|
مراجعات السلفيين في المغرب
سمير الحمادي
الحوار المتمدن-العدد: 4883 - 2015 / 7 / 31 - 23:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مقدمة
كسرت الثورات العربية في 2011 ــ 2012 مجمل المسلمات السياسية والاجتماعية والثقافية التي سادت المنطقة منذ وقت طويل، وقدمت مشهداً جديداً مختلفاً في واجهته كما في تفاصيله. وإذا كان كثير من التفاعلات الجارية، سواء في مجتمعات الثورة أو في المجتمعات التي طاولها شيءٌ من شظاياها، متوقعاً، والارتدادات أيضاً، بالنظر إلى حالة السيولة التي تميز المرحلة الانتقالية التي تعقب لحظة الانفجار الثوري، فإن هناك تحولات لافتة برزت على السطح لم تكن في الحسبان، أو جاوزت حد التوقع، منها خروج التيار السلفي من مناطق الظل، وتفاعله إيجاباً مع المتغيرات الجارية في المنطقة، وقبوله المشاركة في العملية السياسية، بل واندفاعه إلى ذلك، بعد أن كان مجرد التفكير في هذه الخطوة ذنباً كبيراً تنهى عنه أدبيات هذا التيار بصرامة، وتحرمه بشكل قطعي ونهائي.
خلال سنوات طويلة، ظل السلفيون (أهل السنة والجماعة) في حالة طلاق بائن مع الشأن السياسي بكل مفرداته ومستوياته وتعبيراته، إما مقاطعةً (دون تحريم في المطلق) على أساس أنه "من السياسة ترك السياسة" (العبارة للشيخ الألباني)، تجنباً لبدع ومفاسد العمل السياسي (التحزب، الشقاق، التنازع، الفرقة، الفتنة)، التي تخلف ندوباً غائرة في جسد الأمة الواحدة، أو تحريماً من منطلق أن السياسة في صيغتها الحديثة أصبحت مرتعاً للمفاهيم والقيم الغربية المدنسة بالكفر كالديمقراطية التي هي "فتنة هذا العصر" و "دين يُعبد من دون الله"، لكن بعد أن أسقطت الثورات أركان الحكم الاستبدادي العربي في أكثر من موطن، تفاجأ الجميع بتراجع هذه النبرة الممانعة في المدونة السلفية، وبدا واضحاً أن السلفيين تحرروا من بداهاتهم السابقة، وباتوا يعتمدون رؤية جديدة في التفاعل (الإيجابي) مع وقائع اللحظة، فيبدون آراء ويقدمون تفسيرات ويطرحون مواقف، مبررين هذا التحول بأنه "رجوع إلى الحق" بعد عقود من الإقصاء والانعزال في ظل حكم الأنظمة الساقطة.
لقد أثار هذا التحول الجذري في الحالة السلفية كثيراً من الجدل على المستويين البحثي والإعلامي، خاصة أنه لم يقتصر على مجتمعات "الربيع العربي"، بل امتد إلى المجتمعات التي لم تضربها الموجة الثورية بشكل مباشر، واكتفت بملامستها من بعيد، حيث اتجه السلفيون في أكثر من دولة عربية إلى مراجعة مواقفهم القديمة وتجاوز التزاماتهم الأيديولوجية من أجل التموقع داخل المشهد السياسي، ومن بين هذه الدول المغرب الذي سنتعرض في هذه الورقة لتحولات سلفييه.
ملاحظات
هناك ثلاث ملاحظات مهمة لا بد من استحضارها في أول البحث:
أ ــ التيار / المنهج السلفي ليس بنية واحدة متماثلة، ولا خلاف أو تعارض بين مكوناتها، وإنما هو تيار جامع تتوزعه مجموعة من التوجهات / الخطوط الفرعية التي لها تقاطعات في الأصول الكلية: في الهوية والمرجعيات والمفاهيم والاختيارات الفقهية، لكنها في الوقت نفسه تتمايز وتتناقض (وتتواجه) في ما بينها في عدد من الاجتهادات والمواقف الجزئية التي تدور في نطاق الفروع. وعلى الرغم من المحاذير والصعوبات الإبستيمية التي تحيط بمحاولات رسم خارطة مفصلة ودقيقة لبنية التيار السلفي، فإن من الجائز، إجرائياً، التمييز داخل هذا التيار بين عدة "سلفيات"، ويمكن، سريعاً، أن نشير إلى ثلاثة نماذج تصنيفية أساسية: أولها يميز ما بين السلفية التقليدية والسلفية الحديثة، وثانيها يفاصل ما بين السلفية المحافظة (تُعلي من شأن الدوغما)، والسلفية التجديدية (أكثر اعتدالاً ومرونة)، في حين يقترح التصنيف الثالث عدة صياغات أو نسخ من السلفية وفقاً لاعتبارات إجرائية محددة: السلفية العلمية (التقليدية)، السلفية الإصلاحية، السلفية الحركية، السلفية المدخلية / السلفية الجامية (سلفية أولي الأمر)، السلفية الجهادية (الثورية)...الخ.
والملاحظ أن النماذج التصنيفية للسلفية تتسع كلما أوغلنا أكثر في التفصيلات المرتبطة بموضوعات تكتسي حساسية خاصة من قبيل الموقف من ولي الأمر، المسألة السياسية، الجهاد في هذا العصر (السلفية التقليدية مثلاً تقوم على وجوب طاعة ولي الأمر وعدم الخروج عليه، والتحذير من معارضة السلطة بالأساليب الحديثة كالمظاهرات والاعتصامات، وإنكار الجهاد في الوقت الحاضر إلا بشروط خاصة تكاد تكون تعجيزية، وهو عكس ما تراه السلفية الجهادية)، فضلاً عن إستراتيجيات الدعوة والحركة التي تختلف من سلفية إلى أخرى، ومع ذلك فإن هذه السلفيات تتداخل في ما بينها، بشكل ارتوازي، في كثير من الجوانب بحيث يصعب اعتماد تصنيف نهائي يحدد الفروق بينها بصورة واضحة تماماً.
من جهة أخرى، يمكن التمييز ما بين السلفيين الذين يتحركون من خلال إطار تنظيمي (تجمعات هيراركية محددة)، والسلفيين الذين يتحركون بشكل فردي، وهؤلاء يعتمدون بشكل أساسي على وسائل الإعلام: الفضائيات الدينية خصوصاً، لتمرير خَطَابتهم على أوسع نطاق واستقطاب الأتباع (محمد حسان نموذجاً). يمكن أيضاً في هذا المستوى التمييز ما بين السلفيين الرسميين الذين يمثلون دولة معينة ويتحركون من خلال قنواتها ومؤسساتها (الوهابيون في السعودية) والسلفيين المستقلين الذين يمثلون أنفسهم وأفكارهم.
