هادي بن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 4903 - 2015 / 8 / 21 - 20:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
منذ إنطلاق أحداث ما يسمى بالربيع العربي وبلوغ الأيديولوجيا السلفية لأوج ذروتها بما فيها الجوانب الدعائية والعسكرية , والمجتمعات الإسلامية تنزع إلى ممارسات عدوانية همجية هائلة الحجم , ممارسات عدوانية لاعقلانية لا تلقى بالا لمجريات أحداث العالم المادي ولا تتعامل مع الأحداث بغير الأساليب الدينية اللاعقلانية المتطرفة في ميتافيزيقيتها وإنفصالها عن العالم الموضوعي , ما رفع حجم الضحايا والخسائر وسارع في وتيرة الإنجراف إلى الخلف وإحياء أشد النظم الدينية عنفا وتدميرا .
كانت البروبغندا السلفية قد إنطلقت مع الغزو الأمريكي للعراق , ورفعت شعارات دينية معادية للإحتلال الأمريكي فتقاطعت بذلك مع الحركات الوطنية العراقية (المعادية للبعث والحكم الديني) , ما أوقع الكثير من الأيديولوجيين الذين أخذتهم نشوة العمليات المسلحة للتيار الجهادي في الفخ الذي نصبته البروبغندا الدينية السلفية بترويجها لنفسها كحركة مقاومة ( بالمفهوم العلماني للمقاومة ) دون حتى أن تشير إلى أي قدر من التسامح أو التعاون مع خصومها العقائديين . ثم ما لبثت اللاعقلانية الدينية إلا أن أطلقت يد الإرهاب الأعمى وضربت في إحدى أكثر الأماكن قدسية لدى الشيعة معلنة عن بداية عصر الإرهاب الطائفي والذي تجاوز العراق ليمتد لاحقا كمنظومة دعائية متكاملة إلى سوريا وتونس وباكستان وكل أنحاء العالم الإسلامي .
حققت الدعاية السلفية نجاحا باهرا في حشد المقاتلين من كل أنحاء العالم تحت راية مقاومة الإحتلال الأمريكي , ثم كشفت للعالم والأيديولوجيين الغوغائيين المتعاطفين عن صلب العقيدة الدينية بإطلاقها لشرارة الحرب الطائفية الكبرى , وما لبثت أن أعادت الكرة من جديد , فمع الفساد السياسي والمالي للحكومة العراقية وسياساتها الطائفية بزعامة نوري المالكي , تمكنت البروبغندا السلفية الجهادية من تحقيق نصر ساحق جديد وتبنت أطروحة -مظلومية أهل السنة والجماعة- غطاءا لها للتحرك وإعادة الهيكلة من جديد بعد الهزيمة الساحقة أمام القوات الأمريكية والعشائر السنية , وكما جرت عادة الأيديولوجيين والغوغائيين من قصيري النظر , صورت كل أعمال العنف الدامية التي إستهدفت القوات الأمنية والعسكرية العراقية في خانة ردود الفعل ضد -المشروع الشيعي الإيراني- , وأنها مجرد ردة فعل ضد المتسببين في معاناة أهل السنة والجماعة فقط وحصرا , دون أن يكون لهذا العنف دلالات دينية وطائفية أخرى أكثر عمقا .
وتوالت الأيام وسقطت الأنبار وكذلك الموصل , وأصبح لتنظيم -الدولة الإسلامية- مساحة توازي أضعاف مساحات دول معترف بها ونظمت نفسها إقتصاديا وعسكريا لتمتلك كل مقومات الدولة . وأطلقت يد الإرهاب ضد اليزيديين والأكراد والمسيحيين مع توازي حملاتها ضد الشيعة وحكومة بغداد . أي مبرر -سببي- يمكن أن يجده المتعاطفون والأيديولوجيون الغوغائيون لهذا السلوك اللاعقلاني ؟ أي مبرر يمكن أن يجده هؤلاء من يفترضون بأن الحراك السلفي المسلح كان مجرد ردة فعل ضد الة الارهاب الطائفية من الجهة الأخرى ؟ لم يكن الايزيديون من تعرضوا للقتل والسبي والتهجير ممن إمتلكوا زمام السلطة يوما ولم يكن الأكراد والمسيحيون من أداروا شؤون الدولة العراقية وإشتبكوا مع الطائفة السنية , لكنها الة القتل الدينية العمياء التي لا تعترف بالعالم المادي الموضوعي وتستهدف مخالفيها العقائديين لأسباب عقائدية بحتة كان هؤلاء المخالفون قد تورطوا يوما في تقويضها ومقاومتها أم لا . فآلة الإرهاب الدينية لا تعمل إلا وفق ضوابط دينية محددة متعالية عن الواقع المادي , وما أطروحات المظلومية والإحتلال والمقاومة إلا الغطاء "العقلاني" المناسب للخطاب الديني للتستر عن لاعقلانيته الميتافيقية العدوانية .
