|
ديمقراطية الموجة الرابعة بين حلم الإصلاح العربي ومنطق الطموح البروميثي الأمريكي
سعد سلوم
الحوار المتمدن-العدد: 1348 - 2005 / 10 / 15 - 11:08
المحور:
ملف 15-10- 2005 الديمقراطية والاصلاح السياسي في العالم العربي
منطق المفارقة السياسية لا يمكن لاي قارىء منصف للتاريخ ان يتغاضى عن عدم استجابة الولايات المتحدة لقضية الديمقراطية في منطقتنا طوال النصف قرن الاخير من القرن الماضي بل انها عملت بالضد من ظهورها وعملت على تصفيتها فمن اجل أبعاد شبح الديمقراطية عن المنطقة! تم الترويج لفكرة مؤداها ان الدول النامية –بما فيها دولنا العربية-غير مؤهلة للديمقراطية وذلك بسبب تخلفها الاقتصادي وانخفاض مستواها التعليمي او عدم توفر الشروط التي تسمح بقيام التعددية السياسية وقد صاحب الترويج لمثل هذه الفكرة المغلوطة-والتي تم التنكر لها في ما بعد-هجوم فعلي على الديمقراطيات الناشئة في هذه البلدان عن طريق دعم الانقلابات العسكرية بل والتبرير لها بوصفها ضرورة للتحديث!وفرصة لتهيئة ارضية الاستقرار اللازمة للانتقال الى الديمقراطية؟! والابتعاد عن خطر الاستبداد الشيوعي فتركة نصف قرن من الحرب الباردة دفعت الولايات المتحدة لوضع هدف الاستقرار فوق أي اعتبار آخر في سياستها تجاه العالم الثالث فقد كان ينظر للاستقرار بوصفه عاملا ومناخا ملائما لانتشار الطاعون الشيوعي!وثمن الاستقرار يصبح دائما وفقا لهذا المنطق انظمة استبدادية تبطش بشعوبها بحجة الحفاظ على الامن والاستقرار! وقد جاءت الانقلابات العسكرية-التي سميت بالثورات لتجميل وجهها الوطني- بقطار امريكي لتقوم بتصفية الحركة الوطنية والمشروع الوطني للتحديث وامثلة امريكا اللاتينية لاتعد ولاتحصى وهناك امثلة من منطقتنا نفض عنها الغبار مؤخرا فتكشفت الطبعة الامريكية لانظمتنا السلطوية الوطنية الرشيدة!-منها ثورة 17 تموز 1968 المجيدة!-وهذه الانظمة تحولت من خندق الاصدقاء الى خندق الاعداء حسبما تحكم به مقتضيات الاستراتيجية الامريكية ويحكم به منطق المفارقة السياسية و يدفع به مزاج التوازن الدولي والاقليمي
لحظة الانتقال التاريخي
وقد انبعث الاهتمام الأمريكي بقضية الديمقراطية في المنطقة العربية تعبيراً عن الرؤية الأمريكية الجديدة في ان الإرهاب الذي ضرب الولايات المتحدة عام 2001 هو نتاج محتدم بين الحكام العرب المستبدين والفاسدين وبين شعوبهم . وان هذا الصراع قد اصبح قضية أمريكية بعد ان تحول الإحباط لدى الشباب العربي الذي فشلت أنظمته المستبدة في تعليمه وتوظيفه إلى غضب مكتوم ما لبث ان تفجر وبشكل عنيف في وجه الولايات المتحدة والعالم . كما راحت تحليلات تؤكد ان هذا الشباب العربي المحبط والذي بات من الصعب عليه النيل من أنظمته المستبدة الراسخة الجذور قد قرر الانتقام من الولايات المتحدة وتمكن من النيل منها لان نظامها الديمقراطي الشفاف جعلها اكثر قابلية للاختراق ولذا أخذت الولايات المتحدة على عاتقها استئصال هذه المشكلة من جذورها .وهكذا كانت الحرب في أفغانستان والعراق حربا علي الخطر المباشر للإرهاب, أي علي فلول المنظمات الإسلامية المتطرفة التي عزت إليها الولايات المتحدة تدمير البرجين التؤامين في نيويورك , وعلي أي احتمال بأن تصل إلي أيديها أسلحة الدمار الشامل (وهي الأسلحة التي لم تظهر أبدا في العراق!). وجاء مشروع الشرق الأوسط الكبير, ليستهدف منع ظهور الإرهاب, أو - مثلما جري القول الشائع - تجفيف منابع الإرهاب ! أي : إيجاد مجتمعات ديمقراطية, مزدهرة اقتصاديا, ومتفتحة ومتسامحة ثقافيا, حتي لا تكون بيئة منتجة للإرهاب! وعلى حد تعبير الكاتب الفرنسي اريل لوران في كتابه (حرب ال بوش) فأن السيطرة على العالم العربي بالديموقراطية تعادل في