أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسن ميّ النوراني - صفرية الوجود















المزيد.....


صفرية الوجود


حسن ميّ النوراني
الإمام المؤسِّس لِدعوة المَجْد (المَجْدِيَّة)


الحوار المتمدن-العدد: 361 - 2003 / 1 / 7 - 03:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    




دكتوراه في الفلسفة وعلم النفس الروحي

 
يعتقد التصور الإدراكي أن الوجود يتغير باستمرار، وأن المسمى، أي مسمى، يبقى هو ذاته في زمان ممتد. ومنذ يلد أحدنا، يحمل إسما يظل طوال حياته إشارة إلى مجموعة من الأحداث التي نعتقد أنها تتمحور على أصل واحد لا يتباين، ونعتقد أن المسمى، بالتصور الإدراكي، يقطع رحلته فيما نسميه "زمانا يتكون من ماض وحاضر ومستقبل".
تصورنا للأشياء، بالعقل الإدراكي، يرتبط بما نعتقد أنه الحادثة الأولى من سلسلة حوادث تُكوِّن فردا مستقلا عن الغير. لأن الحادثة، أية حادثة، منفلتة بطبيعتها، فقد اخترع العقل حيلة للإبقاء عليها، فأحلَّها فيما سماه حافظة الماضي. وربط الصورة المنطبعة في ذهنة للحادثة، مع مقولة الماضي. ثم اخترع مقولة الحاضر، ليميز بين انطباع جديد وانطباع قديم بالعالم المباين له. ربط الإنسان علاقته مع الوجود بما سماه الزمان، وعندما أيقن أن الماضي، والحاضر، متفلت ولا يُقبض عليه، اخترع مقولة زمانية جديدة، سماها المستقبل؛ والمستقبل غير متفلت، لأنه غير موجود. لكن الإنسان الذي يتوهم أن الوجود متفلت منه، ولأن حقيقة الوجود أنه لا يصير عدما، فقد اضطر العقل، بين حدَّيِّ الحقيقة والتوهم، إلى اختراع مقولة المستقبل، لإقناع الإنسان لنفسه بأن ثمة إمكانات بقاء أخرى له قائمة، غير تلك التي أفلتت منه والتي سماها الماضي والحاضر.
في عقيدتي: الزمان المنقسم إلى ماض وحاضر ومستقبل وهم لا حقيقة له.
الإدراك الانفصالي للمسميات، الذي يشكل مفهومنا عن الموت، وتجربتنا المريرة معه، (باعتباره أحد صور الإدراك الانفصالي)، جعل المقولة الانفصالية مفهوما أساسيا في فهمنا للوجود. وربْط الوجود المتحرك بمقولات الزمان الثلاثية، كرَّس لدينا فكرنا الانفصالي، بقدر ما كان الفكر الانفصالي دافعا لاختراع مقولات الماضي والحاضر والمستقبل.
فلو قلنا إن الوجود لا يتكون من مسميات (فاطمة، حجر، زهرة، بحر، سماء..)، ولكن هذه المسميات إشارات عقل إدراكي لنسق كلي (في حقيقته هو متفلت من ذاته كل ومض [الومض غير ممتد، والومض ليس زمانا، هو فعل]) مكوناته الأساسية وحدات وجودية بسيطة لا تقبل القسمة، ومن ثم لا يجوز وجودها في حال انفصالي، لو قلنا ذلك، فسيكون هذا القول نفيا لمقولة الزمان المنقسم المرتبطة مع مقولاتنا الانفصالية.
ثم إذا صار إيماننا بالوجود منبنيا على عقيدة "تفتح الوجود ذاته على ذاته"؛ وإذا تحررنا من عقيدة "الموت فناء، وانفصال مطلق عن الوجود"؛ وإذا تحررنا من عقيدة "الفناء التي بُني عليها عقيدة الخلق من العدم"؛ فلن يكون من الشاق على التفكير الإنساني قبول فكرة جديدة تلغي المفهوم الزماني المدرَك بتصور غير دقيق.
