|
إنه أبى العظيم سينوت حنا
حمدى عبد العزيز
الحوار المتمدن-العدد: 4882 - 2015 / 7 / 30 - 03:12
المحور:
سيرة ذاتية
كنت اندهش دائما من ذلك المدي الذي يذهب اليه الدكتور سينوت حنا في انضباطه الشخصي الشديد في نفس الوقت الذي يتمتع فيه بروح حالمة تعشق الموسيقي والفنون التشكيلية والرواية والشعر والمسرح.. كان منضبطا لدرجة انه لم يكن يطلب أمرا من عاملة عيادة الاسنان الخاصة به إلا ويسبقه بكلمة من فضلك... - من فضلك ياعايده تعمليلنا كوبايتين شاي انا والاستاذ حمدي.. وكان كذلك في تعامله مع كل من يعرفه وخصوصا نحن اعضاء حزب التجمع في البحيرة.. لابد ان يسبق طلبه بكلمة من فضلك .. وفي الدائرة الأقرب التي كان بينه وبينها قدر من العشم والدلال يسبق الطلب او السؤال ب ( وحياتك يافلان) كنت محظوظا اذ كان يقول لي عند سؤالي او تكليفي بشئ - وحياتك ياحمدي... وكان هذا يحدث مع مجدي شرابيه وعبد المجيد احمد وعبد المجيد الدويل وسعد قنديل وعلي عبد الحفيظ وثروت سرور.. حدثني عن ظروف اعتقاله في 1959 وكيف انه تأثر جدا عندما علم فيما بعد ان والده طوال فترة اعتقاله رفض ان ينام علي سريره وظل ينام علي الأرض مفترشا بطانية فقط لاغير وظل مصرا علي النوم بهذه الطريقة ، معللا ذلك بانه لايجوز له النوم علي اي سرير طالما ان ابنه ينام علي ( البورش) .. كانت عيناه وهو يحكي عن موقف والده تلمعان بمايشبه الدموع التي لايجب ان تسقط من عيني رجل في منتهي الانضباط والصرامة ، مما جعلني اعتقد ان انضباط هذا الرجل وصرامته ماهما الا ميكانيزمات دفاعية تخفي ورائها روحا في منتهي الرقة والطيبة الانسانية الشديدة وهو ماكان ينعكس علي شهامته المعروفة عنه وقوته في الدفاع عن الرفاق في مواجهة الملاحقات الامنية... هذا الرجل الذي كان - بلامبالغة - لديه القدرة علي ايقاف اي مسئول عند حده في الكلام... بل كان الرجل الذي شاهدته بنفسي ينهر احد محافظي البحيرة كما لو كان هو رئيسه في العمل ، والمحافظ يتعذر له ويحاول الافلات منه بالسؤال عن اولاده واسرته ودعوته لتشريفه في مكتبه في اي وقت فقد كانت لسينوت حنا القابع في البحيرة والرافض لاي موقع مركزي في الحزب كاريزما قوية لدي المجتمع البحراوي وهو شئ كان نادر الحدوث في اواخر السبعينيات وحتي منتصف الثمانينيات في ظل الحصار السلطوي الملاحقات الامنية لليسار المصري وتقلص عضويته بعد ضربات السادات الشديدة وتكفيره له الهم استثناء اخر في حالة الدكتور علي النويجي أسطورة اليسار في كفر الشيخ وصاحب الرؤي السياسية التي سميت في اوساط اليساريين المصريين ب (( النويجية)) وكان لها انصار كثيرين في انحاء مصر كلها ؛