تفكير جورج بوش وبعض مستشاريه تلقيح تكوين عضوي بكر بفيروس ومن ثم مراقبة التطور الحاصل. وهنا في هذه اللحظة التاريخية-فالتاريخ يضعه المنتصرون-دخلت كلمة الاصلاح بوقعها السحري قاموس الاصطلاحات المتداولة التي لاغنى عنها لتوصيف حاضر ومستقبل المنطقة وباتت صفات الاصلاح ومجالاته المتعددة على المستويات السياسية والدينية والاخلاقية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والتعليمية لازمة ترافق لغة الصحافة و تتناولها بحذر، الخطابات السياسية الحكومية, و بنوع من الثقة الفارغة خطابات المعارضة الرسمية , وكأن مجرد القاء الكلمة في جوف الواقع يكفي لاحداث التحول مثل عبارة (أفتح يا سمسم السحرية) التي تفتح مغارة الكنوز الديمقراطية دون مشاكلنا المستعصية وحداثتنا الخائبة التي أنتجتها سياسات الفساد السياسي والاقتصادي والإفقار وتحقير المعرفة في بلادنا طيلة عقود الحكومات الوطنية الرشيدة التي حررتنا من ربقة الاستعمار وادخلتنا في متاهة خسرنا في جهودنا للخروج منها معنى وجودنا اما عن الخارطة الجغرافية المحتملة للاصلاح فهي تمتد من افغانستان الى باكستان وايران وتركيا والعراق وسورية والسعودية ومصر، كدول رئيسة في قلب العالم الاسلامي يضاف لها دول اخرى عربية واسلامية . تلك هي إحدي التحولات الكبري التي تحدث في السياسة العالمية, منذ 11 سبتمبر 2001 . ففي سياق الاستراتيجية المعلنة للحرب علي الإرهاب خاضت الولايات المتحدة الحرب في أفغانستان علي تنظيم القاعدة في عام 2002, ثم قامت - في سياق تلك الاستراتيجية نفسها - بغزو العراق في 2003, ولا بد ان يجري فضلا عن استخدام القوة الخشنة استخدام الضغوط الدبلوماسية ودفع المنطقة للتغيير بغير استخدام القوة مباشرة.وهو ما يدعمه الحال العام او الخراب العام الذي احدثته دول المنطقة فهناك حاجة ماسة للإصلاح الديني في مواجهة موجة التطرف الذي اختطف الاسلام بعيدا عن روحه ورسالته وجعل منا مسوخا تتلذذ بالدم في نظر الاخر, كما ان الحاجة ماسة الي الاصلاح الثقافي والتعليمي بعد تراجع مستوي المتعلمين وتدهور حالة القراءة وسيادة السطحية في ظل حمى القنوات الفضائية. واما الجوانب الاقتصادية , فإنها الاهم في سلم الاولوية، فحالة الفقر والركود لا تسمح بدعم حالة الثقافة أو اعداد التفكير العقلي وما شابه من قيم لا يدركها الجوعي. ولن يكون الاصلاح السياسي ممكنا بغير دعم مؤسسات المجتمع المدني وهي موضة عصرنا الراهن وجميع ما تقدم ينبغي ان يكون في اطار عام او يكون مشفوعا بالاصلاح القانوني.. بالتحول الي دولة القانون فإن ما يميز عصر الحداثة علي ما قبله, وما يميز المجتمعات المتقدمة عمن سواها هو سيادة القانون, مما يميز المجتمعات المستقرة والراسخة في التمدين
من الموجة الثالثة الى الموجة الرابعة للديمقراطية
وكان صموئيل هنتنغتون قد أكد في كتابه عن الموجة الثالثة للديمقراطية ان هذه الموجة قد أخذت في الزحف إلى العديد من دول العالم منذ عام 1974 التي بدأت بسقوط الديكتاتورية في البرتغال ثم أسبانيا . هاتان الدولتان ظلتا تحت الحكم الديكتاتوري الفاشستي قرابة نصف قرن . ولكن نجاح عملية التحول الديمقراطي في البرتغال كانت بداية الموجة الثالثة وانتشارها في العديد من دول العالم . عندما بدأت الموجة الثالثة للديمقراطية عام 1974 كان يوجد أربعون دولة فقط تطبق النظام الديمقراطي في العالم وعندما سقط الاتحاد السوفيتي تحولت معظم الجمهوريات التي كانت تحت الحكم الشيوعي إلى الديمقراطية ، كما تحولت العديد من الدول الأفريقية والآسيوية ودول أمريكا اللاتينية إلى الديمقراطية في عقد التسعينات ، وهكذا اصبح النظام الديمقراطي ظاهرة كونية تسود ثلاثة أخماس العالم ، كما