كل حادثة هي كينونة واحدة لا يمكن فصل أي جزء منها، إنها بسيطة غير مركبة، ولا يمكن أن تكون مركبة؛ لأن الحادثة فعل فاعل واحد بسيط غير مركب هو الذي يجوز تصور أنه أصل (هويّة) الوجود، وبالتالي أصل (هويّة) كل الحادثات الوجودية. وما كان واحدا لا يخلق إلا واحدا مثله. الواحدية طبيعة الخالق المستغرقة لوجوده، ولو كان الخالق مركبا لكان الوجود الأصلي  متعددا، ولن يكون كله منتميا للوجود، فانتماء كل ما هو وجود للوجود يقضي على احتمال صحة أية فرضية بأن الوجود متعدد.. في الوجود، لا محل لغير الوجود. . لا محل للقول إن الوجود (بطبيعته الوجودية الواحدية) يقبل التعدد.
وفعْل الخلْق، أو فعْل الفاعلية الواحدية، يتم في ومْض [هو الفعل ذاته وهو ليس زمنا متعددا]. ليس الومْض شيئا آخر غير فعل الحدوث؛ ليس في الوجود زمان، في الوجود فعل. وإذا كان ليس في الوجود زمان، فما نتوهمه بأن الأشياء ذات وجوهر (أصل)، هو محل لأعراض تحل فيه في زمان متعدد لا يستند إلى حقيقة الوجود الخالي من الزمان.
تصورنا لزمان متعدد مسئول عن وهمنا بأن الوجود متعدد.
واعتقادنا الواهم بأن للحادثة، كل حادثة، جوهر ثابت وأعراض متغيرة، هو المسئول عن مفهومنا الخاطىء الذي نخلط به بين مفهوم التعددية الوجودية ومفهوم تكثرّ الوجود.
الأخير حق، لا بمعنى أن الوجود متعدد. ولكن لأن الوجود الواحد، وجود فاعل فاعلية مستمرة، وفاعليته من طبيعته الواحدية، وفاعليته الواحدية لا تفعل غير أفعال (حادثات) كل منها متقوم بالطبيعية الواحدية. الكثر دليل على استمرارية الفاعلية الواحدية، التي لا تني عن تحقيق ذاتها، في ذاتها، لا في غير، لعدم وجود الغير.
والفاعلية لا تفسير لها، لأن كل تفسير تحليل، والتحليل رد المركب إلى مكوناته، والقول بكائن مركب يقتضي القول بأزمان سابقة عليه كانت إطارا للتركيب، أو شرطا له؛ فلو كانت الفاعلية المطلقة (الأصل المطلق) مركبة، فإنه يلزم عن ذلك أنها مسبوقة بتعدد وجودي، أو وجودي وغير وجودي، الأخير غير جائز لأن الوجود كله وجودي، والأول لا يصح اعتباره تعددا لأنه كله ذو طبيعة وجودية واحدة، بالارتقاء إلى مقولة الوجود مطلقة التجريد، وبالتعمق في الوقت نفسه، إلى مقولة الوجود مطلقة التجسيد.
الفاعلية، لواحديتها، تنتج موضوعها منها؛ ولاستمراريتها، فهي تنتج في كل لحظة موضوعا جديدا؛ ولظهورها، فإن كل موضوع جديد يلد مباينا للموضوع القديم، مباينة نسقية.. لكن، لا التجدد، ولا المباينة ينفيان جوهرية الفاعلية التي تفعلهما.
وجوهر الفاعلية هو أنها فاعلية واحدية: فاعلية واحد يفعل واحدا.
القول، الذي نقوله، إن الفعل (الفرد، الكينونة) واحد، يساوى قولنا: الحادثة (الفعل:الفرد، الكيونة) لا تعيش أزمانا تتكون من ماض وحاضر ومستقبل. نفينا تعددية الأزمان، لأن مقولة الزمان المتعدد بين ماض وحاضر ومستقبل، وهم صدر من التفرقة الموهومة بين جوهر وعرض [أساسه تربيتنا الانفصالية]، وما ترتب عليها من التوهم بأن الجوهر ثابت، والأعراض تتغير، وتغيرها هو الزمان، أو يحدث ـ تغيرها ـ في الزمان، المتعدد.
نفي الزمانية الثلاثية يختصر المسافة الزمانية بين الفاعل (الخالق) والفعل (الخلق) إلى مقدار يساوي صفرا. بين الفاعل وفعله (الخالق وخلقه) لا فاصلة (:كن يكون) .