ب ــ هذا التمايز (الفكري) يقودنا إلى الملاحظة الثانية، وهي الخاصة بموقف السلفيين من المشاركة السياسية خلال الحقبة التي سبقت الثورات العربية، هذا الموقف تحكمه منطلقات / مبررات مختلفة يمكن اختزالها في نمطين:
ــ نمط "الإنكار" الذي تتبناه السلفية التقليدية، ويلخصه شعار "لا نكران ولا هجران ولا خروج" الذي يعبر عن هاجس "الامتثالية السياسية" الذي يؤطر تمثلها للعمل السياسي بما هو فعل يختص به أولو الأمر حصراً، فلا يجوز منازعتهم عليه في المطلق، بل تلزم طاعتهم وعدم الخروج عليهم أو معارضتهم لما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة.
ــ نمط "التحريم" الذي تتبناه السلفية الجهادية، وهذا النمط يتأسس على رؤيتها الخاصة للعملية السياسية الحديثة التي تقوم في مجملها على فكرة الديمقراطية بكل ما تنطوي عليه من مشمولات ثقافية وإجرائية (حريات، انتخابات، برلمانات)، هذه الرؤية يختزلها المنظر الجهادي البارز أبو محمد المقدسي بالقول إن الديمقراطية في صورتها المتداولة "كفر بالله العظيم وشرك برب السماوات والأرضين ومناقضة لملة التوحيد ودين المرسلين... لأنها حكم الطاغوت وليست حكم الله تعالى... الديمقراطية هي حكم الشعب أو حكم الطاغوت، لكنها على جميع الأحوال ليست حكم الله الكبير المتعال، فهي لا تضع أي اعتبار لشرع الله تعالى المحكم إلا إذا وافق قبل كل شيء مواد الدستور، وثانياً أهواء الشعب، وقبل ذلك كله رغبات الطاغوت..." (الديمقراطية دين، ص 11).
ج ــ إذا كان السلفيون قد قدموا تأصيلات شرعية مفصلة لموقفهم القديم من المشاركة السياسية (الموقف السلبي)، فإننا ما نزال في انتظار أن يفعلوا المثل بعد مراجعاتهم، ذلك أنهم لم يقدموا حتى هذه اللحظة المستندات الشرعية التي تفصل في مبررات / مسوغات موقفهم الجديد (الإيجابي)، وإنما اكتفوا بالتعبير عن تحولاتهم من خلال بعض البيانات والتصريحات الإعلامية العابرة دون أن يطرحوا تصورهم الجديد بشكل موثق ومفصل. لقد تغير محتوى الخطاب السلفي، وتغيرت لغته، وعلى السلفيين أن يُقَعِّدوا لهذا التحول من الناحية الشرعية.
إن التحديدات السابقة مهمة من حيث أنها تساعدنا على تجاوز بعض الصعوبات التي تعترض أي محاولة لرصد تحولات الحالة السلفية في سياقات مرحلة "الربيع العربي"، ذلك أنه من الخطأ أن نضع البيض كله في سلة واحدة ونتحدث عن السلفيين بصيغة جامعة توحي بأنهم متماثلون في كل شيء ويشكلون وحدة في حين أنهم مختلفون في مساراتهم الفكرية والحركية، والاختلافات بينهم واضحة.
من جهة ثانية، لا يجب أن نندفع في تصوراتنا عن هذه المراجعات لأنها ما تزال في بداياتها، ولا نعرف ما إذا كانت ستستمر وتتطور ويجري ترشيدها وتثبيتها أم أنها ستتراجع وترتد وتنقلب إلى صياغات أخرى، خاصة في ظل التفاعلات السياسية التي تعيشها مصر اليوم، بعد تدخل الجيش في يوليو 2013 لعزل الرئيس (الإسلامي) محمد مرسي، وما ترتب على ذلك من إجراءات دموية ما تزال جارية حتى الآن. لذلك لا يمكن الجزم في هذه المرحلة المبكرة بما إذا كان السلفيون قد تحرروا فعلاً من ثقل تراثهم وماضيهم لنقرر جازمين أن هذه المراجعات كاملة ونهائية. يتطلب الأمر مزيداً من الوقت لمتابعة الأداء الجديد للسلفيين وطريقة تفاعلهم مع انقلابات الواقع المتسارعة في المراحل المقبلة للوقوف على درجة الجدية في هذه المراجعات.
مراجعات السلفيين في المغرب
على الرغم من خصوصية مجاله الديني وأنماط تدينه التي جعلت منه بحسب بعض التحليلات حالة متفردة بين الدول العربية والإسلامية، فإن المغرب لم يكن معزولاً عن مسارات المد السلفي الذي اجتاحت معتقداتُه الفكرانية / الأيديولوجية المنطقة العربية خلال فترات زمنية متعاقبة حتى بلغت الذروة في السنوات الأخيرة من القرن الماضي. ومع أن النزعة السلفية باتت تشكل رقماً وازناً في المعادلة الدينية والاجتماعية في المغرب، بحيث لم يعد من الممكن تجاهل أو تجاوز حضورها في مواقع ومجالات أساسية من بنية "الإسلام المغربي"، فإن الغموض ما يزال يلف كثيراً من التفاصيل التي تختزنها عوالمها الداخلية، فنحن تقريباً لا نعرف الكثير عن أعداد السلفيين المغاربة وتوزيعهم الجغرافي ــ أفراداً وتجمعات ــ وطبيعة تكوينهم الديني ودرجة حضورهم في مستويات الواقع المتعددة، فضلاً عن مصفوفة العوامل / العناصر التي تجعل من الخطاب السلفي خطاباً جذاباً ومغرياً لقطاعات واسعة من المغاربة على اختلاف مراجعهم الاجتماعية، وحتى لما تزايد الطلب السياسي والأمني والإعلامي على دراسة الحالة السلفية المغربية بعد تفجيرات بالدار البيضاء (مايو 2003)، التي اتُّهم جهاديون (سلفيون) بالوقوف وراءها، فإن ما أُنتج من بحوث ودراسات في مقاربة الموضوع (حتى الآن) لا يبدو كافياً ولا يقدم ما يلزم من المعرفة.