أصبحت الديمقراطية الصيغة الشرعية لتشكيل الحكومات في العديد من الدول ، بل استطاعت الديمقراطية ان تستقر في دول فقيرة ذات طابع إسلامي مثل مالي التي تعاني من الفقر والأمية وليس لديها مقومات التنمية البشرية . وهذا يعني انه يمكن للديمقراطية ان تنتشر في دول فقيرة وليست الغنية فقط وفي نوفمبر عام 2002 اجتمعت مائة وثماني عشرة دولة تمثل النواة الحقيقية للديمقراطية إلى جانب إحدى وعشرين دولة في طريقها إلى التحول في اكبر تجمع على مستوى وزراء الدول الديمقراطية في كوريا الجنوبية وكان حاضراً عدد من الدول الإسلامية يشمل أفغانستان والجزائر وبنغلادش والأردن والكويت وماليزيا والمغرب ونيجيريا وقطر وتركيا واليمن وهذا يعكس تطوراً حقيقياً في العالم الإسلامي
العراق ولعبة الدومينو السياسي
وقد اعتقدت الإدارة الأمريكية ان غزو العراق سيتيح لها الفرصة لبدء مشروع تحديث العالم العربي الكبير وهذا الطموح البروميثي اثبت انه عملية ذات طابع اسطوري بالفعل حتى بالنسبة لدولة عظمى كالولايات المتحدة ذلك ان إعادة بناء المنظومة العربية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تحت شعار واحد هو ( التحديث) دونما تضامن من قبل المجتمع الدولي لاسيما-بلدان اوربا الغربية- في زمن تتسارع فيه الازمنة وتتقارب فيه الامكنة وفي ظل شك متوارث على مستوى شعبي بسياسات الادارات الامريكية المتعاقبة قد يكون طموحا يوتوبيا لذا كان لابد من البدء بتجربة هذا الامر على العراق وذلك بالشروع من النقطة صفر ببناء نسخة جديدة منزوعة الصلة ليس فقط بالعراق القديم إنما أيضاً بالعالم العربي القديم . وهكذا تحول العراق الجديد الى ساحة خلفية لحرب التحديث الشاملة ولرد هذه الهجمة من قبل الانظمة العربية المتصلبة فدفع الشعب العراقي جراء ذلك الثمن غاليا نيابة عن شعوب اخرى وأنظمة تعتليها وتحتم عليه ان يصبح كبش الفداء على مسرح الشرق الاوسط المتفجر وأطلقت الولايات المتحدة فرس الرهان العسكري على هذا البلد العريق لاعتبارات شتى منها انه بلد عربي كبير يمتلك كل إمكانات النهوض الاقتصادية وتركيبته التعددية تجعله قابلاً لصياغة نموذج ديمقراطي يستعصي وجوده في أي دولة عربية أخرى ، فإذا ما قامت الولايات المتحدة بإسقاط نظام صدام الاستبدادي وسخرت إمكانات العراق الكبيرة في تصميم وإقامة نظام بديل يسمح بالتعددية ، ومشاركة الطوائف المختلفة يمكن لعجلة تحديث العالم العربي ان تبدأ في الدوران وتنطلق شرارة التغيير نحو كومة القش الجافة وبالتالي يتم التخلص من البؤر التي تفرخ الإرهاب، ذلك هو المنطق الصعب الذي فرضته معالجة جذور اسباب الحادي عشر من ايلول الذي اصبح بحق مفصلا تاريخيا في حياة العرب قبل غيرهم . وقد كان ريتشارد بيرل من عتاة الحافظين الجدد في الولايات المتحدة، واثقا من انهيار الأنظمة السياسة في منطقة الشرق الأوسط على طريقة الدمينو السياسي في تعاقب الآثر جيث سيمثل العراق القطعة الاولى في لعبة التحديث المنشود وحين وجه اليه سؤال عما إذا كان لم يدرك المخاطر المترتبة على البراكين السياسية في منطقة الشرق الأوسط ، وخصوصاً ما حدث في مصر وسورية والعراق من انقلابات بعد نكبة عام1948، وما حدث في إيران مُصدّق ، ضحك صاحب النظرية معتبراً بأن شعوب المنطقة لا تجرؤ على أن تعيد الكرة مرة أخرى وأن الأنظمة ستتهاوى كما يتهاوى الدمينو ولكن قد يؤدي الجهل الامريكي الواضح والفاضح بمزاج شعوب المنطقة وقوة انظمتها المسيطرة الى تعزيز أنظمة راديكالية أو محافظة، وتنشأ على خلفية الديمقراطيات المعلنة التي كثر الحديث عنها أنظمة أكثر تشدداً وتخلفاً الأمر الذي يستدعي حسابات من نوع أكثر رصانة عند التعامل مع الشأن السياسي في المنطقة.
