هاله ابوليل
الحوار المتمدن-العدد: 4872 - 2015 / 7 / 20 - 02:33
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
صدرت رواية "دوامة الرحيل" عن دار الواضح الإماراتية للروائية العراقية "ناصرة السعدون .
هي رواية تكاد تصنف تحت سيرة ذاتية غيرية لشخصية تعرف تفاصيلها الروائية وكان ذلك واضحا من تلك المنمات التفاصيلية الغارقة في المعايشة وأن كان ذلك دارجا تحت مسمى رواية السيرة الذاتية ولولا نفس ناصرة الروائي المتمكن من أدوات السرد لغرقت الرواية تحت مسمى السيرة الذاتية الغيرية. فقد نجحت في تقديمها كسيناريوهات محتملة ذات نفس روائي طويل حتى أننا لم نطالب بكشف اصل الشخصية التي تروي لنا قصتها .
جاء العنوان لافتا ومحملا بشحنات دلالية تشير لموضوع الحكاية كلها (دوامة الرحيل ) متمما لكل أجزاء العمل على عكس بعض الروايات التي لاتجد اي صلة قرابة في الدم أو النسب لموضوع السرد فالعنوان هنا دال قوي على صلب ماتطرق له العمل وهنا تحصل الرواية على نقطة لصالح هيكل العمل الفني .
جاء الغلاف مكملا للروح العراقية المنبعثة من النصوص ليكون الغلاف بتصميم من فنانة تشكيلية (وداد الأورفه لي ) والذي ورد اسمها في الرواية كصاحبة منهج جديد في الرسم لم يلتفت اليه الغرب بعد .
.
لاشيء يجعل الإغتراب جميلا فيما لو كان الوطن اقل قسوة واقل ظلما ولكن ليس الوطن هو المشكلة إنما من فيه وهكذا تركوا العراق لهم ليعبثوا فيه ,صحيح تركوه وفي القلب أسى شفيف ولوعة و وخزة و حرقة لا تلتئم الاّ بالعودة إليه.
الرواية وان كانت حزينة ومؤلمة الاّ انها تشرق بالشمس ؛ فهي قصة نجاح بعزيمة واصرار وإباء
وان الرحيل مادام يمضي فهو سيمضي حتما للوطن .
الرواية باختصار تتحدث عن كفاح ومثابرة فتاة عراقية شجاعة في تخطي الصعاب وتذليل العقبات .
إنها ( إباء ) الروح العراقية المجيدة في كل العصور والتي لن تندثر ولن تموت وما اختيار اسم البطلة الاّ تأكيدا لتلك الروح العظيمة .
.... هي امرأة تتحدى الهزائم والمصاعب البشرية بروح متفائلة وعميقة لا تركن للكسل والاستجداء بل تبحث عن مخرج يخرجها من ذلك البؤس الذي احيطت به قسرا فهي لم تخبر الإمريكان أن يدخلوا بغداد لتدميرها.
يبدأ تصاعد الحدث بعد مقتل والدها على يد القوات الإمريكية بعد تعذيبه بسجن ابو غريب
( سيء السمعة )
تبدأ العصابات التي استولت على العراق بتخويف وتهديد ومصادرة ارزاق العراقيين فمن عمليات الإحتيال للحصول على عيادة والدتها الدكتورة ردينة الى ابتزاز العائلة للحصول على فدية بعد خطف أخاها بارق ومن ثم قتله وإعطاءهم إياه جثة لكي يدفنوه .
" قتل وابتزاز واختطاف ومصادرة أموال كل هذا في العراق , فهل يعقل ذلك !ولكنها الحرب !!
ففي زمن الحروب تشاهد وتسمع ما يشيب له الرأس .ومن ثم كان ذلك ثقيلا على الأم التي وقعت فريسة لكل تلك المصائب أقعدتها السرير
و جعلتها بحاجة لعلاج دائم وهكذا وجدت إباء بطلة العمل الروائي وحدها بمواجهة قرار الرحيل لتعالج والدتها المصابة في ضوء إنعدام الأمان هناك , وكانت الوجهة الأولى لبدء الدوامة (عمان ) ومن هناك تعددت الوجهات .
