصنيفها، حتى وإن ارتضت في شكلانيتها سمتًا أو مدرسة ما، فضلت اعتماد تقنيات سردية وحكائية رواياتية على أخرى، أو مزجت فيما بين هذا وذاك.
- تجيء الرواية في أكثر من 17 فصلًا، وتكاد تقسيمات الفصول داخلها، ومقاطع الكتابة بالفصول أن تلتزم شكلا شبه منمط ومتداول، حاول الكاتب أن يغير في سمته في بعض الفصول، لكنه يعود إلى التزامه بترتيب ما، أظنه سيطر على الكاتب وكاد يلزمه، إلا أنه سرعان ما ينتبه له "حمور زيادة"، فيبدأ في مخالفته لينكص بعد ذلك بفصل أو فصلين، وفقط تأمل ذلك في ترتيب المقاطع في الفصول من الأول وحتى السادس، ثم قس على ذلك بقية الرواية. وهنا يطل سؤال بقوة عن الشكل الذي يمكن للروائي من خلاله أن يقدم عمله، ويجعلنا نسأل بشكل وهمِّ بحثي أكثر منه عجبًا، لماذا تندر الكتابة المغايرة في شكلها ونسقها على المألوف؟ ولم يندر أن نرى عملا أدبيًا كالرواية يمكن أن يقدم لنا كدفقة واحدة، يضع المبدع قلمه في أولها فلا تنتهي جملته إلا بنهاية الرواية؟ ولعل هنا يجدر الإشارة إلى تجربة رواية "إليها المسير" الفائزة بجائزة المختبر هذا العام، وكيف ردت على تساؤلي هذا، وعن إمكانية حدوثه بجمال ودقة.

من تكنيكات الكتابة وتقنيات سردها:
- يبدو من اللحظة الأولى التي تنهي فيها الصفحات الأُول للرواية تعرف أنك بصدد روائي يتمتع بثقافة ووعي يحترمان بشدة، ودراية بموروثه التاريخي والشعبي، وتمكنه من أداة توظيفه بالشكل الذي يجعلنا كما أسلفت في حيرة إن وقفنا أمام تصنيف هذا العمل الضخم، وهو ما أعطى فسحة للكاتب أن ينوع في تقنيات سرده وجملته الروائية، وهو ما تنتبه له منذ تصديره لتراث "ابن عربي" ومن ثم ما تبعه في مطلع العمل حين يقول " لست خائفًا من الموت......"، وكيف حركنا بين راوٍ عليم وآخر محايد، بتلبيسات الضمائر وتحريكها بين المتكلم والغائب، مثل التحريك في الأفعال بين الماضي والحاضر.
- قرر حمور من البداية أن يدخلنا لعبته بذلك الاستدعاء –وبالمناسبة أنهى الرواية به، وأقصد ابن عربي-، ويبدأ بالتنقل بين ضمير المتكلم والغائب، ليورطك بقوة في تفاصيل البطل "بخيت منديل"، وعلاقته بتلك الشابة "المريسية" ويبدأ في إغراقك في تفاصيل هامشه عبر الرواية، لتكتشف متعة تحول الهامش إلى متن العمل وصلبه، إذ يصدر لنا ومن خلال الاتكاء على أحداث الثورة المهدية ما قد نتوهمه متن الحكاية، لنكتشف كيف صار المتن هامشًا في نهاية الأمر إذ انتصرت هوامش بخيت على زخم المتن المعتقَد، وهي لعبة شديدة الذكاء والإمتاع، قام بها "حمور" ببراعة وإتقان، وإن شابها أحيانًا شبهة ترهل حين يحرك الزمن بفلاشات خلفية، ولعل ذلك يفسر لنا بأمر ما، ذلك الإرهاق في عدد الشخصيات في تلك الرواية والتي قاربت الخمسين ما بين شخص محوري، إلى ثانوي، إلا أنك تكتشف كيف لم يكن لهذا المحوري من أثر لولا تفاصيل هوامش الشخصيات الثانوية، فيصبح الثانوي محوريًا بشكل ما، والمحوري ثانويًا في حكاية وهامش هذا الثانوي بدوره.
