|
الميلاد ومسألة الظهور الإلهي في المسيحية والإسلام
ماريو أنور
الحوار المتمدن-العدد: 1349 - 2005 / 10 / 16 - 10:14
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يذكّرنا عيد الميلاد بأن المسيحية تعتقد اعتقاداً راسخاً بأن الله تجلى تجلياً تاريخياً في شخص يسوع المسيح. ومعنى هذه العقيدة التي يحتفل بها المسيحيون احتفال التعبير الطافح بألوان الابتهاج الاجتماعي أن الألوهة ما حلت بإنسان هو يسوع الناصري، بل ان يسوع المسيح الكائن في حضن الألوهة في صورة الإبن المحبوب، هو الذي ظهر في ملء الزمان في هيئة البشر. وفي فحوى هذه العقيدة المسيحية إصرارٌ على حقيقتين لاهوتيّتين هما في أَساس الاستقامة المسيحية الفكرية. في الحقيقة الأولى أن الكائن الإلهي الذي ظهر في التاريخ ليس هو ما يدعوه اللاهوت المسيحي الله الآب، بل هو الله الابن الذي ظهر لنا. وفي هذا التمييز صونٌ لسموّ الله الذي يفوق كيانه مستوعبَ التاريخ الإنساني بأجمعه. وأما الحقيقة الثانية، فهي أن الله الابن هو الذي ظهر في هيئة يسوع الناصري، وليس هو يسوع الناصري الذي تجلّت فيه ألوهة الله الابن. وفي هذا التمييز أيضاً صونٌ لسمو الله الذي لا يمكن ان يستوعبه انسان مهما سما كيانه وطهرت أخلاقه. ومع أن العبارات اللاهوتية التي استخدمها علماء الدين في المسيحية للإفصاح اللغوي عن سرّ الظهور الإلهي لا يسعها أن تحيط إحاطةً وافيةً بعظمة هذا الحدث، فان الاعتصام بهاتين الحقيقتين يعصمان الفكر المسيحي من القول بحلولية الله وبألوهية الانسان. لا شك ان مسألة المسائل في الفكر المسيحي الاعتقاد بظهور الله في صميم التاريخ البشري، والاصرار على تنزيه الله من الجسدية البشرية وتنزيه الانسان من امتلاك الألوهة. وبخلاف ما قد يدركه البعض من تفاسير الدين المسيحي، لا ينقلب الله في المسيحية انساناً فيفقد لاهوته وسموّه وجلاله، ولا ينقلب الانسان إلهاً فيفقد انسانيته وتاريخيته وانعطابيته. جلُّ ما في الأمر ان المسيحيين عاينوا، وما فتئوا يعاينون في شخص يسوع المسيح أبهى صورة لما يمكن ان ينعقد عليه الكيان الإلهيّ في تصورهم البشري من رفعة في المقام، وطهر في السيرة وكرم في الأخلاق ونبل في المسلك واقتدار في القول وجمال في الفعل. لذلك كان المسيح هو الطريق الى التفكّر اللاهوتي في المسيحية. وليس في المسيحية من سبيل الى التأمّل في السرّ الإلهي الا سبيل الاكباب على تدبّر سيرة المسيح. ولشدّة ما استرهب المسيحيون عظمة هذه الحقيقة، طفقوا يداورونها ويلتسمون لها من التعابير البشرية ما به يراعون عجز الفهم الانساني عن تصوّر حركة الظهور العجيب الذي يصون الفعل عينه ألوهة الله وانسانية الانسان. وفي غضون التاريخ المسيحي، لم يُجمع كل اللاهوتيين المسيحيين على هذه الحقيقة، فقال البعض باستحالة الظهور الإلهي في كليّته، فأنكروا ألوهة المسيح واعتبروا ان طبيعة يسوع البشرية لا تحتمل ان تتجلى فيها الوهة ابن الله الأزلي، وقال البعض الآخر بشيء من الظهور، فنادوا بشيء من التجلي الجزئي لله في شخص يسوع الناصري الذي بات انساناً محض انسان ظهرت فيه الألوهة ظهوراً لا يجعل من الانسان يسوع المسيح ابن الله الكائن في الأزلية الإلهية، فيما عمد آخرون الى اثبات هيمنة الطبيعة الإلهية على شخص المسيح مبطلين ان يكون الظهور الإلهي قد حصل في صميم الطبيعة البشرية. مما لا ريب فيه ان هذه الاعتراضات اللاهوتية تعبّر أفصح تعبير عن معضلة