|
المعدان عرب الأهوار زادهم الفطرة والتشيع والكرم
نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 1349 - 2005 / 10 / 16 - 11:23
المحور:
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
ـــ الحلقة الثامنة ـــ
1ــ ((بعد وفاة صاحبه الشيخ فالح بن مجيد الخليفة بين ذراعيه بخمسة عقود مات السير ويلفرد لتنتهي مغامرته الكبرى بهذه الطريقة التراجيدية متزامنة مع عودة موضوع الأهوار الى دائرة الأهتمام . مات الصاحب الأنكليزي الذي رافق المعدان وتنبأ بزوال المنطقة مستمعا في أيامه الأخيرة بلا شك إلى أخبار أصحابه القدامى. يدرك أن نزاعاتهم قائمة وشجاراتهم مستمرة وأنهم مازالوا بالرغم من كل شيء يواصلون الغناء في مكان ما ثم يغرقون في الصمت ، يصارعون آلامهم مستسلمين للكوارث . حزنهم الشديد جعل سكان االيابسة هناك يصفون عمق الحداد بـ ( حزن المعدان ) . لا شك أيضا في أن المتبقين منهم سيحزنون لرحيل المغامر الطبيب ( بلا شهادة ) ثيسكر. الرجل الذي حمل الأسبرين أليهم فتلاشت آلمهم المزمنة وشعروا بقيمة الوفاء التي جمعتهم به وهم يجاهدون معا الفيضانات في أرض هي الآن صحراء .)) حسن ناصر مترجم كتاب المعدان عرب الأهوار لمؤلفه ويلفرد ثيسـﮕر
2ـــ ((المعدان، اللون العراقي الأزرق، القادمون من متاهة التاريخ، والماضون الى متاهاته الأبعد. لم ينصفهم كتاب، ولا وقفت عند احزانهم قصيدة. سُرقت أساطيرهم ودُمرت ذكرياتهم، ولعُنت جواميسهم، وحطمت قوانينهم التي سرقتها آنانا حينما حضرت عرسا في السماء. إنتبه لهم عبقري الفن العراقي جواد سليم فخلدهم في أعماله، وتبعه آخرون، فكان حضورهم واضحا في التشكيل العراقي الذي منحهم أسماء أخرى خجلا من ذكرهم. وكما قلت فان الشعر العراقي تنكر لهم، رغم انهم رفدوا الشعر العراقي والأدب العراقي بأعظم ملحمة في تاريخ الأدب العالمي، ورغم إن بين الشعراء العراقيين من جاء من بين ظهرانيهم وبقاعهم وأهوارهم . ولم يتجرأ على منحهم جواز سفر للدخول إلى باحة الأدب العراقي سوى الكاتب العراقي وارد بدر السالم الذي كتب عنهم مجموعة تُعد من النقاط المهمة والمثيرة في الأدب القصصي العراقي في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، بل واعتزازا بهم منح مجموعته إسم ( المعدان ).
الدكتور برهان الشاوي وأنا أذهب بكتابي هذا تقف حافلة الضوء عند مدارك السماء المفتوحة والماء الذي لا يأوي إلى قاعه سوى غرقى العشق وصناع الطبيعة المدهشة . الرجال السمر ذوي الجباه المسحونة بتيه إمساك لحظة الفردوس بقناعة الجوع والرز والغناء والميثولوجيا . سكنة المكان الحقيقيون وهو يشعلون أحلامهم معتقدات ونهارات لرعي قطان من أجساد هائلة سوداء يطلقون عليها أسم ( الجواميس ) . يقول عنهم الرحالة إنهم قوم بسطاء ، طيبون بلهجتهم المعربة بقدر الحياة وأزلها . ( المعدان ) عرب المكان المغطى بصوت نايات القصب وتدافع الموج البطيء لحظة ركوده الشتائي فيما يكون الطير القادم من آخر الدنيا فأل حسن لهم فبعودته تمتلك الجواميس رغبة الأطالة والعوم في المياه ويطلق عليها باللغة الشعبية ( يكيل ) أي يبقى مستمتعا بقيلولته المائية فيما عصى المعدي الغليضة تجبره على النهوض والذهاب إلى زريبة الحلب حيث يعد حليب الجواميس ممتلكا إلى كمية