قد يؤدي نفي الفاصلة الوجودية بين الفاعل والفعل إلى الاعتقاد بأزلية الفعل (الخلق، الحادثة). لو كانت الحادثات أزلية، فستكون كذلك يما تمنحه لها طبيعة أزلية للفاعل. الفاعل يمنح طبيعته للفعل. لكن الحادثات، كل حادثة بذاتها، محدودة الوجود، بقياسها بوجودها المباين لوجودات حادثات أخرى. ليس هناك فعل أزلي، فالفاعل ليس أزليا: العقل يعي الفاعل بفعله. مقولة الأزلية أنتجها الوهم الذي قال يالزمان المستقل المتعدد، الذي نتج من وهم تصور أن الوجود، مدركا في الموجودات، يتكون من جواهر وأعراض متغيرة بذاتها. وُسحب هذا التصور على مجمل الوجود، ولما لوحظ التغير، توهم العقل أن الوجود المدرَك في الموجودات كلها، عرض لجوهر ثابت لا يتغير، ومفارق للتغير، كصفة أساسية أولى للموجودات (الزمانية)، فهو ثابت، وهو غير زماني (أي: أزلي).
الفاعل المطلق سرمدي، وليس أزليا. السرمدي هو المتصل الذي لم يبدأ من بداية، ولا ينتهي إلى نهاية . السرمدية مقولة تملأ الوجود كله؛ والفاعل يملأ الوجود كله :يملأ ذاته). وأفعال الفاعل ليست وجودا زائدا عليه. الفعل يوجد بالفاعل. والفاعل فاعل بفعليته.
نظريتنا لن تتفق مع مفهوم يعتقد أن قدرة الفاعل (المطلقة) [مطلقية الفاعلية في عقيدتي: حريته واستمرارية تفلته من نهايات الفاعلية: من الصيروة إلى الفناء؛ حريتة الفاعلة يمفهونا طبيعة من طبيعة استغراق الوجود لذاته: عدم العدم]، تخلق الخلق من عدم. ولنقبل مفهوم الخلق من عدم، فلن نقبله إلا بالعقل؛ لن نقبله بالسماع إذا لم يُجِز العقل صحة ما يسمعه.
العقل ينطلق من الخبرة؛ وخبرتنا ـ حتى الآن ـ لا تقبل فكرة خروج الوجود من عدم: كل وجود يأتي من وجود.
وتصور خلق من عدم، نشأ من معرفة "سماعية"؛ العقلية تسلم بمحدودية العقل، ولا تزعم أنه أحاط بالمعرفة كلها.  ولكنها تعتقد أن المعرفة الممكنة للإنسان، ليست شيئا آخر غير ما يمكن أن يستوعبه العقل الذي ينبني بتجارب تشكل خبرته، وأساسه المعرفي لقبول تصديق، أو ترجيح، ما لم يدخل دائرته المعرفية. ما نسمعه لا بد أن نتعقله، إننا نسمع كثيرا، ولو كانت المسموعات كلها صادقة، لكان للعقائد كلها أساس زائف، هو تضاداتها. ما يميز العقائد، بين صادقة وغير، هو العقل المؤسس بالخبرة بالعالم الواقعي، بالحقيقة المحاط بها.
لن تصح مقولة الخلق من عدم، إلا إذا كان العدم وجودا، وبذلك ستكون المقولة: الخلق فعل من وجود. وأصحاب نظرية: الخلق من عدم، لن يتفقوا معنا على اعتبار العدم وجودا.
ليست الخبرة العقلية هي وحدها التي تنقض مفهوم: الخلق من عدم؛ الدين الإسلامي، الذي يتوهم أصحاب نظرية "الخلق من عدم" أنه يسند دعواهم، لا يقبل دعواهم. الخلق في القرآن الكريم، لا يحدث من عدم: "أم خُلقوا من غير شيء؟" وأيات كثيرة تقرر أن الخلق الحادث يكون من خلق، أي من وجود لا من عدم.
ويتوهم مفهوم الخلق من عدم أنه يستند إلى مفهوم قرآني يصف الخالق بـ"القدرة على خلق كل شيء". والمقولة المُستند إليها صحيحة، لا بمفهوم أصحاب نظرية الخلق من عدم؛ صحيحة بمفهوم القرآن الواضح القاطع: الله قادر على كل شيء، والعدم ليس شيئا؛ كل شيء وجود كائن؛ القدرة الإلهية قدرة على ما هو موجود، القدرة الإلهية قدرة على الشيء (:الوجود)؛ الشيء ليس عدما؛ القدرة لا تجوز على عدم.