- ويبدو واضحًا قيمة الجملة الوصفية في التركيب اللغوي للعمل، واعتماد الجمل القصيرة في كثير من الفصول، وما لها من إيقاع متلاحق يُشكل الصورة المشاهداتية بسهولة، وما لذلك من قيمة ناصعة في العمل، إلا أنها في مطلع الرواية بفصلها الأول كانت زائدة حين الحديث عن شخصية "المريسية" فجاء الوصف زائدًا –من وجهة نظري القرائية- رغم ما يبدو من كونه عفويًا وسلسلًا، وذلك إذ ارتأى الكاتب أن يقدم لنا تبريرًا لكل ما يقول به من الوصف ص14، وص20، إلا أن ذلك للحقيقة -حين وصف شخص "المريسية"- يجعلني أتسأل عن إحالات لغة الوصف حين يقول في وصفها أنه كان لها "مروءة فارس"، فكيف يمكن أن أستوعب تلك المروءة مع الجملة قبلها "أذلت حامل الراية"، وسؤالي هنا ساذج عن كيف بصاحب مروءة أن يذل كائن ما معتمدًا على منطق الواقع أو منطق الخيال وهل يسمحان بذلك التناقض؟!.
- رأيت ونظرًا لهذا العدد أن يأتي الروائي بتقنية "الفلاش باك" أو الحكي المرتد راتبًا طبيعيًا لكل هذه الشخصيات، وهي تقنية سردية اعتمدها الكاتب، حتى للحقيقة أنه في بعض الأحايين كان يترك نفسه لسطوتها، فنجدها في مرة تستمر لما يزيد عن 70 صفحة في الفصول من الخامس وحتى السابع حين حكى عن "ثيودورا"، في مشهد فلاش باك طويل للغاية، وهو ما رمى بثمة قليل من الإملال والتطويل في بعض تلك الفلاشات، إلا أن جمال اللغة حفظها من الوقوع في بئر الملل التام.
- وما دمنا بصدد التقنيات في الرواية، أعتقد أن تلك الرواية لقراءتها فأنت بوضوح يمكنك بعد قراءتها أن تأخذ القصة وحدها وحوادثها التاريخية مدخلا للقراءة، ويمكنك أن تأخذ التراث الشعبي مدخلًا، والسيرة الشخصية، لكن لعل أهم ما أراه مدخلا لقراءة تلك الرواية هو ما يطلق عليه "المواءمة الاجتماعية" تلك التي قدمها لنا "حمور" من خلال سيرة شخصية لبطله "بخيت منديل" اعتمدت على مجرد التعاطف معها في مجملها، وهو ما له علامات استفهام حول بناء تلك الشخصية دراميًا، وكيف يجعلنا نجعل منها مدخلًا للبحث من الزاوية التاريخية، فنعيد قراءاتنا لما يقدمه لنا أي منتوج كتابي، ومحاولة اكتشاف ما يمكن تسميه "اللا نص" في متن النص ذاته. فحمور استطاع أن يدفعنا إلى قراءة تاريخية بتحليله لسيرة الثورة المهدية وتحليل شخصياتها وأحداثها، على أن نصل في النهاية إلى قراءة تاريخية وفنية لمختلف جوانب تلك السيرة، والسعي إلى خلق صورتها الكاملة من كافة زواياها، حتى ولو كانت من زاوية هوامشها.
- لم يعتمد الكاتب على بنيوية كاملة في سرده فلم يكن مشغولا بشكل كامل بتتبع تفاصيل السير الشعبية بدقة عند شخوصه بقدر ما اعتمدها في تحليل السيرة الشعبية للشخص المجازي الذي أسميه "الثورة المهدية".
- وإن كان حمور قدم لنا بتقليدية ارتباطًا وثيقًا بين المحتوى السردي والشخوص دون إغفال للشرط التاريخي للنص أو محتوى الحدث وأفكاره، فهو يلقى بضوء نصه على مضمون قومي وإنساني أعمق، غير غافل عن فنية كل تلك العناصر، وهو منهج اعتمده كثير في تقديم أعمالهم بهذا الشكل حيث ترى المضمون الاجتماعي والفني والإنساني وما للعمل من وحدة من بدايته حتى نهايته، مع وضوح تام لكل شخوص العمل –كما أسلفنا- وهو كله ما يمكن اعتباره وتفسيره من خلال الشرط التاريخي للنص كما قلت.