هائلة من الدسم والذين يصابون بالكسر يلجئون إلى شراب كمية من حليب الجاموس للترميم السريع لعظامهم لاحتوائه على كمية كبيرة من الكالسيوم والمعادن والفيتامينات التي تسهل عملية إعادة البناء داخل الجسد البشري . عاشت هذه الشريحة المؤمنة بقدر الطبيعة وحظوظه حياة قانعة مهادنة ، لاشغل لها كثيرا بمجريات ما يحدث خارج هذه الطبيعة المائية ، لكنهم يتحولون إلى ذو بأس لا يقهر عندما يشعرون بأن مكانهم مهددا من غازٍ أو ملك أو طامع وعلى حد قول احدهم : لقد كنا طوال حياتنا نعيش على أمل الحياة بهدوء والموت بسكينة غير إننا لا نرضى أن تتحول حياتنا إلى عبودية أو موتنا من سيف غريب نتركه ُيغرس في جسومنا لمجرد إننا نرفض أن نمنحه هبة الله لنا . وحتما كان يقصد الأهوار على إنها هذه الهبة التي نظر إليها الكاتب والرحالة الإنكليزي ( ويلفرد ثيسـﮕر ) على إنها مرتبطة بذاكرة أولئك البشر الطيبون الذين ترغمهم دماثة الخلق والبساطة وسذاجة النأي عن الحضارة أن ينظرون إلى كل هاجس ومشهد غريب بدهشة وريبة مع إصغاء عجيب في المسامع وتحليل هائل في النظرات وهذا يلتقي في روحيته بالنسبة إلى الذات الأهوارية مع هاجس الكلمات التي دونها الأديب الميساني ماجد الحسن عن تلك الذاكرة وتلك الشخصية : (يوتوبيا الاهوار ، لا تستطيع مخيلة أفلاطون أو كامبيلا أن تنسج مثيلها ... يوتوبييا نسجتها مراحل التداخل الماهوي بين الإنسان والماء ... فصار ماهية سرية . بندقية ايطاليا ، اقتحمها الماء فعاش الإنسان مضطراً تحت جبروته ، وفي الاهوار تداخل الإنسان والماء وعاشا بجبروت واحد . حاول ذو العينين الزرقاوين ، أن يمسك بقلب ( آبسو ) ينتزع صورتها ... فعاد بذراعين مقطوعين ، وهرب بصورة ( عشتروت المعيدية ) وهي تعتمر ( العصابة ) ... عينان يحف بهما الكحل ذلت وقاحة ( المحتل ) ، تلك هي أول صورة مهربة عبرت إلى اليابسة ، ففتحت أفقاً للمستشرقين والانثروبولوجيين والباحثين عن العيون المستطيلة ، فكان اكتشافهم الأهم ) لقد وجدت الانثروبلوجيا في هكذا نمط من البشر بديهيات التصاق التأثير الطبيعي وموجداته في السلوك لقد كان ( معدان الأهوار ) وهم جزء من يعاربة المكان ربما منذ النزوح السامي لأكد الذين هم من بطون العرب الآتين من شبه الجزيرة العربية ومادام القرآن قد تحدث عن عروبة إبراهيم فان انتمائه الأكدي ربما يكون اقرب لانتمائه السومري بعد أن نعلم أن أور السومرية خضعت في فترة من الفترات إلى هيمنة الإمبراطورية الأكدية التي حكمت في هذا الأديم عصوراً وملكها العظيم ( سرجون الأكدي )الملقب ( ملك الجهات الربعة ) والتي تلتقي قصة ولادته في الشكل والرؤية مع ولادة النبي موسى ع قبل أن تنهض سومر وتبني سلالتها الثالثة على يد المشرع الكبير وصاحب مسلة العدل وباني اكبر معبد في التاريخ القديم ( زقورة أور ) الملك أور ــ نمو . لهذا فان الأصول باقية في ملامح الكثير من هؤلاء القوم ، إذ تنبئ السحنة والشكل والقوام على جديدة ترابط التكويني والعادات بين أولئك الذين صنعوا مجد أكد وسومر وبين سكان الأهوار ويضاف إليهم في السكن عرب أقاح أتوا من قبائل الهجرات التأريخية في عصور السلام وقبله وسكنوا مع المعدان في ذات البيئة كما فعلت قبيلة بني أسد اكبر قبائل منطقة الجبايش وهي قبيلة عربية