كمال اللبواني
الحوار المتمدن-العدد: 1345 - 2005 / 10 / 12 - 10:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نطرح موضوعة العلمانية , بسبب وجود إمكانية حقيقية لاستبدال الدولة العسكرية القهرية الحالية التي تدعي العلمانية ، والتي تعادي كل شيء من الشعب إلى الثقافة والدين والقيم ، بدولة أخرى ديكتاتورية هي الأخرى لكنها تقوم على أساس ديني ، وهي معروفة التكوين والملامح وعبرت عن نفسها بنماذج مختلفة .
ونخص الأخوان المسلمين بالتحديد ، لأنهم الجماعة الإسلامية الأساس التي تستعمل الدين في السياسية ، ولها خطاب واضح وتجربة سياسية ديمقراطية سابقة ، ويمكنها أن تساهم في تجربة ديمقراطية قادمة ، ولأننا لا نريد استئصالها من الساحة السياسية ، لكننا نريد التفاهم معها على بعض القضايا الحساسة ، والتي لا فائدة ترجى من القفز فوقها .
تعرف العلمانية ( بفتح العين ) على أنها فصل الدين عن الدولة .. فإذا كان المقصود مؤسسات الدولة فقط ، فالعلمنة هنا تعني تحييد السلطة عن التأثير المباشر لرجال الدين , ووقوفها على مسافة متساوية مع الجميع , بغض النظر عن الديانة , وهذا هو المقصود بكلمة المواطنة ( حيث تتكون الدولة من بشر أحرار متساوين في الحقوق والواجبات ) .. وهذا النوع من العلمانية ضروري ولا بد منه للديمقراطية حيث بدونه سيستمر التمييز ، ومن دونه يستمر التسلط ، ويستمر الشعب محروما من تقرير مصيره واختيار سلطته والتوافق على قانونه بإرادته ، ويبقى تحت الوصاية ..
أما إذا كان المقصود هو فصل الدين عن الدولة بكليتها ,..و الدولة هنا تعني الأرض والشعب والسلطة السياسية معا و جميعا ، وليس فقط مؤسسات الدولة ، أي أن المقصود هو إيجاد دولة زمنية لا يلعب فيها الدين أي دور , فهذا يقتضي فصل الثقافة عن السياسة ، أو جعلها نقيضها ، بالنظر إلى أن الدين مكون أساسي من مكونات كل ثقافة ، ونكاد لا نجد ثقافة إنسانية من دون دين ( منظومة معرفية- قيمية ) ، وعملية فصل الثقافة عن السياسة هذه ، سوف تقتل السياسة وتحولها لسياسة قمعية ( إكراه يغيب عنه موضوع السياسة كنتاج للتوافق الحر بين البشر على تشكيل سلطة وسيادة قانون ) ، كما أن قمع الثقافة بدوره سوف يقتل الثقافة ويحولها لمنظومة كاذبة تظهر في العلن ، بينما تخفي تحتها منظومة أخرى وثقافة أخرى مستترة تعمل في الخفاء .
كلا الحالتين موجودة عندنا , أقصد قمع الثقافة وقتل السياسة ، وهذا هو التجلي الحقيقي للاستبداد الراهن ( الذي يدعي العلمانية ) والذي يقوم بقتل الحياة الاجتماعية , وإيقاف النبض الاجتماعي الحيوي والتفاعل بين مكونات المجتمع ، الهادف لإعادة إنتاج البنيان الاجتماعي السياسي وتجديده وتطويره ، مما يسبب التدهور والتخلف ويخلق الأزمات و يراكمها بانتظار تفجر مكونات الوحدة الاجتماعية برمتها ..
لذلك فموقف الإخوان المسلمين ضد هذا النوع من العلمانية موقف مبرر ومفهوم ، وتبنيهم لموقف جديد يوحي بالقبول بالعلمنة من النوع الأول ، هو موقف مشجع نأمل أن يتجسد في وثيقة رسمية تشرح لكل المهتمين الأسباب والحيثيات ، بحيث تصبح مقنعة ليس فقط لقادة جماعة الإخوان في الخارج , الذين يعيشون منذ فترة طويلة في الدول الديمقراطية .. بل المقنعة للمتدينين بالداخل , والذين يفترض أنهم من أنصار هذه الجماعة ، أو حتى المتدينين الأكثر تشددا ..