- إذن فحمور ارتضى منهجًا ربما قديمًا ودارجًا لكن ما الجديد الذي أضافه؟ وكيف قدم له؟ هذا هو السؤال، وأعتقد أن إجابته تجيء كما أسلفت في قراءة "اللانص" والخلفيات التاريخية والقومية والشعبية في هذا العمل، مضافًا إليها جملة من المؤثرات اللغوية وجمال بلاغتها واحدة منها، فيجعلك تقرأ الماضي لأجل أن تتعرف على الحاضر، وتكتشف بسبق لما ينتظر في المستقبل. وفي ذلك يحرر الزمن، فيتحرك فيه بين تقنيات الفلاش باك وبين "الفلاش فورورد" –مجازًا- أو الزمن اللاحق، ويغزل بينها جميعًا بدقة، محركًا بالتفات بين الأفعال والضمائر.

اللغة والحوارات والأسلوب:
- لن أطيل في الحديث عن تلك اللنقطة، إذ أراها مما يكتشف القاريء بذاته من جماليات النص المكتوب لحظة قراءته، لكن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى بعض الشاعرية في كثير من المقاطع تلك التي تخبرك عن ثقافة وقراءات الكاتب، ويضاف إليها كثير من الحوارات المباشرة في الرواية وصفاء ترتيبها ولغتها.
- وترى في الرواية اعتمادها على الجمل القصيرة والفعلية والوصفية كما أسلفت، وما لها من إيقاع متلاحق يتسارع لبناء الكادر الواسع لمشهدية النص السردي طوال العمل، لتبني لنا عملاً ملحميًا رائعًا من أحداث الثورة المهدية، اعتمد في بعضه على جملة استدعاءات من التراث الديني والتدين الشعبي بجملته، فمثلا في ص 118 وحكاية إطعام الشيخ "دفع الله" لمن معه، وكيف جاءت متكئة على نص من سيرة القصص النبوي بنفس تفاصيله، والذي لم يتوقف عقل التدين الشعبي عن استلهامه في الحكي عن سيرة الأقطاب والعارفين بالله، إذ تكاد أن تجد مثيلا لها في بعض حكايات ابن بطوطة ومقابلاته أثناء رحلته المشهورة. والحقيقة يبدو أن الاستدعاء الديني نظرًا للحدث التاريخي في متن العمل كان له حضور قوي، كما في الحدث السالف، ومثله في ص128 من النص الإنجليزي المترجم للعهد الجديد، وفي ص197 واستدعاء فتح مكة وحصارها بنار المسلمين الفاتحين حين تحدث عن فتح الخرطوم وحصارها. وهو ما تكرر مع استدعاء من نصوص ابن عربي بنصها أو معناها، كما في تقديم الرواية وكما يجيء في ختامها، وعبر كثير من جملها.
- وثمة إشكال كذلك هنا لابد من السؤال عنه، ولا أعرف من يجيبه، وأعرف أننا سنختلف حوله، هل الناشر –وليس ناشر العمل فقط بل الجميع- أم المبدع، إشكالية النص المكتوب وتحريره، وكثرة الأخطاء الإملائية الساذجة التي تؤكد أن مهنة التحرير لم تر النور الكامل بعد في مجال النشر المصري والطباعة، ففي ص11 لفظة "حوالي" وأتساءل عن فصاحة المفردة؟ وانظر مع إلى كل تلك المتعة اللغوية التي يمكن أن تفسد لضعف التدقيق اللغوي والمراجعة الإملائية، وهنا لا أستثني المبدع بل هو أحد هؤلاء ممن ألومهم، فقط انظر معي كثير من الهمزات التي سقطت أو أدرجت بخلل مشين يكفى الإشارة فيه إلى همزة "ابنة ص 51 و"ابن" ص65 والتي تكررت في نفس السطر مرتين، وأضف جملة همزات على طول العمل تجدها في الصفحات 25، 27، 38، 41،47 ،102،106،وغيرها كثير،. وهنا لن أقبل –بشكل شخصي- أن يرد قائل فيقول لكنها لم تفسد متعة القراءة، لأني وبشكل شخصي أرى نصوح اللغة وفصاحتها كتابة وقراءة أمرًا ليس بالهين متى تجاوزناه نحن معشر الكتاب والمبدعين، فالسقوط يبدأ بملح الدهان ثم نشعُه ثم تآكل المبنى.
- ولن أفوت كذلك جملة من الأخطاء النحوية التحريرية واللغوية فمثلا لا حصرًا "استخدام كلمة الثانية" والأدق لغويًا "الأخرى" ص18، وص412 وتكررها في غير موضع، والتي أراها لا تليق بعمل رائع ومتقن مثل الذي نحن بصدده، وما بين نصب المفعول كما في ص31 وتكرره بنفس الشكل مع نفس الكلمة "عصفور دوري" ص 154 ، أو نصب اسم لا النافية للجنس ص41، أو إعراب الأسماء الستة مع لفظة "أبي" وفي الأخيرة كان يمكن أن يفوتها المحرر للنص بوضعها بين علامات التنصيص لحماية نطقها من أحكام الإعراب وهو ما كان ص 50 وتكرر ص74 وغيرها، وصيغة العدد ص 57 .. وفي ص353 "الطين الني" فهل هناك طين غير ني أو غير لازب؟ وص 450....