من أفخاذ كثيرة سكنت بطائح أهوار الجبايش جراء نزوحها من حرب لها مع المماليك سنة 556 هجرية بعد أن كانت تسكن الفرات الأوسط . وعلى هذه شاكلة نزحت الكثير من القبائل الكبيرة لتسكن المنطقة وحوافها على مجمل الأهوار الممتدة بين الناصرية والعمارة والبصرة غير إن المعدان ظلوا يتميزون بنمط الحياة الأهوارية الخاصة فيما كان أفراد القبائل العربية الأخرى يمارسون إضافة إلى سبل العيش في بيئة الهور يمارسون الزراعة التي لم يقترب لها المعدان كثيرا لأنهم كما يبدوا لهم أزل مميز في المعيشة وهو تربية الجاموس والأستعاشة منه ومما يدر من منتوج وعلى حد قول الباحث السيد حسن علي خلف في كتابه الأهوار دراسة تاريخية ديموغرافية طوبغرافية ص 47: ( فمهما كانت التسميات التي يطلقها أهل المدن أو الباحثين على سكان الاهوار وخاصة تسمية ( المعدان ) أو عرب الاهوار أو سكان الاهوار فان عملية التجانس في أسلوب المعيشة بين هؤلاء السكان هي القاسم المشترك تضاف إليها الروابط التاريخية الأخرى مثل القرابة والمصاهرة والدم والدين واللغة والتفكير المشترك ) إن هذا الروابط بقيمتها الحضارية والاجتماعية جعلت التجانس الحياتي بصورته البيئية تجانسا يقنع الجميع حيث إن القبائل النازحة لم تضغط على من وجدتهم متفردين بنمط العيش ولم تذيبهم في عاداتها وتقاليدها فلقد بقي المعدان يتمسكون بالنمط المعيشي الموروث من أكد وسومر وظلت عمارة بيوتهم المكونة من القصب بمقدمته المقوسة على شكل ( المضيف ) والتي وصفها الرحالة والكاتب الأنكليزي وليفر في كتابه المعدان وصفا جميلا ((طول المضيف- كما قسته فيما بعد – ستون قدما وعرضه عشرون وارتفاعه ثمانية , ولكنه يعطي انطباعا بسعة اكبر , خاصة حين دخلته للمرة الاولى . احد عشر قوسا تدعم السقف وكلها مثل عمودي المدخل مرصوصة من باقات القصب العملاقة , يبلغ سمكها عند القاعدة تسعة اقدام وقدمين ونصف عند القمة , هذا القصب – كما اكتشفت يمكن ان ينمو الى ارتفاع قدره خمسة وعشرون قدما . كانت هناك حصران من القصب لإتمام عملية البناء موضوعة فوق بعضها مربوطة من الخارج الى الاعمدة .التباين بين الزخرف الافقي وشكل الاقواس العمودية، يشكل طرازا مدهشا يُرى من الداخل . السقف ذاته مغطى بحصران مصنوعة من القصب تلتف على بعضها تشبه تلك المفروشة على الارض . مخاطة الى الاضلاع بطريقة تؤكد متانتها وسمكها . لجوانب الغرفة لون ذهبي باهت لكن السقف كان معتما ، منحه الدخان لونا بنيا يعطي انطباعا بأنه مدهون .(( 0هي ذاتها التي سكن بها أبناء السلالات والتي لازالت مرسومة على الكثير من الألواح ومسلات الحجر التي وجدت من تنقيبات حدثت في المنطقة ابتداء من نهايات القرن التاسع عشر وحتى اليوم وأظهرت تنقيبات أور الكبرى التي قام بها العلامة الإنكليزي ليوناردو وولي لصالح جامعة بنسلفانيا الأمريكية الكثير من الشواهد المرسومة ومنها ما كشفه وولي في نزوله في التنقيب إلى الطبقات العمق من المكان الثري أن أور كانت في يوم ما مدينة تقع على ساحل مائي ضخم وأكد كلامه السير ماكس مالوان الذي رافق وولي في رحلة التنقيب في كتابه مذكرات ماكس مالوان والصادر عن دار المأمون بترجمة السيد سمير عبد الرحيم الجلبي وهو زوج الروائية الإنكليزية الشهيرة أجاثا كريستي وكان