أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - موسى راكان موسى - وهم تحرر الإنتلجنسيا .. منطق النقض















المزيد.....


وهم تحرر الإنتلجنسيا .. منطق النقض


موسى راكان موسى

الحوار المتمدن-العدد: 4858 - 2015 / 7 / 6 - 09:23
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تقديم :

بعد أن تناولت مؤلف الدكتور علي الديري ((خارج الطائفة)) ضمن سلسلة بدأتها بعنوان وهم تحرر الإنتلجنسيا , تحيّرت في إكمالها بتناول مواضيع أخرى , خاصة و إن من بين النقد الذي وصلني أن النقد لم يكن واضحا , كما أن العرض حوى بعض التعقيد و الحشو . فقررت المضي بموضوع بعده أقرر أأمضي في السلسلة أم لا , و قد ملت إلى تناول ما يرتبط بالأسس أو الأصول الفكرية ذاتها كالمنطق , خصوصا و أن موقعنا المميز ((الحوار المتمدن)) قد اشتغلت و اشتعلت فيه معارك اختلفت أطرافها بين إقرار دور المنطق في العلوم و آخر ينفيه [الديالكتيك أعني] . و لا أنكر أن موضوع الكتابة في الديالكتيك أغواني , إلا أن وقوعي صدفة على مؤلف ((نقض المنطق)) لشيخ الإسلام بن تيمية إستفزني . لم أنوِ صراحة أن أتناول المؤلف خصوصا بعدما إطلعت على فهرسة المؤلف التي أضحكتني أكثر مما إستفزتني , و قراءة عجلى على الفصل المعنون ب ((المنطق و فساده و إشتماله على دعاوى باطله)) جعلت من ضحكي يشتد . لم أقم لشيخ الإسلام بن تيمية وزنا (صراحة) , كما أن مؤلفه و كأنما جاء ليؤكد أمرا في نفسي لا أكثر و لا أقل .

لكن بعد نظر في الواقع و تدبر , تراءت لي أهمية تناول مؤلف شيخ الإسلام بن تيمية ((نقض المنطق)) , بل إن هذه الأهمية لا تكف إلا تزداد . كبداية دهشت أمام من يصنف بن تيمية فيلسوفا , و لم تقل تلك الدهشة أمام أساتذة كبار في تخصصاتهم حين يعتبرونه كذلك بل و يتطرف بهم الوصف . يجانب ذلك أن الحاضر العربي ثملان بابن تيمية , فهو حاضر في كثير من المشاهد الحياتية و الإعلامية , و لا يخفى حضوره الطاغي دينيا . و جانب ذلك كله تصريح أحد دعاة المعتزلة الجدد إشادة بابن تيمية في مؤلفه الذي يتناول المنطق و رده على المنطقيين , حتى أنه وصف ابن تيمية بالمعتزلي في مؤلفه المذكور ! .

فقررت أن أتناول بن تيمية و أعلنت ذلك , حتى أن لي زميل يتبنى السلفية سخر من قرار تناولي لابن تيمية و فاض به المقام مدحا بابن تيمية . و كنت لأسأله هل قرأ كتاب بن تيمية في نقض المنطق , إلا أن إجابته على سؤال هل قرأ أي مؤلف لابن تيمية حالت دون أن أسأله , فقد أجاب بالنفي ! . و حدث ذات الأمر مع آخر فاض به المقام مدحا بابن تيمية , و كان مثل زميلي الأول .

