في طرح الاسئلة تتلاشى الكثير من الارباكات وتتجذر مفاهيم وقيم يفترض تجذرها وازالة التشوش عنها تكرار وتجديد الاسئلة والتساؤلات في جدلية عقلية تفتح افق التحولات المفترضة في سياق حركية الحياة والتاريخ. وبهذا تكون كل الاسئلة من اي نوع ومن اي مصدر مشروعة وضرورية، و سيؤدي الغائها او التعالي عليها، باي سبب او مبر، الى تكريس للرتابة والجمود وبالتالي تجفيف الفكر والحياة معا. والسؤال الناضج ، وان اخذ صياغات بسيطة، لايبحث بالضرورة عن الاجابة الحرفية والمباشرة بقدر مايذهب الى خرق العوالم الجامدة والمالوفة من اجل تحطيم تكلسات الحواجز التي تحول بين الانسان وتشغيل بداهاته العقلية في مغامرة السؤال ومغامرة البحث.
قد يبدوهذا الكلام اطلاقي وعمومي وكانه يسبح في فضاءات من التجريد لكني اريد به فتح بوابة مواربة يتجنب الكثيرون الولوج منها، خجلا او تكبرا، للاطلالة على طبيعة ماتقذفه في وجوهنا الحياة من اسئلة طالما نظرنا اليها بطريقة تبريرية او في احسن الاحوال، ان خلت النظرة من التعقيدات النرجسية،على ان اوانها لم يحن بعد ونرحلها او نلحاقها بدائرة من الهموم والاسئلة المغايرة.
الاسئلة كثيرة وملحاحة وربما يدخلنا كل سؤال، يوهمنا باستقلاليته، في شبكة من التداخلات والدوائر تحيل الواحدة منها الى الاخرى. لكن هناك بعض الاسئلة تفرض تميزها وتحديداتها وفرادتها من مثل: ماذا فعل المثقفون العراقيون في مواجهة المشروع الفاشي، وكيف تعاملوا مع حيثيات صعوده وتسلقه في غفلات زمن تشوش الرؤيا والنظرات الذاهلة. وقبل ان اخوض في محاولة صياغة مقترح اجابة او مناقشة للسؤال استبق الموقف واطرح سؤالا اخر: هل كان المثقفون العراقيون قادرين بالاساس على فعل شئ ما؟
معاينة الموقف تفترض نظرة عامة حول بعض من طبيعة المشروع الفاشي.
من بين اهم سمات المشروع الفاشي هي انه يتسلل من الداخل ويطوق من الخارج. يتسلل لابنية المجتمع ومؤسساته ليهشمها ويغرز فيها قيمه المزيفة والمتطرفة ويفكك وحدة هيكل البناء، اي بناء يتسرب اليه، ليبتلعه فكريا سارقا وحارفا لملامحه الجوهرية. ويطوقه من الخارج مانعا اياه من اي قدرة على المقاومة او اي محاولة للخطوات الاعتراضية. المشروع الفاشي صاخب في حركته عال النبرة في خطابه، فيوحي لغير المؤمنين به اوالمنجرفين معه انه مشروع فوضوي، غوغائي، عاطفي تسهل مواجهته، لكنه من ناحية اخرى ناعم ودقيق في فعاليته ويبني خطواته باحكام مقصود لتعزيز دوره واثره بصورة خفية، غير منظورة او ملموسة، ضاغطا بخفة لخلق الية للتحويل البنيوي الواسع في المحيط العام لفرض حضوره الكلي والمهيمن. ولايقف المشروع الفاشي، مثل السلطات الدكتاتورية التقليدية معزولا اوفاصلا نفسه بشكل شبه كلي عن المجتمع بحيث تتاح موضوعيا قدرة للمجتمع على تنظيم نفسه وبناء موقفا متجانسا قادرا على مواجهته به. فالفاشية تورط المجتمع كله بمشروعها ومغامراتها من خلال التبني الزائف لمطالبه وتطلعاته وقيمه العامة، لتجعل السلطة متداخلة عمليا مع المجتمع، فيتحول المشروع الفاشي الى سلطة المجتمع بحق لكن بعد ان يحوله، اي المجتمع، ويحول قيمه وعقلياته لصالحه.
بالاسلوب التضليلي والقمعي يخلق المشروع الفاشي نوع من البلبلة داخل المشاريع الاخرى التي يطرحها المجتمع من خلال المزايدة عليها وتبني طروحاتها بعد سربلتها بالثوب الفاشي ومن خلال قمعها بالقوة والتصفية والمصادرة باسلوب يكاد يقنع الخصم ذاته بالاجراءات المضادة له، قاطعا الطريق بذلك على المشاريع الاخرى لكي لاتكون بدائل لمشروعه، او فارضا على تلك المشاريع السيرورة المتلكئة والبطيئة والتكون المرتبك. وعموما تنجح المشاريع البديلة للمشروع الفاشي على انقاض انهيار مشروعه بالتآكل والاستنفاد الداخلي الذي توصله اليه ديناميكياته الخاصة المؤدية غالبا الى الحروب والعنف المنفلت المنسجم اساسا مع كل المنطلقات الجوهرية لهذا المشروع المبني بصورة عامة على خلفية الازمات الحادة والتطلعات المثالية لحالمين مهووسين بمجد ما وبرومانسية راديكالية تمجد النزوع والفاعلية الذاتية في الكينونة التاريخية.