مالوان وهو واحد من أمناء المتحف البريطاني الزاخر بالآثار العراقية قد ألقى محاضرة في كامبيرج ذكر فيها أن الأصول السومرية والبابلية والكدية لازالت باقية عند أجناس من البشر هم اليوم سكان الأهوار الداخلية ويطلقون عليهم لقب ــ المعدان ــ وهناك عدة رؤى وافتراضات لأصول تلك الشريحة الأصيلة من الناس تعيدهم إلى العصور الحضارية الأولى ومهما تعددت أماكن تواجدهم فأن أصولهم باقية تحوم في ذات المكان أي أراضي بلاد الرافدين وهي التسمية التي أطلقها الإغريق على الأراضي الواقعة بين نهري دجلة الفرات وكمثال لتلك الافتراضات نأخذ مجتزئ من مقالة الدكتور مؤيد عبد الستار الموسومة سكان الأهوار من أبناء العراق القدماء والعرب والمعدان الكرد الفيلية والمنشورة في مجلة الكاتب العراقي الصادرة في ميشغان بتاريخ 13 سبتمبر 2005 قوله : (( وعن تسمية المعدان من المفيد أن نذكر ما جاء في القاموس الفارسي ــ العربي ، من أن كلمة ماد ، اسم قوم عاشوا شرق إيران قديما ، وماد لها علاقة بالشعب الميدي الكردي .أما الهضبة الواقعة غرب إيران أو شرق دجلة ، المسماة عيلام ( إيلام ) ، وتشمل لورستان وجبالها( بشتوكوه وبشتكوا ) ، فهي موطن الأكراد الفيلية وهي البلاد المجاورة لأهوار وسط وجنوب العراق )).. فيما ترى نهى سلامة في مقالتها ( اهوار العراق ..من القاتل؟ ) إن أصول المعدان تعود إلى : ((احتضنت هذه المنطقة حضارة يعود تاريخها إلى 5 آلاف سنة ألا وهي حضارة المعدان Ma,adan أو ما يسموا بـ"عرب الأهوار"، وهم ينحدرون من السلالتين السامرية والبابلية، وهي أول حضارة عرفها الإنسان على حد تقدير العلماء. ولمدة ألف عام كانت هذه المنطقة تفيض بخير وفير يفي باحتياجات عرب الأهوار، بل وحتى التسعينيات.. كانوا يستخدمون قصب المنطقة الشهير لبناء بيوتهم الطافية على المجاري المائية واليابسة والتي لا تغرق مع الفيضان، بل تطفو فوق مائه لتهبط مرة ثانية بعد زواله)) على هاذين الرأيين وغيرهما ظل المعدان يمسكون المكان بأسنان الحياة بقوة ، لا يهمهم من الأنثروبولوجيا شيء سوى إنهم ذاهبون مع إلى مقدرها فالمخرج قاسم حول الذي اشتغل في سبعينات القرن الماضي فيلمه الوثائقي المهم ( الأهوار ) وصفهم في رسائل متبادلة لي معه بأنهم قوم يتمتعون بطهر روحي عجيب من البساطة والاقتناع بقدر البيئة ومؤثرها وقد بان له هذا حين صور بمشهد حي لحظة موت عجوز من المعدان على جبيشة القصب كان تغرز نواظرها في السماء بشكل عجيب وكانت الهدوء وقرارة النفس في راحة البال مسيطرة على الم سكرة الموت ومن ثم تغمض العجوز ( المعيدية ) عينيها بهدوء وثقة وسعادة وهي تعرف إن مثواها الخير سيكون قبرا ينهل من صباحات ضوء الذهب آلاتية من قباب ضريح الأمام علي ع في النجف الأشرف حيث يحرص المعدان في إظهار كامل التشيع والولاء في ذهاب جثامين موتاهم لتدفن في النجف رغم نأي المسافة وصعوبة طرق المواصلات ، فالمعدان ومنذ مقتل الحسين ع في طف كربلاء مثل لديهم هاجس المذهب قيمة لا يعتلي عليها سوى الولاء الإلهي واسم النبي وفي جولة ميدانية ليومين سمحت لي بها مأمورية التعداد السكاني الأول عام 1975 في قضاء الجبايش وكنت قد قضيت ليلتي مع عائلة من عوائل المعدان وعلى جبيشة قصب وسط الماء وهي عبارة عن( صوباط ) من القصب