تحديات المشروع الامريكي
ويتمثل التحدي الذي يواجه مشروع حصان طروادة الامريكي في غياب طبقة سياسة لديها جذور حقيقة في العراق قادرة على حكمه وتنال في نفس الوقت قدر كبير من الإجماع الوطني و الموافقة الاقليمية والاهتمام الدولي ، كما إن هناك تحديات جمة في الفترة الانتقالية كان من شأنها ً ان تفقد البلاد فرص حقيقية لخلق طبقة سياسية منتخبة بشكل ديمقراطي ولديها خيال سياسي قادر على إخراج البلاد من جحيم اللااستقرار الى فردوس الامن ودولة سيادة القانون . لكن مما يخفف من وطأة هذا التحدي ان العراق يمتلك عناصر تمثل نواة لنظام ديمقراطي جديد إذ لديه الطبقة الاجتماعية المتوسطة وهو الطبقة المتعلمة كما ان للعراق خبرة وتاريخ في التعددية السياسية تحت ظل الملكية من الفترة 1921 – 1958 . والطبقة الوسطى والتي تشمل المتعلمين وأصحاب المهن العلمية والعملية لابد من وجودها لدعم ديمقراطية مستدامة ولحسن الحظ فإنها خاصة (فئة المتعلمين وأصحاب الشهادات العليا) ما زالت باقية بعد سنوات من القهر في ظل النظام البائد . على الرغم من انها تتعرض لتحديات هائلة دفع القسم الاهم منها لمغادرة البلاد والهرب من جحيم الارهاب والاغتيالات وغموض المستقبل. وكما لاحظ سليم مطر في كتابه( الذات الجريحة) قان المتتبع لتاريخ العراق الحديث يرى ان مفهوم الديمقراطية كان شائعاً منذ تكوين الدولة العراقية عام 1921 وكانت الدولة وجميع الأحزاب تستخدمه بالمعنى الليبرالي على المثال الإنكليزي . وحتى التيارات المختلفة من محافظة حتى يسارية كانت بشكل أو آخر تحاول ان تحتذي بالتيارات السائدة في أوربا الليبرالية وقد تكون صيغة التحول الى الديمقراطية الليبرالية هي الصيغة الكفيلة بإقامة دولة اكثر استقراراً وستكون المسار الأفضل لعملية التطوير السياسي الإقليمي على المدى الطويل والتعددية في ظل الليبرالية تحول دون اتخاذ مواقف أيديولوجية راديكالية إزاء القضايا القومية والإقليمية وسوف تقوم أيديولوجية الدولة العراقية التعددية الخاضعة لعملية التحول الليبرالي على أساس الوطنية العراقية المحلية التي تقوم بدورها على اعتداد العراقيين بانتمائهم إلى الحضارة المشتركة المستمدة من التراث الغني لبلاد ما بين النهرين وهي حضارة لا تستثني من حيث المبدأ أي جماعة عرقية أو دينية كما ذهب الى ذلك جراهام فولر في كراسه ( العراق في العقد القادم) الذي كنا نتبادل نسخته المستنسخة سرا ايام النظام البائد. ولطالما تبادلت احاديثا مشوبة بالامل مع مثقفين عراقيين كانت كل امالهم تتشبث بحلم الدولة الموعودة ونظام الحكم الديمقراطي القادم وكانت احلامنا تتراجع الى مستوى الحلم بالدولة-الامة وكأننا نريد تحقيق حلمنا باسطورة جديدة ذات صلة بتاريخنا القديم وحين كتبت عدة مقالات عن ضرورة الانفتاح عن الاحتياطي الحضاري لامتنا العراقية وعقد المصالحة التاريخية مع تراثنا الرافديني القديم على أرضية الوحدة