ارتكزت في تناولي هذا على مؤلف رئيسي لابن تيمية , و هو ((نقض المنطق)) , حيث وجدته أكثر من غيره مما تناول المنطق كمنطق ببعض الإتصال والوضوح , و الجدير بالذكر أن إسم المؤلف لم يقره ابن تيمية نفسه , و ما يهمنا فيه المقدمة , و من الفصل الموضوع تحت عنوان ((المنطق و فساده و إشتماله على دعاوى باطلة)) , حتى الفصل الموضوع تحت عنوان ((جميع ما يأمر به المنطق من العلوم و الأخلاق لا تكفي في النجاة من عذاب الله و لا تحصيل نعيم الآخرة)) . و توسعت لأحيط بموضوع المنطق عند بن تيمية , فوصلت لثلاثة مؤلفات [إلكترونية] :
1) مؤلف بعنوان ((الرد على المنطقيين)) و المسمى أيضا ((نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق أهل اليونان)) . و يعطينا الإسم الثاني دلالة واضحة عن المؤلف , إذ هو صراحة يتجنب المواجهة المباشرة , و يتحول إلى نصيحة . و يقع المؤلف في حوالي 588 صفحة , و ما يهمنا فيه ما وضع تحت عنوان ((ملخص أصول المنطق و اصطلاحاته)) .
2) مؤلف بعنوان ((منطق بن تيمية و منهجه الفكري)) , و المؤلف ناقص إذ يبدأ بالباب الأول , و كل ما يمكن معرفته عنه أنه صادر عن المكتب الإسلامي . و يقع المؤلف في حوالي 400 صفحة , و ما يهمنا فيه ما وضع تحت عنوان ((تمهيد – نقد المنطق الأرسطي)) , و المؤلف كان أكثر من المؤلفين السابقين تواضعا .
3) مؤلف بعنوان ((المنطق عند بن تيمية)) , و هو للدكتورة عفاف الغمرى . و يقع المؤلف في حوالي 370 صفحة , و يهمنا فيه مقدمة الدكتورة و ما وضع تحت عنوان ((نقد بن تيمية لمنطق أرسطو)) . و هو الأكثر وضوحا و صراحة و أيضا تواضعا .


العجيب في طريقة بن تيمية في التفلسف _مداراة لمن يصنفه كفيلسوف_ أنه بالشكل يتفلسف , لكنه بالفعل (أو الجوهر) لا يتفلسف , إذ هو صراحة ينطلق من القرآن و السنة (وتجمع المؤلفات السابقة على ذلك) . و رغم أنه يمارس نقدا (أو نقضا) للمنطق , فهو إذ بممارسة ذلك إنما يتمنطق ليس إلا . فإن كان تركيزنا على المنطق ككل دون قضايا و تفاصيل , فتناولنا سيقتصر على منطق بن تيمية تجاه المنطق ككل دون قضايا و تفاصيل . و من ذلك عنونت هذا الجزء من السلسلة بعنوان ((منطق النقض عند بن تيمية)) .


لا أزعم أني لا أحمل في داخلي شيئا تجاه بن تيمية قبل الشروع في تناول مؤلفه , بل أني لا أزال أخشى أن يبذر مني مدح لابن تيمية لا يستحقه تحت ضغط الإدعاء بالموضوعية و المصداقية .

لا يخفى الواقع الذي عاش فيه بن تيمية على أحد , و إذ الذي جاء به بن تيمية إنما يرتبط بالواقع , و لهذا وجد صداه و إمتداده . ما جاء به بن تيمية في ذاك الزمان ثوري , و بالمثل الذي جاء به محمد بن عبدالواهاب في زمانه ثوري . مع العلم أن كلاهما لم يأتيا بشيء من عندهما . فما جاءا به هو ما كان يُحتاج له [فكرا] في محاربة سالبي الأموال , و مقارعة مشرعني الفساد , و مصارعة مروجي الأفيون الديني , على المستوى العملي أكثر من النظري فيه . صحيح أن ما جاءا به هو ثوري , لكنه مؤقت , فما أن ينتهي زمانه حتى تتطلب الحاجة تجاوزه , إذ به يصبح محافظا أي عائقا , ما لم يحوِ في ذاته شرط الديمومة الثورية , أي التغيير الدائم في ذاته .

و لأن ما جاء به بن تيمية كان على المستوى العملي أكثر من النظري فيه , كان الإهتمام بما جاء به في الفقه و العقيدة أكثر من الإهتمام بما جاء به في المنطق و الفلسفة [للدقة ما جاء به لنفي المنطق و الفلسفة] . بل إن ما جاء به بن تيمية في المنطق و الفلسفة [نفيا لهما] كاد يخفى للأبد لولا جهود فردية . و لعل في ظهور هذه المؤلفات في الوقت الراهن ما يدفع الفكر و العقل خارج إطار البلادة المتفشية , و إني في ذلك أتوسم الخير .


