حسن عطا الرضيع
باحث في الشأن الاقتصادي وكاتب محتوى نقدي ساخر
(Hasan Atta Al Radee)
الحوار المتمدن-العدد: 4861 - 2015 / 7 / 9 - 17:12
المحور:
الادارة و الاقتصاد
تُعتبر الحرب الاقتصادية من أكثر الوسائل التي تتبعها الدول للسيطرة على موارد واقتصاديات دولاً أخرى, بعيداً عن استخدام العنف والحرب العسكرية لتحقيق أهدافاً سياسية وأخرى اقتصادية, وفي قطاع غزة وخلال السنوات العشر الأخيرة, استطاعت إسرائيل القيام بحرب اقتصادية لا تقل ضراوة وشدة عن تصعيداتها العسكرية المستمرة في السنوات العشر الأخيرة, بدأت تلك القضية مع انسحاب إسرائيل أحادي الجانب من قطاع غزة في سبتمبر 2005, حيث أدى هذا الانسحاب لسيادة أجواء من الاستقرار الأمني والسياسي والذي أدى إلى تحفيز الاقتصاد في الأراضي الفلسطينية , ويتضح ذلك من خلال الارتفاع الكبير في مؤشر سوق فلسطين للأوراق المالية "مؤشر القدس", حيث بلغ حجم التداول في عام 2005 حوالي 2 مليار دولار انخفض الى ا مليار دولار في بداية عام 2006 ثم الى 451 مليون خلال النصف الأول من عام 2006 , هذه الخسائر التي مُني بها الاقتصاد الفلسطيني كانت أحد أول مراحل تلك الحرب الإسرائيلية والتي استطاعت ضرب الادخار المحلي في قطاع غزة, كي لا يستطيع تمويل استثماراته المحلية واللجوء للاقتراض والاعتماد على الغير, سياسة تكرست أكثر في السنوات الأخيرة, حيث يعاني اقتصاد قطاع غزة من تحقيق معدلات ادخار سالبة , هذه المدخرات السالبة ساهمت في تعميق الفجوة بين الادخار- الاستثمار وفجوة الاستهلاك- الإنتاج, وخسر صغار المستثمرين والمودعين الغزيين لرؤوس أموالهم مما ساهم بارتفاع معدلات البطالة والفقر لشريحة كبيرة من الفلسطينيين؛ تلك الخسائر كبيرة مقارنة باقتصاد غزة الذي لا يتجاوز ناتجه المحلي السنوي 2 مليار دولار, في حين أن هذه الخسائر تعتبر مكاسب وأرباح لكبار الشركات في مجموعة باديكو القابضة والتي تحول أموالها وتستثمرها في الخارج باستثناء بعض المجالات التي تقع في دائرة التبادل والمعاملات المالية والخدماتية في قطاع غزة التي تضيف قيم اقتصادية حقيقة ولا تحد من المشاكل الاقتصادية وأهما عدم توفر فرص العمل , في العام 2005 زاد الاستثمار في السوق المالي الفلسطيني وخلال أشهر فقد المستثمر في قطاع غزة أكثر من نصف مليار دولار, وهذه السياسة وظيفتها كبح جماح أي إمكانية مستقبلاً لتكوين مدخرات يتم تحويلها لاستثمارات دون الحاجة للمانحين الذين أسروا وقيدوا القرار السياسي والاقتصادي لشروط إدارتهم العليا , تراجع معدل الادخار واشتداد الأزمة الاقتصادية في قطاع غزة هدفت إسرائيل من وراءه إلى تمرير اتفاقيات سياسية لتحييد وإضعاف القضية الفلسطينية, والمسألة الثانية من الحرب الاقتصادية تمثلت بضرب الاقتصاد بغزة عبر تشديد الحصار من جهة وخلق واقع اقتصادي وسياسي مرير تمثل بتوجه الفلسطينيين لظاهرة الأنفاق (تجارة التهريب مع جمهورية مصر العربية) والانقسام السياسي وتعزيزه ليخدم مستقبلاً المشروع الإسرائيلي, حيث أنه وبعد فوز حركة المقاومة الإسلامية حماس في انتخابات المجلس التشريعي في دورته الثانية في يناير 2006 وتشكيلها للحكومة الفلسطينية ومع رفضها لشروط الرباعية الدولية المتمثلة بالاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف والموافقة على معاهدة السلام العربية ونزع السلاح, قامت