مصنوع من البواري ومثبت بأعمدة قصبية وسط الماء لترى انك في نومتك كأنك جالس في سفينة نوح إذ تشعر في روجة الماء أن المكان يتحرك بك فيما تسطع نجوم السماء الصافية في ابتهاج عجيب ورغم قرص الحشرات وتداخل أصوات كائنات الماء كالضفادع والطيور وخفق زعانف السمك في الماء وتصادم القصب بزوارق الصيادين كان المعيدي ينام بهدوء عجيب ويطلق شخيره بانتظام مزمار أما أنا فلم أنم ليلتي إذ كانت رماح ( الحرمس ) وهي حشرة ذات لسعة قوية لاترى بسهولة تطبع على جسدي آثار مسامير الصحوة والإنشداد إلى هذا الكون الواسع والذي يضيق في أفق أي مخيلة حيث انتهى سمرهم معي وناموا مع شخيرهم وأحلام الفجر حيث ينهضون لحلب الجواميس وصناعة القيمر والجبنة ( الظفائر ) واللبن الرائب . اكتشفت من سمر الليل إن هؤلاء الناس من بين القلة من الأجناس من يعون بالصمت والتأمل حقيقة ما يحيط بهم وهم يعانون من هذه الخاصية كثيرا حيث تعتبرهم بعض المجتمعات العراقية ( الأقل تحضراً ) منطلقين من مقولة ربما تفسر في غير غرضها والقائلة : (أسمع بالمعيدي خيرا من تراه . ) أو كما يطلق في الأوساط الاجتماعية التي لا تعي حقيقة هذا الوجود أن يقال للذي لا يحسن التصرف اجتماعيا أو داخل مجلس ما ( معيدي ) وهذا كان محور تسائلي مع الرجل الذي استضافني وقد كان كرم المعدان كبيرا في فطرة فرحتهم وهم يستضيفون إنسانا متحضرا ومتعلما فكانت أواني اللبن الرائب وصحون الجبنة والقمر والخبز الحار تتقاطر علينا : قلت لمضيفي .ما سر هذه النظرة الأقل التي ينظر إليها المعيدي ؟ قال : هذا بسبب عزلتنا ولأننا لا نريد أن ندخل للحياة من خلال ( المركوب ) الجديد وكان يقصد نعل الجلد أو الدشداشة البيضاء الناعمة والراديو ، نحن يا ولدي لا نلتفت لهكذا مباهج . حياتنا هي بهجة . قلت : وهذا الالتصاق العجيب بمحبة الأئمة وآل البيت ع . وبعض يقول عنكم إنكم البقية الباقية من كسبة هنود قدموا منذ سالف الزمان لرعاية قطعان الجوامبيس التي أتت معكم ؟ ــ إنا ياولدي لا اعرف بالتاريخ ولكني اسمع من الذين سبقوني من آبائنا إننا بحميتنا آوينا الكثير من السادة العلويين الهاربين من ظلم الولاة والخلفاء العباسيين وان لهم أضرحة مقدسة هنا وكل واحد من نسل محمد هو سيد علوي له مكانة كبيرة عندنا كما مقام الخضر حي الدارين والعلوية فوادة والسيد يوشع وغيرهم . أما أن نكون هنودا فهذا ما لا يعرفه أنا وغيري من المعدان . نحن ولدنا عربا ونموت عربا ولا نعرف أصل غير هذا الأصل . استعدت من كلام الرجل كلمات عالم الأنثروبولجيا هايردال الذي نظم رحلته العالمية الشهيرة من خلال صنعه سفينة من قصب البردي والأتطلاق منها من اهوار الجنوب لثبات للعالم إن السومريين كانوا أسياد بحر ووصلت حضارتهم وتجارتهم إلى ابعد البلدان ، وقد دون هذه الكلمات في كتابه ( حملة دجلة ..