العرض :

في إطار الصراع الديني و المذهبي القائم (و الذي يخفي في ذاته الصراع الطبقي) , أراد بن تيمية بعد أن انتصر فقيها و عقائديا أن ينفي أي طريق أخرى ممكنة للإنتصار . فما كان منه إلا أن وجه نفسه للمنطق الأرسطي , بعدما أدرك أن معظم الفرق و الديانات الأخرى المتواجدة في الساحة آنذاك تتسلح به , فقام بمحاولة النيل من المنطق _و تجدر الإشارة إلى أن هناك من سبق ابن تيمية في النيل من المنطق (السهروردي مثلا) , بل إن بن تيمية يأخذ منهم في ذلك لينصر مذهبه . فابن تيمية كما أنه لم يأت بجديد كفقه و عقيدة , فهو كذلك أيضا في نفيه للمنطق و الفلسفة , لكن يحسب له تقديم ذلك في شكل جديد (أو مجدد) و لغة جديدة (أو مجددة)_ .

و يمكن تخليص نقد بن تيمية للمنطق على شكل نقاط :

(1) "ذم علماء المسلمين و أئمة الدين المنطق و أهله" . و هذه النقطة متهافتة .

(2) "و أما العلوم المورثة عن الأنبياء صرفا , و إن كان الفقه و أصوله متصلا بذلك فهي أجل و أعظم من أن يظن أن لأهلها إلتفات إلى المنطق , إذ ليس في القرون الثلاثة من هذه الأمة _التي هي خير أمة أخرجت للناس_ و أفضلها القرون الثلاثة : من كان يلتفت إلى المنطق أو يعرج عليه , مع أنهم في تحقيق العلوم و كمالها بالغاية التي لا يدرك أحد شأوها , كانوا أعمق الناس علما , و أقلهم تكلفا , و أبرهم قلوبا" . و هذه النقطة متهافتة كذلك .

(3) "لا تجد أحدا من أهل الأرض حقق علما من العلوم و صار إماما فيه مستعينا بصناعة المنطق , لا من العلوم الدينية و لا من غيرها" . و هذه كذلك متهافتة .

(4) "أن أصحاب المنطق نفسهم لا يلتزمون قوانين المنطق في كل علومهم , بل يعرضون عنها , لأسباب : (طولها) , (عدم فائدتها) , (فسادها) , (عدم تميزها و ما فيها من الإجمال و الإشتباه)" . و ابن تيمية هنا يعرض بالمنطق من خلال أصحاب المنطق , و حسبنا أن نعلم غلط ذلك حين التعريض بالدين من خلال أصحاب الدين , فنفسهم ينكرون ذلك و يعتبرونه من الغلط . أما أسباب الإعراض , و التي هي سمة قوانين المنطق , فهي باطلة من الوجه الذي قدمت من خلاله : أي أصحاب المنطق لا المنطق ذاته .

(5) "لا يحصل لكثير منهم من هذه الطريق القياسية ما يستفيد به الإيمان الواجب , فيكون كافرا زنديقا منافقا جاهلا ضالا مضلا , ظلوما كفورا , و يكون من أكابر أعداء الرسل - و ربما حصل لبعضهم إيمان و لكن يحصل أيضا منها نفاق , فيكون فيه إيمان و نفاق – و يكون مرتدا : ردة كفر أو ردة نفاق" . و ما يجذبنا في هذه النقطة المتهافتة هو كيف إستطاع ابن تيمية ولوج القلوب و دواخل النفوس , فمعلوم أن الإيمان أمر داخلي , و كذلك هو النفاق . لا , بل كيف إستطاع ابن تيمية أن يجعل كلاهما معا في ذات الجوف ؟! .

