خليل كلفت
الحوار المتمدن-العدد: 4891 - 2015 / 8 / 9 - 10:22
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
خليل كلفت وعلى كلفت
6
النضال ضد المخدرات
التعليم والتنمية والبحث عن معنى للحياة
سوق سريعة التوسع
فيديريكو مايور و جيروم بانديه
ترجمة خليل كلفت وعلى كلفت
يبتهج عدد الاقتصاديين بالنمو المتواصل للاقتصاد العالمي. غير أن من المؤسف أنه توجد سوق متواصلة التوسع عبر العالم: إنها سوق المخدرات، وهى مصدر أكثر صور الحرمان جذرية إذ أنها تلغى حتى مفهوم الأنا والآخر(1). وتبلغ الأرباح التي يدرها الاتجار بالمخدرات وفقا للأمم المتحدة 400 مليار دولار في السنة، أي 8% من التجارة العالمية. ويمكن أن تتضح ضخامة هذا المبلغ إذا عرفنا أنه يعادل التجارة الدولية لصناعة النسيج في 1994(2)، أو 1% من الناتج القومي الإجمالي العالمي، أو يعادل حتى الناتج القومي الإجمالي لكل أفريقيا(3). وإنتاج واستهلاك المخدرات في ارتفاع مستمر. ووفقا لتقرير 1996 للمجلس الدولي لمكافحة المخدرات فإنه "رغم الحظر المتزايد، انتشر إنتاج المخدرات والاتجار بها وكذلك إدمان المخدرات إلى مناطق من العالم كانت ما تزال فى منأى عنها". وكما يشدد أحد الخبراء: "دول المخدرات وديمقراطيات المخدرات، إرهاب المخدرات وحرب عصابات المخدرات، سياحة المخدرات ودولارات المخدرات، لقد غزت المخدرات كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويصاحب توسعُها عولمة الاقتصاد وعولمة ديمقراطية السوق"(4). والواقع أن التنظيم الكفء جدا لتجارة المخدرات في شبكة عالمية بالاستناد إلى وحدات مرنة للغاية وفى حالة من التغير المتواصل يجعل كل مكافحة بالغة الصعوبة(5). وإلى الآن ما يزال الإنتاج بالغ التركيز، إذ أن نسبة 90% من الإنتاج العالمي غير المشروع من المواد المحتوية على الأفيون تأتى من منطقتين كبيرتين: منطقة "الهلال الذهبي" (أفغانستان، إيران، باكستان) ومنطقة "المثلث الذهبي" (لاوس، ميانمار، تايلندا)، كما أن نسبة 98% من الإمدادات العالمية من الكوكايين تأتى من بلدان الأنديس (ﭙ-;---;-----;---يرو، كولومبيا، بوليڤ-;---;-----;---يا)(6). غير أن مصادر جديدة تنتشر، ومناطق الإنتاج والاتجار تتسع، ومخدرات تخليقية جديدة تظهر. ويمثل الاتجار في المخدرات الجانب الأكثر غموضا للعولمة: إنه أيضا أحد أوائل المستفيدين منها، نتيجة للمسامية المتزايدة لحدود الدول، والطابع المتقلب للصفقات المالية، وعدوى أساليب الحياة، وحتى - إن جاز القول - "أساليب الموت". ويقدر الإنتربول أنه لا تجرى مصادرة سوى ما بين 5% و15% من المخدرات المحظورة، مما يعنى أن 85% على الأقل من المخدرات تفلت من الحظر ويتم تداولها في السوق غير المشروعة التي يسيطر عليها مجرمون(7).
ووفقا لتقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يتم في الأسواق المالية كل عام "غسيل" مبلغ 85 مليار دولار ناشئ عن أرباح هذه التجارة. وهذا المبلغ أعلى من الناتج القومي الإجمالي لثلاثة أرباع اقتصادات العالم ال- 207، وفقا لمجموعة من خبراء مجموعة السبعة(8). وعلى هذا فإن الثروة المتراكمة لدى تجار المخدرات منذ عشرة أعوام أو خمسة عشر عاما يمكن أن تصل إلى "عدة آلاف من المليارات"(9). والحقيقة أن تجارة المخدرات "تستفيد" منها - إن جاز القول - البلدان الصناعية في المقام الأول، على حساب شبابها: إذ أن نسبة 90% من هذه المبالغ يعاد استثمارها في البلدان الغربية(10). ويشعر عدد من الخبراء بصورة متزايدة بالقلق إزاء التوسع السريع "للمناطق الرمادية" داخل الاقتصاد العالمي، فهي تسمح لشبكات ضخمة للجريمة المنظمة بالتغلغل إلى قلب بعض المجالات الإستراتيجية للاقتصاد الدولي، مثل الأسواق المالية العالمية الكبرى(11). وكما يشير أحد الخبراء فإنه "في كل البلدان، يشارك الجهاز المصرفي مشاركة فعالة في إعادة توظيف أموال المخدرات، خاصة من خلال الشركات الفرعية والمراسلين المزروعين في الأرخبيل العالمي للفراديس [أو الملاجئ أو الملاذات] الضريبية"، وعلى هذا النحو أحيانا فإن "أموال المخدرات التي يتم غسيلها تكفل خدمة الدين أو تمويل مشروعات التكيف الهيكلي"(12). والواقع أن التعقيد المتزايد الذي لم يعد يعرف خطوط الأفق بل يظل مفتوحا أربعا وعشرين ساعة في الأربع والعشرين ساعة، والبروز السريع "للمدفوعات الإلكترونية" غير المسجلة، تدعو جميعا إلى يقظة متزايدة من جانب الهيئات المنظِّمة، وتوسيع مشاركتها في مجموع المؤسسات المالية العالمية. ومن جهتها، طالبت الولايات المتحدة، مؤخرا، بتنظيم القطاع المالي خارج البنوك، من بيوت صرف العملة والسمسرة إلى الكازينوهات، مرورا بخدمات التسليم السريع، وشركات التأمين وتجارة المعادن النفيسة(13). وينبغي أن تحترم الشركات المتعددة الجنسيات والشركات المالية عبر القومية قواعد السلوك الكفيلة بمنع غسيل الأموال ذات المنشأ الإجرامي، سواء أكانت مستمدة من تجارة المخدرات، أو تجارة الأسلحة، أو كل شكل آخر للتجارة الكبرى الإجرامية أو لنشاط المافيا (اختلاس الأموال العامة، ابتزاز الأموال، البغاء، المقامرات المحظورة، إلخ.).
