سلاح الوعي ووعي السلاح
عرض كتاب << الجيش السوداني والسياسة >>
يشكل كتاب الجيش السوداني والسياسة ؛ للأستاذ عصام الدين ميرغنى طه ( أبو غسان) ؛ والصادر في القاهرة في أغسطس الماضي ؛ إضافة ثرة للمكتبة السودانية في جانب مهم من جوانبها ؛ وهو دراسة وتوثيق علاقة الجيش السوداني بالتحولات الدرامية ؛ السياسية والاجتماعية ؛ في سودان القرن الفائت . إن هذه العلاقة لا تزال فاعلة ؛ كما أن هذه التحولات لا تزال تثقل بكلكلها على المجتمع السوداني ؛ وتفرض تأثيراتها عليه ؛ وهو يخطو بكل أزماته وآماله وآلامه في رحاب القرن الحادي والعشرين .
وتأتى أهمية الكتاب في نظرنا من ثلاثة اوجه رئيسية . الأول منها راجع إلى فقر المكتبة السودانية في هذا الجانب وحوجتها الملحة إلي هذا النوع من الدراسات . ويكفى أن نشير هنا إلى أن الدراسات التي عالجت هذا الموضوع في تفاصيله المختلفة تعد على أصابع اليد الواحدة ؛ نذكر منها الفصل المخصص للسودان في كتاب الباحث الإنجليزي وود " الجيوش والسياسة " ؛ ومذكرات الفريق محيى الدين احمد عبد الله ؛ وكتاب محمد احمد كرار عن الانقلابات العسكرية في السودان ؛ودراسة الأستاذ حيدر طه عن الأخوان والعسكر ؛ ومساهمات محمد سعيد القدال ومحمد محجوب عثمان وعبد العظيم عوض سرور عن علاقة الحزب الشيوعي بالصراعات المسلحة . إن المتابع يلاحظ أن اغلب هذه الدراسات ؛ على قلتها ؛ قد عالجت ثيمة معينة أو حدثا بعينه في تقاطع علاقة الجيش السوداني بالسياسة . أما تميز مساهمة عصام الدين ميرغنى فتأتى من أحاطتها ومحاولتها متابعة الخيط الرابط والتأثيرات لمتبادلة في فترة تقارب القرن من الزمان ؛ في علاقات الجيش والسلطة ؛ وهى بذلك تكتسب أهميتها الإضافية وطابعها شبه الموسوعي .
ويأتي الوجه الثاني لأهمية الكتاب من موقع الكاتب نفسه ؛ كونه كان ضابطا نشطا بالجيش السوداني ؛ عمل في مختلف وحداته القتالية والفنية حتى وصل إلى رتبة العميد الركن . وارتباطه بالعمل السياسي في داخل القوات المسلحة ؛ من واقع عضويته القيادية في تنظيم "الضباط الأحرار" منذ أوائل الثمانينات في القرن الماضي ؛ ودوره مع زملائه في انتفاضة مارس أبريل 1985 ؛ ومساهمته في صياغة مذكرة الجيش الشهيرة في العام 1988 ؛ ومن بعد دوره الكبير في تنظيم العمل المعارض السياسي والعسكري تجاه نظام يونيو 1989 ؛ والذي تبدى في مبادرته ومساهمته بتنظيم الجناح العسكري للتجمع الوطني الديمقراطي ؛ وذلك عبر تنظيم نشاطات وعمليات القيادة الشرعية للقوات المسلحة ؛ ومن بعد في إسهامه الفاعل في تأسيس التحالف الوطني السوداني وقوات التحالف السودانية ؛ والتي يحتل فيهما موقع نائب رئيس المكتب التنفيذي ورئيس الدائرة العسكرية .
أما الوجه الثالث فيأتي من منهج الكاتب في إعداد دراسته ؛ والذي جمع بين التوثيق الدقيق ؛ المعتمد على دراسات سابقة ومراجع متيسرة ؛ ووثائق تنشر لاول مرة ؛ ومعلومات تفصيلية من داخل موقع الحدث ؛ تحصل عليها من خلال نشاطه المهني والسياسي ؛ ومنهج التحليل العلمي ؛ والمبنى على استنتاجات وملاحظات وتعميمات نظرية خارجة من رحم التجربة ؛ وموضوعية وتجرد في التناول قل أن نجد نظيرها في مساهمات الكتاب السياسيين ؛ والتزام واضح بالديمقراطية و إصلاح المؤسسة السياسية والعسكرية ؛ نلمحه يظهر في كل ثنايا الكتاب من بداياته إلى نهايته ؛ وخصوصا فيما يتعلق بقضايا احترافية القوات المسلحة ؛ ودورها الوطني في حماية الدستور والقيم الديمقراطية وتطلعات الشعب . كما نجد تحليلا سليما ورصدا دقيقا لمعضلات المشكلة الأهم في تاريخ السلطة والجيش في السودان ؛ وهى مشكلة الحرب الأهلية في السودان ؛ والمستمرة بفترات انقطاع قصيرة ؛ منذ مطلع الاستقلال ؛ ولا تزال .