المسألة اليوم ملحة , والكل ينتظر من الإخوان ذلك الإعلان .. فهم يقولون أنهم جماعة دعوة ( جمعية دينية ) ، وأن الإسلام ليس فيه رجال دين ، وأنهم يقبلون بعلمانية الدولة ( المؤسسات والسلطات ) , ولكنهم يعتبرون أن الثقافة الإسلامية مكون أساس من مكونات الثقافة الوطنية .. ويقولون أنهم إذا تغير النظام نحو الديمقراطية , فسوف يدخلون الحياة السياسية كحزب سياسي وليس ديني .. أي ببرنامج سياسي , يمكن لأي مواطن أن يؤيده وينتسب لمنظمته , بغض النظر عن ديانته .
وهذا يذكر بأهمية ما كنا قد شرحناه ، عن ضرورة وجود مجلسين تمثيليين ، واحد للأحزاب السياسية وواحد للمكونات الأهلية ، واحد يحكم السياسة ويدير لعبة اختلاف المصالح ، وواحد يحرس الوحدة الاجتماعية ويؤمن الاستقرار والتعايش .
بنفس السياق تطرح مسألة الهوية كمسألة ضرورية وهامة ، يمكن أن تحل بطريقة مشابهة ، لأنني أعتقد أنه لا يمكن القفز فوق هوية الدولة ، ولا الادعاء بأنها دولة بلا هوية في سياق البحث عن المساواة الكاملة بين مكونات الشعب ، ( ما هي لغة الدولة مثلا ) أي علينا أن نتحدث عن مساواة سياسية حقيقية وحقوق مدنية متساوية ، ضمن دولة ذات مكونات متعددة ومتعايشة وتحترم كل مكوناتها ، لكنها غير فاقدة للهوية بالنظر لوجود أغلبية عربية ما تزال تتمسك بهويتها وثقافتها ، ومن الصعب التوصل معها للتخلي عنها , في الوقت الذي يتمسك غيرها من الأقليات بخصوصياتهم ، لكن من الضروري منعها من استخدام تلك الهوية بطريقة شوفينية وعنصرية لقمع الآخر الذي يشارك في الوطن ، ولا بد من انتظار مرحلة أخرى من العولمة قبل زوال الهويات القومية وتراجعها النهائي .
وهنا عندما نتكلم عن عدم طغيان الأغلبية ، أي إيجاد نظام سياسي دستوري يمنعها من استخدام كثرتها لاستباحة حقوق الأقليات ، لا يقتضي ذلك بالضرورة مطالبتها بالتخلي عن هويتها . أي أن الحديث عن أعلى درجة من المساواة في الحقوق مبرر وضروري ، لكن الحديث عن إلغاء الهوية من أجل الديمقراطية والمساواة ، مشابه للحديث عن إلغاء الدين من أجل الديمقراطية , في دوره المعرقل لمسيرة التحول الديمقراطي ذاتها ، حيث من البديهي أن ترفض أغلبية البشر هذا المطلب , وتندفع لعرقلة الديمقراطية التي تجردها من هويتها ودينها .
فكما أنه يوجد من يريد إلغاء الهوية ، ليحقق استقلاله الثقافي ، بسبب غياب إمكانية تحقيق استقلاله السياسي , هناك من يفكر بعقلية الأقلية ويتستر بملحدين يريدون استخدام العلمانية التي تنكر الدين كشرط مسبق للديمقراطية المدنية القائمة على المواطنة . في محاولة تهدف لمحاربة نفوذ وهيمنة الدين وبشكل خاص دين الأغلبية ... يبرر سلوكه هذا بالمخاوف من تهديدات ، والاستفزاز الناجم عن سلوك مجموعات إسلامية سلوكا عدائياً وعنيفا .
الأغلبية التي بدورها قد تجنح بسبب شعورها بالقوة نحو الطغيان ، فنجد مؤمنين يريدون استخدام العقيدة لتبرير تسلطهم على البشر بالقوة والعنف ، مستخدمين طريقة فهمهم الخاصة بهم للدين ولأوامر السماء ، وقد يجدون الفرصة مناسبة عندما يشعرون أنه هناك من يحاول تهديد عقيدتهم ومحاربتها ، فيحتكمون لكثرتهم وعصبيتهم , و هنا خطورة الدعوات المعادية للدين في تقويض مسيرة التحول الديمقراطي . عند هذه النقطة تتبادل القوى المعادية للديمقراطية المصالح والدعم والمؤازرة رغم اختلافها وعدائها .