ويشكل النفوذ الخفي أو المكشوف للمنظمات الإجرامية الكبرى، والذي يبدو أنه يتجه الآن إلى التزايد في عدد من بلدان الشمال والجنوب أخطارا كئيبة على الأخلاق الاقتصادية وعلى حكم القانون. ويقدر برنامج الأمم المتحدة للتنمية أن النفقات المخصصة لاستهلاك المخدرات بالنسبة للولايات المتحدة وحدها تتجاوز الناتج المحلى الإجمالي لأكثر من 80 بلدا من البلدان النامية مجتمعة. وعلاوة على هذا، وسعت المنظمات الإجرامية بصورة كبيرة المناطق الجغرافية لنفوذها لصالح عولمة وازدهار تجارة المخدرات، التي تتسع في كثير من الأحيان لتدخل في تكافل مع أنشطة إجرامية أخرى (تجارة الأسلحة، البغاء، تجارة البشر، ابتزاز المال، اختلاس الأموال العامة، المقامرات المحظورة، وتغلغل مافيا الكازينوهات، إلخ.). والواقع أن الحجم الهائل للأرباح غير المشروعة من المخدرات، وكذلك "تسلُّل" قطاعات بكاملها من الاقتصاد القانوني تتم السيطرة عليها الآن عن طريق إعادة توظيف رؤوس الأموال، يمكن أن يؤديا ذات يوم، نتيجة لديناميكا التراكم وللتركيز الملحوظ خلال العقدين الأخيرين، إلى وضع لا رجعة فيه: لن تعود أية دولة، أية قوة منظَّمة، في وضع يسمح لها بأن تقاوم، إذ أن جزءا كبيرا من الاقتصاد وأيضا من قوى النفوذ سوف ينتقل، في الشمال وفى الجنوب، عن طريق الغسيل، ليدور في فلك تجارة المخدرات. والحقيقة أن الصمت في هذا المجال يساوى مراعاة نفس المبدأ الذي تستند إليه سلطة المنظمات الإجرامية: قانون الصمت.
ولهذا فإن تجارة وتعاطى المخدرات يشكلان في رأيي أحد الأخطار الأكثر جدية التي تهدد كوكبنا، بكل نتائجها الكارثية على الصحة والتنمية والمجتمع. والحقيقة أنني بالغ التأثر إزاء هذا لأنني، باعتباري متخصصا في الكيمياء الحيوية، أعرف جيدا جدا ما هى آثار إدمان المخدرات على مراكز الاستقبال في المخ والإصابات غير القابلة للعلاج التي تنشأ ابتداءً من مستوى بعينه من التعاطي(14). وتضاف إلى هذه الشرور الآثار الوخيمة لانتشار الإيدز بين مدمني المخدرات الذين يستعملون المخدرات عن طريق الحقن في الأوردة. والشباب والتعليم والقيم أوّل الضحايا. إلا أن إدمان المخدرات يمثل أيضا جحيما لا يطاق بالنسبة للأسرة بكاملها. على أنه، في نهاية المطاف، تغدو الديمقراطية ذاتها هى المهددة بالخطر، ومعها السلام. وكما يشدد متخصص في هذا المجال: "لا يوجد اليوم نزاع محلى لا يرتبط إلى هذا الحد أو ذاك بتجارة المخدرات"(15). لقد صارت المخدرات صورة من صور العنف موجهة ليس فقط تجاه الأفراد بل أيضا تجاه المجتمع كله.
وتشكل المخدرات خطرا ليس فقط على البيئة البشرية، بل أيضا على الوسط الطبيعي. ففي بلدان عديدة، صار الانتشار الكثيف للمحاصيل المحظورة أحد الأسباب الرئيسية وراء إزالة الغابات، وتآكل التربة، وتلوث مياه الأنهار والمياه الجوفية بمبيدات الحشائش ومبيدات الآفات، وفقدان التنوع الأحيائي، والسرعة البالغة لتغير المحاصيل. ووفقا للحكومة الكولومبية فإنه في مقابل كل هكتار مزروع بنبات الكوكا يتم إحراق أربعة هكتارات من الغابات، ومقابل هكتار واحد مزروع بالماريجوانا يتم إحراق واحد ونصف هكتار من الغابات. ووفقا لتقرير لوزارة الخارجية الأمريكية فإن "زراعة الكوكا في ﭙ-;---;-----;---يرو، وبوليڤ-;---;-----;---يا، وكولومبيا مسئولة عن 90% من إجمالي إزالة الغابات المسجلة في هذه البلدان الثلاثة". ووفقا لمسئول أمريكي فإن "تجارة المخدرات هى العدو الرئيسي للبيئة، ومصدر إزالة الغابات، ومصدر التلويث الإجرامي لمجارى المياه بمواد سُمّية مستعملة في تصنيع المخدرات". وعلاوة على هذا، تعانى البيئة أيضا من الاستخدام المكثف لمبيدات الأوراق النباتية المستخدمة في إزالة زراعات المخدرات(16). غير أنه ينبغي التشديد على أنه في حالة المخدرات "الصناعية"، يغدو هذا الإجراء ضد زراعات المخدرات غير فعال. وعلى هذا فإن الطلب هو ما ينبغي تقليله أولا، من أجل القضاء عليه بعد ذلك. وبدلا من اتهام البلدان "المنتجة"، على البلدان "المستهلكة" إذن أن تستثمر في الوقاية وفى علاج مدمني المخدرات - العلاج الإنساني، الفعال، العلمي، أو "الطبي". إن كل مدمن مخدرات، مثل كل مريض، يجب أن يحصل، بأسرع ما يمكن، على الرعاية التي يحتاج إليها. والمطلوب تشجيع رؤية أخرى "للدفاع" لا تتمثل في الدفاع عن الحدود بل تتمثل في الدفاع عن المواطنين. وإلا فإننا سوف نتجه إلى وضع شاذ يتمثل في تجهيز معدات دفاعية ضخمة للدفاع عن مناطق يسود فيها انعدام الأمن، والظلم، والمعاناة.
ونحن نهتم اهتماما بالغا بالمشكلات المرتبطة بالمخدرات على وجه الخصوص، لأن هذه المشكلات تكون في كثير من الأحيان انعكاسا لإخفاق إستراتيجياتنا للتنمية وكذلك "لعدم قدرتنا على أن نكفل لكل شخص اندماجا اجتماعيا كافيا"(17)، كما يؤكد هيج دي جوڤ-;---;-----;---نيل Hugues de Jouvenel. وبطريقة مماثلة، جعلت ربحية هذه التجارة من المخدرات خيارا بديلا حقيقيا للتنمية، مهما كان وهميا بصورة إجرامية، إذ أنه يخلق أسواقا جديدة بما في ذلك في البلدان المنتجة. ففي حين أنه يبدو أن تعاطى المخدرات راكد الآن في جزء كبير من الشمال، حيث توجد مع ذلك أوسع سوق للمخدرات المحظورة في العالم، فإن "الأعداد الكبرى من المتعاطين يوجدون الآن في الجنوب"(18): وفقا للأمم المتحدة "لم تعد أعلى معدلات إدمان الهيروين موجودة في البلدان المتقدمة، بل بالأحرى في عدد من البلدان النامية في آسيا، مثل باكستان، كما لوحظت معدلات مرتفعة لزيادة الإسراف في تعاطى الهيروين في بعض أنحاء أفريقيا"(19). وعلى سبيل المثال، تبين دراسة متعددة التخصصات أجراها برنامج الأمم المتحدة للمكافحة الدولية للمخدرات أنه في باكستان، حيث كان إدمان الهيروين غير موجود تقريبا في 1979(20)، خلقت سواقط عبور الهيروين، خلال خمسة عشر عاما، سوقا من مليون ونصف من المتعاطين(21)، تدرّ أرباحا تصل إلى 1.2 مليار دولار في السنة؛ ويمكن أن نلاحظ ظواهر مماثلة في عدد كبير من البلدان المنتجة الأخرى، حيث يتم تعويض اعتدال أسعار المخدرات باتساع سوقها.