تقوم الدعاية الدينية الجديدة في بدايتها على تقديم أسس -عقلانية- للجماهير للمشاركة في العنف الموجه , ثم فور تأكدها من تماسكها ونجاح خطابها الديني الخلفي العاري , تنطلق لممارسة عدوانيتها العقائدية والطائفية المحضة مميطة اللثام عن جوهر العقيدة الدينية , وليست الحركات السلفية الجهادية لوحدها من إتبعت هذا الأسلوب الناجح , فقد صور -حزب الله- الإرهابي نفسه من قبل عبر آلته الإعلامية الضخمة على أنه نصير العرب والمسلمين ضد اليهودية والصهيونية ودولة إسرائيل وأنه أحد حماة لبنان من التمدد الصهيوني وأنه حركة مقاومة تدافع عن أرض وسيادة لبنان . والمُلِمُّ بجوهر العقيدة الدينية في نسختيها السنية والشيعية عَالِمٌ بزيف هذا الخطاب التضليلي المزيف وأن الحركات الدينية المسلحة حركات عقائدية بحتة مهما تبنت من شعارات وطنية وثورية . وأبى الحزب إلا أن يكشف عن زيف منظومته الدعائية الكاذبة -;- وأطلق يد الإرهاب لتضرب في -لندن- مستهدفة الكاتب "سلمان رشدي" لروايته "ايات شيطانية" وبفتوى مباشرة من -الخميني- أعتبرت غير قابلة للتعديل وكان الهجوم عبر كتاب مفخخ إنفجر بشكل مبكر ما تسبب في مقتل أحد عناصر الحزب - مصطفى مازح - وإنهيار طابقين من فندق -بادينغتون- . فما هي الحجج الوطنية والثورية الزائفة للأيديولوجيين الغوغائيين والمتعاطفين والتي تتخذ من المقاومة غطاءا لها يمكن أن تستعمل لعمليات الحزب بعيدا عن أرض الصراع (جوهر أطروحته) بالاف الأميال !! ليس سلوك الحزب هذا إلا تمثلا اخر للاّعقلانية الدينية التي تتعامل مع العالم المادي إنطلاقا من مسلمات ميتافيزيقية محضة لا يمكن أن تحشر في سبيية مظلومية او طبقية أو وطنية .
عرفت الدولة التونسية مع سقوط نظام بن علي إنهيارا أمنيا شاملا , ما وفر للأيديولوجيا السلفية الأرض المناسبة لخطابها الدعائي فإنطلقت فإحتلال المساجد والمنابر بالقوة وإطلاق الأحزاب والمدارس القرانية والشرعية والخيم الدعوية في كل مكان والإنطلاق في التنظيم اللوجيستي والعسكري وقد وصل أمر الفوضى الشاملة إلى القدرة على إعلان الحرب ضد الخصوم والمؤسستين الأمنية والعسكرية علانية ! توفر مناخ من الحرية القصوى لأنصار الفكر السلفي , مع إنتفاء التعدد الطائفي وإنهيار النظام الدكتاتوري السابق ما يعني إنتفاء كل الحجج السببية التي أستخدمت في العراق وسوريا لتبرير العدوانية الجهادية . لكن , رفضت الأيديولوجيا السلفية أن تشارك في العملية الديمقراطية وأعلنت كفرها وكفر القوانين الوضعية وكفر الدولة بأكملها ونزعت إلى الممارسات العدوانية كسلوك حتمي لكل الجماعات الدينية الإسلامية (لأن العدوانية في جوهر الإسلام نفسه) . وأطلقت يد الإرهاب ضد الأمنيين والعسكريين والخصوم السياسيين وضد القطاع السياحي , وهكذا شكلت فصلا اخر من فصول اللاعقلانية الميتافيزيقية التي هي جوهر العقل الديني , هادمة لكل الأطروحات السببية التي صاغها الغوغائيون والمتعاطفون .
اليوم , مع بلوغ درجات العنف بسوريا والعراق إلى مستويات قياسية قروسطية , بدأت القارة الأوروبية فإستقبال الالاف من الاجئين السوريين والعراقيين والأكراد والمسيحيين ... وهؤلاء الذين قطعوا كل دروب الخطر والمهالك قبل الوصول إلى الأرض الموعودة , أستقبلوا في الملاجئ المكتظة إلى حين البحث في منحهم حقوق الإقامة واللجوء . وبين هؤلاء اللاجئين يقف الأكراد والايزيديون من تعرضت عائلاتهم للقتل والسبي على يد الأيديولوجيا السلفية , فأقاموا المسيرات التي تندد بالتنظيم الإرهابي محرقين للرايات السوداء , بل إعتدى بعضهم على الكتاب المقدس لدى المسلمين -القران- لرمزيته في الخطاب الديني الأصولي . هذه الأساليب التعبيرية كان يمكن ان يتفهمها اللاجئون المسلمون السنة عبر الأطروحة السببية التي يبررون بها الممارسات العدوانية للجماعات الجهادية ضد النظامين السوري والعراقي , لكنها اللاعقلانية الدينية العمياء , التي ضربت في شوارع ألمانيا ضد الأكراد والايزيديين . إن هؤلاء اللاجئين الفارين من الحرب والدمار والذين لم يتحصلوا على حق اللجوء بعد , إن قدرة هؤلاء على ممارسة العنف والإرهاب دون إهتمام بحياتهم المهددة , هو التمثل العاري الصارخ للاعقلانية العقل الديني الذي لا يلقي بالا لمعطيات العالم المادي .
إن العقلانية تفرض على هؤلاء اللاجئين السعي للإندماج بالحياة الغربية , والسعي لإمتلاك حق الإقامة لضمان حياتهم ومستقبلهم . واللاعقلانية الدينية البراغماتية فرضت على أتباعها السعي للنجاة بإحترام ما يمكن إحترامه من نمط الحياة الألمانية مع الإحتفاظ بالحقد الدفين لعقيدة الولاء والبراء والنظرة العنصرية النرجسية للكفار والمخالفين . أما اللاعقلانية في حدودها القصوى فهاهم أتباعها ينخرطون في موجات عنف دامية حتى وإن كانوا مهددين بالرحيل , وهاهم أتباعها في كل أنحاء العالم يقودون الجنس البشري إلى هوة سحيقة من الرجعية العرقية والدينية مُوفِّرينَ الحجة الأقوى لخطاب القوميين العرقيين العنصريين الغربيين ومُوفِّرينَ المخزون البشري الهائل للجماعات المسلحة .
#هادي_بن_رمضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