(6) "و أما زعمهم : أن البديهة و الفطرة قد تحكم بما يتبين لها بالقياس فساده : فهذا غلط . لأن القياس لا بد له من مقدمات بديهية فطرية . فإن جوّز أن تكون المقدمات الفطرية البديهية غلطا من غير تبيين غلطها إلا بالقياس , لكانت المقدمات الفطرية قد تعارضت بنفسها . و مقتضى القياس الذي مقدماته فطرية . فليس رد هذه المقدمات الفطرية لأجل تلك بأولى من العكس , بل الغلط فيما تقل مقدماته أولى فما يعلم بالقياس و بمقدمات فطرية : أقرب إلى الغلط مما يعلم بمجرد الفطرة" . أما البديهة و الفطرة فقد بان بطلان كلاهما كأساس وفق المنظور الديني بما قد تم تقديمه وفق المنظور العلمي . أما قوله "و مقتضى القياس الذي مقدماته فطرية" , فالأصح : و مقتضى القياس الذي مقدماته علمية . و ما يريده ابن تيمية , هو أن يبيّن أصلانية الفطرة و تقدمها على القياس (أي المنطق) , بالتالي فالفطرة أصح و أسلم , و القياس نابع منها و لا يصح إلا بموافقتها . و لا تخفى غاية ذلك الفقهية و العقدية المستدرعة بالفطرة , و قد بان أن هذا الدرع ليس إلا وهم .

و في ذات النقطة "المعاني فطرية عقلية لا تحتاج إلى وضع خاص , بخلاف قوالبها التي هي الألفاظ , فإنها تتنوع , فمتى تعلموا أكمل الصور و القوالب للمعاني مع الفطرة الصحيحة كان ذلك أكمل و أنفع و أعون على تحقيق العلوم من صناعة إصطلاحية في أمور فطرية عقلية لا يحتاج فيها إلى إصطلاح خاص" . إن المعاني لا ينتجها العقل بل إنها تتأتى من المعاينة أو التفاعل . و لولا أن المعاين أو المتفاعل معه له سمة ثبات (و لو ثبات نسبي) , لكان التنوع تجاوز التنوع في الألفاظ إلى التنوع في المعاني . بل إن التغيير الحاصل (حتى البسيط منه) في المعاين أو في التفاعل هو ما ينتج لنا الإختلاف في المعاني (بغض النظر عن درجة الإختلاف) , و في الترجمات ما نجد ذلك بوضوح .

(7) "القياس ينعقد في النفس بدون تعلم هذه الصناعة , كما ينطق العربي بالعربية بدون النحو , و كما يقرض الشاعر الشعر بدون معرفة العروض" . يلجأ ابن تيمية للمماثلة هنا لنفي تعلم المنطق , و المماثلة باطلة , إذ يختلف المنطق عن النحو , و كذلك عن العروض . و لو أردنا السير مع ابن تيمية في مماثلته لصح قولنا : أن ناطق العربية العالم بالنحو أفضل ممن ينطقها بلا علم له بالنحو , و كذلك الشاعر العارف بالعروض أفضل من الشاعر الجاهل بالعروض .

(8) "المعلوم أن الأمور الدقيقة سواء أكانت حق أو باطل , إيمانا أو كفرا لا تعلم إلا بذكاء و فطنة" . و هنا نتفق مع ابن تيمية , إذ المنطق لا يعدو كونه أداة , كالسيف لصاحبه في القتال , فتكون المهارة و القدرة عاملا حاسما . لكن أن يقتصر الأمر وحده على المهارة و القدرة لهو ضرب من العبث , فأيا تكن مهارة الفارس , فهو دون سيفه في أرض المعارك مجرد عابث . و إن المرء مع نفسه ليختلف عن المرء مع غيره , فالذكاء و الفطنة المقصودة من طرف ابن تيمية تقتصر على الجانب الذي يكون فيه المرء مع غيره , فالمرء مع نفسه بجانب الذكاء و الفطنة يلتزم الصدق و الأمانة (أي في المحاججات) .

