أخبار الشرق - 6 كانون الثاني 2003
توالت في الآونة الأخيرة التصريحات الأمريكية الراغبة بإشاعة الديمقراطية ونصرة الحرية في منطقتنا، توّجت بالخطة التي أعلنها الرئيس الأمريكي جورج بوش لنشر الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي، تلاها إعلان وزير خارجيته كولن باول في خطاب موسع ألقاه في مؤسسة التراث بواشنطن يوم الثاني عشر من الشهر الجاري عما أسماه "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط"، موضحاً أن المبادرة تستند إلى ثلاث ركائز أساسية، اقتصادية ومعرفية وسياسية من أجل "تغيير، وإصلاح، ومستقبل جديد للشرق الأوسط"!، وأهم هذه الركائز "العمل على سد فجوة الحرية بمشروعات لتقوية المجتمع المدني وحماية حقوق الأفراد وتوسيع المشاركة السياسية"!
ويجمع المراقبون على أن مبادرة الإدارة الأمريكية للشراكة والتنمية الديمقراطية في الشرق الأوسط تحمل هذه المرة قسطاً كبيراً من الجدية والعزم كونها تلتقي عميقاً مع مصالح واشنطن وأهدافها الحيوية في تعزيز سيطرتها السياسية على أغنى بقعة نفطية في العالم، وتمكّنها تالياً من إتمام حملتها المحمومة ضد الإرهاب والأصولية الإسلامية لتطاول الأسباب العميقة والجذور. إذ تستند واشنطن في عزفها على هذا الوتر إلى حقيقة تقول إن الديمقراطية هي أفضل المناخات القادرة موضوعياً على سحب البساط من تحت أقدام قوى التطرف والإرهاب، وإن تنمية المنطقة اقتصادياً وتعليمياً ودعم الحريات السياسية فيها يمكن أن يخفف إلى حد كبير من العوامل المساعدة على نشوء وتطور ردود الأفعال الحادة والعنيفة المعادية للولايات المتحدة الأمريكية، التي تجلت في أعنف صورها بتدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن.
وأن ترفع أمريكا - العدو المزمن للشعوب العربية - لواء الديمقراطية وتسعى، حرباً أو سلماً، تحت شعارات الحرية وحقوق الإنسان إلى تغيير وجه المنطقة، هو أمر يضع الديمقراطيين العرب في مأزق لا يحسدون عليه، ليس فقط بسبب الشعور العربي الراسخ بالغبن والظلم جراء انحياز الإدارة الأمريكية السافر للوحش الصهيوني وجرائمه، وإنما أيضاً، بسبب طبيعة مصالحها وأهدافها الاستراتيجية التي وقفت تاريخياً وتقف اليوم، حجر عثرة أمام حلم الشعوب العربية وتطلعها نحو التحرر والازدهار.
ويعرف الجميع أن ما تحمله الولايات المتحدة الأمريكية من وعد للتغيير الديمقراطي في المنطقة يهدف إلى خلق مجتمعات عربية ضعيفة مفككة تدار وفق أشكال هزلية من "حرية" التلاعب والتأثير، وتالياً خلق أنسب الشروط للتحكم بحاضر هذه المنطقة ومستقبلها بما يوفر أفضل الفرص لضمان استمرار دور العدو الصهيوني وتفوقه.
مثل هذا الهدف الأمريكي يبقى على مسافة واضحة وبينة مما تطمح إليه الشعوب العربية وقواها الحية في معركتها ضد قوى الاستبداد بغية بناء مجتمع ديمقراطي يحقق لها حريتها وكرامتها وسيادتها الوطنية ويكسبها فرصتها الحقيقية لدفع عملية التنمية والتحرر الاجتماعي والاقتصادي قدماً إلى الأمام.
ولا يعيب الديمقراطية أو يقلل من أهميتها وضرورتها حين ترفع أمريكا لواء الدفاع عنها، كما لا يضعف ذلك أبداً من حق دعاتها والمناضلين لنصرتها أو يطعن ويشكك في صدق التزامهم بقضايا أوطانهم وشعوبهم، فالحرية مطلب حق وأمل عتيق للشعوب كافة، ولا تغير هذه الحقيقة عظائم الجرائم التي ارتكبت باسمها أو أحط المصالح التي ربضت خلف هذا الهدف النبيل.
ومن تبسيط الأمور أن نعتبر كل من يعمل لنصرة الحرية والديمقراطية ويناضل ضد النظام البربري في العراق مثلاً، أو غيره من الأنظمة الشمولية هو بالضرورة مع أمريكا، كما من السذاجة أن نضع في صف أنظمة الشمولية والاستبداد كل من ناهض ويناهض الأهداف الأمريكية ومخططاتها في المنطقة! ..