كل شيء من (و بـ) قدرة الله، وقدرة الله ليست عدما؛ قدرة الله وجود. فالشيء، كل شيء (كل وجود) هو من قدرة الله التي هي وجود. هكذا المفهوم الديني السليم هو ذاته ما يستوعبه العقل  بخبرتة (:الوجود ـ الحادث ـ ليس من عدم(.
الوجود الحادث من الوجود (القديم بلغة الذين يقسمون الوجود إلى قديم [الله] وحادث [الخلق (أو المخلوقات في مصطلحهم)فيقررون ثنائيته] المطلق، طبيعة الحادث هي هي طبيعة المطلق (الكلي) ولا يصح تصور أن الوجود المطلق عدم.
الآية التي تقرر قول إن الله على كل شيء قدير، لا تقرر أن قدرته مطلقة بمفهوم المطلقية اللامرتبطة بالشيئية [المشيئة الإلهية القرآنية مرتبطة بالشيئية أيضا] الذي يحاول اتجاه فكري أن يدافع به عن إمكانية الخلق من عدم خلافا لما يعتقده العقل العلمي. مطلقية الله المفهومة من قدرته على خلق كل شيء مرتبطة بكل شيء، أي: بالشيء لا بالعدم.
القرآن يقرر وحدة الخالق (الفاعل) والخلق (الفعل) الوجودية: وحدة القدرة (الفاعلية) والشيء (الفعلية) [المرتبطان بالمشيئة الإلهية (الشيئية)]؛ فالقدرة (الفاعلية المطلقة) والشيء (فعل الفاعلية المطلقة) متوحدان وجوديا. وما كان واحدا، فهو غير منفصل بعضه عن بعض بفواصل زمانية. الوجود هو فاعل وأفعاله (خالق وخلقه)، وهما ليسا اثنين برؤية وجودية مطلقة (متحررة من نهايات الفاعلية: الفعلية المنغلقة). هما واحد وجوديا؛ هما واحد لوحدة الصفة (الوجود الواحدي الفاعل) الأعمق لكل منهما، أو لهما معا. لا مكان للزمانية في معتقد لا يقول بفاصل وجودي بين الفاعل وفعله.
ولا نقول العالم قديم، كما لا نقول إنه غير قديم. مثل هذا القول ناتج عن الإقرار بوجود زمان، القديم وغير القديم مفاهيم زمانية، غير صحيحة، في نظريتنا.
الاحتكام إلى العقل التجريبي يثير مشكلة التعامل التجريبي مع الزمان المتعدد باعتباره واقعا. ويثير مشكلة التعددية الوجودية باعتباها واقعا أيضا. ويثير مشكلة صدور الكثرة عن واحد.
تُجابه نظرية "الوجود فاعل بأفعال لا انفصال بينها وبينه، لعدم صحة مفهوم الزمانية"؛ بما يتعاطاه التجريب من وجود موجودات متغايرة تغايرا حقيقيا. ولا شك أن العقل التجريبي يصدر عن هذه المغايرة، والاحتكام إليه يشكك في صحة المفهوم الوجودي الواحدي، ويشكك في مقولاته الناجمة عنه. العقل التجريبي لا يستغرق العقلية، ولكته يؤسس لها؛ لكن أفق العقلية أكبر من فعل التجريب. إن الرياضيات علم غير تجريبي، والمنطق كذلك، والنظريات العلمية جميعها نظريات غير تجريبية؛ لكن البداية لكل هذه العلوم بدايات تجريبية. العلوم تنمو في أفق العالم القابل للتجريب. النظرية العلمية (القانون) ليس تجريبيا، ولكنه لا يتنافي مع الواقع التجريبي (بحقيقته). التجريب الحاصل لا يستغرق الواقع (بحقيقته، بكليته العميقة الواسعة). العقل (العلمي) أعمق (أوسع) من التجريب الحاصل ويخلق تجريبيته الخاصة غير الحاصلة في الواقع (غير العقلي العلمي). العقل العلمي يبدع مفاهيمه التي لا تختلف مع تجريب من مستوى أعمق مما هو معطى للعيان، أو مما هو معطى مباشر. والعقل العلمي لا ينفي مقررات المعطيات المباشرة في مستواها، ولكنه لا يلتزم بالتوقف عند مستواها المدرَك لكل مدرِك. ومع ذلك كله، يبقى العقل تجريبيا، لأنه يبدأ من التجريب، ويتأكد به.