ينقسم الكتاب إلى جزئين ؛ مقسمة إلى اثني عشر فصلا . يبدأ الجزء الأول والذي اسماه الكاتب بالجيش والسياسة في السودان من توثيق بدايات الجيش السوداني ؛ و ينتهي بإعداد وتنفيذ انقلاب يونيو 1989. كما يبدأ الجزء الثاني والذي يستعرض المؤلف فيه مقاومة الديكتاتورية العسكرية لنظام يونيو ؛ من اللحظات الأولى لنجاح الانقلاب ؛ ويختمه بتصدع وانقسام القيادة الشرعية للقوات المسلحة ؛ والتنبؤ ببداية ظهور حركة ثورية سياسية - عسكرية جديدة ؛ وخاتمة تحليلية عن علاقة الجيش بالمؤسسة السياسية والصراع السياسي – الاجتماعي في السودان .
يبدأ الكاتب الفصل الأول بمتابعة جذور السياسة في الجيش السوداني ؛ فيستعرض بدايات نمو الجيش السوداني من قوة دفاع السودان ؛ ويستعرض حركة 1924 كحركة لعبت فيها العناصر العسكرية دورا مقدرا ؛ ثم يتابع الجيش وهو يخطو مع البلاد في درب الاستقلال ؛ كما يتناول الانقلاب العسكري الأول وحكم كبار الجنرالات ؛ والمعارضة التي واجهتهم داخل الجيش ؛ وبداية نمو التنظيمات السياسية السرية داخل الجيش السوداني .
أما في الفصول الثاني والثالث والرابع ؛ فيتابع قيام انقلاب مايو 1969 ؛ محللا القوى التي حركته والظروف السياسية التي أفرزته ؛ ويتابع الانقسام والصراع الدموي بين مؤسسيه من قادة الجناح الشيوعي والقوميين العرب ؛ ثم يفرد فصلا كاملا لمعارضة الجبهة الوطنية ؛ بدءا من صدام الجزيرة أبا ؛ إلى انقلاب حسن حسين ؛ ويختمه بعرض دقيق لمحاولة محمد نور سعد في 1977؛ ودعوة لإعادة تقييم القائمين عليها . ويتابع المعارضة من داخل القوات المسلحة بدءا من معارضة كبار الجنرالات ؛ وانتهاءا بالتنظيمات السرية المعارضة داخل الجيش ؛ ويحلل علاقة النظام المايويى بالقوات المسلحة ؛و أثره التدميري عليها .
أما الفصول الخامس والسادس والسابع فيكرسها المؤلف لمتابعة علاقة الجيش بالنظام الديمقراطي وانقلاب 30 يونيو ؛ ويستعرض بالتفاصيل ومن موقع المشارك في الحدث ؛ ظروف وملابسات مذكرة قيادة الجيش في عام 1988 ؛ ويتابع الطريق إلى انقلاب يونيو 1989 ؛ بدءا من رصد علاقة الأخوان المسلمين بالجيش منذ قيام تنظيمهم ؛ واستراتيجية الاختراق التي أعدها ذلك التنظيم للجيش ؛ وبناء التنظيم السري الإسلامي داخل القوات المسلحة . وفى فصل كامل يتابع المؤلف ويكشف بالتفاصيل الدقيقة الطريق إلى الانقلاب ؛ وخطته العامة وخططه التفصيلية المتعلقة بالخداع وتامين السلطة الجديدة ؛ كما يتناول مراحل التنفيذ من بدايتها ؛ والعناصر والمؤسسات والظروف التي أسهمت بالسلب أو الإيجاب في نجاح انقلاب الجبهة الإسلامية وتنظيمها العسكري في 30 يونيو1989.
وفى الفصلين الثامن والتاسع ؛ يتناول المؤلف الصراع بين نظام يونيو ومعارضيه داخل القوات المسلحة ؛ في سباقهم بين التمكين والتصدي المضاد ؛ فيتناول أسلوب وخطط تمويه الانقلاب ؛ وخطة الجبهة الإسلامية العسكرية والسياسية لتامين السلطة ؛ ويتابع مراحل وخطوات التصدي الأول ؛ من حركة مارس 1990 ؛ والتي شارك المؤلف فيها من مواقع القيادة ؛ كما يتابع مذبحة حركة أبريل (رمضان) 1990 ؛ بدءا من إعداد خطتها ومراحل تحركها ؛ وتسرب أسرارها في اللحظة الأخيرة والتصدي المضاد ؛ ويرصد تفاصيل التحقيق والمحاكمات و الاعدامات مع قائمة الشهداء وسيرتهم ؛ ويتناول ومن بعد بالتفاصيل الدقيقة مواقع قصورها و أسباب فشلها ؛ ويحلل هويتها السياسية باعتبارها حركة ديمقراطية ووطنية ؛ ويستعرض حملات الإدانة للنظام ؛ وينهيها بمرافعة اتهام مبدئية ضد النظام مع تحديد المسؤولية الجنائية والسياسية للمشاركين في المذبحة .