فقدر الشعوب العربية أن يحكمها نضال مركب ضد الاستبداد والقهر ولنصرة مجتمع الحرية والتعددية من جهة ولمواجهة الأخطار المحدقة بالوطن صهيونية كانت أم إمبريالية من جهة ثانية. دون أن نغفل أن مثل هذه المعادلة هي بمنتهى الدقة والحساسية ولا بد أن تشوبها بعض الالتباسات في مساراتها العملية حين يتقاطع، موضوعياً، طرفها الأول مع سياسة الغرب وأمريكا الداعية للحرية وحقوق الإنسان، ويلتقي موضوعياً، طرفها الآخر مع الأنظمة التي ما زالت في صراع مع الصهيونية والإمبريالية. هذه الالتباسات تصبح اليوم، مأزقاً جدياً مع تبني أمريكا جزءاً من مطالب قوى التغيير الديمقراطي العربي كالمجتمع المدني والتعددية السياسية وفي ظل استقواء الموقف الرسمي العربي بعلاقة مشوهة تاريخياً بين "وطن مقدس" و"ديمقراطية مستوردة" واستسهال إلصاق تهم الخيانة والعمالة بحق كل من يرنو نحو تطلعات شعبه إلى الحرية.
فالأنظمة العربية التي نصبّت من نفسها وصياً على مصالح الوطن ووكيلاً حصرياً على حاضره ومستقبله نجحت تاريخياً في صوغ وتعميم حالة تعارض أو تناقض بين النضالين الوطني والديمقراطي، وتمكنت من سحق وتفتيت بذور الحرية والتعددية السياسية بدعوى أنها تهدد أمن المجتمع واستقراره وتضعف دوره في مواجهة المطامع الإمبريالية والصهيونية!
إن تمظهر الأنظمة العربية بالمظهر الوطني الحريص والمتشدد، وما رفعته من شعارات مثل "الوطن أولاً" و"مصلحة الوطن هي العليا" شكّلا سلاحاً ناجعاً لضبط الأوضاع الداخلية أكثر مما استخدما في الخنادق وساحات القتال، وكانا بمثابة حصان رابح امتطته السلطات الشمولية لتصل إلى مآربها في حماية ما جنته من مكاسب ومغانم وتعزيز أسباب استقرار سلطانها. والنتيجة نبذ أشكال الحياة الديمقراطية كافة وتشديد القبضة القمعية على شعوبها، وشن حملات مستمرة من الإقصاء والتصفية طاولت معظم القوى الديمقراطية دون أن يشفع لهذه الأخيرة الدم الغزير الذي سفكته دفاعاً عن حرية أوطانها أو التضحيات الجسام التي قدمتها على مذبح الصراع مع العدو الصهيوني وفي مواجهة الأخطار الخارجية المحدقة. وبالمقابل، عندما تطلبت مصلحة الوطن في غير لحظة تاريخية، إعادة النظر بطابع وكفاءة القوى التي تستأثر بالقرار السياسي بعد فشلها وعجزها البيّن عن تحمل مسئولياتها الوطنية، لم تجد الأنظمة "الوطنية" نفسها معنية بهذا الأمر واستبسلت لحماية مواقعها امتيازاتها، لتبقى استقالة الرئيس عبد الناصر بعد هزيمة حزيران عام 1967 بادرة فريدة في التاريخ العربي الحديث.
إن الحريات والانفتاح الديمقراطي تبدو اليوم أشبه بسباق أو عملية شد حبال بين الإدارة الأمريكية بمشروعها المغرض وبين أنظمة عربية تبدي قدرة عجيبة في الدفاع عن مصالحها الضيقة وعن أشكال من السيادة والهيمنة عفا عنها الزمن. وينتظر الوطن والمجتمع أن تتحلى هذه الأنظمة بالشجاعة والجرأة الضروريين للمبادرة إلى إنجاز المهام الديمقراطية المستحقة والانفتاح على شعوبها وقواها الحية بوصفها الخيار الوحيد الباقي والقادر على إحباط مشروعات الهيمنة الصهيونية والأمريكية.
إن الديمقراطية بالنسبة للتحديات الوطنية ليست إلاّ نصفها الآخر وهي أفضل تحصين للداخل ولبناء علاقة صحيحة بين دولة ومجتمع تستطيع كف يد الأجنبي وتطاولها. وبدهي أن المواجهة الناجعة للأخطار الصهيونية والإمبريالية تتطلب إنسانا حراً ومتحرراً من الخوف والقهر، بينما القمع هو خير ما صنع الهزائم والانكسارات وما حطم روح المقاومة والكفاح عند الشعوب. كما أن الديمقراطية هي الشرط الحافز لتفعيل الطاقات وتثوير الإبداعات لمقاومة التبعية وسلبيات العولمة ولإنجاح عملية البناء والتنمية بما يقلص حجم الهوة الاقتصادية والتكنولوجية ويحسن موقع المجتمع وإمكانياته على المنافسة. فهل عرف المعنيون بالأمر أنه لا أمل ولا رجاء من وطن تحول البشر فيه إلى أشباه بشر لاحول لهم ولا قوة. وأن الخانع العاجز عن انتقاد ومحاسبة قادته وحكامه هو أعجز عن محاربة أعداء وطنه وإبعاد شرهم عنه؟!
إن التحدي الآن يتكثف في نجاح المجتمعات العربية وقياداتها في اعتراض المبادرة الأمريكية بإطلاق حركة الإصلاح والتغيير الديمقراطي على مداها. وكما أن عداء الشعوب العربية لأمريكا ومخططاتها عميق وأصيل فان رغبتها في الحرية والتعددية عميقة وأصيلة أيضاً. فالديمقراطية هي خلاصها، لكن دون مفوض سامٍ أمريكي يتحكم بمصيرها ويدير شئون البلاد بالنيابة عن أبنائها!
__________
* كاتب سوري - دمشق