التجريب الإدراكي المباشر يسَلِّم بتعددية الزمان، وبتعددية الوجود، ولا يستوعب مقولة الواحدية الوجودية.
التجريب العلمي لا يتوقف عند حد المدرَك المباشر. إنه يذهب إلى العمق، ينطلق في الوساعة، ويتفحص المفاهيم المباشرة العامية، ليعطيها دقة.
التجريب العلمي يضع فرضية أوسع (أعمق) من معطيات التجريب الإدراكي المباشر، ويبحت عن أدلة صحة فرضيته بعقل علمي أكبر من التجريبي الإدراكي. الفرضيات العقلية العلمية تأتي بالتجريد العقلي لمعارف إدراكية. تجريد المدركات الوجودية إلى أقصى التجريد، ينتهي إلى صفة الوجود التي هي ، قال القدماء، أعم الصفات. تتوحد المدركات الوجودية، فردا فردا، في وجوديتها. أعم الصفات هو الصفة "الجوهرية" [بلغتي: هي الصفة الأعمق (الأوسع)]. الموجودات المدرَك تعدديتها حادثات، أي أفعال؛ وخبرتنا التجريبية تمنحنا تصور أن الفعل إنما هو فعل فاعل. العقل لا يجد إشكالا في التسليم بالفاعل، وتاريخ العقل الإنساني، المؤله، وغير المؤله، أقر بالفاعل [هو الله عند فريق، والطبيعة (المادة بما فيها الروح الإنسانية) عند فريق آخر]. الشرعية التاريخية غير كافية عقليا، ولكنها، هنا، موثوق بصحتها: فالأفعال غير منفصلة، لا يوجد فعل واحد منفصل عن الوجود الآخر بالنسبة له. الحادثات مرتبطة معا، وكل حادثة نسق يوحد عوامل وجودية (حادثات على صورة ما) في نسق هو حادثة واحدة. توحد العوامل في نسق واحد (حادثة واحدة) اضطراري لطبيعة ذاتية تعبر عن ذاتها بتحقيق ذاتها، تكشف عن طبيعتها (:الفعل يكشف عن الفاعلية التي تخلقه). القابلية للاتصال، لدى مفردات الوجود كلها مع آخرين، قابلية أصلية، نابعة من طبيعة الوجود، إنها تكشف عن طبيعة الوجود الاتصالية. الاتصالية الوجودية لا تسمح أن يكون فعل (فرد، حادثة) ما مستقل بذاته استقلالا نهائيا. الاتصالية تكشف حقيقة أن في بطن كل فعل فعلية أكبر منه: هذه الفعلية الأكبر هي التي نسميها الفاعلية، ونجسدها بفاعل (خالق) يفعل (يخلق) أفعالا (خلقا، أفرادا، حادثات). قررنا هذا المفهوم ابتداء من المعرفة الإدراكية التي نفذنا منها إلى ما هو أكبر (أعمق، أوسع) منها.
ولارتباط مفهوم تعددية الزمان، بتعددية الحادثات، فإن مفهوم الاتصال الوجودي يسع مفهوم الزمان، فيقرر اتصاليته. إنا لا نكتفي بتقرير الاتصالية الزمانية، فلا أحد ينكرها؛ الزمان، بالمفهوم الشائع: الماضي والحاضر والمستقبل، متصل بمعرفة إدراكية؛ نظريتنا تلغي مفهوم الزمان تماما.