- وقبل ان اترك اللغة أعود للسؤال عن منطق الخيال في لغة الرواية، وأقول منطق الخيال لا منطق العقل، لأن التساؤل هنا سيكون ظلمًا إن حوكمنا فيه منطق العقل، فنحن نرى بعض الشخصيات يتم تصديرها لنا بصوفية ما، أو بنوع من كشف ما، ثم يصدمك بعض مفرداتها التي تجعلك تتساءل كيف وجدت تلك المفردات والجمل في قاموسهم الشفيف؟ ربما تعمد ذلك الكاتب لغرض ما في بناء تلك الشخصيات دراميًا.
- كما أسلفت فإن الجميل في حوارات وأسلوب تلك الرواية، هو كيف يجعلنا حمور نقرأ الماضي لنعرف عن الحاضر أكثر ونستشرف المستقبل بما كان من التفات بليغ بين الضمائر والرواة وتحريكه للزمن بحرية، ولعل أنصع الأمثلة على تلك القراءة حين تتبع خط التشدد والانحراف الفكري في عقيدة المهديين، وكيف نقرأ صراعات السودان الآنية من خلاله، بل كيف كان كاشفًا لنا بما نعانيه الآن من هجمة هؤلاء المتشديين وضلال عقيدتهم بتنظيماتهم الإرهابية التي لا تقيم للنفس البشرية وزنًا، ما دامت على غير اعتقادهم الفاسد.

مزلق خطير في البناء الدرامي:
- أرى بشكل شخصي أن هذا المزلق كان يمكن أن يكون نصلا على رقبة النص، والحكاية برمتها إذ اعتمده الكاتب في بناء حكايته وخطها الدرامي، وهي صدفة الحدث في معرفته بالمريسية ومن بعدها في علاقته بحسن الجريفاوي حين يحكي حسن، إلا أن الكاتب استطاع أن يفلت من ذلك بإسهابه في الحكايات وتمكنه من لملمة قطع اللوحة المترامية المتباعدة، وهو ما جعلني أقبل تلك الصُدَفية رغم خطورة اعتمادها، ولعل هذه الصدفة تطالني حين أستدعي أنا الآخر قراءات موازية للنص عن الثورة العرابية وعن حكايات السيرة الشعبية للعقيلي بالإمارات، فكما قلت إن أجمل ما أمتعني في هذا النص هو "اللا نص" المتضمنه، وما استدعاه عندي من قراءات ونصوص اُخر.
- كما تجيء صدفية بعض الأحداث المؤسسة في الخط الدرامي، والاعتماد الكامل عليها والبناء والمتابعة باعتبار واجب قبولها وتمريرها دون أن نتوقف عليها، كما يجيء في علاقة البطل بالمريسية وكيف كانت الصدفة منشأها، وغيرها في علاقة "ثيودورا" به أو بشخص "يونس"، وهو ما يجعلني أسأل ماذا لو ..؟ الحقيقة أن مثل تلك الصدف أزعجتني قرائيًا وإن قبلتها تحت ضغط منطق الحكاية والخيال، فهو نفس المنطق الذي لن يقبله غيري ويلح على الإجابة عن سؤالي ماذا لو لم تحدث تلك الصدف.
الشخصيات في الرواية بين العمق وغير العمق:
- تزدحم الرواية كما قلنا بشخصيات فاعلة في صلب العمل الأدبي هنا، وأخرى ثانوية أو مساعدة تجيء على الهامش، لكن يبدو أن إشكالية الهامش والمركز التي يناقشها الأنثربولوجيون والاجتماعيون تُطل برأسها هنا، ليبرز لنا الهامش بقوة، مؤكدًا أن الربح الحقيقي هو ذاك الهامش، إذ تجيء كثير من شخصيات الهامش في الرواية مؤثرة بدرجة تكاد تزاحم شخصياتها الرئيسية، بل ولا أغالي هنا، تجدها أشد عمقًا من أخرى لها في الخط الدرامي مساحة عريضة، وهو ما لم ينجُ منه البناء لشخصية "بخيت منديل"، إذ لو حاكمناها مقارنة بأخرى لتراجعت في عمقها وقوتها، فمثلا تبدو بنائيًا شخصية مثل "الجريفاوي" أكثر عمقًا وأرصن بنائيا من شخصية "بخيت" نفسه والتي تبدو في غير موضع قلقة عجولة وكلما تقترب من العمق يتحول ذلك العمق إلى مباشرة وخطابية وحكمية تفسد مساحة العمق التي تكاد تتشكل.