ولأن طوبوغرافيا التيار السلفي في المغرب، كما هي في كل الدول العربية، يتوزعها تنوع من الخطوط / الاتجاهات التي أتينا على ذكرها سابقاً (الملاحظة الأولى)، يبدو من الضروري أن نقوم بحصر وتحديد الخط السلفي الذي تهمنا تحولاته في هذا البحث: من هم السلفيون الذين قاموا بالمراجعات في الحالة المغربية؟
إن هذا الضبط المنهجي سيساعدنا على التركيز في اتجاه واحد بدلاً من التشتت بين عدة "سلفيات" غير متجانسة في كثير من الجزئيات ويصعب رصد تحركاتها جميعاً في وقت واحد، فضلاً عن أن تقصي المعلومات عن مراجعات السلفيين المغاربة بالخصوص دونه عقبات كثيرة، منها ما يتعلق بحداثة التجربة التي لم تتبلور بعد بوضوح كاف، بحيث نستطيع التمييز ما بين المراجعات وغيرها من التحولات البسيطة والمحدودة والظرفية التي قد لا تصل إلى مستوى أن تكون مراجعات بالمعنى الحقيقي للكلمة، ومنها ما يتعلق بطبيعة الفاعل الإسلامي المغربي عموماً المعروف عنه عدم العناية بتوثيق تحولاته الفكرية والحركية مهما بلغت أهميتها التاريخية.
عبر التيار السلفي عن وجوده في المغرب من خلال خطين / اتجاهين فاعلين:
أ ــ السلفية التقليدية (الوهابية) التي ارتبط وجودها بالشيخ تقي الدين الهلالي الذي توفي سنة 1987، فانتقلت المشيخة إلى الشيخ محمد عبد الرحمن المغراوي الذي كان قد أسس جمعية الدعوة إلى القران والسنة في مراكش سنة 1975، لكن المغراوي لم يتمكن من التحكم في كل السلفيين وضبطهم في إطار واحد، حيث واجه تحفظات كثيرة من قبل عدد منهم حول مسائل وشبهات تتعلق بمنهجه وتوجهه وأساليب عمله (موالاة النظام السعودي في المطلق وكذلك النظام المغربي في إطار صراعه مع الإسلام السياسي: العدل والإحسان تحديداً)، ما أدى إلى حدوث انشقاقات وخلافات في المجتمع السلفي المغربي، وكان من أبرز المنشقين محمد الفيزازي الذي ألف كتاباً يتهم فيه المغراوي بالعمالة والخيانة، وبأنه من "علماء السلطان" وسلفيته هي "سلفية الريال" (كتاب: عملاء لا علماء.. خذوا حذركم، 1997).
تتميز السلفية التقليدية في المغرب بأنها مسالمة ومهادنة ولا تتجاوز السقف الدعوي في موضوعات خطابها وفي تحركاتها الميدانية. هي سلفية انسحابية / انعزالية على المستوى السياسي لا تهتم بأيٍّ من المجالات المتصلة بالعملية السياسية، تتجاهلها من منطلق تصورها القائم على عدم جواز شق عصا الطاعة ومنازعة الأمر أهله، فهي لا تدوس على أعتاب الحكام إلا بالخير واللهج بالدعاء (لهم) والثناء (عليهم)، تركز على التربية والعبادات وتحفيظ القران وتلقين العلوم الشرعية والوعظ الديني، وما عدا ذلك لا يدخل في نطاق اهتماماتها، شعارها: "ما في الجبة إلا القران وحفظه".
يقول المغراوي عن دور / إنجازات السلفية التقليدية في المغرب:
ــ إحياء القران بالقراءة الصحيحة وتكوين جيل يقرأ القران بحق بقواعده التي رسمها علماء التجويد، وإحياء القراءات بالطرق الصحيحة. إحياء السنن ونشرها بكل وسائل النشر من كتاب وشريط مسموع ومرئي. الإصلاح العقدي. نشر الاستقامة والسلوك الصحيح والوسطية التي جاء بها القران والسنة دون إفراط أو تفريط (حوار مع موقع "هسبريس"، 15 / 4 / 2011). ويقول عن احتمالات التحول إلى العمل السياسي: "الدعوة السلفية ليست حزباً سياسياً ولا يمكن لها أن تصبح كذلك، لأن أساس الدعوة السلفية هو الإصلاح والدعوة إلى الله وربط الناس بالقران ومنهاج السلف الصالح... أنا ضد تحويل السلفية إلى حزب سياسي، هناك من يريد تأسيس حزب، لكن إذا استشاروا معي سأسأل ما مقومات هذا الحزب وما آفاقه وأهدافه؟ لا يمكن في نظري تحويل فكرة الدعوة إلى الله إلى حزب سياسي... نحن في السلفية التقليدية ليس لنا أجندة أو حسابات سياسية، لا نحبذ العنف، ونرى أنه لكل مسلم الحق في العيش بكل حرية، ونحن مع الحداثة التي لا تخالف الشرع..." (تصريح لموقع "مغاربية"، 19 / 7 / 2013).
ويعلق على تجربة الإسلاميين في المشاركة السياسية:
"حقيقة التجربة السياسية في جميع الدول الإسلامية... هي شبه فاشلة، لأنها تمشي في منحى التيارات العلمانية والليبرالية قدماً بقدم، دون أي تمييز، ومع ذلك لا أستطيع أن أخوض في التجربة السياسية لأنني لا أتابع المواقف التي يعبر عنها رؤساء الأحزاب (الإسلامية)... وفي رأيي فإن تجربة الكويت والأردن ومصر كفيلة بإعطاء الصورة الواضحة، وإلى حد الآن لا أرى أن هناك تجربة ناجحة أستطيع أن أبصم عليها" (حوار مع جريدة "المساء"، 15 / 4 / 2011).
هذا الكلام صرح به المغراوي ما بين 2011 ــ 2013، أي في سياق تحولات "الربيع العربي"، ما يعني أن هذه التحولات لم تنل من قناعات الخط السلفي التقليدي بخصوص أولوية "الدعوة" التي ظلت واضحة وثابتة دون أن تتأثر فعلياً بالحقائق الجديدة التي تتفاعل في المحيط الإقليمي الراهن، وذلك عكس ما حدث في مصر التي لم تتردد "الدعوة السلفية" مثلاً في الدخول إلى المجال السياسي عقب ثورة 25 يناير، فأسست حزب النور الذي أصبح الحزب الثاني في البرلمان بعد حزب الحرية والعدالة الإخواني (حصدت قائمته 24 في المائة من أصوات الناخبين).