البحث عن البداية ) وفيها مدح كبير لنمط حياة وتفكير هؤلاء الناس حين يقول : (( لقد عشت مع أُناس بدائيين في بولونيزا و أمريكا و أفريقيا , و لكن عرب الأهوار ليسوا بدائيين بأي صورة من الصور . انهم متحضرون و لكن بطريقة تختلف عنا . ليس لديهم تكنولوجيا التحكم عن بعد , ولكنهم اختاروا اقصر طرق المتعة ومن مصادرها مباشرة . وقد أثبتت حضارتهم إنها قابلة للحياة والاستمرار , فيما انهارت الحضارات الآشورية واليونانية والفارسية بعد أن وصلت إلى قمة ازدهارها )). أضافة لي تلك الليلة وعي عن بشر تلازمهم السكينة وطاعة القدر بشكل غريب ، فالمعدان يدركون رؤى خليقتهم بمزاولة مهنتهم التي لا يتخلون عنها ومنها رعاية الجاموس الذي يكنون له مودة العيش ويمارسون معه نمطا من التعامل الوجودي المؤنس والرقيق إذ يحتاج هذا الكائن الضخم إلى رعاية خاصة كي يعطي وكلمة جاموس تعود في أصولها كما ذكره الدكتور مؤيد عبد الستار (( كلمة جاموس لها جذر كردي / سومري . ففي السومرية على الثور غود God والكلمة من الجذر خود وبما ان الثور مقدس عند السومريين فقد تسمى بأسمه الملوك ، مثل الملك كوديا ( خوديا ) أو خودا أي الله ، والثور والبقر والجاموس لها تسمية مماثلة ، فالبقرة في الكردية ( غا Ga ) والجاموس : غامش ( Gamish ) . والله في اللغة الكردية والفارسية ( خودا ) وفي الكردية الفيلية خوذا أو خوضا حين تفخم للتعظيم . )) .. وهكذا عرفت سر التعلق بين المعيدي وجاموسته . هو أزل عائد إلى طقوس إلهية أولى صيرت من المكان عوالم لحدث يومي لا تتغير أشكاله وماهيته حيث النهوض المبكر وسحب القطيع إلى ماء وإفطار القصب وطوال النهار يبقى المعيدي مراقبا عوم قطيعه في أجنة الماء ، وهي مراقبة ممتعة ترسم في براءة ذاكرة صاحب القطيع لذة خفيه تعيده إلى أهواء الأمس التي لا يدركها سوى بغيب حسي لا يفهم ماهيته ولكنه يحسه -موجودا لهذا وأنا أتمدد على جبيشة القصب في بيت هذا المعيدي الكريم تذكرت نصا رائعا لويفرد في كتابه : ((أطفأ الصبي الفانوس وشرب المتبقي من القهوة ثم جلس قريبا من النار. كان وجهه المغولي حاد الجمال. حين بدأ احد المسنين بالشخير صرخ فيه أن يسكت. انقلب الرجل في نومته مهمهما وبعد دقائق عاد إلى شخيره ثانية. نظر إلي الصبيُّ قائلا: كبار السن يشخرون دائماً )) ظل هذا الشعب يدرج حياته ضمن رغبة البقاء ، تعرض إلى الكثير من الحصارات والحروب لكنه أدرك أن وجوده متمثل في الأصرار على البقاء على نمط الحياة ذاته الذي ورثوه كما المندائيين الذين شاركوهم ابد المكان وبيئته ليمكنهم هذا رغم حملات التهجير والأبادة واشهرها ما حدث لهم بعد قمع انتفاضة عام 1991 . لكنهم وكما ظهر في نشرة دورية لمنظمة (هيومن رايتس ووتش ) في كانون الثاني 2003 يمثلون واحدة من صور القلق لحياة شعوب تعاني جراء تعسف المراحل التاريخية المتعاقبة ورغم فأن المعدان باقون يمسكون طبيعتهم وحياتهم ونمط العمل اليومي بذات الرغبة والحس الممتلك منذ أزمنة سومر وأكد وبابل : ((ولم يكن قد طرأ تغيير يُذكر حتى الخمسينيات من القرن العشرين على أسلوب عيش الكفاف التقليدي لشعب المعدان، وكان اقتصاده التقليدي الذي يتسم بالاكتفاء الذاتي يدور حول بيئتهم المائية، ويعتمد على الأعمال التقليدية مثل صيد الأسماك والزراعة وتربية الجاموس وجمع البوص (الذي أدى إلى نشأة صناعة المنتجات اليدوية من الخيزران)؛ وكانت الهجرة إلى المراكز الحضرية، سواء كان ذلك طلباً للعمل الدائم أو الموسمي، هي السبب الأول لانخفاض عدد السكان الأصليين حتى أواخر الثمانينيات، وعندها بدأت السياسات الحكومية المستهدفة لعرب الأهوار - والتي تتناولها هذه الدراسة - فزادت زيادة كبيرة في معدلات نقص السكان.))