وقد علمني أستاذي الأول - الذي أتذكره دائما كأب حقيقي - د. سينوت حنا درسا هاما ساعدني كثيرا كلما تعاملت مع الموقف السياسي.. فقد كنت أصغر اعضاء اللجنة القيادية لحزب التجمع في البحيرة عندما اخترت امينا لاتحاد الشباب التقدمي بالمحافظة وسني لم يكن تجاوز الواحد والعشرين عاما ، وكنت اجلس مع فطاحل اليسار في البحيرة علي مائدة اجتماع واحدة لمناقشة جدول اعمال الحزب ، اذكر منهم بالاضافة للدكتور سينوت حنا الذي كان امينا للحزب في المحافظة قامات مثل : عبد المجيد الدويل ، عبد المجيد احمد ، عبد الفتاح سلام ، محمد هبة الله ، محمد متولي الشعراوي، السيد ابوزيد ، تيسير عثمان ، محمد عبد الجواد ، حمدي عبد الجواد ، احمد عادل فوزي ، فاروق الحديني، فؤاد العتال ، ثروت سرور ، واخرين... وكان هؤلاء من اجيال متقاربة تمثل مافوق مرحلة الشباب وكان مجدى شرابيه يتصدر جيل الشباب ومعه زهدي الشامي ، وسعد قنديل ، و علي عبد الحفيظ وحمدي عقده وسعيد حموده وكان اصغرهم - وقتها - يتخطاني بما يتخطي العشر سنوات في العمر والتجربة والمعرفة.. ولذلك كان مجرد حضور الاجتماع هو عيد وإحساس بالشرف والقيمة بالنسبة لي انا الصبي الذي يقف علي عتبات الشباب تفتح وعيه بالفكر الإشتراكي مبكرا جدا نتيجة لظروف لامجال لسردها الان.. كان البند الرئيسي الشهي في جدول الأعمال هو الموقف السياسي وطبعا كان كل من هؤلاء الفطاحل يدلوا بدلوه عبر معلومات وتحليلات سياسية مبهرة لم يكن يتميز بها في مصر سوي كوادر اليسار المصري واعضائه .. ، ورغبة مني - وقتها - في ألا اكون كالتلميذ البليد الذي لايرفع يده ليشارك في النقاش وحرصا علي ان أكون متجاوبا وندا لهؤلاء كنت امسك بجريدة الأهرام واظل اضع الخطوط تحت معلوماتها الهامة واقوم بعمل قصاصات اراجعها ليلة الاجتماع .. كذلك كنت اتابع اذاعتي مونت كارلو والبي بي سي بالورقة والقلم.. ثم احرص يوم الاجتماع علي اخذ الكلمة واقوم بالرغي والسرد للموقف السياسي هنا وهناك في عملية ( دلق) لم اتنبه لها للمعلومات التي اختزنتها طوال شهر كامل ثم اربطها ربطا متعسفا بجملتين او ثلاث عن الاشتراكية والاطمئنان علي ان كل هذه الاحداث تؤكد ان الاشتراكية تكسب اراض جديدة وتجتاح العالم منتصرة وفقا لمقولة الحتمية التاريخية.. بعد عدة اجتماعات طلب مني الدكتور سينوت زيارته في عيادة الأسنان التي أصبحت فيما بعد هي حجي الدائم لمدينة دمنهور ، فقد كان هو اشهر ، وامهر طبيب اسنان في محافظة البحيرة بكاملها... كان لديه انتريه اسيوطي في غرفة مجاورة لغرفة الكشف وصالة الانتظار ربت علي كتفي سائلا عن احوالي واحوال بلدتي وأصدقائي ، تحدث معي كثيرا عن الأدب والفن والموسيقي ثم أخذني من يدي بحنو بالغ قائلا ( تعالي هاافرجك علي حاجه وقولي رأيك) ازاح ضلفة الشباك الكامنة فوق مكتبه الخاص عن لوحة زيتية بها رسم تقترب خطوطه الي التجريد لسيدة عارية تحتضن طفلا داخل احشائها.. اخبرني انه هو الذي قام برسم هذه اللوحة شرح لي طبيعة الالوان وتوزعها وتداخلها مابين الساخن والبارد والضوء والظلال وعلاقة ذلك بموضوع اللوحة وهو المرأة ثم اخذني لنعود ثانية لغرفة الأنتريه واكمل الحديث عن اهمية ان الاحظ العلاقات المتشابكة فيما بين عناصرها وامارس طرح الاسئلة عليها لاستكشف مغزاها واصل الي فلسفة هذه اللوحة.. جلست بين يدي هذا الرجل