وهنا يمكننا أن نختلف قليلاً مع بعض الدارسين الذين اعتبروا المواقف التي صدرت عن المغراوي منذ 2011، في ظل تفاعلات "الربيع المغربي"، مثل دعوة أنصاره إلى الاستفتاء بالإيجاب على دستور 2011 ("تغليبا لمراعاة المصالح العليا للبلد في هذه الظروف الحساسة")، ثم دعوتهم إلى التصويت على الحزب الذي يدافع عن الإسلام (العدالة والتنمية دون أن يسميه)، وانخراط بعض من أتباعه المقربين (حماد القباج تحديداً) في موضوعات كانت بعيدة عن نقاشات السلفيين في مرحلة ما قبل "الربيع العربي" (النقاش حول تعديل الوثيقة الدستورية) تعبيراً عن نوع من القطيعة مع شعار "من السياسة ترك السياسة"، فهذه المواقف لا تعكس تحولاً أو انتقالاً في مضامين وتوجهات الخطاب، وإنما تعبر عن استمرارية الرؤية نفسها التي ترفض وتنهى عن منازعة الأمر أهله، فهي مواقف تقليدية في انحيازها المطلق إلى السلطة الحاكمة، داخلة في إطار الدعم المتواصل الذي تقدمه السلفية التقليدية لولي الأمر الذي يجب الامتثال له وطاعته على طول الخط درءاً للفتن، وهو الدعم الذي لا تخفى شواهده على الرغم من محاولتها التكتم عليه بالترميز (مثلاً: النقد المبطن الذي وجهه المغراوي للحراك الشعبي الذي قادته حركة 20 فبراير الشبابية المطالبة بالتغيير).
وإذاً، السلفية التقليدية ليست هي مرادنا من هذا البحث.
ب ــ السلفية الجهادية: وهذا المصطلح المثير للجدل، منذ ظهوره في الخطابات البحثية والإعلامية في منتصف التسعينات، يُعَرَّف بأنه "تيار أيديولوجي ومشروع تحمله جماعات حركية مناهضة بشكل مطلق لما هو قائم من أنظمة اجتماعية وسلطات سياسية وثقافية سائدة وعلاقات دولية... وهي أيديولوجية تتسم بالخاصية المزدوجة التالية:
ــ أنها تشكل الصيغة الأكثر جذرية لتقسيم البشرية على أساس ديني، إذ لا تكتفي بالتقسيم التقليدي للبشر إلى مسلمين وكفار، بل توسع معنى الكفر أو الشرك وتقدم تعريفا ضيقا للإسلام يؤدي إلى إخراج جزء كبير من المسلمين من حظيرته.
ــ أنها تقدم في نفس الوقت الصيغة الأكثر جذرية لتسييس الدين، فتتعامل معه كأيديولوجية صدامية لا تقف عند هدف استعادة النظام السياسي الإسلامي في فضائه التاريخي المعروف، وإنما تتجاوزه إلى الجهاد ضد ما تسميه بالطاغوت والجاهلية في كل مكان من الكرة الأرضية، والعمل على إقامة دولة خلافة عالمية، أي حكم الإسلام للعالم كافة" (عبد اللطيف الهرماسي، حوار مع موقع "سويس أنفو"، 30 / 11 / 2007).
تقوم السلفية الجهادية على مجموعة من المبادئ / الثوابت أهمها:
ــ الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله ويبدل شرع الله تعالى بشرائع وقوانين الكفر ويحتكم إلى شرائع الطاغوت ويقدمها على شرع الله كافر مرتد لا تجوز له الطاعة ولا ولاية له على المسلمين، ولا بد من إقالته والخروج عليه.
ــ أي طائفة من الناس اجتمعوا على مبدأ غير الإسلام هي طائفة ردة وكفر كالأحزاب القومية والوطنية والشيوعية والعلمانية والديمقراطية.. هذه على اختلاف راياتها ومسمياتها كفر بواح ومروق ظاهر من الدين، فمن اعتقد بها، أو دعا إليها، أو ناصرها وقاتل دونها، أو حكم بها.. فهو كافر مشرك مهما تسمى بأسماء المسلمين وزعم أنه منهم.
ــ الديمقراطية كفر بواح ومروق من الدين لأنها تكرس ألوهية المخلوق وحاكميته، وترد له خاصية الحكم والتشريع من دون الله، وتعلي إرادته وحكمه على إرادة وحكم الله تعالى.. من اعتقد بها، أو دعا إلها، أو عمل بها، فهو كافر مرتد مهما زعم أنه من المسلمين.
ــ الجهاد أمر شرعي رباني لتحقيق دين الله في الأرض ولتزول الفتنة (الشرك) من الأرض، وحتى لا يبقى سلطان في الوجود إلا سلطان الله.. فهو الطريق الشرعي الوحيد والصحيح الذي يمكن الأمة من استئناف حياة إسلامية حقيقية على النهج النبوي (أبو محمد المقدسي، هذه عقيدتنا، 1418).
ارتبط ظهور هذا الخط السلفي في المغرب بعدد من المشايخ (أشهرهم: محمد الفزازي، عمر الحدوشي، محمد عبد الوهاب رفيقي، حسن الكتاني، عبد الكريم الشاذلي) الذين ظلوا يمارسون نشاطهم التعبوي بكل حرية منذ التسعينيات دون أن يثيروا الانتباه إلى خطورة ما يروجون له من أفكار ومعتقدات هي الأكثر تطرفاً وغلواً بين كل خَطابات النظام الفكري / الأيديولوجي السلفي، وحتى عندما خرج هؤلاء بُعيد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 للتعبير في الإعلام المحلي والدولي عن تأييدهم المطلق لتنظيم القاعدة وإعجابهم الشديد بأسامة بن لادن: "صحابي القرن الواحد والعشرين الذي يمثل صورة المسلم في أعلى صورة" و "مجدد الزمان وقاهر الأمريكان"، لم تتخذ الدولة أي إجراء حازم ضدهم إلى أن جاءت تفجيرات الدار البيضاء المروعة، فتم اعتقالهم وتوجيه اتهامات لهم بالتحريض على أكبر عملية إرهابية في تاريخ المغرب المعاصر.
إن هذا الخط السلفي هو الذي يتمحور حوله هذا البحث.
