خالد فضل
الحوار المتمدن-العدد: 4897 - 2015 / 8 / 15 - 19:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عملتُ مدرسا باليمن في منتصف التسعينيات من القرن الماضي , في مدينة ريفية يغلب عليها طابع البداوة وتهيمن عليها تراتبية المجتمع اليمني المعروفة , حيث تحتل القبائل المرتبة الأولى في الترتيب الاجتماعي , وعادة ما تنتهي أسماء منتسبيها بياء النسب كالمعمريّ والخولانيّ والمدحنيّ إلخ.., ثم تبدأ تراتبية مستمدّة من المهن كالجزّارين, والمزاينة (الحلاقين), والقشّامة (باعة الخضر والفواكه) , ليتذيّل القائمة مرة أخرى إثنية الأخدام (العبيد), والى الأخيرين هولاء يتم تنسيب السودانيين رغم الاعجاب بمهاراتهم وقدراتهم في التدريس وخاصة تدريس اللغة الانجليزية التي كنت أُدرّسُها في ذلك المعهد العلمي , وكثيرا ما كان طلابي يسألونني عن كيف استطعت تعلّم تلك الرطانة العجيبة , ثم يستدركون عن طريق الهمس بينهم ( يبدو أنّها لغة قومه)وفي ذلك اشارة واضحة الى هوية السودانيين غير العربية في وعي العرب الأقحاح , وذات مرّة سألوني إنْ كنت أرغب في الزواج من يمنية فاجبتهم بالايجاب ولكنني اشترطت أن تكون زوجتي (قبيلية) , فانفجروا ضاحكين وتهامسوا فيما بينهم مرّة أخرى همسا مسموعا مشيرين الى اسم منطقة معروفة بأنّها منطقة (أخدام) وعدوني بتزويجي منها .
الأمر لم يشكل ازعاجا أو هاجسا بالنسبة لي , فعلى الأقل كنتُ وما زلت متصالحا مع هويتي السودانوية , وهي جماع إلتقاء أعراق وثقافات وألوان , وقد عبّر عن ذلك أحد الشعراء السودانيين المرموقين بعبارة مؤجزة (يكفي النيل أبونا والجنس سوداني), ولكن يظل هذا الهاجس مؤرقا لمجموعات كبيرة من السودانين , بل ينعكس هذا الأرق في بناء الدولة الوطنية في السودان , وهي الدولة التي ظلّت أدبياتها الرسمية تشير الى سودان يشمل جميع السودانيين بينما سياساتها المتبعة فعليا وممارساتها تشئ بعكس ذلك الواقع الذي أقرّته الأدبيات , ومردّ ذلك الأمر يعود في تقديري الى ما يمكن وصفه بالإزدواجية , وفي أسوأ الحالات يعبّر عن انفصام في الشخصية , إذ يمارس بعض السودانيين الذين تجري في دمائهم ذرات من الدم العربي _قلّت أو كثرت_ عملية استعلاء مستمرة على العناصر الافريقية التي لم تخالطها الدماء العربية , ولم تشفع رابطة الدين الاسلامي التي تجمع معظم المجموعات السودانية على مختلف أعراقها وألوان بشرتها وسحناتها ولغاتها . بل وفي لحظات الاختبار تتنحى دوما رابطة الدين هذه لتحل محلها مباشرة صفة العرق واللون , وتتدنى تبعا لذلك رابطة المواطنة الى حيّز القبيلة كمكون اجتماعي أوّلي , وقد لعبت فترة سيطرة الاسلاميين على الحكم في البلاد لما يزيد على ربع القرن دورا بارزا في اشتعال وتيرة التناقض بين مكونات المجتمع السوداني باستغلال الروابط الدينية والعرقية والجهوية كوسائل رافعة لبعض الأفراد والمجموعات وللحط في المقابل من قدر وقيمة مجموعات أخرى , وفي الحالتين كان المكون العروبي هو المعيار لرفع المكانة أو الحط منها . وقد عانى السودانيون الجنوبيون سابقا من هذه الوضعية أيّما معاناة , فهم في حالتين موضع دونية, من جهة الدين , حيث الأغلبية المسلمة بما فيها المجموعات غير العربية (تتركز بصورة غالبة في جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق ) كل هولاء ينظرون الى الجنوبيين نظرة دونية باعتبار الاستعلاء بالاسلام ولمّا كان حوالي 85%من الجنوبيين من غير المسلمين , وأتباع للدين المسيحي أو المعتقدات والديانات المحلية فإنّهم بهذه الوضعية , نالوا درجة الدونية دينيا . الوجه الآخر للحط من المكانة يأتي من جانب عرقي , ففي وسط المجموعة المسلمة في السودان تنبري المجموعة صاحبة الادعاء بالإنتماء العربي للنظر الى الجنوبيين من زاويتي الدين والعرق معا ,بينما تكتفي في استعلائها على بقية المسلمين من غير العرب بالاستعلاء العرقي , بيد أنّ الحقيقة التي يتحاشاها أرباب الاستعلاء هولاء هي أنّهم هم أنفسهم مجال لإستعلاء عرقي , وفي أحيان ديني , من جانب أقلّ العرب عروبة ناهيك عن العرب الخلّص كما يقولون , وما همس تلاميذي ذاك الذي أوردته سابقا الاّ دليلا على الوعي بهوية السودانيين لدى العرب , إذ أنّ شخصا في حالتي مثلا يعتبر في التصنيف المحلي السوداني في عدّاد العرب بينما المفارقة عند مركزية العرب أعتبر مجرد (عبد ) من طبقة الأخدام , قرّ هذا الوعي لديهم كابر عن كابر وأفصح عنه صغارهم ببراءة الأطفال المعهودة .ونجد في أوساط السودانيين ذوي الإحساس بالإنتماء العربي من يسخر من هذا التصنيف العربي لهم , والبعض ينحو للقدح في عروبة من يصنّفهم بأنّهم غير عرب , أي أنّ بعض السودانيين يقولون إنّهم عرب ولو لم يعترف لهم العرب بتلك العروبة , وهذه قمة الشقاء .أنْ يصر الشخص على الانتماء لمن يتأففون من مزاعم انتمائه اليهم .