(9) "الرد على الزعم ( أنه آلة قانونية تمنع مراعاتها الذهن أن يزل في فكره ) , إذ قد يتضمن من العلم ما يحصل بدونه : بطلان قول ( ليس إلى ذلك العلم لسائر بني آدم طريق إلا بمثل القياس المنطقي )" . و هذه النقطة دون غيرها تحمل في نقد المنطق الكثير من الصحة , و في ذات محور النقطة , "من كان من أهل المنطق من يحقق شيء في العلم فذلك لصحة المادة و الأدلة التي ينظر فيها , و صحة ذهنه و إدراكه , لا لأجل المنطق" , إذا , "من الحق ما لا يوزن بميزان منطقكم" .

و يعطينا ابن تيمية نفسه علة ذلك , "الأمور الكلية الذهنية ليست هي الحقائق الخارجية , و لا هي أيضا علما بالحقائق الخارجية , إذ لكل موجود حقيقة يتميز بها عن غيره , هو بها هو , و تلك ليست كلية , فالعلم بالأمر المشترك لا يكون علما بها فلا يكون في القياس المنطقي علم تحقيقه بشيء من الأشياء و هو المطلوب" . نفهم أن العلم المقصود هو العلم الطبيعي , و هو ما تشير إليه الحقائق الخارجية .

ابن تيمية لم يذهب لإستخراج منطق العلم , منطق المادة , منطق الحقائق الخارجية , بل إكتفى بالنيل من المنطق بجعله بمواجهة العلم (المادة – الحقائق الخارجية) . و نجد أنفسنا نميل إلى كون هذه النقطة منقولة أكثر من كونها نتيجة تفلسف ابن تيمية نفسه .

و لربما _و هذا ما نراه ضعيفا_ لم يغب منطق المادة على ابن تيمية , لكن منعه إعتقاده بالعلم الإلهي من إستخراجه , حيث هو نفسه رغم قوله بالقياس التمثيلي و الشمولي و إنتصاره لهما (مع أنهما يعتبران من أشكال المنطق البسيطة , إلا أنهما يمثلان طريقة {الفتوة} أو {الحكم الشرعي}) , إلا أنه يقول بإستبعادهما حين يكون الموضوع العلم الإلهي .

و مما سبق يستنتج ابن تيمية , "فإن كانت صناعتهم بين معلوم لا يحتاج فيها إلى القياس المنطقي , و بين ما لا يمكنهم أن يستعملوا فيه القياس المنطقي : كان عديم الفائدة في علومهم – بل كان فيه من شغل القلب عن العلوم و الأعمال النافعة ما ضر كثيرا من الناس , كما سد على كثير منهم طريق العلم , و أوقعتهم في أودية الضلال و الجهل , فما الظن بغير علومهم من العلوم التي لا تحد للأولين و الآخرين" . ما يمنع ابن تيمية من أن يستخرج منطق العلم , و يكتفي بالنيل من المنطق عبر مواجهته بالمادة (منطق المادة بطريقة غير مباشرة و غامضة) , هو إنطلاقه من القرآن و السنة , لا جوهر ممارسة التفلسف . لهذا فهو في نيله من المنطق لا يدرك منطقه , بل لا يدرك منطق المادة أو العلم .

يعجز ابن تيمية عن إدراك المنطق بإختياره أن يكون عاجزا , ليخدم الفقه و العقيدة (و هذا العجز قد خدم كثيرا في إطار الصراع الطبقي الكائن حينه – فقد أمّن هذا الفكر العاجز النمط الكائن في المنطقة , بل أمده بعمر جديد , ببعثه من جديد بتأكيد المركزية) .