إسرائيل بفرض حصاراً شديداً على القطاع تمثل بإغلاق المعابر ومنع إدخال الأموال ورواتب الموظفين , واعتبار قطاع غزة كيان معادي وتوقف تعامل البنك المركزي الإسرائيلي مع مصارف قطاع غزة دون الضفة الغربية, وبسبب الحصار توجه أهالي قطاع غزة لحفر الأنفاق على الحدود مع جمهورية مصر العربية والتي بدأت تشكل بديلاً عن المعابر الإسرائيلية الخمسة المغلقة, حيث بدأت تلك الأنفاق بتعويض النقص الحاد في السلع حيث من أصل 9000 سلعة تستورد من المعابر الإسرائيلية تراجعت لحدود 30 سلعة أثناء الحصار, ولكن كيف خدمت الأنفاق إسرائيل وضربت الاقتصاد الفلسطيني في قطاع غزة كالتالي؛ ظاهرة الأنفاق شكلت مبدأ الاقتصاد المدمر والطفيلي رغم دوره في توفير السلع الأساسية والضرورية ؛ وتداعياتها الخطيرة تمثلت في إخراج النقد من قطاع غزة ( العملة الصعبة الدولار) باتجاه واحد وهو مصر, ومقابل ذلك الحصول على السلع والمنتجات غير الجيدة وبأسعار تفوق سعرها الأصلي بأضعاف مضاعفة في بعض الأحيان بلغ سعرها 300% من السعر في مصر, مما ساهم بارتفاع الأسعار وتدني مستويات المعيشة, وعليه فإن رواتب ومدخرات المواطنين التي هي دولارات قد هربت باتجاه واحد مما قلل من مكامن أي قوة إن وجدت في اقتصاد فقير وتابع وبلا موارد, في تلك الفترة كانت المسألة الثالثة الخطيرة وهي أن تجارة الأنفاق قد نمت الطفيلية وغسيل الأموال وعمليات النصب والاحتيال, وأهمها القضية المعروفة إعلامياً بقضية الروبي والكرد, حيث استطاعوا توظيف ما يقارب من 600 مليون دولار في أنشطة غير منتجة وغامضة تقع ضمن عمليات التحايل المالي , وفي العام 2009 انكشفت القضية لتكون بذلك أكبر عملية تحايل وتوظيف أموال في الأراضي الفلسطينية وأغلق هذا الملف من قبل حكومة وتشريعي حماس, ولم يحصل أصحاب الاستثمارات والأموال المتضررين سوا على 16.5% من أموالهم وهذه الحالة شبيهة بقضية أحمد الريان في مصر في الثمانينات والتي بلغت قيمة التحايل حينها أكثر من 3 مليار جنيه مصري, وعرف حينها الريان بأسطورة توظيف الأموال عربيا وصاحب أكبر تحايل مالي حينها في العالم العربي, مما يعني أن عملية النصب والتحايل تلك أفقدت اقتصاد غزة 500 مليون دولار وهذا ساهم بتراجع الادخار والاستثمار وبالتالي تباطؤ الإنتاج المحلي, هذه المبالغ الضخمة حققت إسرائيل من ورائها أهدافها المتمثلة بضرب الموارد المالية للفلسطينيين وإضعاف حجم الادخار الوطني وإثارة الفوضى وعدم الاستقرار, وفي تلك الفترة أيضا وعند ذروة ورواج الأنفاق شهد قطاع غزة موجة من الحرب الاقتصادية تمثل بارتفاع كبير في أسعار الأراضي والعقارات والناجمة عن توظيف قرابة 2700 مليون دولار من أرباح الأنفاق في قطاعات استثمارية غير منتجة كالمضاربة في الأراضي والعقارات والخدمات المالية والصرافة والسياحة رغم انعدام السياحة والمولات الاستهلاكية ومعارض السيارات الفاخرة وغيرها من المجالات التي تعتبر تشوهاً في نمط استهلاك الغزيين وذات مرود اقتصادي ضعيف من الناحية المجتمعية, هذا رافقه تعزيز للمرض الهولندي والذي يعني فلسطينيا بحالة الثراء الفردي والفقر المجتمعي , هذه الحالة هي جزء من الحرب الاقتصادية كونها تهدد النسيج المجتمعي وتضرب البيئة الداخلية من جهة وتزيد الفقر والحرمان وبالتالي الاعتماد على المساعدات الإغاثية وتحويل القضية الفلسطينية لقضية إنسانية