ونشير هنا إلى أننا بصدد خط غير مهيكل ومحدد في تعبيرات حركية واضحة المعالم على مستوى القيادة والتراتبية التنظيمية، أي أننا لا نتحدث عن تنظيمات سلفية جهادية قائمة بذاتها، بل مجرد أفراد يحكم تصوراتهم وتحركاتهم الإطار الجهادي، متناثرين هنا وهناك، ليس لهم ثقل عددي مقارنة بالمحسوبين على الخط السلفي التقليدي، وعلى هذا، فإن الأمر في الحالة المغربية لا يتعلق بمراجعات تنظيمية كما هو حال تجارب المراجعات التي ظهرت في السنوات الأخيرة في عدد من البلدان العربية: مراجعات الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد في مصر (2002 ، 2007)، مراجعات "ثلاثي التكفير" علي الخضير ــ ناصر الفهد ــ أحمد الخالدي الذين كانوا يوجهون نشاط تنظيم القاعدة في جزيرة العرب في السعودية (2003)، مراجعات الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا (2009)، مراجعات مؤسس الجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر حسن الحطاب (2010)، وإنما تتمثل خصوصيته في كونه محض اجتهادات فردية تعبر عن تحولات فكرية خاصة بأصحابها لا تلزم إلا المتأثرين الواقعين تحت سلطتهم الأدبية / الرمزية.
من جهة أخرى، يتعين الإقرار بفكرة أساسية مفادها أن هذه المراجعات ليست وليدة السياق الثوري العربي الذي دشنته ثورة الياسمين في تونس (2011) كما قد يظن البعض، الحقيقة أنها كانت موجودة ومطروحة قبل ذلك، فهي مرتبطة أو مطبوعة بسياق آخر مغابر تماماً هو مجريات "الحرب على الإرهاب" في نسختها المغربية التي انطلقت غداة تفجيرات الدار البيضاء (2003)، وأحدثت شروخاً وتصدعات عميقة في بنية الحضور الجهادي على المستويين النظري والحركي. فمباشرة بعد هذه التفجيرات غير المسبوقة في عنفها، شنت السلطات الأمنية حملة واسعة استهدفت كل ما له علاقة بالموضوع: بشرياً (الأسراب والخلايا)، ومادياً (التمويل)، وفكرياً (التحريض)، وكان من أوائل المستهدفين المشايخ الأربعة المذكورين، الذين طبقت شهرتهم الآفاق نظراً لكثافة حضورهم في المشهد الإعلامي خلال الفترة التي سبقت التفجيرات.
في السجن، وتحت تأثير صدمة مزدوجة: صدمة الأحداث التي أُقحمت أسماؤهم فيها، وصدمة الأحكام القاسية التي صدرت ضدهم بسببها، دخل هؤلاء المشايخ وكثير من أنصارهم أو ممن يتقاطعون معهم في الفكر والرؤية (الخط السلفي الجهادي نفسه غير متجانس وتخترقه بعض الاختلافات، ليس في النوع وإنما في الدرجة: درجة التشدد والعنف)، في اكتشافات جديدة لم تكن مطروحة في تصورهم قبل تجربة الاعتقال.
لقد وجدوا أنفسهم في مواجهة واقع يفرض عليهم إكراهات نفسية وذهنية في غاية القسوة. بدأت الأمور تأخذ منحى ملتبساً، وما كان واضحاً ومحسوماً من أفكار وقناعات وتصورات صار في حاجة إلى إعادة قراءة وتقييم، من هنا، كانت الضرورة ملحة لمراجعة جمبع المنطلقات والأسانيد التي يقوم عليها فكرهم وإخضاع مجمل قراءاتهم للفحص والتقصي بغية تحديد "الكلفة" و "المحصول" في الخطاب السلفي الجهادي، والأهم: القيام بمحاولة أخرى، من منظور مختلف، لتكييف عناصر / روافد هذا الخطاب، التاريخية والحديثة، مع المرجعية الشرعية الأصلية في الإسلام (القران والسنة)، خصوصاً في ما يتعلق بمفاهيم الحاكمية ــ الولاء والبراء ــ الجهاد، وهي المفاهيم الثلاثة الناظمة لموقف الجهاديين عموماً من الأنظمة السياسية (الحاكمية)، ومن المخالفين في الرأي والمذهب والدين (الولاء والبراء)، ومن استراتيجيات وأدوات تغيير الواقع السياسي والاجتماعي القائم (الجهاد).
لم يتأخر الوقت (ابتداء من 2005) حتى بدأت التسريبات الإعلامية تشير إلى مراجعات فقهية في طور التجريب يجريها السلفيون الجهاديون داخل أسوار السجن لمجمل أدبياتهم، وأن هناك مخاضاً نقدياً سيتشكل منه مولود فكري / فقهي جديد من شأنه أن يغير كثيراً من المعطيات والترتيبات القائمة في المجال الديني المغربي (غير الرسمي)، ثم بدأ النقاش يتوسع ويحتد حول طبيعة هذه المراجعات ومحتوياتها وخلفياتها ومدى جديتها وما هو موقف السلطات منها.
لكن موجة "الربيع العربي" التي لم تستعص عليها سواحل المغرب، بقدر ما أدت إلى اختلاط كثير من الأوراق السياسية والأمنية لدى السلطة الحاكمة، اختزلت كثيراً من التحركات والمسارات بالنسبة للجهاديين الذين يقبع معظمهم في السجون على خلفية اتهامات تتعلق بالإرهاب بكل صوره: ممارسة وتحريضاً وإشادة. خرجت حركة 20 فبراير الشبابية إلى الشارع للمطالبة بالتغيير، فجاءت الاستجابة سريعة من الملك: أُعلن في 9 مارس 2011 عن تعديل دستوري، واستُفتي عليه في الأول من يوليو، بعد ذلك، في 25 نوفمبر، جرت انتخابات تشريعية مبكرة تمخض عنها فوز حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) بالمرتبة الأولى. شكل الإسلاميون حكومتهم بلا مشاكل، وبدأت حقبة جديدة من تاريخ المغرب قُدر لها، باعتبارها لحظة تأسيسية، أن تكون مفتوحة على الاحتمالات كلها.