(10) "من يلزم نفسه بالمنطق و أن ينظر في علومه به و يناظر به إلا و هو فاسد النظر و المناظرة , كثير العجز عن تحقيق علم و بيانه" . و يتحاذق ابن تيمية فيذكر بعض فوائد المنطق ! , "القائل (المنطق فرض كفاية , و من ليس له به خبرة فليس له ثقة بشيء من علومه) فهو في غاية الفساد , و أحسن ما يحمل عليه أن يكون قد كان في غاية الجهالة و الضلالة , و قد فقد أسباب الهدى كلها , فلم يجد ما يرده عن تلك الجهالات إلا بعض ما في المنطق من الأمور التي هي صحيحة" , "فائدة المنطق : ما يحصل به لبعض الناس من شحذ ذهن , أو رجوع عن باطل أو تعبير عن حق , فإنما هو لكونه كان في أسوأ حال , لا لما في صناعة المنطق من الكمال" , و يقدم مثالا عجيبا على ذلك "أن المشرك إذا تمجس , و المجوسي إذا تهود : حسنت حاله بالنسبة إلى ما كان فيه من قبل" . فابن تيمية يتقلب بنا في النيل من المنطق بين تماثل باطل و تناقض مغلوط , تقلب السمكة خارج المياه . و ليس آخر حججه في هذا المحور للنيل من المنطق "أن هذه الصناعة قليلة المنفعة عظيمة الحشو" , و كأن المنطق يخط فلسفة بذاته ! .

(11) "فإن علومهم التي جعلوا هذه الصناعة ميزانا لها : لا يكاد ينتفع بهذه الصناعة المنطقية في هذه العلوم إلا قليل : العلوم الرياضية – و ما يصح من العلوم الطبيعية [الكلية و الطبية]" . هذه العلوم لها منطقها أيضا , بل و الجدير بالذكر أن العلوم الرياضية بمنطقها الرياضي إنما هي أسمى أشكال المنطق الصوري (الأرسطي) الذي كلف ابن تيمية نفسه عناء النيل منه ! , "أصح النظرية _و هي المدخل إلى الحق_ هي الأمور الحسابية الرياضية" .

(12) و يتناول ابن تيمية المنطق في الجانب العملي , "و أما العملية : فإصلاح الخلق و المنزل و المدينة . و لا ريب أن في ذلك من نوع العلوم و الأعمال الذي يتميزون بها عن جهال بني آدم الذين ليس لهم كتاب منزل و لا نبي مرسل ما يستحقون به التقدم على ذلك . و فيه من منفعة صلاح الدنيا و عمارتها ما هو داخل في ضمن ما جاءت به الرسل – و فيها أيضا من قول الحق و إتباعه و الأمر بالعدل و النهي عن الفساد : ما هو داخل في ضمن ما جاءت به الرسل – فهم بالنسبة إلى جهال الأمم كبادية الترك و نحوهم أمثل إذا خلوا عن ضلالتهم فأما مع ضلالتهم فقد يكون الباقون على الفطرة من جهال بني آدم أمثل منهم . فأما أضل أهل الملل _مثل جهال النصارى و سامرة اليهود_ فهم أعلم منهم و أهدى و أحكم و أتبع للحق" . و ابن تيمية و إن كان يبدو و كأنه يمدح المنطق في الجانب العملي , إلا أن مدحه كما يبدو لكل بسيط نظر يحدده المنطلق الذي ينطلق منه ابن تيمية , الفقه و العقيدة . و على أساس , "أن المشرك إذا تمجس , و المجوسي إذا تهود : حسنت حاله بالنسبة إلى ما كان فيه من قبل" , يسير كذلك في مدحه للمنطق , و تحديد درجة أهله , إلا أنه مدح حذر , فقد سبق و أكد أصلانية الفطرة , لذا فهو لا يستبعد تقدم "جهال الأمم كبادية الترك و نحوهم" بالفطرة .