وكان لهبوط أسعار المواد الخام الزراعية أو المنجمية تأثير كبير على انفجار العرض. وبالفعل فإن الأرباح التي يمكن أن يجنيها الفلاحون من المخدرات تتجاوز الآن كثيرا الأرباح التي يمكن أن يتوقعوها من المحاصيل التقليدية. ولا يمثل الدخل المتولد عن إنتاج النباتات الأساسية للمخدرات في أحسن الأحوال إلا حوالي 3% من القيمة النهائية للمنتج المباع للمستهلك، ومع هذا فإنها تصل في المتوسط إلى خمسة أضعاف دخل المحاصيل التقليدية(22). وعندما لم يؤد هبوط الأسعار إلى إحلال المحاصيل فقد شجع أيضا على الهجرة الريفية التي تسهم في تضخم مدن الصفيح. وفى هذه الغابات الحضرية الجديدة، حيث تتلاقى كل طرق الإقصاء والتهميش، يتضخم حجم البطالة ونقص التوظيف. وهناك يلتقي شباب بلا أمل بنماذج القدوة السيئة المميزة للمافيا من قوة وعنف. وفى الجنوب والشمال، في الجيتووات الحضرية وشبه الحضرية، ومساكن الفاڤ-;---;-----;---يلا، ومدن الصفيح، و"أحياء المشاكل"، صارت تجارة المخدرات، رغم كل الأخطار التي تجرها وراءها، النشاط الاقتصادي الأكثر ربحا، إن لم يكن الوحيد بالنسبة لأشخاص بلا تأهيل، متسربين من التعليم، علاوة على أنهم ضحايا فعليون لتمييزات، ذات طابع اجتماعي أو إثنيّ، في سوق العمل.
والواقع أن تفاقم عدم المساواة بين بلدان الشمال الغنية وبلدان الجنوب الفقيرة مسئول إلى حد كبير عن نمو زراعة وإنتاج المخدرات. وبطريقة مماثلة فإن نمو المجتمعات المزدوجة، خاصة في قلب المدن الضخمة (الميجابولات) في الشمال والجنوب، يضاعف عدد المتعاطين والتجار. وهناك حقيقة مأساوية تتمثل في أن أغلب النزاعات المحلية وعددا من المنظمات الإرهابية يتم الآن تمويلها "بالأرباح الهائلة" لتجارة المخدرات، التي تمثل أيضا بصورة غير مباشرة مرتعا وخيما لأوبئة عامة كبرى. وفى أفغانستان، كان الإنتاج السنوي من الأفيون حوالي 300 طن، إلا أنه تضاعف إلى عشرة أمثال منذ بداية الحرب(23). وهكذا تبدو المخدرات وكأنها حبل العقد المتشابكة الذي يربط الشر بسوء الحظ و"يوجد بالقوة" نتائج كل الويلات الاجتماعية. وهى تهدد بالخطر حتى معنى كل برنامج تعليمي وكل مشروع إنساني، وتقوض فكرة التقدم ذاتها بتقليص فرص الأجيال المقبلة. وتشهد كل هذه العوامل لصالح عمل سريع ومنسق على النطاق العالمي.
إزالة العرض
أم القضاء على الطلب
للقيام بعمل فعال ضد المخدرات، يجب أوّلا أن نفتح أعيننا أكثر، وأن نفتح عيون الآخرين. وعلينا أن نناقش هذه المشكلة بقدر أكبر كثيرا من الصرامة العلمية والوعي النقدي، في معاهد إنتاج المعرفة، في المدرسة، في الجامعة، في كل قنوات الإعلام الجماهيري: يجب أن نوضح بجلاء، وبلا كلل أو ملل، الأضرار الحقيقية التي أدت إليها مختلف المخدرات وما ينشأ عنها من عبودية معنوية وجسمانية وتدمير للأبدان والمواقف والقيم. وعلينا أن نقوم، كل يوم بلا كلل أو ملل، بإلقاء الضوء على الأضرار التي تلحقها بالمجتمع - ابتداءً من المعاناة الهائلة لأسر مدمني المخدرات - وكذلك بالفرد. وعلينا أن نكف عن أن نصنع من المخدرات إكسيرا ملعونا ولكن جذابا، وعلينا بالتالي أن نتخلى عن إضفاء طابع شيطاني عليها، كما نفعل في أكثر الأحيان، دون أن ندرك بوضوح أبدا أننا نصنع منها بذلك "تميمة فتيشية" لكل رغبة تنتهك العرف الاجتماعي. وعندما نصيح كثيرا "الذئب!" فإننا لا ندفع الشباب إلى الهرب بقدر ما ندفعهم إلى الانقضاض: ويبين مسح أجراه مؤخرا معهد فرنسي لاستطلاعات الرأي العام أنه في رأى 52% و44% على الترتيب ممن يتعاطون المخدرات يتمثل الدافع الأول في اللذة وحب الاستطلاع(24). وعلينا أن نبدد الأوهام التي تحيط بالمخدرات، بأن نشرح للأطفال أنها قبل كل شئ إنكار للوجود، كما تشدد ريتا ليڤ-;---;-----;---ى-مونتالسينى Rita Levi- Montalcini، الحائزة على جائزة نوبل في الطب، في مقالها الرائع الذي أهدته إلى الشباب والذي يحمل بالتحديد عنوان: "مستقبلك". وسوف تكف المخدرات عن إغواء المراهقين حالما يفهمون أنها قبل كل شئ "إضعاف للقدرة على الفعل"، كما كان سيقول سپينوزا Spinoza، الذي عَرَّف الحزن بهذه الكلمات في كتابه: علم الأخلاق.