في غمرة هذا الواقع الجديد، جاء الإفراج عن مشايخ "السلفية الجهادية" بعفو ملكي خاص، والحقيقة أن حسابات اللحظة كانت تفرض مثل هذا الإجراء، فالمطلب الحقوقي كان في صلب مطالب وتفاوضات الحراك الشعبي الذي اجتاح شوارع المدن المغربية في فورته الأولى، والاتهامات التي حوكم بمقتضاها هؤلاء المشايخ لم تكن تتعلق بأفعال وممارسات، وإنما بمحض أفكار ومعتقدات. لم تكن لهم علاقة فعلية بتفجيرات الدار البيضاء، لم يشاركوا فيها، ولم يحرضوا عليها بالتحديد، لكنهم أُخذوا بسيف اللسان الذي تُرك على عواهنه مدة طويلة دون لجام.
بعد فاجعة الدار البيضاء تلاشت الحدود والفواصل نهائياً بين "القول" و "الفعل" عند الفاعل السياسي والأمني الواقع تحت تأثير صدمة هذا الاختراق البنيوي الذي أجهز تماماً على أسطورة "الاستثناء المغربي". حدثت تجاوزات فادحة على مستوى حقوق الإنسان في تلك الفترة لم يتردد الملك نفسه في الإقرار بها (في حوار شهير مع جريدة "الباييس" الإسبانية، 16 / 1 / 2005)، وكان المشايخ الأربعة (وآخرون كُثر) ممن طاولتهم هذه التجاوزات.
في أبريل 2011 أفرج عن محمد الفزازي وعبد الكريم الشاذلي في إطار عفو ملكي شمل 190 سجيناً أغلبهم من سجناء السلفية الجهادية الذين أعلنوا "التوبة"، بعدها، في فبراير 2012، أطلق سراح عمر الحدوشي ومحمد عبد الوهاب رفيقي وحسن الكتاني في إطار عفو ملكي آخر شمل 458 سجيناً معظمهم من "التائبين" عن الخط السلفي الجهادي أيضاً.
باستثناء عبد الكريم الشاذلي الذي اختفى عن الأنظار تماماً بعد الإفراج عنه، وعمر الحدوشي الذي أنكر أن يكون شيء من أفكاره قد تغير بعد تجربة السجن، لم يُخف الفزازي ورفيقي والكتاني أن تحولات كبيرة طرأت على مجمل أفكارهم، وأنهم اليوم غير من كانوا في الماضي: تخلوا عن الانغلاق والرفض وأصبحت اختياراتهم الاعتقادية أكثر اعتدالاً.. وانفتاحاً على الحياة.
وقد تأكدت ادعاءاتهم من خلال التجربة: محمد الفزازي ما زال يبحث عن تأسيس حزب سياسي بنَفَس دعوي اختار له من الأسماء "العلم والعمل"، أما رفيقي فقد أعلن انضمامه إلى حزب النهضة والفضيلة الإسلامي من أجل "تنويع العمل الإسلامي وخلق إضافة نوعية تجعلنا مساهمين في عجلة الإصلاح والتغيير".
ونُبرز هنا تجربة محمد الفزازي باعتباره نموذجاً معبراً عن المراجعات في السياق السلفي المغربي، واختيارنا له مرده إلى كونه يمثل بكل جدارة الوجه الأهم للخط السلفي الجهادي خلال السنوات التي سبقت تفجيرات الدار البيضاء، وإن كان الرجل ينكر هذا الأمر بشدة، ينكره حتى اليوم: حتى بعد أن صار الأمر من الماضي، بل إنه ينكر أن يكون سلفياً من الأساس. يقول: "أنا داعية إلى الله تعالى وخطيب جمعة رسمي في البلاد منذ حوالي 35 سنة، لا صلة لي بسلفية ولا سلفية جهادية ولا هم يحزنون" (حوار مع موقع "لكم"، 31 / 1 / 2013).
يقول الفزازي عن تحولات موقفه من الديمقراطية التي كان يرى أنها "دين كفري مبتدع وأهلها بين أرباب لها مشرعين وأتباع لها عابدين" (محاضرة "الديمقراطية ذلك الصنم")، وخصها بأكثر من كتاب، فضلاً عن مئات الخطب والمحاضرات التي سار بذكرها الجهاديون داخل المغرب وخارجه (عُثر على بعضها في الشقة التي كان يقيم فيها أعضاء المجموعة التي نفذت تفجيرات 11 سبتمبر 2001، وعند عناصر المجموعة التي نفذت تفجيرات مدريد في 11 مارس 2004):
"حق لكثير من المتتبعين أن يستفسروا عن الانقلاب الكبير الذي يبدو أنه حصل في تصوري للديمقراطية بين الأمس واليوم. فكان لزاماً علي ألا أترك استفسارات هؤلاء المتتبعين تذهب أدراج الرياح.
أقول حق للمستفسرين أن يستفسروا حول هذا التحول لأني أنا صاحب كتاب (الشورى المفترى عليها والديمقراطية) وصاحب كتاب (لماذا لا نشارك في الانتخابات الديمقراطية)، وصاحب محاضرات كثيرة جداً في هذا الموضوع كتلك التي عنوانها (الديمقراطية ذلك الصنم)... وفي المقابل أنا من أكثرت التصريحات بعد خروجي من السجن بإمكانية تأسيس حزب إسلامي، أو الانخراط في حزب العدالة والتنمية أو حزب النهضة والفضيلة... الخ. وكل ذلك مخالف تماماً لما كنت عليه من قبل. الشيء الذي جعل بعض المتسرعين يرميني بأغلظ النعوت ويلغ في عرضي مكفراً مبدِّعاً ومفسقاً.. هذا يتعالم من هنا.. وذاك يزمجر من هناك...
وأنا قبل توضيح المراد من الموضوع أحب أن أذكر أن تلك الانتقادات (والنصائح) لم ترد عن أي عالم أو مؤهل للنصح في هذا الموضوع الكبير، فقط هناك بعض المتصدرين للحديث والخطابة الذين صدقوا أنهم في مستوى التوجيه والتصحيح والتحليل والترجيح..، فوعظوني بكلام لا علم فيه ولا فقه.
تحجر كل هؤلاء (الناصحين) على فكر واحد ووحيد منغلق يجعلهم لا يعيرون أي انتباه لما يحدث حولهم يومياً من تغييرات في كل الجهات وتغيرات على كل الجبهات، سواء على مستوى الأنظمة أم على مستوى الحركات الإسلامية أم على مستوى مواقف العلماء الجديدة وعلى رأسهم السلفيون. أم على مستوى الحراك الشعبي في العالم العربي.. أم على مستوى الحركات الجهادية نفسها. لا يفرقون في ذلك بين متحرك وثابت، ولا بين أصل وفرع، ولا بين محكم ومتشابه...