و لابن تيمية قول يستحق النظر في الجانب العملي :
" أن الأمور العملية الخلقية قل أن ينتفع فيها بصناعة المنطق . إذ القضايا الكلية الموجبة _و إن كانت توجد في الأمور العملية_ لكن أهل السياسة و لأهلهم و لملكهم إنما ينالون تلك الآراء الكلية من أمور لا يحتاجون فيها إلى المنطق , و متى حصل ذلك الرأي كان الإنتفاع به بالعمل" .
"ثم الأمور العملية لا تقف على رأي كلي , بل متى علم الإنسان إنتفاعه بعمل عمله , و أي عمل تضرر به تركه . و هذا قد يعمله بالحس الظاهر أو الباطن لا يقف ذلك على رأي كلي" .
"فعلم أن أكثر الأمور العملية لا يصح إستعمال المنطق فيها . و لهذا كان المؤدبون لنفوسهم و لأهلهم , السائسون لملكهم لا يزنون آراءهم بالصناعة المنطقية , إلا أن يكون شيئا يسيرا , و الغالب على من يسلكه : التوقف و التعطيل . و لو كان أصحاب هذه الآراء تقف معرفتهم بها و إستعمالهم لها على وزنها بهذه الصناعة لكان تضررهم بذلك أضعاف إنتفاعهم به , مع أن جميع ما بأمرون به من العلوم و الأخلاق و الأعمال لا تكفي في النجاة من عذاب الله , فضلا عن أن يكون محصلا لنعيم الآخرة" .

إن كان ابن تيمية وفقا لما خطه في نقد (أو نقض) المنطق قد سبق فرانسيس بيكون و جون ستيوارت ميل _حسب ما يعتقده البعض و يصر عليه_ , فهو بما يورده في الجانب العملي قد سبق ميكافيلي بل و وضع أسس البراجماتية , لكن بنكهة إسلامية ! .
و ذلك ما يدعم المركزية للنمط الكائن .


و في ختام العرض , أود التذكير بضرورة وضع ابن تيمية و ما قدمه من فكر في إطاره التاريخي , لفهم إرتباط الفكر بالواقع , الظروف الواقعة . و كذلك إلى أن ابن تيمية في كل ما قدمه لم يكن إلا مجدد , لم يأت بجديد , و الجديد إنما هو الشكل الذي قدم فيه ما قدمه بما يرتبط بالواقع الإجتماعي (الملتبس بالديني و المذهبي) , من بساطة و روح عملية . و المنطق الذي يستعمله ابن تيمية في نقد المنطق هو منطق فقيه لا فيلسوف . كما أن مؤلفاته في ذلك ليست بمواجهة مباشرة مع الفلاسفة أو المتكلمين , بل هي أقرب لأن تكون نصائح لمؤمنين مثله , و هذا ما يحمله كتابه ((الرد على المنطقيين)) من عنوان آخر يبدأ ب ((نصيحة أهل الإيمان)) .

و لا عجب أن نجد من يتمترس بنفس نقاط ابن تيمية في نقد المنطق (أو نقضه) , بل إني لا أجد حرج من تسمية ابن تيمية بشيخ الإسلام , فتقريبا كل رجال دين الإسلام _بغض النظر عن طوائفهم المتنافرة و المتعددة_ يأخذون بذات النقاط (و إن لم تكن خالصة لابن تيمية) , و تقريبا جميعهم يتفقون معه في قوله "لا يصح نسبة وجوب المنطق إلى شريعة الإسلام بأي وجه من الوجوه , و القائل بوجوبه هو من الغلاة و الجهال" .

تمنطق شيخ الإسلام لينال من المنطق , دون أن يدري أنه إنما يتمنطق , فصح قوله فيه هو "من تمنطق , تزندق" ! .



#موسى_راكان_موسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وهم تحرر الإنتلجنسيا .. طائفة الخارج [3]
- وهم تحرر الإنتلجنسيا .. طائفة الخارج [2]
- وهم تحرر الإنتلجنسيا .. طائفة الخارج [1]
- نقد عولمة الرفيق النمري
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (14)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (13)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (12)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (11)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (10)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (9)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (8)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (7)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (6)
- إنقاذ التاريخ
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (5)
- التاريخ .. بين ثلاث
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (4)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (3)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (2)
- نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (1)


المزيد.....




- وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق ...
- جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
- فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم ...
- رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
- وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل ...
- برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية ...
- الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في ...
- الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر ...
- سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - موسى راكان موسى - وهم تحرر الإنتلجنسيا .. منطق النقض