الوطنية لمشروع العراق الحديث واجهني البعض بمنطق البرغماتية السياسية واعترضوا على الطابع الرومانسي لما كتبت وكأن مستقبل العراق الفدرالي سيستبعد شبح الدولة –الامة بمفهومها الكلاسيكي وسننفصل عن مفهوم العراق التاريخي ذا العمق الحضاري الذي يتجاوز سبعة الاف عام ونتفق رغما عن انوفنا مع مستقبل الدويلات القائمة على اساس عرقي وطائفي تحت مسمى الفدرالية؟! ولهولاء وغيرهم أوكد اننا لا نستطيع باي حال ان نغفل عن جذور الممارسة الديمقراطية في العراق القديم فقد دلت الابحاث التاريخية والاثرية على وجود نوع من الديمقراطية في عصر فجر السلالات قبل خمسة آلاف عام قبل الميلاد تقريبا فضلا عن وضع أقدم الشرائع من قبل حكام العراق القديم كشريعة حمورابي. وحين تم تأسيس الدولة القطرية الحديثة بعد التخلص من الهيمنة الاستعمارية كان الحكم في العراق مبنيا على التمثيل الشعبي بصورة تتزامن مع نشوء كيانه السياسي الوليد وقد مثل دستور عام 1923 الوثيقة التي على اساسها قام الكيان السياسي للعراق الحديث اذ عبر هذا الدستور عن نزوع ديمقراطي ليبرالي واتسم الكيان السياسي الجديد بسمات هذا الدستور ليبدو هو الآخر كيانا سياسيا ديمقراطيا ليبراليا ومن اجل تأكيد هذا الواقع الديمقراطي تبنت الدولة العراقية الديمقراطية الليبرالية المؤسسات المعنية بالديمقراطية الحديثة مثل البرلمانية و التعدديةالحزبية و حرية الصحافة لتعبر عن التوجه الديمقراطي الليبرالي لهذا لم يكن غريبا ان يصرح الرئيس الامريكي ايزنهاور في اعقاب قيام ثورة 14 تموز 1958 تصريحا تملئه الحسرة ( هذه هي البلاد التي كنا نعتمد اعتماداً كلياً في أن تكون الحصن المنيع للاستقرار والازدهار في تلك المنطقة ) ومهما اختلف المناصرون لهذا النظام أو ذاك أو هذا التيار أو ذاك فأن علينا ان نتفق على نقطة مبدأية قبل كل شيء-ذهب اليها الكثير من الباحثين- هي ان مؤسسات التحول الديموقراطي في عصر المؤسسات الذي نعيشه ودولة المؤسسات ضرورية جداً لضبط سياق العمل في تراكميات بنائية متسلسلة تضمن الصعود العمودي والتوسع الافقي لمضامين الممارسة الديموقراطية في العراق. وعلى الرغم من ان متطلبات الاستقرار تفرض تحويل العراق الى دولة فدرالية . ولكن هناك عدم ادراك واضح لمغزى الفدرالية ومعناها ومدى ملائمتها في ظل الظروف الحالية لبلد مثل العراق فالنظام الفيدرالي الناجح يعمل على تقسيم السلطة بين المركز والأقاليم ويضمن توزيع العائد القومي بينهم أيضاً على ان تقوم الحكومة المركزية بعملية إعادة توزيع الثروة بين الأقاليم الغنية والأقاليم الفقيرة وعلى كل إقليم ان يلتزم بتكاليف مشاريعه الاقتصادية والثقافية .لكن العيب الذي يؤخذ على هذا النظام الفيدرالي هو انه قد يشجع أياً من الأطراف ان تستقل بذاتها كما حدث مؤخراً في شمال ايرلندا وكوسوفا والشيشان وقد يحدث نفس الشيء في العراق . وهنا يتحقق الدومينو السياسي المعكوس.