لو وقف الأمر عند حدود الشعور فقط لما شكّل ذلك موضوعا مهما في مسيرة البناء الوطني , لكن أنّ يتعدى الأمر حدود شعور أفراد أو جزء من المجتمع بانتماء ما ,الى وضع ذلك الشعور الذي يمثل (هوية)موضع اللبنة الأساسية لبناء وطن يضمّ في الواقع أفرادا ومجموعات مغايرة كليا كما هي الحقائق في السودان فإنّ الأمر يتحول الى كارثة , ولا يعدو المرء الحقيقة إذا أشار الى أنّ واحدا من أهمّ أسباب النزاع السوداني الداخلي المستمر منذ عقد الاستقلال الوطني أواسط الخمسينات من القرن الماضي يعود الى هذا التنازع بين دعاةهوية سودانية جامعة لمختلف التعدديات , وهوية عربية ذات صبغة اسلامية ظلت ملامح هيمنتها تظهر منذ مطلع القرن السادس عشر بقيام مملكة سنّار لتزداد وتائرها خلال سنوات الاستعمارين , التركي المصري في بداية القرن التاسع عشر والانجليزي المصري في نهايته وتبلغ أوجها في عهود الحكم الوطني وبصورة أكثر عنفا ووحشية خلال ربع القرن الأخير من حكم جماعة الاسلام السياسي المستمر حتى الآن.
لقد انفصل جنوب السودان عن بقية أجزائه , ومن أقوى أسباب الانفصال مسألة اصرار النخبة السودانية المهيمنة على فرض هويتها المزعومة على كل المكون الوطني السوداني , بمعنى قسر الناس على ما يعرف بالوحدة التماثلية عوضا عن الوحدة القائمة على فكرة التعددية واحترام الآخر باعتباره آخرا وليس بالضرورة متماثلا مع الأنا المهيمنة, وتعاني أقاليم دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق من ذات المعضلة حتى الآن , وغالبا ما ينظر الى كفاح الحركات السياسية المسلحة في هذه المناطق على أنّه نزوع عنصري من جماعات مارقة على سلطة الدولة تقول بذلك الأدبيات الاعلامية التي تخدم خط الهيمنة الآحادي وتدل عليه الممارسات الفعلية بحيث تبقى العناصر غير العربية محل شكوك في انتمائها فلا تجد حظّها الكامل في أجهزة الدولة الحسّاسة ومراقي السلطة الفعلية ومظان تملك المعلومات ومفاتيح الثروات , وتشمل قائمة الحظر غير المعلن , التمثيل الدبلوماسي ,وادارات المصارف الكبرى , وقيادة الأجهزة الاعلامية والأمنية والقوات المسلحة .فالناظر الى نسبة تمثيل تعدديات السودان من الاثنيات غير العربية لا يجد كبير عناء في ملاحظة الخلل البائن في جهاز الدولة السودانية , وفي نهاية القرن الماضي صدر كتاب وثائقي شمل بالأرقام مسميات الوظائف العليا في الدولة السودانية بيّن المفارقات الرهيبة في دولاب دولة , تقول ديباجتها أنّها لجميع السودانيين بينما هي بالفعل دولة بعض السودانيين , فلا سبيل أمام السودان والسودانيين إزاء هذه الوضعية سوى العودة لمنصة التأسيس وبداية بناء دولة قائمة على التراضي بين مكوناتها تحت سقف سماء زرقاء وعلى أرض بكر واعدة , وأنهار تشقها من الجنوب للشمال ومجموعات سكانية رغم تباينها تتصل بوشيجة الاخاء والمصير المشترك , فقط يحتاج الأمر الى مشروع وطني ديمقراطي ذي سمت انساني يعلي من شأن البشر غض
#خالد_فضل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