لذلك أعتقد أنه من مصلحة الديمقراطية الكف عن مثل هذه المحاولات ، لأنه في الحالات الطبيعية التي لا تتهدد فيها الهوية أو العقيدة الدينية ، لا يمكن اعتبار كل متدين هو مناصر سياسي للحركات الإسلامية السياسية ، ومن الخطأ التوهم أن أغلبية الشعب المتدين بطبعه هي دوما من أنصار أو من جماهير الحركات السياسية الدينية التي تمزج بين الدين والسياسة ، يحدث ذلك فقط في الظروف الاستثنائية التي تشعر فيها الجماعة بالتهديد المباشر والعدوان الصريح . بل إن الحركات السياسية المتشددة هي التي تحاول ادعاء ذلك ، من أجل كسب ود المزيد من الأنصار عبر اختراعها لنظرية المؤامرة ، التي يعززها ويقويها مثل تلك المحاولات للتنكر للدين ومحاربته ، وهي أكثر ما تسيء للتحول الديمقراطي وتخدم التعصب وربما الاستبداد والإرهاب ، وهي تحاول أن تصور أن الصراع السياسي يجب أن يبنى على العقائد وعلى الكتب المقدسة ، أي ليس على البرامج والنظم الحقوقية القانونية والاقتصادية التي تحكم الحياة السياسية -الاقتصادية للمجتمع ( أي على شروط المواطنة وحقوقها و واجباتها ) وهي واجبات تؤدى تجاه السلطة وليس تجاه الخالق , وممارسات تقوم بها السلطة وليس الملائكة ، أي أنها في النهاية تعادي العلمانية ذاتها لأنها تنكر ضرورة التمييز بين ما هو زمني ( علماني ) وبين ما هو روحاني ( ديني ) ، وتقحم الديني في السياسي ، بذات الطريقة التي تقوم بها الحركات الدينية .
الحركات الدينية التقليدية لا تدرك مقدار تغير الدور السياسي للدين مع نشوء الدولة الحديثة , دولة المواطنة , دولة العقد والسلطة السياسية المباشرة ، المطبقة على كل إنسان يفترض أنه حر ودخل الدولة بإرادته ومساهمته ، وليس عبدا فيها ، ولا تدرك مقدار تغير بنية وقوة ودور الدولة الحديثة بأجهزتها الجبارة ، بالمقارنة مع السلطنة الإمبراطورية القديمة .
ومع ذلك يجب الاعتراف أن الخلاف حول العلمانية ليس مفتعلا ، ولا يمكن حله بسهولة ، والكثير من المتدينين سوف يجدون صعوبة في قبول العلمانية , قبل تغيير طريقة قراءتهم وفهمهم للدين ، فهناك تضارب حقيقي بين الشريعة والقانون ، الشريعة تحاول أن تكون هي القانون ، بينما يجتهد المشرعون الزمنيون المنتخبون في ملاحظة التغييرات وإيجاد الحلول القانونية التشريعية ، والتي قد تخالف في بعض الأحيان ظاهر النص ، لكنها طالما أنها تهدف لخير الجماعة فلا يمكنها أن تخالف غاياته ومقاصده ، والتي تتركز حول الخير العام ومنظومة القيم الخلقية التي توافقت عليها كل الثقافات والديانات ، فهل يقبل المتدينون ذلك القدر من التسامح ؟ في تطوير الشريعة ، أم يتمسكون بحرفية الشريعة ضد غاياتها ، ويقاومون الديمقراطية والعلمانية ؟ .
حتى لو طابقنا كما يريد البعض بين مفهوم العلمانية ( بكسر العين , كمرادف للعلمية ) مع العلمانية ( بفتح العين , بمعنى فصل الدين عن السلطة ) ، فهناك أيضا من المتدينين من ينكر سلطة العقل وضرورته كوسيلة وحيدة للفكر والإيمان وكحكم وحيد لا نملك غيره ، فينكر حرية الاختيار لصالح واجب الإتباع ، مما يجعل عملية الانتصار النهائي للديمقراطية مرهونة بعملية إصلاح ديني ، تنتهي بتحقيق مصالحة بين الدين والعصر بمفاهيمه وعقله .
#كمال_اللبواني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