محمد النعماني
(Mohammed Al Nommany)
الحوار المتمدن-العدد: 1345 - 2005 / 10 / 12 - 10:41
المحور:
تقنية المعلمومات و الكومبيوتر
احتلت القراءات الأولية للعديد من الباحثين في علم الاعلام والاتصال في عدد من الجامعات العالمية ومراكز البحث العلمي حول الواقع الذي افرزه الالتقاء التاريخي بين التكنولوجيا والإعلام وما خلفه من مقولات كبرى حول دور الإعلام في اندماج العالم وفي خلف الوعاء الثقافي والحضاري المشترك بين الشعوب,
بدأت تظهر اصوات جديدة تحت مسميات عديدة منها مكافحة الارهاب في العديد من المراكز الحية لانتاج الاعلام والمحتكرة له احياناً تتحدث عن انتكاسة ثورة الاتصال وعن الدور الذي لم ينتبه اليه الكثيرون من المعنيين وهم يخططون لاسس قرية الاعلام العالمية وهو الدور الذي بدأت اخيراً تمارسه تكنولوجيا الاتصال لتفتيت الجماهير وتشتيت المتلقي وفرض المزيد من الفردية والعزلة وايجاد نماذج لآحاد الناس الذين يغايرون في طبيعة حياتهم الكثير من اسس وانماط الاجتماع البشرية القطري.
واجد نفسي اميل إلى راي الكاتب باسم الطويس إلى ان هناك العديد من علماء الاتصال وعلم الاجتماع الاتصالي وعلم السياسية قد توقفوا عند حدود المشهد الاتصالي المعاصر الذي حددته مظاهر ثورة الاتصال في العقد الاخير من القرن الماضي واشاروا بشده إلى ضرورة مراجعة اصولية لنظرية (مارشال مكلوهان التي صاغها في نهاية عقد ستينات القرن الماضي ويشير من خلالها الى وحدة العالم في قرية عالمية تحققها وسائل الإعلام, حيث افرغت حالة السباق الهائل في تكنولوجيا الاتصال هذه النظرية من الكثير من مظاهرها التاريخية, فظهر انه من المؤكد ان خبرات القراءة والاستماع والمشاهدة اصبحت عبارة عن خبرات معزولة بدلاً من كونها خبرات مشتركة حسب اعتقاد (مكلوهان) حيث تتجه خبرات القراء والمستمعين والمشاهدين إلى المزيد من التشتت والتناثر والتفتت من خلال تحول وسائل الاتصال بفعل التكنولوجيا من مخاطبة الجماهير إلى مخاطبة الأفراد, وتحولت العملية الاتصالية من كونها عملية اجتماعية تهدف إلى توحيد المتلقين إلى تهافت تكنولوجي هائل في مجال الاتصال يعمل على زيادة الفجوة بين المجتمعات وفرض المزيد من العزلة والفردية بين افراد المجتمع الواحد.
يتردد المثل القائل (المدنية لا آذان لها, والقرية لها آذان كبيرة) للتدليل على آليات ووقائع سريان الأخبار وتدفق المعلومات في كل المجتمع التقليدي الذي تمثله القرية التقليدية ومجتمع المدنية المعاصرة حيث تخضع القرية لوصاية نظام اجتماعي يتيح عبر الاتصال الوجاهي والشخصي وحدة معرفية ووجدانية بين افراد المجتمع .. فكل حدث في القرية مبا ومتاح للمعرفة يأخذ به الجميع, علماً أنها ذات آذان كبيرة تلتقط كل شاردة وواردة, بينما يخضع المجتمع الحديث الذي تمثله صيغة المدنية المعاصرة إلى آليات التغيير الاجتماعي والثقافي والعزلة التي وسعت المسافات ورفعت الحواجز بين الجماعات والافراد بفعل توزيع العمل وعلاقات الانتاج الجديدة التي بدأت بالسيطرة منذ القرن التاسع عشر ويزداد تاثيرها كلما ازداد المجتمع تنظيماً وحداثة في المقابل كرس مفهوم القرية الاتصالية العالمية الذي بدأ بالانتشار منذ نهايات عقد الستينات من القرن الماضي عودة مفهوم الفردية, ولكن القرية العالمية أي قرينة العالم في قرية واحدة ذات آذان كبيرة ايضاً بفعل قوة دفع ثورة وتكنولوجيا الاتصال من جهة وقوة جذب وسائل الإعلام لها من جهة اخرى, حيث تعد الأخيرة اكثر المستفيدين من التطبيقات التقنية الجديدة, حيث كان الحلم الكوني البهري ينساب بسهولة خلال سنوات عقود النصف الثاني من القرن الماضي.
ويرى اساتذة وباحثون الاعلام والاتصال الجماهيري ان الانجازات الكبرى والعظيمة التي جناها الاعلام والاتصال الجماهيري بشكل عام تعد احدى الفواصل الهامة التي عادة ما تقلل من الآثار السلبية لحركة العصف التكنولوجي الهائل الذي يصل أحياناً حد التوحش والردة, بفعل هيمنة آليات السوق وعلى الرغم من الادراك التام بان التكنولوجيا الجديدة كغيرها عبر التاريخ تحمل قيماً متعادلة تتحدد اتجاهاتها بطرق توظيفها حيث تبدو المفارقات ومفاصل التحول الجديدة التي تستدعي القراءة المتأنية.