نحن ندرك الوجود إدراكا معرفيا مباشرا في لحظة اتُفِق على تسميتها بالحاضر. هكذا يعتقد المفهوم المعرفي الرائج. الحاضر لا وجود حقيقي له، هو تصور لحد مفترض يقع بين الماضي والمستقبل، وفي اللحظة المتخيلة لوقوعه يتلاشى، فهو بلا امتداد؛ هو دخول المستقبل في الماضي؛ إذا سلمنا بأن هناك ماضيا ومستقبلا. والواقع (الحقيقي لدينا) أنه لا وجود للمستقبل ولا للماضي، لا وجود لهما بذاتيهما؛ الوجود بذاتية وجود كوني، وجود واقعي (بريء من الوهم)، قائم فيما اصطلح على تسميته بالحاضر، والحاضر، إذا سلمنا بمفهوم حقيقة الزمان، هو الشرط الزمني لوجود كون ما بذاتيته. وشرط الوجود الكوني المادي يجب، أيضا، ليكون فاعلا على الحقيقة أن يكون ماديا، أي ليس مجرد تصور عقلي (موهوم) مجرد عن المادية. الحاضر ليس إلا حدا تصوريا ليس ماديا بين مفهومي الماضي والمستقبل، إذا سلمنا بالزمان وتعدديته الثلاثية. ولكن، أين الماضي، ليس كائنا، ولا يمكن الإشارة إليه بذاته، طواه الحاضر، المفهوم غير المادي، غير الكائن بذاتية؛ أين المستقبل؟ ليس كائنا، هو تصور مستبطن في حاضر ليس ماديا، المستقبل لا يمكن الإشارة إليه ككون مادي؛ هو لم يأت بعد، وما لم يأت بعد ليس وجودا كونيا بذاته. الزمان في المفهوم الذي يعتقد حقيقة وجوده، لا كيانية ذاتية له: ليس له وجود حقيقي خارج فاعلية الوهم.
وتكوين تصور عقلي عن العالم، لا يحتاج إلى مقولة الزمان. كان الزمان دائما مفهوما يتطلبه تصور عن انفصالية الفاعلية بين حادثة وأخرى. كان المعتقد أن صيرورة الفاعلية من الأب والأم إلى الإبن تحتاج إلى زمن، حيث المسبِب لحادثة جديدة يسبق زمانيا هذه الحادثة (وفقا لـ:يوجد السبب أولا ثم يوجد المسبَب عنه). يرجع هذا المفهوم إلى مفهوم غير دقيق عن السببية. السببية فاعلية لا تنفصل فيها الأسباب عن نتائجها؛ النتيجة هي عين السببية: السببية نسق جديد يتكون من عوامل، مجرد ترابطها في النسق الجديد، يلد، فورا، بدون فاصل زمني، المسبَب الذي هو النسق الجديد. عندما تتحول الفاعلية الخالقة من الأبوين إلى الإبن، فإن الإبن هو العاملين الأبويين في ومض (بلا امتداد) دخول العاملين معا في نسق جديد نسميه الإبن [هو الومض ذاته الذي تكوَّن في ظرفه؛ هو الظرف وعوامله (ما يملأه)]. يجب التدقيق في مسميات الأب والأم والإبن ونحن نتحدث عن فاعلية السببية. الأب ليس هو الذي يبقى قائما بهذا الدور بالمعنى الاجتماعي، ولا الأم كذلك، ولا الإبن هو الذي يبقى لسنوات طويلة يقول عن نفسه أنا فلان ابن فلان وفلانة. العوامل السببية (عامل الأبوة وعامل الأمومة) التي أنتجت (ضمن عوامل أخرى) حدثا جديدا نسميه الجنين، هما كينونتان كانتا قائمتين بذاتيهما، في لحظة (بلا امتداد: محض) دخولهما معا في ترابط أعطى على الفور، دون تراخ، أو انفصال، بلا زمان، كينونة جديدة، هي النسق الذي خلقه التقاء الأبوة والأمومة، مع وجود روابط مواتية، ليخلق هذا الالتقاء، فورا، من غير تراخ، بلا حاجة لزمان، بلا انفصال، الإبن الجديد، أبن تلك اللحظة (الومض، واومض هو) الذي ليس هو (بقول دقيق) الإنسان الذي سيستمر لسنوات طويلة يحمل الإسم نفسه. هذا الإبن الجديد (بمسماه الاجتماعي) سلسلة طويلة من الحادثات ابتدأت بحادثة التقاء أبويه المؤسسة لحادثات طويلة نجمعها معا، بحكم عادة عقلية لا تدقق، تحت مسمى واحد، لسنوات طويلة. (بمفهوم واحدي، لم يبدأ الابن بحادثة أولى، ما نسميه حادثة أولى هي حادثة مفتوحة على حادثات سبقتها).