وهناك من يعتبرون أنه لم يعد ينبغي حظر المخدرات: وفقا لهؤلاء الخصوم الليبراليين للتحريم فإنه باستعادة سيطرة الاقتصاد القانوني على المخدرات يمكن النضال بصورة أفضل ضد الشرور الناشئة عن عدم شرعية السوق، مثل إثراء التجار والوسطاء (الذين يحفزون توسع هذه التجارة)، وإجرامية وعنف وتهميش مدمني المخدرات، وتجارة الأسلحة، والإرهاب، وشبهة الفساد التي تشتد وطأتها في عدد من البلدان في مجالات واسعة من الحياة العامة والسياسية. وبهذا الصدد، يشكو تقرير 1997 للمجلس الدولي لمكافحة المخدرات من وجود "مناخ عام من القبول إزاء الإسراف في تعاطى المخدرات أو التسامح معه على أقل تقدير"(25). وبالفعل فإنه لم يعد بوسعنا أن نعبث فيما يتعلق بالمخدرات تماما كما لم يعد بوسعنا أن نفعل هذا فيما يتعلق بالأسلحة أو العقاقير الطبية، والحقيقة أن خطر حدوث انفجار في تعاطى المخدرات كبير جدا. وهذا هو السبب في أن المخدرات لا ينبغي تركها لقوى السوق، القانونية أو غير القانونية. وفى هذا المجال لا نستطيع أن نلعب دور من يطلق الجن من القمقم.
ويطالب العديد من المعلقين الآن بإحلال تدابير لتقليل الآثار الوخيمة للمخدرات محل سياسات التحريم، منطلقين من وجهة نظر مؤداها "أن المخدرات لن تختفي سريعا، وأنه لا خيار آخر لنا سوى أن نتعلم كيف نعيش معها حتى لا تحدث سوى أقل ضرر ممكن"(26). والحقيقة أن سياسة المنع الكلى، التي لا تستند إلى تعبئة وطنية حازمة، يمكن أن تفشل، إذ أنها لن تنجح، من خلال إحداث ندرة في عرض المخدرات أمام طلب شديد، إلا في جعل هذه التجارة أكثر ربحية بالنسبة لشبكات جديدة تحل محل الشبكات السابقة. ومهما اعتقدنا أننا نحارب الجريمة المنظمة فإننا نعزز بهذا قوتها المالية وقدراتها على نشر الفساد، دافعين بقوة أقساما واسعة من المجتمع إلى الجنوح.
ومن جهة أخرى، يشدد تقرير حديث على أنه "رغم بعض النجاحات الإقليمية، لا يشكل حظر العرض مفتاحا لحل المشكلات الناشئة عن المخدرات المحظورة في العالم. إنه بالأحرى وصفة لتمويل مافيات المخدرات، والفلاحين المنتجين، وصغار التجار، والمهربين"(27). ولم تعد هذه السياسة بلا ثمن، إذ أنه يتم إنفاق مليارات الدولارات كل عام من أجل حظر العرض، بنتائج قلما تكون مقنعة: تجريم جزء متزايد من المجتمع ("قاع المدينة" inner city، الجيتووات، الأقليات، الشباب، التفاعل بين التعاطي و"التجارة الصغيرة"، إلخ.)، وما ينسجم معه من تضخم النظام القمعي الإصلاحي، الذي يعاقب، في نهاية الأمر، مدمني المخدرات أكثر من التجار. ينبغي إذن تغيير كل شئ: من جهة، بتشجيع نظام قانوني وإصلاحي فعال ضد التجار، على كل المستويات؛ ومن جهة أخرى، بالعمل بتدابير وقائية، ولكن أيضا علاجية، على نطاق واسع. وليكن إصرارنا على هذه النقطة: ينبغي علاج مدمني المخدرات - والموافقة لهذا الغرض على الاستثمارات الضرورية - بتعبئة كل الوسائل اللازمة، سواء أكانت طبية أم علمية، أم غير ذلك.
وينبغي إذن أن نتعلم كيف نتغلب على مشكلات إدمان المخدرات في مجتمعاتنا، بتقليل هذه المشكلات إلى حد أدنى، خاصة بتفادي تجريم مدمني المخدرات. وعلى الصعيد الصحي دون سواه، تفرض نفسها سياسات عامة واقعية بشأن "الحدّ من الآثار الوخيمة" للاستجابة لواقع أن الغياب الكلى للرقابة على سوق المخدرات عامل جبار من عوامل تفشي الإيدز وأوبئة عامة أخرى. وأعتقد ، علاوة على هذا، أنه آن الأوان لإنعام التفكير في اتفاق دولي يتيح، تحت الرقابة الطبية الصارمة، توزيع المخدرات على المدمنين الذين يعجزون عن كسر دائرة الاعتياد(28). وينبغي معاملة مدمني المخدرات على أنهم مرضى وليس على أنهم مجرمون. وهؤلاء المرضى لهم بالفعل حق الاستفادة بمتابعة طبية ومساعدة اجتماعية شأنهم في هذا شأن كل كائن بشرى يعانى من مرض قابل للعلاج. ومثل هذا الإجراء يمكن أن يجعل العنف والجنوح يتراجعان، وأن يسهم في تحطيم السوق غير الشرعية للمخدرات، وبالتالي المصدر الرئيسي لأرباح الجريمة المنظمة. وتكمن صعوبة مثل هذه السياسة في نقطة واحدة: ينبغي أن يكون الاتفاق دوليا، لأنه لم يعد يمكن تصور سياسات النضال ضد المخدرات داخل أطر قومية خالصة. ولا شك في أن تحقيق التناغم بين سياسات الدول شرط للفاعلية في مجال صار الاعتماد المتبادل فيه قويا بصورة خاصة(29).
ومن الجلي أن مثل هذه السياسة يجب أن تكون مصحوبة ببحث معمق يجريه المجتمع العلمي والطبي، بتنسيق وثيق مع السلطات الوطنية والدولية المعنية، حول الأضرار النوعية للمخدرات. وربما سمح مثل هذا البحث، كما أشارت هيئة استشارية فرنسية، بوضع لوائح خاصة بكل مادة مخدرة "آخذين في الاعتبار مدى سُمّيتها، ومخاطر الإدمان المرتبطة بتعاطيها، والخطر الذي يمثله على التكيف مع المجتمع، والأخطار التي يلحقها تعاطيها بالغير"(30).
على أن الوقاية، عن طريق تعليم وإعلام الجمهور، ضرورية أيضا لهذا المشروع. ونحن بحاجة إلى مساعدة وسائل الإعلام، وكذلك مساعدة السلطات البلدية والمحلية لتعزيز ما لا غنى عنه من الوعي، والالتزام، والمشاركة، ولتفادى النظر إلى إدمان المخدرات على أنه أمر عادى، هذا العذر المألوف من مجتمع يتهاون مع تدهور ومعاناة أولئك الذين يرمزون لمستقبله: الشباب والأطفال. ويشدد ميثاق الشباب للقرن الحادي والعشرين المتحرر من المخدرات (1997)، الذي لقي تأييد اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة للمكافحة الدولية للمخدرات، عن حق، على أن "التجارب الأولى للمخدرات تكون في كثير من الأحيان بدافع الفضول، والفراغ، وعدم الثقة بالنفس، وعدم مبالاة وعنف المحيط الاجتماعي المباشر، ولكن أيضا بدافع مصاعب ومعاناة الحياة اليومية"(31).