في الرواية مقطع لايمكن إغفاله
فبعد إنتقال كل من (باسل ودينا ) - وهم من الشخصيات الثانوية التي خدمت نمو الشخصيات الرئيسية وتحديدا في حديقة الشقة التي إستأجرتها إباء بعمان
تقول دينا عن البذور التي جلبتها معها من العراق بأنها نبتت وأزهرت في عمان.
فلا يمكن للحب الاّ ان ينمو في كل مكان
فما بالك في بلد وقف مع العراق حتى أخر لحظة
..أحببت الوقوف هنا في هذه النقطة بالذات لما أحدثته وخلفته بداخلي
فكيف لبذور المحبة الاّ تنمو في عمان .
...افتتح المشهد الروائي على مشهد الرحيل الأول بإتجاه عمان بسرد رتيب و هادىء ومتزن يحمل أنفاس الأبطال قبل أن تغوص في أصل المشكلة
مشهد رحيل عادي ولكن كيف يكون الرحيل عاديا!!
ينفتح المشهد على منظر الرحيل الفعلي - فيما بعد , مخلفا فعل الإغتراب القسري
وينتهي بالرحيل النفسي نحو الوطن
صحيح أن ذلك لم يكن واضحا ,ولكنه نبت في جو الرواية المتصاعد حيث كانت البطلة في سردها تستحضر العراق بكل ذراته كأنها هي العراق نفسه وفي العراق إباء جميل لا يتكرر .
تسرد بضمير المتكلم و بتفاصيل متقنة تلك الليلة(ليلة الرحيل الأول) وركوبهم بالسيارة و وصفها ما اعترضهم في الطريق من رتل امريكي
فتوقفوا حتى اختفى حتى لا يتعرضوا لنيران الإميركان التي لا تفرق بين عسكري ومدني ,ولا بين عابر سبيل, وعابر تفجير.
وصلت القافلةالى بيت القريب " ابوحيدر "- عائلة مضيافة وكريمة ,ككل العائلات العراقية
ولكن إباء بكل ما تحمله من روح قوية وراقية لن تقبل ان تكون عالة على الضيوف تستأجر بيت ,وتسكن مع والدتها لتبدأ رحلة العلاج .
هناك تقدم طلبا لمفوضية الأمم المتحدة بالهجرة الى كل دول العالم ماعدا امريكا.
وهنا تبدأ المفارقة الصعبة ويتأجج الصراع النفسي بداخلها .
تأتيها الموافقة ولكن الى أين !!!
إنها الولايات المتحدة الامريكية البلد الذي جاء جنوده مدججين لتدمير العراق بحجة إنقاذ العراق
الحجة نفسها المسرودة والمملة والمكرورة .
تجد البطلة نفسها في ضوء ماتقدم من مصاعب مجبرة على الرحيل مجددا ولكن بإصرار أن لا تكون امريكا وجهتها الدائمة
بل محطة تنطلق منها الى حلمها
فهي داخليا ترفض البقاء في مكان دمر بلادها وجعله ينأى تحت حطام الفقر و الجوع والخراب .
لتبدأ دوامة الإغتراب مجددا ,وهناك في الجامعة
تواجه صعوبات نفسية مثل الازدراء والإحتقار والتمييز كونها عراقية (يسمونها إرهابية ) ولكنها تواجه كل ذلك بعزيمة وصبر وشموخ عراقي أصيل.
وفي خضم الإحداث تلك يبدأ شاب أمريكي بالتقرب منها فهي شخصية لافتة و عصامية وقوية ولا تشبه تلك الفتيات الضائعات التي يزخر بها مجتمع المهاجرين في امريكا
وعندما تبدأ براعم الحب بالتفتح تحاول وأدها
فهي لن تتقبل أن تحب امريكيا ,ولن تقبل نفسيا بذلك ولكن تسير الرواية بأحداثها بعد ذلك بخط هادىء ورزين نحو نهاية متروكة بيد ردينة أو مفتوحة على أفق رحب .