الذي في عمر ابي منبهرا بموسوعيته المعلوماتية وقدرته علي تبسيط ادوات التوصيل والعرض دونما ادعاء او تعال او من.. فاجئني قائلا ( ،وبرضه لازم تعمل كده دايما وانت بتتابع الاحداث السياسيه ، احنا شغلتنا نحلل اللي ورا الأحداث ونربطها ببعضها وندور ورا المغزي منها، مش نرويها كمسائل قدريه، لاننا بالطريقه دي هانبقي مجرد رد فعل ومش هانقدم ولانأخر ... ) كان يسمعني هذه الكلمات وعينيه تلمعان بالمحبة والحنو لابالعتاب واللوم.. واصل حديثه قائلا ( مش مهم اتكلم قد مااسمع واحلل واتعلم...) وانتهت الجلسة بعزومة علي علبة بولوبيف وحبات زيتون اسود وخبز ، وذلك ماتناولته كثيرا معه بعد ذلك طوال ثلاثون عاما فقد صرنا منذ هذا اليوم صديقين حميمين انا وأبي وأستاذي ومولاي الدكتور سينوت حنا - رحمه الله.. وكان هذا اول الدروس التي تعلمتها منه ذلك انه ليس مهما ان امتلك المعلومات فقط ، ولكن الاهم من ذلك هو ان امتلك ادوات التعامل معها لكشف الملابسات والدوافع والنوازع التي تقف ورائها والقوانين التي تحكمها وفهم التعقيدات والتجليات التي تعتريها احيانا... صداقتنا الروحية مستمرة يادكتور سينوت حتي وانت في مستقرك الاخر فلتسمح لي ان اتكلم عنك - مرات اخري عديدة - قد لاتفي بقيمتك الثمينة في حياتي ، ولا بقامتك الباسقة حتي اطراف السماء التي صعدتها منذ سنوات ولم تفلح في حجب حضورك كيقين راسخ داخلي
#حمدى_عبد_العزيز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إيران ليست هى عدونا الرئيسى
-
ندبة فى أحد الأعياد
-
أعياد الذاكرة
-
تعظيم سلام للجندية المصرية
-
تعليقات هامشية على عملية اغتيال النائب العام
-
نداء إلى كل القوى المدنية الوطنية المصرية
-
العداء للمشروع الصهيونى .. ليس مجرد عداء عاطفى ..
-
موسم شتل الأرز
-
العامل الذاتى لم ينضج بعد
-
سؤال اليوم الصيفى الحار
-
خطر آخر ..
-
12 مايو 1984
-
ولو .. فنهر التاريخ يتدفق إلى الأمام
-
لا رجوع للخلف
-
كوميديا سوداء فى عيد العمال
-
عاجل .. من ماجده رشوان .. إلى رئيس الجمهورية
-
لا للانجرار وراء آل سعود
-
الهطل الإستراتيجى العظيم
-
الحال من بعضه ..
-
لا شيعة ولا سنة ، ولا يحزنون ..
المزيد.....
-
اتفاق الهدنة بلبنان.. مؤلفة كتاب -أرض حزب الله- تبرز 3 أمور
...
-
هدوء -غير عادي- ومخاوف من تهديد حزب الله.. كيف يبدو الوضع شم
...
-
ريابكوف: على روسيا أن تعيد الأمريكيين إلى رشدهم
-
ترامب يقول إنه اتفق مع رئيسة المكسيك على وقف الهجرة والأخيرة
...
-
الجيش الإسرائيلي في بيان عاجل: يحظر عودة سكان 10 قرى جنوب لب
...
-
مستشار السيسي يحذر من ظهور فيروسات جديدة
-
ماسك يتهم موظفا سابقا في البيت الأبيض بالخيانة بسبب علاقاته
...
-
مرشحون في إدارة ترامب يتعرضون لتهديدات بالقنابل
-
صحفية: إدارة -سي بي إس- رفضت إجراء مقابلة مع ماسك دون تحرير
...
-
عوامل بيئية تزيد من خطر الإصابة بـ-كوفيد طويل الأمد-
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|