محمد فاضل رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 1346 - 2005 / 10 / 13 - 13:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عادة ما تثير التدخلات العسكرية الأمريكية في العالم موجة من التنديد و العداء الشعبيين غالبا ما تأخذ طابعا احتجاجيا حادا ما بين التظاهر في الشوارع أو استغلال مختلف وسائل الإعلام المرئية منها و المقروءة و المسموعة في التعبير عن حالة الرفض إزاء هذه التدخلات, التي عادة ما تفتقر لأدنى معايير الشرعية الدولية مما يعيد إلى الأذهان صورة الاستعمار التقليدي التي يفترض أن العالم قد تجاوزها بانبثاق محددات جديدة للسياسة الدولية أساسها حق الشعوب في تقرير مصيرها ذلك أن الأمر أصبح يتعلق كما هو الحال في أفغانستان والعراق باحتلال عسكري تتلوه عملية تنصيب حكومات موالية غايتها تكريس التواجد الغربي و حفظ مصالحه التي أتى من أجلها .هذا الافتقار للشرعية الدولية تعودت أمريكا محاولة الالتفاف عليه من خلال إضفاء طابع التدويل على تدخلها بضمان غطاء دولي يتراوح ما بين الفعلي كما هو الحال ببريطانيا و أسبانيا-قبل انسحابها- في حالة حرب العراق, و الرمزي الذي تكمن دلالة حضوره في تضخيم عدد الدول المتحالفة.
بموازاة مع تدويل طابع التحالف ضد البلدان المستهدفة يتم تدويل ردود الأفعال أيضا لتكون النتيجة عادة إنزالات احتجاجية تجتاح شوارع البلدان المشاركة في التحالف الغاية من ورائها إدانة هذه التدخلات و الضغط على الحكومات لسحب جنودها مما يعطي الانطباع بوجود قطيعة بين الشارع الغربي و أجهزته الحاكمة و هو ما لا يستقيم و طابع الديمقراطية الذي يوفر هامشا مهما من إمكانية التحرك و التأثير, فهل يعدم الشارع الغربي فعلا وسائل فعالة لتغيير سياسات بلدانه الخارجية؟ و هل بإمكان أجهزة حاكمة الاستمرار في نهج سياسة تؤدي بها إلى العزلة إزاء مواطنيها؟ و كيف نفسر هذا النوع من التناقض ما بين الخطاب الشعبي الغربي المتعاطف مع قضايا الجنوب و مواقفه الانتخابية الداعمة لتوجهات الحكومات الغربية المسؤولة عن بؤس هذا الجنوب؟ إن محاولة التعرض لهذه الإشكاليات تفرض قراءة لمواقف الرأي العام الشعبي في دول الشمال إزاء الجنوب ما بين التنديد و الاحتجاج الشعبي و الدعم الانتخابي و هو ما يمكن استخلاصه بجلاء من خلال نموذجي الانتخابات الإسبانية و الأمريكية الأخيرة على هامش غزو العراق فقد كان تشكيل إسبانيا للضلع الثالث في المثلث الأساسي لغزو العراق إيذانا بانطلاق ردود أفعال عنيفة احتجاجا على توريط البلاد في مستنقع حرب غير عادلة و لا شرعية جعلت أغلب المتتبعين يتنبئون بسير حكومة أثنار في اتجاه عزلة سياسية داخلية قد تعصف بها في أول اختبار على شعبيتها ما دامت الأصوات المعارضة مدعومة بالحزب الاشتراكي المعارض قد أحاطت بها من كل صوب. غير أن استطلاعات الرأي التي سبقت انتخابات مارس 2004 كانت تسير في الاتجاه المعاكس , فالحزب الشعبي كان سيكتسح المشهد السياسي الإسباني في نصر جديد بدأت معه التساؤلات تتناسل حول قدرة ورثة فيليبي غونزاليس على تحقيق توازن سياسي حقيقي يضمن تناوبا ديمقراطيا على السلطة, غير أن دخول حزبي العراق و القاعدة على خط الناخب الإسباني في لحظة الحسم الانتخابية و تصريحات أثنار المضللة بتحميله مسؤولية التفجيرات لحركة إيتا رغم أن الدلائل أشارت إلى تورط القاعدة, غير مسار النتائج باتجاه الاشتراكيين فكان أن سطع نجم جديد في سماء السياسة الإسبانية اسمه لويس رودريجيس زاباطيرو وفى بوعد اليسار بالانسحاب من حرب غير شرعية و غير عادلة. لقد حمل سيناريو انتخابات 2004 تناقضا في الموقف الشعبي الإسباني تجاه سياسات حكومته من جهة وتجاه قضايا الجنوب من جهة أخرى ما بين التظاهر في الشوارع ضد السياسة الخارجية و التصويت على هذه الحكومة بما يضمن استمرار سياستها الداخلية و الخارجية لأطول فترة ممكنة.أما على الواجهة الأمريكية فبتجاوز التدخل في العراق خط الرجعة , و ثبوت تورط الآلة الحربية الأمريكية في مستنقع جديد غير بعيد الملامح عن فيتنام و الصومال, وتوالي عجز هذه الآلة رغم إمكاناتها الهائلة عن إحلال السلم الموعود , و التحكم في مجريات الأمور, بدت انتخابات نونبر الأمريكية أشبه ما تكون باستفتاء شعبي على شرعية هذا التدخل باعتباره الحدث المسيطر على ولاية بوش الأولى, هكذا بدا مرة أن المسار السيئ للأمور في الساحة العراقية سيؤثر لا محالة على حظوظ أكثر الإدارات الأمريكية تطرفا في سباق الانتخابات, خصوصا مع ارتفاع حدة الاحتجاجات الشعبية لصالح مرشح الديمقراطيين جون كيري الذي حدد موقفه بوضوح من هذه الحرب بمقولته الشهيرة إنها حرب خطا في المكان الخطأ في الزمان الخطأ .غير أن ولاية أوهايو كان لها رأي آخر في مسار الأمور , هكذا ضمن بوش ولاية جديدة و الأكثر من هذا شعبية افتقدها في ولايته الأولى, فقد كانت أوهايو أكثر كرما من فلوريدا. أما مشروع بوش الاستعماري في الشرق الأوسط فله إذن تأييد أكثر من نصف الشعب الأمريكي..و لا مانع من الاحتجاج من حين لآخر.