الإقرار بالظهور الإلهي في تضاعيف التاريخ البشري، وهو الظهور الذي تتوق اليه البشرية جمعاء منذ تفتّح الوعي الدينيّ في أعماق الاختبار الروحيّ. وفي هذا السياق يتساوى اللاهوت المسيحي واللاهوت الاسلامي في مواجهة هذه المعضلة الدينية الكأداء، وفي تحسّس مبلغ العجز اللغوي في التعبير عن حقيقة الظهور الإلهي. وعلى غرار المقولة اللاهوتية المسيحية، يقول الدين الاسلامي بالظهور الإلهي في التنزيل القرآني الذي يشتمل على كلام الله المنقول عن اللوح المحفوظ، والمبلّغ عنه في ألفاظ القرآن ومفرداته وآياته وسوره. فكما أن المسيحية تعتقد ان التجسّد هو ظهورٌ لكلمة الله الأزلي في التاريخ البشري، كذلك الدين الاسلامي يعتقد ان التنزيل هو ظهورٌ لكلام الله الأزلي في التاريخ البشري. وتذهب الشيعة، على حسب آراء أهل العلم فيها (يذكرهم هنري كوربان في دراسته الثرّة للإسلام الإيراني، دار النهار، ،2000 ص379 وما يليها) الى القول بأن الإمام هو صورة التجلي الإلهي. ومع أن عقيدة التجلي الإلهي الناشطة في التصوّر الشيعي لا تُفضي الى القول بتجسّد الطبيعة الإلهية في مسرى الزمن، إلا أن الإسلام لا يمكنه إلا أن يشاطر المسيحية قلق التعبير عن مسألة الظهور الإلهي. فليس يكفي القول بأن العقيدة الاسلامية لا تغالي مغالاة المسيحية، إذ تظلّ حريصةً على تنزيه السموّ الإلهي من كل لون من ألوان الاقتران بالتاريخ البشري. كلا الدينين تواجههما في شدّة الارباك اللاهوتي عينه معضلة الظهور الإلهي، ومعضلة التعبير الأفصح عن هذا الظهور. ويبدو ان المسلمين، لشدّة حرصهم على انقاذ المسيحيين من غلوّهم اللاهوتي في عقيدة التجسّد، ما عادوا يفطنون الى ان الإقرار بألوهة الكلام المنزل في القرآن يربك العقل البشريّ، على غرار ما يربكه الإقرار بتجّسد إبن الله. والحقيقة ان الاعتراض الاسلامي على عقيدة التجسّد هو سعيٌ خالص النية الى صون السمو الإلهي، وفي وجهين اثنين. في الوجه الأول من التنزيه الاسلامي، يروم المسلمون الاصرار على وحدانية الله معتقدين ان التنزيل القرآني لا يجعل من الكلام القرآني إلها آخر موازياً للوحدانية الإلهية. وأمّا في الوجه الثاني من التنزيه الاسلامي، فأن المسلمين يودّون الإلحاح على استحالة اقتران الألوهة بالجسدية البشرية. غير ان المطلوب في هذين الوجهين من التنزيه، أن يدرك المسلمون ان المسيحيين حين يقولون بالظهور الإلهي لا يجعلون في إزاء الله كائناً إلهياً آخر هو غير الله، فالتثليث تعبيرٌ مسيحيْ عن التوحيد الإلهي. كما ان التنزيل القرآني هو تعبير اسلامي عن هذا التوحيد عينه. اما تنزيه الألوهة عن الجسدية البشرية، فينبغي الكثير من الفطنة اللاهوتية حين يعمد المسيحيون والمسلمون الى ربط الألوهة كلمة في الاسلام وكياناً في المسيحية، بالواقع البشري والتاريخ البشريّ في تجسّد ابن الله، كذلك يُصرّ المسلمون على الفصل بين الكلام الإلهي والمبنى اللفظي العربي الخارجي الذي يحمل مضامين هذا الكلام. وجلّ الأمر ان ظهور الكلام الإلهي في التنزيل القرآني لا يدخل الألوهة في مجرى الزمن الانساني بمثل ما يدخل التجسّد الكيان الإلهي في مادة التاريخ ومسراه. ومما ينجّي المسلمين من ارباك السر في التنزيل القرآني ان ظهور الكلام الإلهي لا يفضي في الاسلام الى ما يفضي اليه التجسّد في المسيحية من إشراكٍ للانسان في الحياة الإلهية. وفي هذا مبحث آخر. وفي كلتا الحالتين ينبغي الاقرار بأن العقل البشري عاجزٌ عن التسليم الفطري بالعقيدتين المسيحية والاسلامية. لذلك لا يصحّ القول بأن في الاسلام عقلانية ومنطقاً ومراعاةً لأصول التفكّر البشري، وبأن في المسيحية خروجاًً عن الأصول وإعراضاً عن الصواب وغلوّاً وخُلفاً. وفي يقيني ان الديانتين المسيحية والاسلامية تخالفان، في القدر عينه، المنطق الفلسفي القائل باستحالة تجلي المطلق في دائرة النسبي. فاذا كان الله هو المطلق من كل قيد واعتبار وحدود، فلا يمكن الإنسان، مهما سمت مقولاته، ان يفترض في هذا المطلق ظهوراً يدخله في دائرة التاريخ، لأن كل ما يظهر في التاريخ يصبح بمنطق التاريخ من صلب التاريخ. وحده الايمان المسيحي ووحده الايمان الاسلامي يمكنهما ان يثقا بأن الله يظل على سموّه ورفعته وعزته حين يتجلى للإنسان تجلّي المحبة الخلاصية في التجسّد، وتجلّي الهداية الودودة في التنزيل. رجاء المسيحيين في ذكرى الميلاد ان يعاونهم علماء الدين المسلمون في دار الثقافة العربية على صياغة افضل التعابير عن سر الظهور الإلهي، من غير أن يسارع هؤلاء العلماء الى اضعاف المسيحية ورذل تعاليمها، لأن إبطال القول بتجسّد كلمة الله يبطل في التصور الفكري المحض القول بالتنزيل القرآني. وبسببٍ من ثقل المجادلات العقيمة التي انتابت علاقات المسيحيين بالمسلمين في مجرى الزمن، ما أعار كل المسلمين هذا الأمر ما يستحقه من العناء اللاهوتي. فإذا أبطل الظهور الإلهي في المسيحية ابطل امكان الظهور الالهي على الاطلاق، سواء أكان هذا الظهور ظهور الكيان المتجسّد أم ظهور الكلمة الموحاة، أم ظهور المشيئة المبلغة أم ظهور الفعل المحيي. حريٌّ بالمسيحيين والمسلمين ان يتعاونوا على التبصّر المشترك في معقولية الظهور الإلهي في مجاري الزمن الانساني، وذلك عوضاً من أن يُضطر المسيحيون الى القول بهزالة التنزيل القرآني، ويُضطر المسلمون الى القول بخُلف التجسّد الإلهي واستحالته. آن الأوان، في زمن تصارع المعاني الكونية، أن يخرج المسيحيون والمسلمون من قفص تبادل الاتهامات الى حقل التضامن الفكري الأرحب، حيث يحلو للجميع التبصّر في عظمة المبادرة الإلهية التي كان الله فيها كنزاً مخفياً، فأراد ان يُعرف ويُحبّ فخلق الانسان وأحبه جاعلاً من ذاته مهوى الفؤاد البشري
#ماريو_أنور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في مجتمع متعدّد الأديان
-
العروبة والإسلام
-
هل ظروف العلاقة الزوجيّة اليوم
-
-المرأة في الإعلام والإعلان-
-
أيهما أهمّ العلمنة أم الإيمان؟ أم الثاني يتبع الأول؟
-
الثالوث في الإسلام
-
-أمّيّة- محمّد . وهي الأساس الأوّل للإعجاز
-
العَيش في عالم مُتعدِّد الأديان
-
القرآن كتاب دين ، لا كتاب علم - الكونيات -
-
كيف نختار شريك الحياة..؟
-
الغريب فى القرآن الحلقة الأخيرة
-
الغريب فى القرآن الحلقة الثانية
-
الغريب فى القرآن
-
الحوار بين الأديان: ثقافته ومنطلقاته
-
الشرُّ وَالخطيئَة الأصلية
-
فى سبيل الحوار بين المسيحيين و المسلمين
-
مفهوم الخلق في اللاهوت المسيحي
-
دور المسيحيين الثقافى فى العالم العربى -الحلقة الخامسة
-
بين الإلحاد والإيمان
-
دور المسيحيين الثقافى فى العالم العربى -الحلقة الرابعة
المزيد.....
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرتا اعتقال نتنياهو وجال
...
-
الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت
...
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|