وفى الفصول من العاشر إلى الثالث عشر ؛ يرصد المؤلف بالتفاصيل والوثائق ؛ سيرة تأسيس الجناح العسكري للتجمع الوطني الديمقراطي ؛ فيبدأ من مولد المشروع وخطواته الأولى ؛ حتى إعلان القيادة الشرعية للقوات المسلحة فى سبتمبر 1990 ؛ ويرصد الصراع السياسي الذي صاحب مولدها ؛ والتغيير النوعي الذي أدخلته في العمل المعارض المسلح ؛ ويتابع من موقع المشارك والمنظم والمحلل عملياتها ؛ بدءا من عملية أنا السودان و أسباب فشلها ؛ وقوات أنا السودان -النهر الأخضر -؛ ويتناول العمليات النوعية ؛ بدءا من العمليات السرية الخاصة ؛ وعمليات خلايا المعارضة السرية داخل الوطن – عملية كوبري الأشراف – متناولها كلها بالرصد والتحليل الدقيق ؛ ويكرس الفصل الثالث عشر للخلافات داخل القيادة الشرعية ؛ وتصارع عقليتين للعمل داخلها ؛ والدور السياسي لبعض القوى في تصعيدها ؛ الأمر الذي أدى إلى انشطار القيادة الشرعية ؛ محللا بنهاية ذلك كل التجربة ؛ ومتنبأ بظهور حركة سياسية - عسكرية جديدة تقوم على أسس مغايرة وتطرح استراتيجية الكفاح المسلح اعتمادا على تحالف القوى العسكرية مع الحركة الشعبية .
أما الفصل الرابع عشر والأخير ؛ وهو من أهم فصول الكتاب ؛ فيكرسه المؤلف لتحليل الانقلابات العسكرية في السودان ؛ وعلاقة الجيش بالسياسة ؛ فيبحث عن المؤثرات المتبادلة ؛ ويبحث عن الأسباب في بنية كل من النظام السياسي السوداني وبنية القوات المسلحة ؛ ويضع خطوطا للمستقبل يرى فيها الأسس التي تكفل إعادة الجيش إلى سيرة الاحتراف ؛ والنظام السياسي المدني إلى مواقع الاستقرار .
إن قراءة عامة للكتاب ؛ توضح حجم الجهد الذي بذل في كتابته ؛ وتشير إلى انه قد سد فجوة واسعة في المكتبة السودانية . إن التفاصيل الدقيقة والتحليلات العميقة إنما توضح وعيا عميقا للكاتب بموضوع دراسته ؛ ووعى مماثل بقضايا الأزمة السودانية ؛ وهى بهذا تنقل قارئ الكتاب من الانطباع الأول ؛ بكونه مجرد مذكرات ضابط سابق في الجيش ؛ إلى كونه عمل منهجي لمفكر وسياسي قدير . إن تجربة عصام الدين ميرغنى الفكرية والسياسية والعسكرية ؛ تعيد للأذهان تجربة على عبد اللطيف ؛ و تتماهى معها في مواقع كثيرة ؛ وان اختلفت الظروف والملابسات والوقائع . إن النتيجة الجديدة التي يصل إليها القاري للكتاب ؛ والمستند على قاعدة سلاح الوعي ؛ أي أن الوعي يصبح سلاحا في يد الماسك به ؛ هي إن السلاح عندما يرتبط بقضايا الوطن ؛ وتدفعه مسؤولية عالية ؛ فانه يولد وعيا جديدا ؛ يمكن أن نسميه وعى السلاح ؛ والذي يعبر عنه عصام الدين ميرغنى وكتابه القيم خير تمثيل .
والكتاب فوق هذا وذاك مكتوب بلغة راقية شيقة ورشيقة ؛ تجعلك تنتقل ما بين صفحاته التي تقارب الستمائة صفحة باهتمام وتشوق واستمتاع ؛ وهو مطبوع على ورق مصقول وذو غلاف صلب مجلد ذو تصميم فني عال ؛ ومرفق بعدة خرائط ملونة . وقد تفضل الكاتب وارفق به حزمة من أهم الوثائق عن علاقة الجيش والسياسة في السودان ؛ ومنها البيان الأول للثلاثة انقلابات الناجحة في تاريخ السودان ؛ وهى انقلابات الأعوام 1958؛ 1969 ؛ 1989؛ وكذلك مذكرة القيادة العامة للجيش في عام 1988 ؛ والإعلان السياسي العسكري للقيادة الشرعية للقوات المسلحة في 1990 . كما بالكتاب قوائم وبيانات بأسماء القيادات المشاركة في اغلب التحركات العسكرية المعادية للديكتاتورية والتنظيمات السرية في الجيش ؛ وخصوصا في العمل العسكري المعارض و التحركات العسكرية ضد نظام 30 يونيو المتأسلم .
عادل عبد العاطي – 20 أكتوبر 2002