#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قبعة مكسيكية ..وموسيقى موزارتية ..وشاي مهيل
-
سيف المتنبي
-
ميثولوجيا الأهوار..الأهوار والمندائيون ..خليقة تعود الى آدم
...
-
عين المعري
-
ميثولوجيا الأهوار ..تجفيف الأهوار ..تجفيف لأحلام الأنسان وال
...
-
ميثولوجيا الأهوار..الهور ..المكان طوبغرافيا وعناصر الحياة
-
هل كنا نحتاج الى يولسيس ..وهل كانت بغداد إيثاكا..؟
-
الموسيقى السومرية ..الروح أولاً
-
الثقافة العربية _الأسبانية ..رؤية من خلال المنظور التأريخي
-
فرنسا والعرب من نابليون وحتى جاك شيراك
-
عن الضوء الذي يبعث شهوته الى كل ذكور العالم
-
مشوار مع حنجرتي لطيفة التونسية وصديقة الملاية
-
الشعر والأقتراب من ذاكرة السياب وأنشودة المطر
-
خيمياء الكلمة شيدت للعشق كوخا ياصديقي
-
الأحتفاء بعينيك وبالقرية والشعر
-
أبو معيشي ذاكرة النخل والماء والقصيدة
-
قصيدة بومضة.ومضة برمش عين.رمش عين بنور كلمة
-
أيها الناس هذا وطن وليس بطيخة
-
الكوري عندما ينوح كأمراة من أجل الحياة
-
لوركا يشرب القهوة في أور
المزيد.....
-
السودان يكشف عن شرطين أساسيين لبدء عملية التصالح مع الإمارات
...
-
علماء: الكوكب TRAPPIST-1b يشبه تيتان أكثر من عطارد
-
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
-
مصادر مثالية للبروتين النباتي
-
هل تحميك مهنتك من ألزهايمر؟.. دراسة تفند دور بعض المهن في ذل
...
-
الولايات المتحدة لا تفهم كيف سرقت كييف صواريخ جافلين
-
سوريا وغاز قطر
-
الولايات المتحدة.. المجمع الانتخابي يمنح ترامب 312 صوتا والع
...
-
مسؤول أمريكي: مئات القتلى والجرحى من الجنود الكوريين شمال رو
...
-
مجلس الأمن يصدر بيانا بالإجماع بشأن سوريا
المزيد.....
-
-;-وقود الهيدروجين: لا تساعدك مجموعة تعزيز وقود الهيدر
...
/ هيثم الفقى
-
la cigogne blanche de la ville des marguerites
/ جدو جبريل
-
قبل فوات الأوان - النداء الأخير قبل دخول الكارثة البيئية الك
...
/ مصعب قاسم عزاوي
-
نحن والطاقة النووية - 1
/ محمد منير مجاهد
-
ظاهرةالاحتباس الحراري و-الحق في الماء
/ حسن العمراوي
-
التغيرات المناخية العالمية وتأثيراتها على السكان في مصر
/ خالد السيد حسن
-
انذار بالكارثة ما العمل في مواجهة التدمير الارادي لوحدة الان
...
/ عبد السلام أديب
-
الجغرافية العامة لمصر
/ محمد عادل زكى
-
تقييم عقود التراخيص ومدى تأثيرها على المجتمعات المحلية
/ حمزة الجواهري
-
الملامح المميزة لمشاكل البيئة في عالمنا المعاصر مع نظرة على
...
/ هاشم نعمة
المزيد.....
|