- أظن –وهو ظن شخصي- أن شخصية "الجريفاوي" والطبيب المصري الأسواني "يوسف"، وما فيهما من العمق ودقة البناء ورصانة وضعا كثيرًا من شخصيات تلك الرواية وأبطالها الممتدين أمام إشكالية بنائية ربما تكون في صالح العمل مقارنة بالبطل وربما لا. وإن كانت شخصية "الجريفاني" تظل على عمقها حتى لحظاتها الأخيرة حين تتحول إلى تلك المباشرة والخطابية في نهاية ظهورها بالرواية.
- وعلى النقيض شخصية "المريسية"، تلك الشخصية التي رسمها الكاتب بتخييل ما، فأتخمها بما لا يمكن أن تحتمله باعتبار منطق الحكاية والخيال ومنطق الواقع معًا، رغم أنها كان من الممكن أن يتمهل الكاتب في كتابتها والتريث معها لتأخذ حقها الذي تستحقه كما يصدر لنا الحكي عنها أو على لسانها ودون إغفال لعمرها الحياتي في الرواية "لم تجاوز العشرين". وبلا إسهاب أظن سمت القلق بدا مسيطرًا على كثير من شخصيات الرواية، وربما كان متعمدًا ليؤكد حالة الارتباك الواقعي في تلك اللحظة التاريخية إبان أحداث الثورة المهدية.
- لعل أكثر ما يزعج في كثير من شخصيات الرواية تلبسها في غير موضع لباسٌ من الحكمية والخطابية بشكل ما، كما يُضاف إلى جانب ذلك هذا العدد الكبير للشخصيات والتي حركها الكاتب بحرفية داخل عمله، وربما أحبه البعض، إلا أن هذا العدد والذي رآه البعض مقدرة ما –وهو ما لا أشكك فيه- لكن يمكن أن تختفي بكامل تفاصيلها وحكاياتها على طول الرواية، دون تأثير على عمود الرواية الفقري والحكاية برمتها، وهو ما يجعلنا نرجع إلى السؤال ماذا لو حذفت تلك المقاطع بأكملها، فهل سيتأثر العمل أو الحكاية أو خط الدراما بالعمل؟ ربما سنختلف كثيرًا حول تلك النقطة، وهو اختلاف أعرف أن فيه الكثير من الوجاهة، لكن ذلك الاختلاف لن يقلل من احترامي للعمل والإعجاب به.
كلمة أخيرة:
بقى لي بعض تساؤلات عامة حول الرواية وحكايتها، تمنيت لو يفضها لنا الكاتب ويتفضل بتفسيرها وأتمنى عليه أن يتسع صدره لها كما اتسع لهذه القراءة المتواضعة:
- في ص69 حين الحديث عن البعثة التبشيرية، وكيف جمعت بين مذهبي الكاثوليك والأرثوذكس، لكن لم يبن لنا تفاصيل الاختلاف حتى ولو كانت قليلة في الواقع والمذهبان متقاربان، إلا أنه كان لابد أن تظهر في بعثة تبشيرية.
- كيف اعتمد الكاتب في ذهنيته حين الكتابة لفكرة فحولة العربي وأن الرجال العرب مشتهون على الدوام من نساء الغرب، وهي فكرة لا علاقة لها بالواقع الحياتي بل تناقضه في حقيقتها، والتي ربما روج لها البعض من خلال كتابات متوهمة عن الغرب.. وهو ما جعل فكرة الاستغلال الجنسي من أحد الشخصيات الأوربية داخل الرواية لشخص البطل يمثل –من وجهة نظري- انتصارًا للفكرة بشكل ما، أو انتصارًا على الأوربي بشكل عام وهو ما بدا ساذجًا وسط الوعي القابع خلف النص الأدبي ثقافيًا وقراءتيًا للكاتب. فقط راجع ص 231 وص232.