النسخة الامريكية لتحديث مجتمعاتنا التقليدية
وعلى العموم فانه على خلفية تكريس النظرة الامريكية تجاه المنطقة التي تقوم على الربط بين الإرهاب وبين إخفاق الدول العربية في جهود الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي.هذه الاعتبارات المختلفة دفعت الإدارة الامريكية إلى التقدم بمجموعة أفكار قدمت في سياق ما يعرف بـ (مبادرة الشرق الاوسط الكبير) ، لطرحها خلال – قمة مجموعة الدول الثمانية في ولاية جورجيا الامريكية، القمة الامريكية الأوروبية في دبلن ، وقمة حلف شمال الأطلسي في اسطنبول. وقد تلي الكشف عن هذه المبادرة تقدم عدد من الدول الأوروبية بمبادرات فردية وجماعية خاصة بالإصلاح في الشرق الاوسط، تعتبر في مجملها مكملة للتوجه الأمريكي رغم بعض التحفظات الأوروبية على التوجه الأمريكي تتمثل في أسلوب تناول القضايا المرتبطة بمسيرة الإصلاح في دول الشرق الأوسط ، وترتيب الأولويات السياسية فيما يتعلق بالقضايا الحاكمة للمنطقة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، حيث تعطى الدول الأوروبية اهتماماً حقيقياً لتحريك عملية السلام في الشرق الأوسط من منطلق أهميتها في تهيئة المناخ السياسي والأمني اللازم لدفع خطوات الإصلاح في المنطقة ، في حين تفضل الولايات المتحدة عدم إبراز هذه القضية وقد أعلنت الإدارة الأمريكية في مطلع فبراير 2004 عن مبادرتها التي اتضح انها تهدف إلى تحقيق إصلاحات سياسية وتعليمية واقتصادية واجتماعية في المنطقة ، و المبادرة من الناحية الجغرافية للمنطقة الممتدة من المغرب إلى باكستان والتي تشمل أيضا أفغانستان وتركيا وإيران وإسرائيل بينما تتمثل آلية تنفيذها في ثلاثة محاور الأولى تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح والثاني بناء مجتمع معرفي ، والمحور الثالث توسيع الفرص الاقتصادية ، ويستند المشروع الأمريكي على الرؤية التي حددها الكتاب العرب لتقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية والعربية لعامي 2002 و 2003والتي ترى ان تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية سيكون سبباً رئيساً في زيادة التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة وكان الرئيس بوش قد طرح رؤياه لمنطقة الشرق الأوسط بعد زوال نظام الحكم في العراق. وشدد الرئيس الأميركي على قضيتين أساسيتين في خطابه الذي أدلى به في حفل العشاء السنوي لمعهد أميركان إنتربرايز الأميركي بواشنطن في 26شباط 2003هما ان تغيير النظام في العراق سيفسح في المجال أمام تغييرات إيجابية في كامل منطقة الشرق الأوسط، كما أنه سيساعد في السير قدما نحو تنفيذ رؤياه الخاصة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وقد جاء في مقدمة نص مشروع الشرق الأوسط الكبير والمقدم إلى قمة الدول الثماني المنعقد في الولايات المتحدة في يونيو 2004 التأكيد على ان الشرق الأوسط الكبير يمثل تحديا وفرصة فريدة للمجتمع الدولي . وساهمت النواقص الثلاثة التي حددها الكتاب العربي لتقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و2003 - الحرية، المعرفة، وتمكين النساء - في خلق الظروف التي تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الـ 8 . وحاول النص ان يربط بين تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، والزيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة. حيث يستشهد النص بالإحصائيات المروعة التي تصف الوضع الحالي في الشرق الأوسط والتي لاتخلو من الانتقائية بتركيزها على هذه المنطقة فحسب: مجموع إجمالي الدخل المحلي لبلدان الجامعة العربية الـ22 هو أقل من نظيره في أسبانيا . حوالي 40 في المائة من العرب البالغين - 65 مليون شخص – أميون ، وتشكل النساء ثلثي هذا العدد . سيدخل أكثر من 50 مليونا من الشباب سوق العمل بحلول 2010 ، وسيدخلها 100 مليون بحلول 2020 ، وهناك حاجة لخلق ما لا يقل عن 6 ملايين وظيفة جديدة لامتصاص هؤلاء الوافدين الجدد إلى سوق العمل . إذا استمرت المعدلات الحالية للبطالة، سيبلغ معدل البطالة في المنطقة 25 