فاعلية الخلق، الفاعلية الوجودية، لا تخلق (لا تفعل) حادثات ممتدة. خلق الفاعلية هو خلق لحادثة بلا امتداد، حادثة لا تنقسم. الفاعلية ذات طبيعة واحدية، والانقسام مفهوم مناقض للواحدية. لو كانت فاعلية الخلق منقسمة لتوجب أن تكون الفاعلية منقسمة. ولكن الفاعلية غير منقسمة، فهي هوية وجود هو واحد، لا ينقسم؛ هي معنى الوجود: قولنا "وجود"، يطابق بالتمام قولنا "فاعلية"، الفاعلية هي الوجود ذاته.
الوجود لا ينقسم لامتناع الزيادة أو النقصان فيه. لو قبل الزيادة أو النقصان، فلن يكون مالئا لذاته، وسيجوز تصور فراغ (عدم) وجودي لتحل فيه الزيادة أو النقصان. ولا وجود للعدم بالمعنى التام للعدمية التي هي ليست وجودا بأي حال من أحوال الوجود. العدمية مقولة يصح الإشارة بها إلى عدمية كيان وجودي فردي بذاته، وبتجاوز: نقول تم إعدام فلان، والتدقيق في هذه الإشارة لا يسمح بأن نتحدث عن سلب وجودي تام لفلان إلا باعتباره كيانا قائما بذاتية منعزلة، [ولا ذاتية منعزلة؛ فالذاتية (الفردية) ذاتية وجودية واحدية منفتحة على ذاتها المطلقة بالفاعلية الوجودية المطلقة الواحدية]؛ لكنه لم يتم "مطلقا" إخراج فلان "المعدوم" من الوجود الكلي المطلق [لا وجود حقيقي لما نشير إليه بقولنا: فلان]؛ الإعدام هنا ليس إلا صيرورة الفاعلية الوجودية، والصيرورة لا تحدث نقصا في الوجود الكلي، إنها تحدث تجددا نسقيا وجوديا. فاعلية الخلق هي إستحداث نسقيات وجودية، لا استحداث لإضافات وجودية كمية. إنني لا أستطيع، بتجريبية المعطيات المباشرة، نفي أن استحداثي أضاف رقما جديدا لعدد أفراد أسرتي؛ مع ذلك، يجب أن أتحلى بالدقة في تعاملي مع المسألة: الرقم الجديد الذي أضيف لأسرتي، أضيف إليها من داخلها، فلا يصح أن يقال إن عدد أسرتي أصبح: عدد أفراد أسرتي (قبل استحداثي) + 1؛ الدقة تستوجب القول أن زيادة أفراد أسرتي زيادة من داخلها لا من خارجها. استحداثات الفاعلية الوجودية (الممتلئة بذاتها) هي كذلك، زيادة من داخلها، زيادة لا كمية، بمعنى أن الوجود لا يصبح مع كل استحداث هو: الوجود قبل أي أستحداث + 1. الوجود مقولة ممتلئة منذ أوله الذي لا أول له، وسيظل ممتلئا إلى آخره الذي لا آخر له.
الوجود لا يقبل أية زيادة عليه. الوجود "صفر" لا يزيد ولا ينقص. واستحداثات الوجود "أصفار" لا تزيده كما لا ينقصه غيابها في داخل الوجود.
نظرية "الصفرية" ليست نظرية عدمية. إنها توصيف لما هو واقع (وقوعا عقليا علميا تجريديا)، وما هو واقع (وقوعا عقليا علميا تجريديا) وجود كامل المعنى. كل منا "صفر"، وكل منا نسق للفاعلية الخالقة الحرة. هذه الفاعلية الخالقة الحرة هي هوية وجودنا الفردي الواحد الخالق الحر.
الفاعلية الوجودية المطلقة محيطة بالفاعلية الفردية من ظهرها ومن باطنها. الأولى تتحقق بالثانية. العلاقة بين الفاعلية المطلقة (بتحققاتها) والفرد (الفعل، بفاعليته)، علاقة تواصل، لا علاقة انفصالية.
