|
عن التابلويد كنظرية tabloidization theory
نورالدين هميسي
الحوار المتمدن-العدد: 4899 - 2015 / 8 / 17 - 16:47
المحور:
الصحافة والاعلام
"يمتلك الجمهور فضولا رهيبا لمعرفة كل شيء ما عدا الأشياء الجديرة بأن يعرفها". أوسكار وايلد.
لما ظهرت الصحف لأول مرة كانت عبارة عن منتوج تجاري مثله مثل كل المنتجات، تتم عملية بيعه بناء على احتساب تكلفة الإنتاج كاملة مع المراهنة على هامش معين للربح يسمح للمؤسسة الصحفية بالاستمرار، وقد بقيت الصحف حينها نخبوية لأنه ليس بإمكان الجميع اقتناؤها. كان لا بد من انتظار بنجامين داي في أمريكا وإيميل دو جيراردان في فرنسا لكي تتغير هذه المعادلة بشكل جذري، حيث تم تغيير أسلوب عمل الصحيفة بناء على الجمع بين مصالح ثلاثة فاعلين: المؤسسة الصحفية الساعية للربح أولا وكسب شعبية يمكن استثمارها لأهداف اقتصادية وسياسية ثانيا، المؤسسات الاقتصادية التي كانت تبحث عن فضاءات للترويج لمنتجاتها وكذا الهيئات السياسية التي تستهدف إيصال أفكارها للناس، وفي الأخير، جمهور القراء الذي يبدو اهتمامه بالقضايا العامة بحاجة إلى تفسير عميق. في ظل هكذا أجواء، انتقلت الصحافة إلى شكلها المعاصر، وأول التغييرات مس بالدرجة الأولى تكلفتها القاعدية، حيث تم اللجوء إلى الحجم المصغر الذي عرف فيما بعد بالتابلويد tabloid، وهو حجم يسمح بتخفيض تكلفة الإنتاج لضمان أكبر نسبة انتشار بين القراء مع إمكانية استدراك أي عجز من خلال نظام الإشهار. ولكي يتم ضمان الانتشار الواسع، فقد خفضت الصحف حينها من سقف مستوى المادة الإعلامية ليصبح قابلا للقراءة من قبل كل الشرائح، وهنا بالتحديد، أصبح شكل التابلويد أقرب لنظرية متكاملة منه إلى أسلوب اقتصادي فقط. يشير إلى أن هذا التكوين الثلاثي: مقروئية، إشهار، مضمون، مهد الطريق لتحويل الصحافة من نشاط اجتماعي نخبوي إلى شكل من أشكال الثقافة الشعبية popular culture، وتدريجيا سرعان ما برز الطابع النظري للتابلويد من خلال ما أصبح يعرف فيما بعد بمدرسة الإثارة، التي يعزى إليها ظهور الصحافة الصفراء، كنمط من الكتابة الصحفية يستثمر في مضامين إعلامية مثيرة، مخيفة، غريبة، شاذة، سطحية، صادمة، دموية... تدريجيا، دخل إلى حقل الإعلام مفهوم يجمع بين شكل التابلويد ونظرية الإثارة تمت تسميته بنظرية فعل التابلويد tabloidization، وهي نظرية متكاملة برأي ستيفن بارنيت سيطرت على الصحف الأمريكية والبريطانية بقوة في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وسمتها الأساسية بحسبه أنها تدعو لمضامين تنأى عن القضايا العامة نحو الاهتمام أكثر بالغريب والمثير في القضايا الخاصة، وخصوصا الفضائح. حقق شكل الصحافة الجديد نجاحات كبيرة لدرجة أن سحب وتوزيع بعض الصحف وصل إلى ملايين النسخ، وهذا النجاح أغرى حتى القنوات التلفزيونية التي لجأت لأسلوب تسطيح المواد الإعلامية وإقحام الثقافة الشعبية بقوة. وقد خصصت جاين شاتيك كتابا بأكمله لهذه الظاهرة عنونته بـ"التلفزيون، التابلويد والدموع" وتناولت فيه تجربة المخرج الألماني راينر فاسبيندر الذي حول السينما من الاهتمام بالقضايا الكبرى المشتركة إلى شكل من أشكال الثقافة الشعبية التي استثمرت فيها التلفزيونات بقوة، وكيف لقي هذا التحول صدى واسعا في أوساط صناعات التلفزيون التي كانت في أمريكا قد تحولت بشكل رهيب إلى أساليب الإثارة والسطحية. لكي نفهم شيئا من هذا، يجب أن ننتبه إلى أن التابلويد شكل منعرجا مهما في تفكيك الفضاءات العامة التي كانت وسائل الاتصالات الجماهيرية عمادها الأساسي. هناك مفارقة أساسية قد يصعب علينا فك شفراتها: لكي تصل إلى أكبر عدد من الجماهير يجب أن تخاطبهم وفقا لمستوى تفكيرهم، وكلما تدحرج مستوى الاهتمام بالقضايا العامة نحو ما هو غريب ومثير في القضايا الخاصة للأشخاص وفضائحهم، النجوم ورجالات السياسة وقادة الرأي المختلفين، كلما زادت هوامش انتشار الصحف. هذا لغز مهم على الباحث في مجال الصحافة أن يفكّ أسراره بشكل عميق في ظل الأزمة التي تعانيها الصحف والتلفزيونات نتيجة تراجع نسب القراءة والمشاهدة وانحطاط الأوضاع السياسية وتوالي الاهتزازات الاقتصادية حتى في دول الغرب. إن تقلص الاهتمام بالقضايا المصيرية المشتركة في مقابل النزوع إلى الفضاءات الضيقة والخاصة لبعض الأشخاص محل الاهتمام العمومي يدعو إلى التساؤل بجد حول ما إذا كان فعل التابلويد فعلا معاديًا لروح المجتمع والعيش المشترك، وما إذا كان المجتمع في الأصل مجرد مقولة نسبية أو كما قال نيكلاس لوهمان عبارة عن علبة من الأنظمة التحتية subsystems التي تشبه الدمى الروسية، لأننا في النهاية سنواجه حقيقة واقعية، فالقراء والمشاهدون هم من منح الفرصة للتابلويد لكي يفكك الفضاء العام.
#نورالدين_هميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
استفسارات أولية حول النجوم
-
أخلاقيات الإعلام.. خطاب بائس
-
الإعلام بما هو مغامرة غير أكيدة
-
أزمة في صناعة الشيطان
-
السلاح في حدود مجرّد التواصل..
-
كل المبررات لكي لا تكون صحفيا
-
بين النظرية والموضة.. عن الموضوعية، الذاتية والنرجسية
-
حول التنظير في حقل الإعلام ومجازفاته
المزيد.....
-
أوكرانيا تعلن إسقاط 50 طائرة مسيرة من أصل 73 أطلقتها روسيا ل
...
-
الجيش اللبناني يعلن مقتل جندي في هجوم إسرائيلي على موقع عسكر
...
-
الحرب في يومها الـ415: إسرائيل تكثف هجماتها على لبنان وغزة
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام تسفي كوغان في الإمارات ب
...
-
اتفاق الـ300 مليار للمناخ.. تفاصيله وأسباب الانقسام بشأنه
-
الجيش اللبناني: مقتل جندي وإصابة 18 في ضربة إسرائيلية
-
بوريل يطالب بوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق مباشر للقرار 1701
...
-
فائزون بنوبل الآداب يدعون للإفراج الفوري عن الكاتب بوعلام صن
...
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
مصر تبعد 3 سوريين وتحرم لبنانية من الجنسية لدواع أمنية
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|