الجدير بالذكر أن ثيمة العمل هي الإغتراب بكل اشكاله؛ القسري والنفسي والروحي والمكاني ولكنه يندرج فعليا تحت ثيمة أرحب وهي
"كفاح النساء في زمن الحرب" . وهي ثيمة تميز الكثير من روايات العصر الحديث حيث يكون أثر الحروب على النساء مضاعفا وأكثر قسوة . فما تحدثه الحروب من شروخ في الروح يؤثر بالنساء أكثر مما يحدثه في الأرض من دمار .
... لعل اجمل ما في الرواية أن بحث إباء المقرر لدراسة الماجستير يتحدث عن "العمارة في العراق "
وهو عنوان لافت وقوي لأجواء رواية تتحدث عما أحدثه غزو العراق من تدمير للبنية العراقية ومنها العمارة العريقة هناك.
... هذه النقطة بالذات كانت مصدر قوة هذه الرواية التي قد تتكرر تفاصيلها في أعمال أخرى ولكنها تميزت بتلك الإشارات السياسية والتي يغفلها القارىء العادى بالعادة
فغزو امريكا الذي ذهب ليدمر العراق يعاد ترميمه كتاريخ حي لايموت و لا ينسى في الجامعات الأمريكية .
كانت الرسالة واضحة " رسالة تاريخين
احدهما عريق والآخر مستولد وحديث ,وشتان بين التاريخين.
ذهبت امريكا (التي بلا تاريخ فقد اقيمت على تراث وأرض تاريخ الهنود الحمر الذي أغتصبته ودمرته و دثرته هناك ) ذهبت لأرض الرافدين العريقة لتنسفها وتسويها بالتراب
فبلاد بلا تاريخ مثل امريكا واسرائيل سيزعجهم وجود بلاد بتاريخ عظيم وتراث أصيل وقديم وليس دولا طارئة ومستحدثة .
وهنا بالذات تنبع المفارقة الثانية
حيث لم تترك إباء في رحيلها الدائم عن الوطن
بل حملته معها ,وسوّقته هناك للغرب ليروا الأثر الخفي الذي سعت فيه امريكا لدمار ذلك البلد فليس من جملة اهدافها الخفية والمصرح بها سوى إحداث الدمار لوطن يمتلك التاريخ والمجد القديم.
الرواية تقوم على عدة فصول كل فصل ينفتح على عتبة شعرية ملفتة وهي اشعار لنزار ومظفر و البياتي وغيرهم
... تلك العتبات التي غرضها على مايبدو إنفتاحا وإضاءة , تضيء لك بعضا من انفتاح النص ورؤاه على معاني القادم من الأحداث .
صحيح ان الرواية تبيّض وجه مواطني امريكا العاديين المسالمين و الذين ظهر منهم متعاطفين وأناس ودودين على خلاف حكوماتهم الشيطانية المتمثلة ببوش الحالم بمعارك آخر الزمان
ولكن هذا التبيض هو الحقيقة
فليس كل امريكي هناك يوافق حكوماته في عربدتها الدولية كشرطي يحمل السلاح ويهدد سكان العالم بحجة التأديب وإرساء مبادىء الديمقراطية من وجهة نظر أمريكية صرفة .
في الرواية كما هو حال كل الروايات نبتت في جسد السرد قصة حب بين إباء وبين أمريكي متعاطف
و لكي نقنع قارئا لمح اصرار إباء على رفض الإمريكي المتجسد كدولة ولكي يتعاطف معها نجد أن تحويرا قليلا قد يفي بالغرض
فالأصول الكندية جاءت مخرجا للتقبل ,وهذا اخف وطأة على النفس
فأن تحب أعداءك هذا شيء جيد
ولكن ان ترتبط بهم برباط العمر الابدي ربما لن يكون سهلا لكل من رأى كيف انهار العراق
وهنا نلاحظ أنها تسوية جيدة لكي نتعاطف مع قصة الحب التي نبتت في زمن الحرب
ولكن مالم تتطرق له الرواية ان العائلة المسلمة ورغم كل ذلك الاختلاف لم تتعرض لقوانين المؤسسة الدينية التي ترفض زواج مسيحي من مسلمة , الّاّ بعد اشهار إسلامه .