إذا جاز لنا أن نمعن الثقة في الديمقراطيات الغربية التي من المفروض أنها ترهن استمرار الأجهزة الحاكمة في السلطة بأصوات الناخبين, فكيف إذن يمكن لهذه الأصوات أن تعبر عن شجبها و عدم رضاها عن سياسات حكوماتها بالتصويت لصالحها و هل هناك أمور أكثر أهمية من السياسات الخارجية تتحكم في قرار الناخب الغربي و بالتالي ما مدى جدية حملات الاحتجاج الشعبية هذه؟
إن طبيعة العلاقة المعقدة بين الشمال و الجنوب بأبعادها التاريخية و النفسية و الاجتماعية تجعل من محاولة رصد المواقف الحقيقية للشارع الغربي إزاء مآسي الجنوب أمرا ليس بالميسر ذلك أن تتبعنا لمسار هذه المواقف بين النموذجين الإسباني و الأمريكي بخصوص غزو العراق تؤدي بنا للقول بأنها لا تنفصل كثيرا عن مواقف الخطاب الرسمي الغربي الذي اعتاد سياسة الكيل بمكيالين تجاه قضايا الجنوب مابين خطاب متحضر أساسه قيم الحداثة والحرية و التنوير و ممارسة استعمارية غايتها الاسترقاق بأشكاله الحضارية والمتخلفة تعصف بحق هذه البلدان في التنمية بل وحتى في الوجود.
من جهة أخرى بالإمكان اعتبار ثقافة الاحتجاج في المجتمعات الغربية شكلا من أشكال الترف الغربي المستفيد من هامش مهم من الحرية قد يتم تصريفه في قضايا ليست ذات أهمية و أولوية قصوى في تحديد خيارات الناخب الغربي, فمن المعروف أن القضايا الحاسمة في تحديد مسار الصوت الغربي هو أداء حكوماتها على المستوى الداخلي و حجم استفادة الناخب مباشرة و ليس مقدار الأسى التي تسببه هذه الأجهزة للغير في الخارج. من هنا كانت النتائج الجيدة التي حققها الاقتصاد الأسباني تحت حكم اليمين على امتداد حكومتي خوسي ماريا أثنار ممرا مناسبا لهيمنة اليمين على مقاليد السياسة الإسبانية , أما السياسة الخارجية و لو تعلقت باحتلال دولة و السيطرة على خيراتها فمتروك لاحتجاجات الشوارع و ليس لصناديق الاقتراع , هكذا لم يتخل الناخب الإسباني عن أثنار إلا بعد أن وصلت أصداء سياسته الخارجية إلى الداخل , أما الأمريكيون فيبدو أن بوش قد نجح أخيرا في إقناعهم بأن حماية الداخل يمر عن طريق فتح جبهات في الخارج و له الآن أن يكافئ مساعديه المخلصين من صانعي الرعب و الدمار الذين ما كان له أن يكون من دونهم أمثال كوندوليزا رايس و ديك تشيني.
الواقع أن على الناخب الغربي التخلص من حالة السكيزوفرينيا المتحكمة في سلوكه الانتخابي ما بين الرفض الشعبي لسياسة حكوماته و مساندتها انتخابيا باستغلال هامش الحرية و الديمقراطية المتاح لديه في التأثير في صنع القرارات ببلاده بما يعكس الخلفية التنويرية للحكمة الإنسانية المنبعثة من ثقافة الغرب و التي لا تجد لها مكانا أمام الهيمنة الغربية على أرزاق و أرواح الآخرين وسط مباركة شعبية اللهم إلا من مسيرة هنا أو لافتة هناك...
#محمد_فاضل_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