والنظرية الواحدية تعمق الاتصال بين الخالق والخلق (الله والإنسان)، بمفهوم يفتح الفاعلية (الإلهية الخالقة)، عبر تحققها في الفرد، على الفاعلية (الإلهية) الأكبر من تحققها في فرد. بهذا الانفتاح تكون العلاقة بين الخالق (الله) والإنسان، أشد غورا، أشد حميمية؛ وتنفتح أمام الإنسانية، الفاعلة (بفاعلية الخالق) آفاق الوجود المطلق الحر.
النظرية الواحدية تأسيس عقلي لمشروع نهضوي إنساني يبدعه الإنسان الذي صار الفاعل المطلق (الله) هو عقله (سمعه وبصره)،  ولسانه ويده ورجله [يقوله حديث نبوي]؛ الإنسان الذي  الفاعل الخالق (الله) أقرب إليه من حبل الوريد [يقوله القرآن الكريم]؛ المؤمن بـالفاعل المطلق (الله) "المؤمن"؛ وهي الصفة التي تصف الخالق (الله) والخلق (الإنسان) في القرآن. وفي اللغة، هي من "أمنه": ومدلولها اللغوي: الاطمئنان والثقة في.. والركون إلى..؛ وهي ضد الخوف والخيانة. مدلولها اتصالي وضد الإنفصالية: فالاطمئنان والثقة في الآخر والركون إلية علاقات انفتاح بين الفرد والآخر، وهي ضد علاقات النفور ـ الانفصال ـ التي تنتج من الخوف والخيانة. القرآن وصف الله والإنسان بصفة "المؤمن " ليقرر العلاقة الاتصالية الانفتاحية بينهما، التي توكد عليها عبادة الصلاة؛ العبادة التي فرضها الله على المسلم في ذروة فعل اتصالي بين الله والنبي محمد عليه الصلاة والسلام (:لاحظ مدلولات الصلاة والسلام الاتصالية الانفتاحية الواحدية).
 


صنعاء
3/6/1995م

 



#حسن_ميّ_النوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تجليّات الأمل / جماعة الواحديين- المبادئ
- نهوض الأصل
- الماركسية تضل الطريق
- يا كُلَّ النِسْوَهْ... هاتِنْ نخلعْ ...كلَّ الشَوْكْ
- بصوت عالٍ أُطالب بوقفه.. حكم الرجم غليظ ويضر بمصلحة الإسلام ...
- ... واشتعلْ... بحركِ غزهْ
- إنِّيْ أُحِبُّكِ فابْعثينيْ..طوفانَ فسْقِنْ
- فاعلية المسلم
- أنتْ.. وحدكِ أنتْ.. حقل الوردْ
- جيش الاحتلال الإسرائيلي يقتل الرضع الفلسطينيين بدم بارد
- عطشانْ.. يا صبايا
- بيان.. من ملك الخصيان والكبير ظل كبيرا
- شفتان من روحِنْ
- يا لبطَ الدخان.. قفوا..!!
- أُنثى أنتْ؟!
- يا أبت ؟!
- أوقفوا الموت في وطني.. ودعوا الحب ينتصر
- أنا الحب الشادي..
- أنا هنا مزروعُنْ ولنْ أُغادرْ
- لك ولأسرة -الحوار المتمدن- الاحترام والتقدير وبهجة الحب النو ...


المزيد.....




- -أخبرتني والدتي أنها عاشت ما يكفي، والآن جاء دوري لأعيش-
- لماذا اعتقلت السلطات الجزائرية بوعلام صنصال، وتلاحق كمال داو ...
- كيم جونغ أون يعرض أقوى أسلحته ويهاجم واشنطن: -لا تزال مصرة ع ...
- -دي جي سنيك- يرفض طلب ماكرون بحذف تغريدته عن غزة ويرد: -قضية ...
- قضية توريد الأسلحة لإسرائيل أمام القضاء الهولندي: تطور قانون ...
- حادث مروع في بولندا: تصادم 7 مركبات مع أول تساقط للثلوج
- بعد ضربة -أوريشنيك-.. ردع صاروخي روسي يثير ذعر الغرب
- ولي العهد المغربي يستقبل الرئيس الصيني لدى وصوله إلى الدار ا ...
- مدفيديف: ترامب قادر على إنهاء الصراع الأوكراني
- أوكرانيا: أي رد فعل غربي على رسائل بوتين؟


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسن ميّ النوراني - صفرية الوجود