ومع ذلك، يواصل عدد كبير من الخبراء والمؤسسات منح الأولوية لخفض العرض. ويتمثل أحد الحلول المطروحة لخفض إنتاج المخدرات وبالتالي عرضها في تنمية محاصيل بديلة مربحة بصورة كافية، وأسواق جديدة للفلاحين الذين يعيشون على الخشخاش والكوكا. ولتحقيق هذا ينبغي بالأحرى إشراك الفلاحين المعنيين في اختيار المحاصيل الجديدة، خاصة وأن إنتاج النباتات المخدرة ترتبط في كثير من الأحيان بتقاليد ثقافية، كما ينبغي توعيتهم بالأخطار التي تنطوي عليها المخدرات بالنسبة لصحتهم، وحياة مجتمعهم المحلى، وأيضا بالنسبة لسلامة البشرية قاطبة. ومن المؤسف أن سياسات القضاء على المزارع، والمساعدة على إحلال المحاصيل القانونية، مع تجاهل العوامل الثقافية للتنمية، والبيئة الاجتماعية المحلية، ومقتضيات التنمية المستديمة، وأيضا بسذاجة المركزية البشرية، قد فشلت في كثير من الأحيان.
وفى هذه الأوضاع، يبدو من الضروري إنشاء آلية للإعانات المالية والأسعار المضمونة لمحاصيل جديدة واجتذاب موارد وطنية ودولية. وقد يصلح، كمثال بهذا الصدد، برنامج التنمية PLANTE (المشروع الوطني للتنمية البديلة) الذي بدأ العمل به في 1996. وفى مثل هذا الوضع، يمكن أن يقوم المجتمع الدولي، مشاركا بدعمه المالي، بالاستثمار في المستقبل محققا النجاح والربح ومتحليا بروح الرؤية الطويلة الأجل.
والواقع أن إحلال المحاصيل، إذا لم تواكبه تدابير هيكلية مصاحبة مع دعم دولي، يبدو محكوما عليه عمليا بالإخفاق لأربعة أسباب رئيسية. ويبدو أنه لا توجد أية حكومة مستعدة لدفع الثمن الباهظ لإحلال المحاصيل على نطاق عالمي، إذا كان لا مناص من الدعم المالي لهذا الإحلال. ولا يبدو أي إنتاج زراعي قادرا على التنافس، بأسعار السوق، مع أسعار النباتات الأساسية للمخدرات. وعلاوة على هذا فإن اقتصاد عدد من البلدان المنتجة، وهى فضلا عن هذا بلدان فقيرة جدا غالبا، يقوم بصورة متزايدة على المخدرات. كما أن من المعروف، كما تشهد بعض التقارير التي تم إعدادها للأمم المتحدة(32)، أن صناعة المخدرات تمثل بالنسبة لبعض البلدان ما يصل إلى 20% من الناتج القومي الإجمالي. غير أن هناك ما هو أسوأ: حتى عندما ينتهي القضاء على المحاصيل في أحد البلدان فإنه لا يؤدي إلا إلى نتائج خادعة ومضللة، لأن الإنتاج ينتقل إلى مكان آخر، حتى في بلد مجاور في كثير من الأحيان(33).
كل خطر عالمي يحتاج إلى حل عالمي. وكل خطر كبير يستدعى حلولا كبيرة. والحقيقة أن عددا كبيرا من البلدان أعضاء في تحالفات دولية كبرى تضمن حدودها وأمنها. وإذا أردنا أن نستهلّ القرن الجديد ببداية جديدة، فإننا سنكون بحاجة إلى عقد تحالفات مماثلة من أجل مكافحة المخدرات، تماما كما سنكون بحاجة إليها لمكافحة الكوارث من كل نوع على نطاق العالم. ولا يجوز أن تظل مشكلة المخدرات محصورة في جدل بيزنطي حول المسئولية الخاصة بالبلدان المنتجة والبلدان "المستهلكة": الحقيقة أن مثل هذه المماحكات صارت عبثية تماما لأن الحدود بين هذه البلدان المنتجة والبلدان "المستهلكة" تغدو مطموسة بصورة متزايدة منذ انفجار التعاطي في الجنوب. إذن دعونا بالأحرى نثابر على النضال ضد أسباب كل من العرض والطلب. دعونا نخلق شروطا مقبولة للحياة من أجل الفلاحين الذين تغريهم المحاصيل المحظورة الأكثر ربحية، ومن أجل الوسطاء الذين لا يملكون في كثير من الأحيان، في عدد من البلدان أو المجتمعات المحلية المحرومة، خيارا آخر للدخل - الذي لا يشكل مبررا بحال من الأحوال -، ومن أجل المتعاطين الذين يجهلون، نتيجة للافتقار إلى التعليم والمعلومات، أخطار المخدرات أو الذين يشعرون بأنهم منبوذون من مجتمع لا يتمتعون فيه بوضع يسمح لهم بصياغة حياتهم. دعونا نقدم لهؤلاء جميعا مستقبلا وأملا. والحقيقة أن النتائج المفزعة لإدمان المخدرات على الكرامة الإنسانية تشكل برهانا قويا على أهمية عمل وقائي يمرّ بالتعليم منذ الصغر.
ودعونا نتذكر أن العمل الدولي ضد تجارة المخدرات قد بدأ منذ ثمانين عاما، عندما تم إخضاع تجارة الأفيون لنظام الولاية القضائية الدولية. ومنذ ذلك الحين، خصص النظام المتعدد الأطراف عددا من الاتفاقيات وبرامج العمل ضد هذه التجارة التي ينبغي النظر إليها، في أعلى مستويات المسئولية، على أنها جريمة ضد الإنسانية. وقد أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بنفسها في تسعينيات القرن العشرين "عقد الأمم المتحدة ضد المخدرات". فهل كانت النتائج على مستوى التوقعات؟
وتتمثل الوسيلة الأكثر فعالية للنضال ضد هذه التجارة، كما أعلن القاضي الإيطالي جيوڤ-;---;-----;---اني فالكوني Giovanni Falcone، قبل اغتياله على أيدي مافيا جمعية كوسا نوسترا Cosa Nostra، بوقت قصير: "إن تدمير القوة المالية للجريمة المنظمة يشترط بصورة مسبقة تعاونا دوليا قويا"(34). ومثل هذا التعاون وحده يمكن أن يمنع تكوين "شبكة التواطؤ" هذه التي تتألف من أعمال الفساد الغامضة وعلاقات التضامن غير المعترف بها والتي وصفها الكاتب الصقلي الكبير ليوناردو شياشيا Leonardo Sciascia في رواية منشورة في 1971، بعنوان "السياق". ذلك أن شبكة التواطؤ هذه هى التي تزعزع المؤسسات الديمقراطية وتهدد ممثليها الشرعيين(35).