كانت المطبعة الشهيرة للألماني (جوهان جونتنبرغ) قبل خمسة قرون بداية التأسيسي لعصر الاتصال الجماهيري ومقدمة لتبلور مفهوم الجماهير بمحدداته الاجتماعية والسياسية المعاصرة, انها ثورة تاريخية كبرى جعلت من الممكن ولأول مرة اصدار نسخ متعددة وهائلة من الرسالة الاعلامية الواحدة إلى افراد متعددين وربما مختلفين ومتباعدين ,أي الجماهير ومنذ ذلك التاريخ منح الاتصال الجماهيري لمفهوم الجماهير مضامين جديدة وقيمة وتجسيداً واقعيين, كما اسهم في صياغة المفهوم المعاصر للرأي العام .. لقد حول الاتصال الجماهيري احاد الناس المنعزلين مادياً ومعرفياً ووجدانياً في ذرات احادية متفرقة إلى جماهير تلتقي في معرفة مشتركة نسبياً ومسافة وجدانية وانفعالية متقاربة ولقد اكدت وسائل الإعلام دون أدنى شك في القرن الماضي مفهوم الجماهير وحققته على أرض الواقع واصبح القوة الأساسية التي تهابها السلطة والأنظمة السياسية والتي طالما اهتز السوط من يدها بفعل تجسد قوة الجماهير وسحرها, وكثيراً ما تسقط هي القوة التي تثير شهوة الايديولوجيات والأنظمة وتهابها الديمقراطيات ويحسب كل الحساب لها.
لقد قامت نظرية " القرية الاتصالية" والتي صدقتها المعطيات خلال عقدي السبعينات والثمانينات على افتراض ان تكنولوجيا الاتصال المتطورة جعلت اجزاء العالم تقترب من بعضها البعض بسبب التوسع في استخدام الراديو والتلفزيون على المستوى الدولي, واستخدام قنوات الاقمار الصناعية فضلاَ عما اتاحته التطبيقات التكنولوجية في مجال الحاسبات الالكتروينة وصلات الميكرويف والالياف الضوئية من خدمات متعددة وهائلة في مجال الإعلام والاتصال الجماهيري وهي الاسس التي بنى عليها (مكلوهان) نظريته في كتابه الشهير "الوسيلة هي الرسالة" الذي قال فيه (اننا نعيش الآن في قرية عالمية وان الوسائل الالكترونية الحديثة ربطت كلاً منا بالآخر وبالتالي فإن المجتمع البشري لن يعيش في عزلة بعد الآن وهذا يجبرنا على التفاعل والمشاركة, فقد تغلبت الوسائل الالكترونية على القيود والوقت والمسافة وادت إلى استمرار اهتمامنا "كمواطنين أمريكيين" بالدول الأخرى) فالرصد الذي اتبعه في تطور المجتمعات وتحولها من الثقافة الشفهية إلى اللغة المكتوبة ومن الثقافة المكتوبة إلى الثقافة الالكتروينة جعله يتصور أنه ادرك النهاية الجميلة لهذا التطور باكتمال بناء القرية العالمية التي تتوحد فيها حاجات الناس ومتطلباتهم إلى جانب وعيهم ومواقفهم ورؤاهم وربما مشاعرهم حيال الآخرين والأشياء وبعبارة اخرى قدرة وسائل الإعلام على اعادة إنتاج الوعاء الفكري الموحد في جميع أنحاء العالم.
ويؤكد (ريتشارد بلاك) بان القرية العالمية التي زعم (مكلوهان) وجودها في الستينات وتنبأ باكتمالها في نهاية القرن لم يعد لها وجود حقيقي في مجتمع نهاية التسعينات وبدايات القرن الجديد وفقا للمنظور والطموح الغربي المعاصر, حيث ان التطورالذي نظر من خلاله (مكلوهان) استمر في التسارع والمزيد من التطور إلى حد أدى إلى تحطيم هذه القرية العالمية وتحويلها إلى ذرات وشظايا.
مع انتكاسة ثورة الاتصال والاعلام وتفتيت الجماهير وتشتيت المتلقي وفرض المزيد من الفردية والعزلة شهد العالم تحت مسميات كثيرة تتعلق بتداعيات مكافحة الارهاب انتكاسة للعملية الديمقراطية والاصلاحية في العديد من دول العالم ومنها الدول العربية والإسلامية وانتشار الكثير من الممارسات الغير انساينة واخلاقية والتي مثلت انتكاسة لكافة الشعارات المرتبطة بحقوق الانسان والحرية والديمقراطية التي كانت ينادى بها في العالم. وشهدت العملية الديمقراطية والاصلاحية في كثير من دول العالم تراجعاً نحو فرض المزيد من القيود على حرية الفرد وحقوق الإنسان ونشاط الأشخاص والجمعيات والقوى السياسية التي رفعت شعار الحرية وحقوق الانسان في برامجها وسعت للعمل والدفاع عن حق الإنسان في العيش في سلام وحرية وفي ممارسة تلك الحرية والحقوق في المجتمع والعيش بكرامة, والتصدي لمن يحاول الاعتداء على تلك الحقوق والحريات الديمقراطية.
ونرى اليوم ان القوى الديمقراطية الليبرالية في العديد من دول العالم سقطت في الانتخابات البلدية والبرلمانية وظهر بدلاً عنها قوى قومية مثلت انتكاسة للعملية الديمقراطية في العالم ومثلت مؤشراً ان البعض من الدول تسير نحو فرض المزيد من الفردية والعزلة, نحو ارساء الدكتاتورية بانماط واشكال مختلفة وعديدة في ظل اوضاع اقتصادية عالمية خطيرة بدأت الأصوات ترتفع هنا وهناك لتفادي الكارثة التي لا شك بأنها وسوف تؤدي في نهاية المطاف إلى الانفجار, والبحث عن بدائل اخرى للخروج من أزمات وانتكاسة العملية الديمقراطية وكل ما هو قادم والتصدي للفردية والعزلة.
#محمد_النعماني (هاشتاغ)
Mohammed__Al_Nommany#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