مليونا بحلول 2010 . يعيش ثلث المنطقة على أقل من دولارين في اليوم . ولتحسين مستويات المعيشة ، يجب ان يزداد النمو الاقتصادي في المنطقة أكثر من الضعف من مستواه الحالي الذي هو دون 3 في المائة إلى 6 في المائة على الأقل . في إمكان 1.6 في المائة فقط من السكان استخدام الإنترنت، وهو رقم أقل مما هو عليه في أي منطقة أخرى في العالم ، بما في ذلك بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى . لا تشغل النساء سوى 3.5 في المائة فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية ، بالمقارنة، على سبيل المثال، مع 8.4 في المائة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى . عبر 51 في المائة من الشبان العرب الأكبر سنا عن رغبتهم في الهجرة إلى بلدان أخرى، وفقا لتقرير التنمية البشرية العربية للعام 2002 ، والهدف المفضل لديهم هو البلدان الأوربية . ويستنتج النص من هذه الإحصائيات أن المنطقة تقف عند مفترق طرق . ويخلص الى ان استمرار المنطقة على المسار المروع ذاته، سيضيف كل عام المزيد من الشباب المفتقرين إلى مستويات لائقة من العمل والتعليم والمحرومين من حقوقهم السياسية . وسيمثل ذلك تهديدا مباشرا لاستقرار المنطقة، وللمصالح المشتركة لأعضاء مجموعة الـ8 . اذن ما العمل؟
البديل المطروح والرهان المستعاد
البديل حسب نص المشروع هو الإصلاح. ويشير النص الى استجابة بعض الزعماء في المنطقة لنداءات الاصلاح وعن اتخاذهم خطوات في اتجاه الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي.واكد النص على امكانية الاتفاق لمجموعة الـ8 على أولويات مشتركة للإصلاح تعالج النواقص التي حددها تقريرا الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية عبر: - تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح . - بناء مجتمع معرفي . - توسيع الفرص الاقتصادية . وتمثل أولويات الإصلاح هذه السبيل إلى تنمية المنطقة : فالديمقراطية والحكم الصالح يشكلان الإطار الذي تتحقق داخله التنمية ، والأفراد الذين يتمتعون بتعليم جيد هم أدوات التنمية، والمبادرة في مجال الأعمال هي ماكينة التنمية . وقد جاء الموقف العربي كالمعتاد متشككا ومؤطرا بنظرية المؤامرة تجاه هذا المشروع وحاولت بعض الدول العربية ان تتدثر بطرحها الخاص للإصلاح فيها، في ظل تشتت معهود لصياغة موقف عربي مشترك تجاه الاصلاح و سيادة اللغط عن مبادرات قدمتها سبع دول عربية بما فيها مصر وتونس واليمن وسوريا للإصلاح في الوطن العربي ، تصبخ مناسبة للنقاش والكلام في اجتماعات وزراء الخارجية العرب مما يثبت ان العرب سيظلون محض( ظاهرة صوتية) في صحراء الاصلاح اذا ما استعرنا عنوان كتاب عبد الله القصيمي . حيث نجح انعقاد القمم العربية المتتالية واسفرت عن عدم اتفاق باهر حتى على الورق! ودارت اسطوانة الشعارات العربية المكرورة والمشروخة وفق ايقاع البلادة السياسي لتؤكد الايقاع الداخلي للعلاج اللازم ازاء جميع نماذج الاصلاح العلاجية سابقة التجهيز من قبل اطباء العالم الغربي.وهكذا تعالى الخطاب الوطني الغيور على الكرامة العربية المهدورة التي تتعرض لتحد جسيم لكنها تأبى دون تحديث مجتمعاتنا وتطويرها بارادتنا الحرة وفق ما تريده شعوبنا استجابة لمتطلبات الجمع بين التراث العتيد الذي قاد عملية التنوير والنهضة على مر العصور وساهم في إخراج العالم كله من الظلمات إلى النور وبين إحداث أفكار التطوير والإصلاح التي تتفق مع خصوصياتنا وثقافتنا ومصالحنا. ولكن العرب ومن منطق الندية العروبي البدوي رفضوا التشخيص القادم من خارج بمحاولة فرض نموذج معين وتجنب ما يتعارض مع التوجهات المنبثقة من الثقافة الذاتية الخاوية والتقاليد الدينية والقومية للمجتمعات العربية التي لم يتعرض نص المشروع لها بسوء لكن التحجج بها اصبح عادة عربية أصيلة. فضلا عن العبارات التي تمارس تأثيرها الامتصاصي المعروف لكل معنى ممكن كوجوب توفير العدالة والقضاء على كافة مشاعر الاحباط واليأس من خلال تسوية القضية الفلسطينية –التي لازالت الانظمة العربية العصماء تتحجج بها-على أساس انهاء الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وكذلك احترام سيادة الشعوب العربية والحفاظ على وحدتها الإقليمية وسلامة أراضيها. وقد لانبالغ اذا ما اشرنا الى ان العديد من المطبلين لعصمة الانظمة العربية رفضوا المشروع دون محاولة قراءته كما فعل الكثيرون قبلهم من تكفير سلمان رشدي دون قراءة رواياته هذا اذا كانوا يعلمون فعلا بانها رواية! ما الضير في تشجيع الديموقراطية والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في منطقتنا الموبوءة ام ان الشرعي في نظر اصحاب الشريعة هو ظهور نبي قومي جديد بمصحف الاصلاح بدل الانشداد لمسودة الاصلاح الغربي فهل التأكيد الغربي على اراء موجودة ومكرورة ويعلمها جميع مثقفينا، يبرر الرفض القاطع الذي قوبل به المشروع. اما انها مفارقة كبيرة ان اصبح عجزنا عن مواجهة انظمتنا طريقا تدخل منه اطراف أجنبية لتحقق مطالبنا القومية والتقدمية! يواجه العقل السياسي العربي فرصة فريدة للتعامل مع الاخر بالكثير من الانفتاح والشفافية، ومن منطلق أن ليس بالضرورة أن ما تأتي به الولايات المتحدة الأمريكية لابد ان يكون شراً. وهي فرصة للتخلص من تلك الثنوية الطاغية على العقل السياسي العربي والتي يحتل فيها الاخر دائما رمز آله الظلام ذلك ان هذه الثنائية ضيقة الأفق عن الخير والشر في السياسة الدولية هي إهانة كبيرة ومحض خداع للشعوب العربية و الأفكار المطروحة من حيث المبادئ التي تضمنتها لا تلحق الحيف بعالمنا العربي وهي ما نتمنى ان نستهدفها في صلب دستورنا الدائم في العراق وقيمنا السياسية التي نستهدفها لمستقبل بلادنا، والكثير من الدول العربية تتعاطى مع قيم الديمقراطية والحرية بأشكال متفاوتة بما يتماشى مع مستويات التقدم السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي المختلفة المتحققة من بلد إلى آخر. والتخوف المصاحب للأمر يعود لان الموضوع أتى من الولايات المتحدة الأمريكية في ظرف زمني معين وفي أعقاب غزوها العراق، وإفرازات ذلك الاحتلال ونتائجه الحالية والمحتملة على مستقبل الأنظمة العربية في المنطقة . ومع ذلك بل بسبب من ذلك على المثقفين العراقيين والعرب اتخاذ موقف حاسم يتضمن التفاعل مع الواقع ويستفاد من واقع الظروف الدولية لتحقيق مكاسب لشعوبهم وبدل الضياع في لغط عن النسخة الامريكية للتحديث والمشروع الوطني المزعوم للاصلاح لا بد من التنبيه ان مشروع التحديث العربي الذي يمر من العراق قد يكون رهانا على المستقبل الديمقراطي للمنطقة مثلما هو رهان من قبل بعض الانظمة الرجعية على فشل المشروع الامريكي وخراب المشروع الوطني لبناء العراق المعاصر
#سعد_سلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كبش الفداء العراقي
-
عصر صناعة المستقبل استراتيجية للانعتاق من فوضى القرن الحادي
...
-
البرج العاجي للأمانة العامة للامم المتحدة ،مهام الأمين العام
...
-
خارطة طريق لإصلاح الأمم المتحدة بعد ستين عاما على تأسيس المن
...
-
برلمان العالم وإصلاح الأمم المتحدة،الجمعية العامة للأمم المت
...
المزيد.....
-
بعد استخدامه في أوكرانيا لأول مرة.. لماذا أثار صاروخ -أوريشن
...
-
مراسلتنا في لبنان: غارات إسرائيلية تستهدف مناطق عدة في ضاحية
...
-
انتشال جثة شاب سعودي من البحر في إيطاليا
-
أوربان يدعو نتنياهو لزيارة هنغاريا وسط انقسام أوروبي بشأن مذ
...
-
الرئيس المصري يبحث مع رئيس وزراء إسبانيا الوضع في الشرق الأو
...
-
-يينها موقعان عسكريان على قمة جبل الشيخ-.. -حزب الله- ينفذ 2
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب ويلتقي ولي العهد
-
عدوى الإشريكية القولونية تتفاقم.. سحب 75 ألف كغ من اللحم الم
...
-
فولودين: سماح الولايات المتحدة وحلفائها لأوكرانيا باستخدام أ
...
-
لافروف: رسالة استخدام أوريشنيك وصلت
المزيد.....
-
الديمقراطية وألأصلاح ألسياسي في العالم العربي
/ علي عبد الواحد محمد
-
-الديمقراطية بين الادعاءات والوقائع
/ منصور حكمت
-
الديموقراطية و الإصلاح السياسي في العالم العربي
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|