وكان القاضي فالكوني يضيف أن من الضروري، من هذا المنظور، تشجيع وتنسيق "المساعي التي تتمثل غايتها في تحديد ومصادرة الثروات ذات المصدر غير المشروع"، مما يقتضي "مواءمة القوانين الدولية وتحقيق تعاون دولي دائم". وكان جيوڤ-;---;-----;---اني فالكوني يطالب "قبل كل شئ بإزالة الفراديس الضريبية التي عرقلت، حتى الآن، المحاولات الأكثر جدية لبعض البلدان للحد من تدفق الأموال الناشئة عن التجارات غير المشروعة". ووفقا له فإن "هذا نضال يهم كل أعضاء المجتمع الدولي، لأنه يتوقف على نتيجته تدمير الجريمة المنظمة أو، على الأقل، حصرها بحيث لا تعود تشكل خطرا جديا على المجتمع". ودعونا نلاحظ أنه لا يبدو أن نصائح وتضحية القاضي فالكوني قد صارت عديمة الجدوى تماما، إذ أنه، في 1995، قام القضاء الإيطالي بتكثيف مصادرات الممتلكات ذات المصدر غير المشروع، كما يبدو أن أرباح أربع منظمات إجرامية إيطالية رئيسية (قدرتها إدارة مباحث مكافحة المافيا الإيطالية بعشرة تريليونات ليرة، أي 30% من رقم أعمال تم تقديره بثلاثين تريليون ليرة في 1994) قد تراجعت تراجعا هائلا في 1995(36).
وفضلا عن هذا، لا يقتصر إنتاج المخدرات، وإلى حد بعيد، على المخدرات ذات المصدر الطبيعي. وقد أبرز المجلس الدولي لمكافحة المخدرات في تقريري 1996 و1997 الانتشار المثير للقلق في كل أنحاء العالم للمخدرات التخليقية - خاصة الأمفيتامينات أو المنتجات المشتقة - مثل ecstasy الذي يتم تصنيعه في معامل سرية. وتغذى هذه المخدرات سوقا محظورة مربحة جدا للتجار حققت بين الشباب نجاحا مثيرا جدا للقلق. وتنظر وزارة الخارجية الأمريكية إلى الأمفيتامينات، بسبب سهولة تصنيعها والزيادة الوحشية للطلب عليها، على أنها في طريقها إلى أن تصير "كابوس القرن الجديد فيما يتعلق بمكافحة المخدرات"(37). وإزاء هذا الخطر المتعاظم - ومن المفارقات أنه يستفيد من التقدم في مجال الأبحاث الصيدلانية - سوف تفرض نفسها دون شك تدابير أخرى للمكافحة، والإعلام، والأبحاث، والتعليم، وعلى وجه الخصوص في اتجاه الشباب.
لا وجود، إذن، لحل سحري لمشكلة المخدرات. وبقدر ما سوف يوجد طلب فإن العرض سوف يجاريه. وكما يشير برنامج الأمم المتحدة للتنمية في تقرير معبر فإن "الحل الحقيقي يفرض الهجوم على أسباب إدمان المخدرات والقضاء على الفقر الذي يدفع المزارعين إلى التورط في إنتاج المخدرات"(38).
ونحن قلقون بصورة خاصة من النتائج المنطقية لتعاطى المخدرات فيما يتعلق بمصير أطفال الشوارع الذين يصل عددهم اليوم إلى أكثر من 100 مليون والذين يكافحون كل يوم من أجل تأمين بقائهم في شروط من الحرمان الكلى. وهؤلاء الأطفال هم أول المهدَّدين بالعنف، والاستغلال الجنسي والاقتصادي، والإيدز، والجوع، والعزلة، وشرور الإقصاء، والأمية، والمخدرات. إن هؤلاء الأطفال هم "السمكة الذهبية" التي يتحدث عنها الكاتب لوكليزيو Le Clézio، والتي يسعى إلى إيقاعها في شباكهم صيادو السمك المشئومون، هؤلاء المطاردون للبراءة. وينبغي عمل كل شئ من شأنه أن يجعل هؤلاء الأطفال يندمجون تماما في المجتمع، وأن يتعلموا كيف يعيشون فيه، وأن يحصلوا على التعليم، وألا يتلاعب بهم بعد الآن المجرمون الذين يستخدمونهم في مشروعاتهم. وهؤلاء الأخيرون هم الذين يستحقون العقاب بكل صرامة لأنهم بتدميرهم للبراءة يقضون على الإيمان والثقة بالمستقبل الذي يسعون إلى تدميره.
والحقيقة أن النضال ضد إدمان المخدرات - تماما مثل النضال ضد الإيدز، أو النضال ضد هذه الفضيحة الجماعية التي يمثلها أطفال الشوارع والأطفال المستغلون جنسيا أو صناعيا - لن يكون فعالا إن لم يستند إلى تحالف كبير لكل البلدان، مترجما إلى الأفعال إرادة سياسية ترفض الاعتراف بالفشل، تماما مثلما ندافع عن بلدنا عندما تكون السيادة الوطنية في خطر. وبالفعل ففي كل الحالات التي ذكرناها أعلاه تكون الكرامة الوطنية هى المهددة بالخطر، ولا يمكن الدفاع عن الكرامة الوطنية بالمحبة ببساطة، أو بالاشتراك في اليانصيب الخيري والمهرجانات. وتتمثل أفضل طريقة للاحتفال بحقوق الإنسان، التي قمنا في 1998 بتخليد الذكرى الخمسين لإعلانها، في قرار على نطاق دولي يهدف إلى أن تكفل لحقوق الإنسان الممارسة الفعلية لكل الكائنات البشرية. وليس الباقي سوى احتفالات وبلاغة لا طائل تحتها. وسوف يتعين أن يكون برنامج الأمم المتحدة للمكافحة الدولية للمخدرات أحد أقوى برامج كل منظومة الأمم المتحدة، من زاوية سلطته وكذلك من زاوية موارده. وينطبق الشيء نفسه في مجال آخر، على برنامج الأمم المتحدة للبيئة. والواقع أن الوسائل الهزيلة التي في متناول هذين البرنامجين تعكس افتقارا إلى الإرادة السياسية وإلى الوعي العام فيما يتعلق بالوسائل الضرورية للنضال ضد المخدرات أو المحافظة على بيئة الكرة الأرضية - ونحن جميعا مسئولون، بدرجات متفاوتة، عن هذا العجز المزدوج.