بعد هذا أتطرق إلى موضوع التحرير الأساس وهو:
إنني لا أشك طرفة عين في أن أي مذهب فلسفي أو فكر يقوم على إقصاء الإسلام الحنيف من واقع الحياة لدى المسلمين، أو تفضيل الشريعة الوضعية الوضيعة على شريعة الله الرفيعة، أو يرى سمو ما شرعه الإنسان على ما شرعه الرحمن... لا أشك في أن مذهباً كهذا هو مذهب مرفوض شرعاً وعقلاً ومناف للإيمان، وأن القائلين به والمروجين له معتدون وظالمون بكل المقاييس.
فلماذا قلت من قبل إن الديمقراطية صنم يُعبد من دون الله في الوقت الذي أقول فيه الآن بإمكانية المشاركة السياسية في البلاد؟
أما الديمقراطية الصنم فقد قلته بالنظر إلى أصولها الأيديولوجية والتاريخية، وهي أصول تعتمد التنظير لشئون الدنيا دون الآخرة، ولقضايا الأرض دون اعتبار السماء، ولحقوق الإنسان وفق منظور معين دون حقوق الله تعالى وفق منظور الشرع بالنسبة للمسلمين على الأقل، وهو ما يعنينا نحن الآن في الصميم.
فرفض شريعة الله جملة وتفصلاً، والتشريع بدلاً عنها بما يضادها ويخالفها، وتقديم اجتهادات الإنسان على محكمات الكتاب والسنة، أو التعسف في تأويل المحكمات والاجتهاد من غير مجتهد ولا داع.. كل ذلك عندي مرفوض، وألف مرفوض. وكل ذلك حق لي أن أصفه بالصنم الذي يعكف عليه الذين لا يعلمون.
بل إن العلمانية التي تعترف بالإسلام ديناً لكن مجرداً عن شريعته ومقتصراً على شعيرته هي عندي صنم من الأصنام [أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون] البقرة: 85.
والعلمانية في بلادنا كائن غير شرعي، ومتسلل بدون (أوراق)، يعمل ضداً على الدستور والقوانين، وإسلامية الدولة وإمارة المؤمنين. وضداً على الديمقراطية نفسها التي من أبجدياتها التسليم للأغلبية. ولا يشك عاقل في المغرب أن الأغلبية الساحقة مسلمة تحب الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتحب الإسلام وتؤمن بشريعة أرحم الراحمين.
والجدد في الأمر اليوم، هو النظر إلى الديمقراطية من حيث مدلولها عند عامة المسلمين حكاماً ومحكومين.
فلا يجوز ــ والحالة هذه ــ الانعزال الاختياري عن حركة التغيير الجارفة المعتمدة للآلية الديمقراطية التي لا وسيلة غيرها تحقق الحد الأدنى من تحقيق الذات مع الأطراف المتعددة من الفاعلين السياسيين الذين هم من سيضع لنا سياسة النظام، ونظام السياسة التي سنخضع لها طوعاً أو كرهاً، إذا نأينا بجانبنا عن مزاحمتهم ومسابقتهم نحو مصدر التخطيط والتقرير.
هؤلاء السياسيون العلمانيون وغير العلمانيين، من مختلف المدارس الأيديولوجية والمشارب الفكرية هم من سيخطط لمستقبلنا ومستقبل أولادنا وأحفادنا سنين طويلة. ونحن المصنفين في دائرة السلفيين وأولادنا وأهلونا الذين علينا بعد ذلك السمع والطاعة في المنشط والمكره.
فهل من الحكمة والحق والعقل والمنطق أن نترك من ليس له أي رغبة في شريعة الله تعالى، وليس له أي برنامج يرضي فيه الشعب المسلم فضلاً عن إرضاء ربه.. يخطط ويضع البرامج السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية وغيرها ــ الداخلية والخارجية ــ وفق منظوره الأيديولوجي بما هو عندنا نحن أهل القران والسنة باطل ومرفوض؟ أم لا بد من مزاحمته على أصوات الشعب لتحقيق أهداف هذا الشعب في حماية عقيدته وهويته وجلب ما يمكن من المصالح وتكثيرها، ودرء ما يمكن من المفاسد وتقليلها؟
ولا أقصد هنا الأحزاب الوطنية الكبرى التي لا تعادي الإسلام بل هي متمسكة به، ولكنها فقط تمارس السياسة وفق اجتهاد معين نختلف معها فيه أو نتفق..
اليوم، تغير كل شيء...
لم تعد هناك تلك الديمقراطية القائمة على التزوير والكذب ونتائج 99 في المائة وشراء أسماء الفائزين قبل الشروع في الانتخابات، والإعلان عنها قبل فرز الأصوات أصلاً...
والعامل الجديد اليوم، هو استعداد عاهل البلاد أن يجعل من العملية الانتخابية عملية شفافة ونزيهة، لمحاصرة سماسرة الانتخابات... وذوي خزائن السحت الذين يتربصون بأصوات الفقراء لشرائها نصرة للمفسدين، وإبقاء المغرب في ظلمات الفساد والإفساد، أي إعطاء المسوغ الفعلي والدليل العملي لحركة 20 فبراير وجماعة العدل والإحسان وكل ذوي النزعة الثورية على مواصلة التظاهر، بل على استقطاب المترددين والرافضين لهذه المسيرات التي تخبو شعلتها في هذه الأيام...
أقول: لقد تحول اهتمامي من البحث الفلسفي والتاريخي والأيديولوجي للديمقراطية إلى اهتمامي بالنظر إلى المضامين المقبولة شرعاً وعرفاً عند عامة المسلمين دون الانحباس في العناوين أو الأصول المرفوضة، والتي لا يعلمها كثير من الناس.
إنني لم أنس ما قلته من قبل في آليات الديمقراطية ذاتها، لكن ماذا تريدون أن نفعل وليس أمامنا في إثبات الذات وتحقيق العدل والانعتاق من التهميش غيرها؟
لذا لا بد من استحضار مدلول الديمقراطية ذاته لدى عامة الناس في بلاد المسلمين، حكاماً ومحكومين، ومنها بلادنا المغربية، وهذا المدلول هو: الديمقراطية تساوي العدل والكرامة والحرية، ومنها حرية اختيار الحاكم ومحاسبته عند الاقتضاء..." ("مراجعات الفزازي: الديمقراطية بين الأصول المرفوضة والممارسات المفروضة"، ج 1، هسبريس، 18 / 9 / 2011).