- في ص234 المشهد بين "المريسية" و"نعمة الساتر" أعتقد أن حوارهما وعراكهما غير منطقي حتى باعتبار منطق الخيال، بل ومبالغ فيه، وبدت مبرراته والوصول إليها معقدة، وإن حذف المشهد بأكمله ما تأثر خط الحكي في الرواية.
- وفي ص 345 وعن إلحاج "تاج الدين المغربي"، وسؤال عن اللهج وراء استنطاق المجاذيب للحكمة، ولصق قدرات خاص بهم، وعن الحكمة في ذلك، وهل هو محاولة للخلاص من شعور بذنب تجاه هذا الفصيل في واقعنا العربي والتعامل معه. ربما سيطرة فكرة المظلومية بشكل عام هي ما أقلقني، ولعل ما ذكاها هو تصريح الكاتب نفسه في واحد من حواراته وعن شعور خفي بمظلومية من ارتباط الرواية بشخص "الطيب صالح"، وكيف رأى الكاتب في ذلك غُبنًا للكثير من الروائيين في السودان.. وهو مثار عجب عندي إذ كيف نناقش في مصر الرواية وتترشح لقائمة البوكر القصيرة وقبلها جائزة محفوظ عن الجامعة الأمريكية ثم يشتكي الكاتب أو يبطن شبهة مظلومية النظر من ظلال "الطيب صالح" إلى الرواية السودانية، وهو في رأي كسؤال عن سر ارتباط الرواية في مصر باسم "نجيب محفوظ" مثلا.
في النهاية..
- ربما لدماثة خلق الرجل فضل أن يكون مشهد "الجريفاوي" وندمه، ثم مشهد وسخرية دفن البطل لحبيبته وشربه بالثمن للمريسة، هو محاولة من الرجل للخلاص من ذنب هذا الصراع ومن بقعة الدم التاريخية التي لوثت صفحات من تاريخ إنسانيتنا، وهو ما جعله يعود على عقبيه بخفة ليختم لنا بواحد من نصوص العشق لابن عربي، ليبقى الحب في أولها وفي نهايتها هو الدرس الأعظم، والهم الأكبر من وراء تلك الرواية، فكأنه يقول خلقنا بالحب وعشنا به وإن تعذبنا وهُنا، إلا أنه كما جئناها بحب لا ينبغي إلا أن نخرج منها بنفس الحبة، ولا يفوت الإشارة إلى خطورة الاعتماد على ذلك التكنيك التضميني، وما يمكن أن يرمي به النص مثلما يدعمه.
بقى تحية واحترام للعمل وصاحبه وسط فورة الكتابة التي تفجرت أخيرًا جراء فوضى المسابقات –وأُصر على مصطلح الفوضى وهو خاص بي- والتي ستقصم يومًا ظهرًا ما.. أخشى أن يكون ظهر ذائقتنا الأدبية القرائية للمنتوج الكتابي.

قراءة:
مختار سعد شحاته.
Bo mima
روائي وباحث أدبي
مصر/ الإسكندرية



#مختار_سعد_شحاته (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشاعرة لبنى عبد الله المستعدة للانقضاض على وحدة تائهة
- ما بين الفوضى وسقف المؤسسة في الجوائز العربية
- كان مرة -واحد مصري-..
- النص الإبداعي بين امرأتين
- رواية إليها المسير.. لبغداد السايح
- -باب جانبي في كابينة والدي-
- العين صابتني ورب الكلمة نجاني
- الرجل ال-يباشر-.. قصة قصيرة
- رسالة.. نص أدبي إلى الرفيق مولانا الدرويش الذي يعرف نفسه.
- للأخ المسافر.. إليهم جمعاء
- هل كان أبو الأنبياء مُداهنًا؟! المقال الأول بعد التأسيسي لنظ ...
- نظرية الضيق.. مقال تأسيسي رقم 1
- يقولُ وليد.. مهداة إلى ديوان -تفسر أعضاءها للوقت- للشاعر ولي ...
- سرور التي تضخّ حزنًا ووجعًا قراءة في رواية -الشويرة- لمحمد ا ...
- قراءة لمجموعة -صباح مناسب للقتل- لأسامه جاد.
- قراءة في مجموعة -البطلة لا يجب أن تكون بدينة- لشيرين فتحي عن ...
- تأملات قرآنية خاصة.
- اغفر لي ... ابتهال.
- عاري... إلى أمي
- خان.. بين الروح والجسد. -لا ينصح العقلاء بالقراءة.-


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - مختار سعد شحاته - شوق الدرويش ما لها وما عليها