تاريخيا يفتقد المشروع الفاشي لاسس ثقافية ناضجة ولمثقفين،افراد ومؤسسات، فاعلين في مشروعه< فطرحه الفكري بالاساس تلفيقي ويفتقد للاصالة> لذا ماان يستولي الحزب الفاشي على السلطة حتى يسارع في توجيه جهده وتركيزه على هذه <الفئة> اوالحلقة في سلسلة البناء المجتمعي. وهذا ماكان مع التجربة الفاشية البعثية في العراق حين وصول البعث الى سدة الحكم عام 1968. فافتقادهم وحاجتهم للمثقفين( بالمعنى الضيق للكلمة<1>) كان واضحا وملحا انذاك، رغم ان سلطة البعث حينها لم تكن بنزوع وتحرك فاشي صريح او واضح، غير ان بعض الحراك واعادة التركيب الداخلي للسلطة وجهها فيما بعد باتجاه المشروع الفاشي الصريح الذي جسده كفرد واتجاه شخص حاكم بغداد الحالي الذي استطاع ان يسوق مشروعه ويبلوره من داخل السلطة وبادواتها ومتجاوزا لها في ذات الوقت. اندفع النظام مستثمرا هيمنته على مؤسسات الدولة الاعلامية والثقافية لتضليل وحرف المثقفين والحاقهم بمشروعه واقصاء ومحاصرة من يمتنع. وفي لحظة صار المشروع الفاشي واقعا مفروضا على من يعارضه وورطة شخصية لمن انخرط فيه بعفوية او مكره.
لم تحدث معارضة مميزة عند اكتمال صعود المشروع الفاشي اواخر السبعينات ولم تحدث المواجهة السياسية مع قوى معارضة للمشروع الا بعد ان بدات السلطة هجومها الشامل والسافر على كل مما تبقى من الحياة السياسية في المجتمع لمصادرته والانفراد بكل شيء. بعد هذا الطور تحولت القوى السياسية ومعها المثقفين الى المنافي باعتبارها احد الخيارات الثلاث التي فرضها النظام وهي: المنفى او الموت او الانخراط في خدمة المشروع الفاشي. لان من سمات الفاشية انها لا تمنع الكلام فقط وانما تفرض نوعها الخاص من الكلام ليقوله الجميع. المنفى كان عذابا خاصا لمن اضطر اليه انذاك بالاضافة لما يعنيه من تهميش وعزلة..المسالة هنا تشير الى المثقف العراقي المعارض مبكرا للمشروع الفاشي بصورة خاصة، لان هذا المثقف وبعد مدة ليست بالقصيرة من المعانات في فترة الاختلالات الشاملة وتدهور القيم حيث كان الشاهد المبصر والعاجزلسيرورة منحدر الدمار السائر اليه المجتمع، انتهى به المطاف الى الهجرة في المنافي بعد ان ايقن استحالة القدرة على اي شكل من اشكال البقاء < وهنا المقصود بالتحديد المثقفين الذين اختاروا اضطرارا المنافي في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، حين كانت مغادرة الوطن لاتعني شيئا سوى الخسران، وقبل ان يفشل المشروع الفاشي وينفضح ويفلس لتلتحق الموجة الاخرى من المثقفين المشبوهي الدوافع والغايات الى المنافي ).
واذا بدا المثقف انه الاكثر عجزا في مواجهة الفاشية فذلك يعود في بعض اسبابه الى خصيصة محلية، هي انخراط المثقف، انتماءا او ممارسة ثقافية ، في غالب الاحوال،في التيارات السياسية والحزبية الحاضرة والمهيمنةعلى الساحة، الامر الذي افقده اي قدرة على التفرد والخصوصية بعد تبنيه لمواقفها ورؤاها مما اعاقه من تشكيله لأطره المستقلة ولهياكل تنظم روابطه بالمجتمع. وهذا بدوره يعود للظروف الاجتماعية والحضارية لمجتمعنا اكثر مما يعود الى المثقف ذاته. هذه الظروف تسببت في الغاء او حدت من امكانية قيام مكانة اجتماعية ومعنوية فاعلة للمثقف تتيح له الحراك والتاثير وتشكل له السياج الحامي ازاء تحديات السلطة. فمعروف ان المثقف العراقي استمد كيانيته المادية من خلال المؤسسات الثقافية للدولة والتي صادرها واحتكرها النظام الفاشي كليا،او من خلال الاحزاب السياسية، وتلك لها مصادراتها الخاصة بها. وهكذا تحول المثقف الى اداة ، بعد ان فقد القدر الاكبر من استقلاليته ،تخاض بها الحروب والصراعات السياسية وصار بعد ان فقد مشروعه المميز له يخوض حروب الاخرين بالنيابة بدل من خوضه لصراعاته الخاصة مع الواقع ومكوناته.