إن هذا هو التفسير الوحيد الذي يسوقه الفزازي في معرض حديثه عن المبررات التي تقف وراء تحول موقفه من الديمقراطية والمشاركة السياسية من فتوى "التحريم" إلى إقرار "الإباحة"، وكما يبدو واضحاً، نحن بصدد تفسير موضوعي براجماتي (حتى في اللغة) أكثر منه تفسيراً شرعياً يستند إلى مسوغات دينية واضحة ومحددة، حتى إن الرجل لم يستشهد في نصه الطويل، الذي تعمدنا إيراده كاملاً، بأيٍّ من الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية أو أقوال السلف الصالح كما جرت العادة في الكتابات السلفية عموماً.
لقد أخبرنا الكثير عن الإطار العام لموقفه الجديد من الديمقراطية والمشاركة السياسية، لكن الأهم الذي لم يخبرنا به بوضوح كاف هو: كيف نقرأ الآن النصوص الدينية الكثيرة التي كان يسوغ بها تكفيره للديمقراطية شرعاً؟ ما محلها من خطابه الجديد الذي يتناقض جملة وتفصيلاً مع خطابه القديم؟
بعبارة أخرى: الفزازي لم يتح لنا حتى هذه اللحظة التعرف على المسميات الشرعية لعناصر المراجعات التي قام بها لمجمل أفكاره وقناعاته وتصوراته عن الديمقراطية والتكفير والجهاد وإمارة المؤمنين والمؤسسات والأحزاب السياسية والجماعات الإسلامية وسواها من المواضيع التي كان يخوض فيها تبديعاً وتفسيقاً وتكفيراً.. بلا هوادة. لم يقدم أي جهد تنظيري في الموضوع، يقوم على شروحات شرعية مفصلة ــ تفكيكاً وتركيباً ــ تضعنا في صورة هذا التحول الراديكالي في مواقفه، الأمر الذي يحد كثيراً من فعالية مراجعاته، لأنها مراجعات من دون أسانيد شرعية.
خاتمة
في هذا السياق، إذاً، يمكن قراءة مراجعات السلفيين الجهاديين المغاربة. لم تكن هذه المراجعات مرتبطة بأحداث "الربيع العربي"، وإنما جاءت تفاعلات هذا "الربيع" لتُسَرِّع في تفعيلها على أرض الواقع من خلال انخراط هؤلاء في مجريات الحياة السياسية محلياً وإقليمياً.
كما أن هذه المراجعات لم يتم التنظير لها شرعياً لتُمنح الحجية الدينية اللازمة، وإنما جرى الإعلان والتعبير عنها (أقلُّه حتى الآن) من خلال حزمة من البيانات والتصريحات الإعلامية التي يمكن تفسيرها على أكثر من وجه، الأمر الذي أفقدها كثير من إمكانيات الإقناع والتأثير في الأوساط الجهادية، وقد ساهم في محدودية هذا التأثير أيضاً عدم تفاعل الدولة معها بشكل إيجابي، ولا يبدو في الأفق ما ينبئ بقرب حدوث تحول في الموقف الرسمي من هذا الملف (= تحولات السلفيين)، وبين أيدينا نموذج حسن الخطاب، المحكوم بالسجن 30 عاماً على خلفية خلية "أنصار المهدي" التي تم تفكيكها في 2006.
لقد أعلن الخطاب عن مراجعاته منذ العام 2009، من خلال مبادرة بعنوان "مناصحة ومصالحة" وجهها إلى الملك مباشرة تهدف إلى إنهاء الصراع ين السلفيين الجهاديين والدولة، أعقبها بمجموعة من المراجعات الفقهية لمجمل المضامين التي تشكل الأساس النظري والشرعي للخط السلفي الجهادي في صورته الكلية العامة.
لقد تسرب بعض من وثائق هذه المراجعات، وبقراءة نتف منها يتضح أننا قد نكون أمام حالة مختلفة ومتمايزة عن كل ما هو سائد في الموضوع، فكما يبدو، من خلال بعض من العناوين المتوفرة: "نظرات عامة لترشيد الصحوة الإسلامية"، "التيار السلفي بين أسر الماضي ورهانات المستقبل"، "أزمة التيار السلفي: السلفية الجهادية نموذجاً"، "السلفية الجهادية: دولة التناقضات"، "شذرات الفائدة في أخطاء تنظيم القاعدة"، "السلطان الوفي بمراجعة التيار السلفي"، هي مراجعات لا تفتح الطريق أمام قطيعة كاملة ونهائية مع الفكر السلفي الجهادي فقط، وإنما مع الفكر السلفي في تعبيراته التقليدية أيضاً.
قد تكون مراجعات حسن الخطاب (استناداً إلى الأوراق التي اطلعنا عليها) هي النموذج الوحيد حتى الآن الذي تتوفر فيه شروط ومواصفات المراجعات الشرعية / الفقهية في الحالة السلفية على النحو الذي يوافق ما جاء في التجارب العربية السابقة، خصوصاً مراجعات الجماعة الإسلامية في مصر (1997 ــ 2002) التي تعتبر الأساس والمرجع في هذا الشأن، لكنها ما تزال حبيسة الأدراج خلف أسوار السجن، الأمر الذي يجعلها خارج سياق الموضوع.. إلى حين.
#سمير_الحمادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الله حق.. الإنسان هو الشر
-
ملاحظات على هامش ظاهرة إسلام البحيري
-
كفوا عن داعش.. فإنهم متّبعون
-
المتطرفون في الفيس بوك
-
الفراغ الأيديولوجي: أزمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وا
...
-
في مفهوم الشرعية السياسية
-
خلفاء خارج الصندوق
-
موقف الإسلاميين المغاربة من تنظيم -الدولة الإسلامية-
-
-وعاظ السلاطين- لعلي الوردي: قراءة وإضاءات
-
قراءة في كتاب -حديث الشيطان: مقابلات مع سبعة طغاة- لريكاردو
...
-
جماعة بوكو حرام
-
مقدمة في تاريخ الحركة الجهادية في سورية
-
قراءة في مصطلح -السلفية الجهادية-
-
في بؤس الإعلام المصري
-
عن الكواكبي.. ومعضلة الثورات العربية
-
عبد الله القصيمي: الأصولي المنشق
-
الإسلامولوجيا وسؤال الكفاية: نموذج مغربي
-
برقية.. إلى ثوار -الربيع العربي-
-
السياسة تفرّق شمل السلفيين في المغرب
-
في أزمة الربيع العربي
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|