يبدو أن الراوية لاتريد محاكمة المؤسسات الدينية و قوانينها التي تقتل الحب من جذوره
بل كل ما ارادته ترك كل ذلك للقارىء كقضية تخصه حسب معتقداته
وهذا من قوة البناء السردي حيث يترك الراوي بعضا من الأحداث لتوقعات القارىء حيث يصبح مشاركا في العمل ليس بداخله كما قد يفهم بل في فضاءه الأرحب ,,,, فكم من قارىء توقف متسائلا !!
كيف ستخبر الدكتورة ردينة الحبيب الإمريكي أن الأسلام يحرم زواج مسلمة من مسيحي.وكيف ستكون ردة فعله !!
وهل سيوافق على تغيير دينه من أجل حبه !!
أم أن الأمر سيمر هكذا أو تنتهي القصة بمعيقات أخرى أو تفاصيل اشد أو ربما يطالبها القارىء باستكمال ذلك بجزء آخر للرواية تتعرض فيه لثقل الدين وأحكامه في وأد قصص الحب النابتة هناك .
كل تلك الإسئلة ستترك القارىء مشغولا بها حتى بعد الإنتهاء من صفحاتها .
ولكن القصة انتهت بتحويل الأمر كله الى ردينة -ألأم التي درست في امريكا, وربما كانت صدمة قبولها لأمريكا اقل وقعا من نفسية إباء
التي لم تخبر وطنا لها سوى العراق
تسافر اباء في رحلتها الأخيرة الى نيوزلندا تعمل بشركة هندسية وتبرز بآرائها اللافتة مما يزيد من إعجاب رئيسها في العمل وكأن ذلك هو ثمرة كل ذلك الإصرار والمثابرة التي تمتعت به إباء في رحلة دراستها .
التقنيات الروائية التي تم استخدامها في الرواية هي تقنية الإسترجاع الزمني والرسائل الإلكترونية .
ضمير المتكلم هو الذي رافق رحلة الرحيل وهو نفسه ما سردت به بقية الراويات قصتها في سرد محكم البناء وعمارة روائية متعالية في واقعيتها وإلتصاقها بالأرض .. فالأرض الصلبة التي أقيم عليها البناء السردي لم تسعى لهدم الهيكل المقدس للرواية ؛ فهي ذات بداية و زمان ومكان واضحيين , ومتغيرين حسب حركة إنتقال الشخوص ,وشخصياتها واقعية وتتكلم بلغات عدة وتأكل وتسافر وتبوح بما يعتمل بها من إنكسارات وشروخ , والحدث ينمو نموا طبيعيا و ضمن سياق لغوي متصاعد نحو الخاتمة
وتكاد تخلو الرواية و من الزخارف اللفظية والحكم المنثورة , فالقصة سيرة ذاتية لمهاجرة عراقية هربت بزمن الحرب من العصابات الارهابية التي نبت كنبت شيطاني في العراق
ظهر بدون سياقه الفطري بل كان منبعه تلك الطائفية الكريه التي عبثت بالنسيج العراقي المتوحد بغية تفريقه وتدمير العراق .
كل ذلك الرحيل - لجوءا الى كل محطات الدنيا وكل ذلك بسياق روائي مبعثه الأمل على الرغم من تعدد محطات الرحيل الاّ إن الخيط الوشائجي مع الوطن بقي أصيلا في الشخصيات ولم ينقطع مثل الكثير الذين يرمون وطنهم ويمضون بعيدا عنه . فالشخصيات هنا ذات قيّم راسخة في حب الوطن , فهم يحملونه معهم وينتظرون العودة إليه ولكن في رحلة رحيل عكسية تكون بوصلتها - حتما - الى الوطن المعافى .
وأخيرا ,,, قوة اي رواية بما تتركه فيك بعد قرائتها, في هذه الرواية بالذات أن ماتبعثه من شجون وحزن يتسرب من مسامات السرد يجعلني أقول ولأول مرة - أقرأ رواية كتبت بصبر جميل , والله المستعان .
#هاله_ابوليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