هذا الواقع اورث المثقف كيانا هشا معززا بتكوينه ( الفطري) الهش اصلا<2> ان جاز التعبير، فجعله ذلك يتعثر ويتلكأ في سلوكه وابداعه فدخل في ازمة مركبة. ازمته الذاتية كمثقف يعاين الواقع وينفعل به دون ان يستطيع فعل شئ ازائه، وازمته في علاقته ( بطبقته) المثقفة من خلال الصراع حول امكانية تشكيل كيانية خاصة بالمثقفين تميزهم في ادوارهم وطرائق تفاعلهم مع الواقع، وازمة المجتمع العامة التي تطحن الجميع في رحاها. هذه الظروف زائدا مرحلة الغموض السياسي ادت بغالبية المثقفين الى الصمت او الانخراط في هموم قضايا اخرى كالقضية الفلسطينية< قضية من لاقضية له> فحينها لم تكن هناك بعد قضية عراقية. وشهدت المرحلة تلك موجة واسعة من خيبات الامل بالقوى والمشاريع السياسية التقليدية وخيم الياس على الامزجة وتحولت الجهود لنحت المشاريع الابداعية الفردية وميل للخلاص الذاتي.
بعد هذا التوصيف المكثف لواقع المجتمع في المرحلة الفاشية وماتميزت به من تضليل وقمع ومصادرة والغاء، وموقع وقدرات المثقف فيه نتسائل بطريقة توصلنا الى الاجابة على السؤال الذي حددناه في البدأ كمجال للنظر ماذا بوسع المثقف ان يفعل غير الانكفاء او الصراخ الموحش بغير اصداء، كالعويل في البراري . وماذا لديه غير طرح الاسئلة التي تجسد مرارته وتضاعفها ، ماذا لديه غير ابتلاع حيرته وشكه واصطدامه بجبل الياس والخيبة.
والان بعد هذا الشوط الطويل من تجربة المنفى الذي ضاعف من حدة وعي المثقف العراقي في ضرورة توحيد جهده وتوجهاته بعد ان تعثرت خطواته وتبعثرت جهوده في ذات الدوامة القديمة، اعني تدخل القوى السياسية بطرق فظة في شؤؤن المثقفين. وبعد ان اكتسب وعيا ناضجا من خلال هذه التجربة وبعد ان انسلخ المثقفون بشكل شبه جماعي عن الجسم التنظيمي للاحزاب، واذ ان المؤشرات تدلل على ان التغيير قادم الى العراق( العارفون يؤكدون ذلك وانا لست واحدا منهم) وان المرحلة المقبلة، مع مايمكن ان تحمله من انفراج وهبوب لنسمات منسية من الحرية، فهي ايضا ستكون مرحلة لها معضلاتها التي تستوجب على المثقفين ان يستعيدوا دورهم المفترض بل ان يخلقوا هذا الدور. واكيد ان واحدة من الادوات التي تعينهم على ايجاد هذا الدور هي امتلاكهم لاطر وهياكل تنظم علاقتهم فيما بينهم ومع المجتمع ولتعينهم لبلورة مشروعهم الفكري والحضاري الذي ينبغي له ان يشكل البوصلة والحاضنة لحركة تطور المجتمع وتحقيقه لحريته وبناء نهضته الخاصة. ومن البديهي ان المراحل الاولى ستواجه اشكالات وعقد يستعصي حلها، على الاقل بسهولة، وستكون هناك تفككات في نسيج العلاقات وارباكات في منظومات المفاهيم التي يحاول المثقفون ابتكارها لتسيير حركة المجتمع وبذات الوقت ستكون هناك حتما منغصات في تنظيم العلاقات فيما بين المثقفين بدوافع نرجسية وميول للاستقطابات بالاضافة الى ان الاحزاب السياسية سوف لن تدع المثقفين (يهنئون) بعالمهم المستقل وستسلط< رجالاتها> لخرق الكيانات الثقافية بمشاريعها واهدافها البراغماتية. اضافة طبعا الى ظاهرة التعدد الصحية والضرورية، فلايمكن خلط التلاوين والامزجة والتصورات كلها في اطار واحد اذ انه سيضيق بهذا الكم المتنوع . ثم ان التنوع والتعدد في الاطر التي تنظم المثقفين سيخفف من التناحرات والمماحكات التي يغص بها عالمهم.. الان .. الان هو اوان التحرك ومد الجسور وتقديم المبادرات للم شمل المثقفين العراقيين لتوحيد جهدهم وبناء رؤيتهم ومشروعهم المميز لهم لكي لايسرق دورهم ويعاد في ظرف اخر وزمن اخر طرح السؤال ذاته:
ماذا فعل المثقفون العراقيون ازاء.... .
هوامش
1- هنا يمكن التمييز بين اختصاصات ومجالات التعبير لهؤلاء المثقفين انفسهم. شعراء، روائيين، مفكرين، باحثين..الخ
2- الهشاشة هنا لها مدلول ايجابي تقارب به الرقة والحساسية.
السويد
20030108