وفى سبيل النضال ضد المشكلات المرتبطة بالمخدرات، ينبغي إذن الهجوم على أسباب التهميش والحرمان عن طريق الاستثمار في نوعية الحياة ورفاهية الشباب، وبصورة خاصة في مجال الأنشطة الرياضية وبرامج التدريب. وتقع على اليونسكو مسئولية تيسير النضال ضد الطلب على المخدرات عن طريق التعليم، وعلى وجه الخصوص عن طريق التعليم الوقائي. إذ أن التعليم وإن كان أول ضحايا المخدرات فإنه أيضا أفضل ترياق ضدها. والواقع أنه بفضل التعليم يستطيع الشباب معرفة الأضرار الحقيقية للمخدرات، وبفضل التعليم أيضا يستطيع الشباب أن يتفادوا "الاكتئاب" وأن يجدوا طريقهم في المجتمع، وبفضل التعليم، أخيرا، يستطيع الشباب اكتساب المعارف والمواقف الأخلاقية التي سوف تتيح لهم تقوية شخصيتهم والإمساك بمصيرهم في أيديهم. وبدلا من دفع ثمن الحرب والإفراط في الإنفاق على أسلحة الدفاع، دعونا نستثمر في الدفاع السلمي عن الأفراد والشباب، وفى الأمن الثقافي، وفى الحرية الروحية الحقيقية التي تيسر الوصول إلى عالم المعرفة المتحرر من كل عبودية. وحالما يتم إدراك أن هدف التعليم يتمثل حقا في "اكتساب المرء السيطرة على حياته"، فإنه يمكن بالتعليم محاربة كل إدمان: إدمان الكحول، والتبغ، والمخدرات، والطوائف، إلخ. إذ أنه عن طريق التعليم يمكن أن نتعلم الحرية والمسئولية.
وأكثر من أي وقت مضى، تغدو المسألة الجوهرية هى الإرادة السياسية للحكومات في مجال الاتفاق على حلول فعالة ووضعها موضع التطبيق. وأكثر من أي وقت مضى، تقوم اليونسكو بدور رئيسي في إطار مجالات اختصاصه: التعليم والمعلومات ضد الإسراف في تعاطى المخدرات، جهود الإعلام بين السكان، إسهام العلوم الاجتماعية والبحث العلمي من أجل المواءمة بصورة أفضل بين برامج العمل والإستراتيجيات الوطنية والعالمية، ومن أجل تقييم الأضرار النوعية للمخدرات، وهو ما يمثل موضوعا للمجادلات(39).
على أنني سأكون صريحا: لا يستطيع التعليم والإعلام وحدهما، حتى في الأجل الطويل، القيام بكل شئ في هذا المجال، كما أن التنمية لا تستطيع ذلك إذا جرى اختزالها إلى مجرد الرخاء الاقتصادي. وحتى دون أن نشير إلى كل العقول العظيمة التي استسلمت لإغراء "الفراديس المفتعلة"، من المذهل أن نكتشف أن عددا من الأشخاص الحاصلين على مستوى عال من التعليم، والمتمتعين بدخل مرتفع، يتعاطون المخدرات في عدد من البلدان. والحقيقة أن القلق النفسي الذي يعبر عنه إدمان المخدرات لا يمكن الشفاء منه بالمعرفة وحدها. إذ أن المعرفة ذاتها، إذا ما أعدنا صياغة الشاعر هنرى ميشو Henri Michaux، يمكن أن تقود إلى الهاوية. وإذا كان للقرن الحادي والعشرين أن يتغلب على إدمان المخدرات (وهذا ما يشك فيه بعض خبراء "قصص الخيال العلمي"، الذين يتصورون على العكس توسُّع شكل من "إدمان المخدرات الخفيفة" تحت سيطرة علوم الجهاز العصبي وعلم الصيدلانيات)، فسوف يكون عليه أن يتغلب على العدمية، والركض وراء الاستهلاك، وخواء البحث المحموم عن السُّكْر والنشوة. وسيكون من الواجب حفز "تعبئة عالمية" توحد الحكومات، والبرلمانات، ووسائل الإعلام، والمشروعات، والمجتمع بأسره. وسيكون من الواجب بصورة خاصة أن نعطى من جديد معنى للحياة.
ولا شك في أن التعليم والتنمية الاقتصادية والرفاهية المادية، حتى وإن كانت أدوات رئيسية للوقاية، لن تكفى أبدا لاستئصال المخدرات. والحقيقة أن مثل هذا الاعتقاد معناه تصور أنه يمكن منع الكائن البشرى من السير على حافة الهاوية، من السعي وراء الإغراء أو النشوة أو الرعب، أو، ببساطة أكثر، من تسميم نفسه. ينبغي إذن بناء الدفاعات عن الإنسانية داخل روح البشر، خاصة وأن المخدرات تغرى أرواح المتعاطين بقدر ما تغرى أجسادهم: ويفترض هذا ازدهار حكمة جديدة وأخلاق جديدة. غير أنه ينبغي أيضا بناء الدفاعات عن الإنسانية في صميم الكرامة المستعادة للبشر: بكبح جماح الفقر المدقع، والعنصرية، والتهميش. والحقيقة أن النضال ضد المخدرات، هذا المصدر للدمار والمعاناة والحرب، إنما يعنى أيضا الاستجابة لهدف مؤسسي اليونسكو: هذا الهدف الذي يتمثل ببساطة في بناء السلام والتنمية على أساس التضامن الفكري والأخلاقي للبشرية. ويعنى النضال ضد المخدرات، من خلال جهود شاملة متضافرة، بوسائل إنسانية ومالية على مستوى الكارثة، حماية الشباب، أولادنا وبناتنا، مستقبلنا. ويعنى هذا تعجيل الانتقال من ثقافة عنف وحرب وإهانة إلى ثقافة سلام وعدم عنف وكرامة للجميع.
منطلقات وتوصيات
خفض الطلب على المخدرات داخل البلدان المستهلكة خاصة عن طريق التعليم والوقاية والعلاج.
تعليم وتوعية الأطفال والشباب فيما يتعلق بأخطار تعاطى المخدرات.
تعبئة المجتمع الدولي ضد السببين الرئيسيين لتعاطى المخدرات وتتمثل في التهميش والفقر، في البيئة الحضرية كما في البيئة الريفية.
تطوير آليات نوعية على النطاق الدولي والإقليمي والقومي للنضال ضد الفساد، وغسيل أموال المخدرات، والجريمة المنظمة. وتشجيع التصديق على، وتنفيذ، معاهدات دولية بشأن مكافحة المخدرات وعقد اتفاقيات دولية ترمى إلى تدمير السلطة المالية للجريمة المنظمة.
مساعدة مدمني المخدرات في التغلب على إدمانهم وعلى أن ينتهجوا بصورة متواصلة أسلوب حياة متحرر من تعاطى المخدرات، من خلال برامج ملائمة للتعليم والعلاج والتدريب المهني.
الحد من الآثار الوخيمة لتجارة وتعاطى المخدرات (النمو المالي للجريمة المنظمة، التجريم، الجنوح، الأمراض الاجتماعية) وبحث إمكانية التوصل، على النطاق الدولي، إلى اتفاقية تسمح تحت الإشراف الطبي، بتقديم كميات محدودة من المخدرات للمدمنين الذين يحتاجون إليها.