شبه بحتة , والمسألة الرابعة هي خلق واقع سياسي مرير عبر الانقسام السياسي والذي مكن إسرائيل من الاستمرار في مخططها التدميري والاحلالي؛ حيث استمرت في الاستيطان والسيطرة على المياه والأراضي وتحديداً مناطق سي الغنية بالموارد والتي تقدر بحوالي 60% من موارد الأراضي الفلسطينية الطبيعية, إضافة للاستمرار في السيطرة على نفط الضفة الغربية وغاز بحر غزة المقدر بقرابة 4 مليار دولار, هذا الاستنزاف للموارد الاقتصادية والطبيعية شكلاً من أشكال الحرب والتي تعتبر أكثر مروداً لإسرائيل من شن حروب عسكرية, والمسألة الخامسة في ذلك هو شن الحروب المتواصلة منذ انسحابها من غزة عام 2005 وأهمها أول المطر 2006 وحروب 2008 و2012 و2014 والتي أدت لشلل قطاعات الاقتصاد وبسببها تآكلت قطاعات الإنتاج والأهم هو ضرب الإنتاج الزراعي والصناعي , وبقاء الاقتصاد فقط يعتمد على المنح والمساعدات الخارجية وقطاع الخدمات, مما يعني في هذه الحالة أنه لا يمكن القول بوجود اقتصاد في قطاع غزة لا يتوفر لديه إنتاج زراعي وصناعي واتضح ذلك من خلال أن العمليات العسكرية كانت تركز على تدمير الأراضي الزراعية والتجريف وتدمير مئات المنشات الاقتصادية والتجارية والصناعية ومنع إدخال مواد البناء ومستلزمات الأنشطة الاقتصادية لدواعي أمنية كاستخدامها لعمل الفصائل الفلسطينية المسلحة والمناهضة لإسرائيل وفي جانب أخر إغلاق سوق العمل الإسرائيلي كلياً أمام الآلاف من العمال الفلسطينيين بعد انسحابها من غزة, والمسألة السادسة والأخطر وهي أن إسرائيل استطاعت خلق سوق سوداء في قطاع غزة في سعر صرف الدولار والشيكل, ولذلك انعكاسات خطيرة على الواقع الاقتصادي والمعيشي, فمثلاً فروقات الأسعار بين التسعيرة الرسمية لصرف الدولار والشيكل (سعر البنك) والسعر الدارج في السوق (الصرافين) يتراوح ما بين 4-8 شواكل وأحيانا بلغ 20 شيكل في بعض الفترات, ويعتبر ذلك اختلالاً في الاقتصاد, وبسبب هذا الفرق سمحت إسرائيل لتجار قطاع غزة بيع الدولار( العملة الصعبة من غزة) وتبديلها بالشيكل في الضفة الغربية وإسرائيل للاستفادة من تلك الفروقات , وهدف إسرائيل هو إخفاء الدولار من غزة وزيادة احتياطيات إسرائيل منه مقابل زيادة الشيكل لما له من استفادة كبيرة عبر ريعه في غزة( تبلغ تكلفة العملة الإسرائيلية هي قيمة الورق المصنوع منه وبالتالي هناك فائدة كبيرة لإسرائيل من ريع الشيكل في الأراضي الفلسطينية حيث تستحوذ الأراضي الفلسطينية على 8-10% من قيمة الشيكل المصدر من البنك المركزي الإسرائيلي ), تلك الفروقات في السعر ما بين السعر الرسمي وسعر الصرافين له أضرار جمة لشريحة كبيرة من المواطنين؛ مقابل استفادة كبيرة لعدد محدود من التجار والصرافين وأباطرة البنوك, وفي ظل عدم وجود عملة وطنية واستمرار إسرائيل في منع خلق ظروف سياسية وأمنية مستقرة لتحقيق ذلك, فإن هذا شكل من أشكال الحرب الاقتصادية, حيث أن وجود عملات كاليورو والشيكل والدولار والدينار متداولة في الأراضي الفلسطينية من أبرز أسباب تعمق الأزمة الاقتصادية في قطاع غزة, حيث أن خسائر الاقتصاد من جراء ذلك كبيرة وتحديداً تفاقم التضخم وحدوث صدمات متتالية وارتفاعات في الأسعار وتغير في سعر الفائدة إذا حدث تغيرات في قرارات البنوك المركزية لتلك العملات, كالبنك الإسرائيلي والأردني والأمريكي, مما يعني اللا استقلالية في اتخاذ القرار والتعامل مع الأزمات الاقتصادية, أما كيف ينعكس ذلك على المواطن, فمثلاً أسعار الأراضي, المهور, الذهب, وغرف النوم تتم بالدينار الأردني, وأسعار الشقق السكنية والسيارات وصالات الأفراح والأجهزة الكهربائية والالكترونية الحديثة بالدولار الأمريكي, مواد البناء والملابس والسلع الاستهلاكية ومستلزمات الأفراح والتبادلات بين المواطنين اليومية تتم بالشيكل , أما الرواتب فإن السلطة الفلسطينية توفر الرواتب للموظفين بالشيكل , ووكالة الغوث وتشغيل اللاجئين بالدولار, المنظمات الدولية باليورو والدولار, حكومة حماس بالشيكل وأحياناً بالدولار اليورو وفقاً لحصولها على المساعدات والجبايات الضريبية من جهة أخرى, أما البنوك فإنها تقدم قروضاً بالدولار والدينار, وتسهيلات لا تذكر أحياناً بالشيكل,المنح والمساعدات التي تأتي لغزة هي بالدولار , الاستهلاك بالسوق الغزي بالشيكل وفاتورة الاستيراد من الخارج بالدولار , والصادرات بالدولار ولكن غير موجودة وإن وجدت فلا تتعدى بضع ملايين من الدولارات سنوياً, وعليه فإن المستفيد من تلك الفروقات في الأسعار هي البنوك وكبار التجار والصرافين, حيث تعمدت البنوك في فترات متعددة استغلال الموظفين والمودعين للاستفادة من فروقات الأسعار, فأحياناً تكون الرواتب بالدولار تقوم البنوك بصرفها بالشيكل لعدم وجود دولار لديها, وأحيانا العكس, والخاسر الأكبر من كل تلك الفروقات هو الحلقة الأضعف وهو المستهلك , أما سلطة النقد فلا زالت بلا حيلة ولا قوة, ولا تأثير, سياساتها غير مستقلة, هي تمثل الآن وخلال العشرون عاما الماضية دور" البطة العرجاء ذات العين الواحدة", حيث غطت الطرف عن عمليات هروب رؤوس الأموال إلى الخارج والتي تقدر بحوالي 6 مليار دولار في حين تبلغ ودائع الفلسطينيين قرابة 10 مليار دولار أي أن أكثر من 60% من الودائع هي بالخارج, وهذا انعكس سلباً في الاقتصاد الفلسطيني والذي يعاني من اختلال بنيوي كبير من أركانه وجود فجوة الادخار – الاستثمار, أما المسألة السابعة فهي عدم جدوى السياسات الاقتصادية المنتهجة في الأراضي الفلسطينية , وتفاقم العجز في الموازنة وعدم ضبط الأسواق والتسعير واستمرار التهرب الضريبي والجمركي والذي يقترب من 700 مليون في الضفة الغربية وتحديداً منتجات المستوطنات المهربة, وعدم نجاح مساعي المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الإسرائيلية, والقرصنة المستمرة من قبل إسرائيل لأموال المقاصة, واستمرار العمل بروتوكول باريس الاقتصادي, إضافة للانقسام السياسي, وتأخر أعمار قطاع غزة, قد شرع لإسرائيل الاستمرار في حربها الاقتصادية ضد الأراضي الفلسطينية وغزة تحديداً دون الحديث أو التفكير الفلسطيني الجدي بإيقاف ذلك أو تعريته دولياً, ويعود ذلك لعدم اهتمام متخذي القرار السياسي والاقتصادي للجانب الاقتصادي في أجندتها الرئيسية, حيث أن مشاريع التنمية الاقتصادية وتحسين مستويات المعيشة والاعتماد على الذات والتخلص من التبعية لا زالت ليست من ضمن أولويات القيادة الفلسطينية, والتي تكتفي بتوفير رواتب للموظفين واستمرار برامج الحماية الاجتماعية, ومطالبة المانحين بتمويل الموازنة باستمرار, دون البحث عن حلول آنية ومستقبلية وفقا للإمكانات المتاحة.
#حسن_عطا_الرضيع (هاشتاغ)
Hasan_Atta_Al_Radee#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