الدراسة الجادة لاعتماد السياسات المسماة "بالحد من الآثار الضارة" المطبقة في بلدان مختلفة كسياسة ولبرنامج عالمي لمكافحة المخدرات.
تشجيع البحث العلمي والطبي بشأن الأضرار النوعية للمخدرات والبحث العلمي بشأن تأثير زراعة المخدرات على البيئة.
التفكير بجدية في عقد قمة عالمية بشأن المخدرات، تنظمها الأمم المتحدة (برنامج الأمم المتحدة للمكافحة الدولية للمخدرات ومنظمة الصحة العالمية)، تأخذ في الاعتبار كل الأبعاد، القديمة والجديدة، لمشكلة تعاطى وتجارة المخدرات. وتعزيز وسائل وسلطات برنامج الأمم المتحدة للمكافحة الدولية للمخدرات.
حفز "تعبئة عالمية" للحكومات والبرلمانات ووسائل الإعلام والمشروعات والمجتمع ضد المخدرات والإدمان.
إشارات الفصل 6
(1) المقصود هنا ب- "المخدرات" drogues المواد المخدرة والعقاقير ذات التأثير النفسي كما تحددها الاتفاقيات الدولية المعنية.
(2) ONU, Rapport mondial sur les drogues 1997, Oxford University Press, 1997. Le Monde, 27 juin 1997.
(3) É-;---;-----;---ric de la Maisonneuve, La Violence qui vient, Paris, Arléa, 1997, p. 148.
(4) Christian de Brie, “La drogue dopée par le marché”, Le Monde diplomatique, avril 1996.
(5) Hugues de Jouvenel, “L inextricable marché des drogues illicites”, Futuribles, n° 185, mars 1994 (numéro spécial “Géopolitique et économie politique de la drogue“).
(6) ONU, Rapport mondial sur les drogues 1997.
(7) Allocution du ---dir---ecteur général de l UNESCO à la 58e session de l Organe international de contrôle des stupéfiants des Nations Unies (OICS), Vienne, 9 mai 1995.
(8) Cité dans PNUD, Rapport mondial sur le développement humain 1994, Paris, Economica, 1994, p. 39 ---;--- UN Chronicle, n° 3, 1996.
(9) Alain Labrousse, Les Idées en mouvement, n° 35, janvier 1996.
(10) A. Labrousse, entretien au Nouvel Observateur, 19-25 septembre 1996.
(11) Voir: “The Mob on Wall Street”, Business Week, décembre 16, 1996 ---;--- Laurent Zecchini, “La "pieuvre" mafieuse prolifère à Wall Street”, Le Monde, 3 janvier 1997---;--- Christian de Brie, op. cit. ---;--- LaMond Tullis, Unintended Consequences: Illegal Drugs and Drug Policies in Nine Countries, Studies on the Impact of the Illegal Drug Trade, LaMond Tullis, Series Editor, United Nations University and United Nations Research Institute for Social Development, Lynne Rienner Publishers, Londres, 1995.
(12) De Brie, dossier Monde diplomatique, février 1996.
(13) Département d É-;---;-----;---tat américain, “International Narcotics Control Strategy Report, 1996”, mars 1997.
(14) Allocution du ---dir---ecteur général de l UNESCO à la 58e session de l Organe international de contrôle des stupéfiants des Nations Unies (OICS), Vienne, 9 mai 1995.
(15) Alain Labrousse, op. cit.
(16) Données extraites de l ouvrage de Viviana Macias Vences, “Le control de drogas en la zona andina: una propuesta ecologica”, mémoire de thèse, Universidad Iberoamericana, Mexico, 1994.
(17) De Jouvenel, op. cit.
(18) Pierre Kopp, Michel Schiray, “Les sciences sociales face à la drogue”, futuribles, n° 185, mars 1994, p. 5-7.
(19) Rapport du secrétaire général de l ONU, 4 juin 1996.
(20) Alain Labrousse, “Géopolitique de la drogue: Les contradictions des politiques de "guerre à la drogue“, Futuribles, mars 1994, p. 9-22.
(21) Labrousse, dans Les Idées en mouvement, n° 35, janvier 1996.
(22) De Brie, op. cit. ---;--- de Jouvenel, op. cit.
(23) Labrousse, Les Idées en mouvement, n° 35, janvier 1996.
(24) Patrick Piro, dans Les Idées en mouvement, n° 35, janvier 1996.
(25) Rapport de l Organe international de contrôle des stupéfiants pour 1997, par. 20.
(26) Ethan A. Nadelmann, “Commonsense drug policy”, Foreign Affairs, janvier/février 1998. Anthony Lewis, “The war on drugs is being lost”, International Herald Tribune, 6 janvier 1998.
(27) LaMond Tullis, op. cit., p. 183.
(28) Voir l allocution du ---dir---ecteur général de l UNESCO à la 58e session de l Organe international de contrôle des stupéfiants des Nations Unies (OICS), Vienne, 9 mai 1995.
(29) Kopp et Schiray, op. cit.
(30) Conclusions du Comité consultatif national d éthique (CCNE), novembre 1994, cité dans: Observatoire géopolitique des drogues. Géopolitique des drogues 1995, Paris,1995.
(31) Charte coordonnée par l ONG Environnement sans frontière, avec le soutien de l UNESCO et du Programme des Nations Unies pour le contrôle international des drogues (PNUCID). : كما تشدد البلدان الموقعة على أن "الاتجار بالمخدرات وتعاطيها يشكلان خطرا على تنمية وتقدم مجتمعاتنا، وأنها تفضي دائما إلى المزيد من العنف، والإجرام، والاستغلال، والتعديات الأخرى على حقوقنا" ويقتضي النضال ضد المخدرات ضمان "السلام، والحرية، والديمقراطية، والتضامن، والعدل، وحماية البيئة، والحصول على الوظيفة".
(32) PNUD, Rapport mondial sur le développement humain, 1994.
(33) Ibid.
(34) Giovanni Falcone, “Qu est-ce que la Mafia ?”, Conférence au Bundeskriminalamt (Wiesbaden), 1990, Frankfurter Allgemeine Zeitung, 27 mai 1992, reproduite dans la revue Esprit, n° 185, octobre 1992, p. 111-118.
(35) Voir Le Monde, 10 février 1998, “Cadavres exquis”. Cadavres exquis est le titre du film de Francesco Rosi inspire du roman de Leonardo Sciascia.
(36) Libération, 13/9/95.
(37) Département d É-;---;-----;---tat des É-;---;-----;---tats-Unis, “International narcotics control strategy report, 1996”, mars 1997.
(38) PNUD, Rapport mondial sur le développement humain, 1994.
(39) Voir, à titre d exemple: “Marijuana: special report”, dans The New Scientist, 21 février 1998.
#خليل_كلفت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