أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - جيوفاني أريغي - تكوين الحركة العمالية العالمية وتحولها















المزيد.....



تكوين الحركة العمالية العالمية وتحولها


جيوفاني أريغي

الحوار المتمدن-العدد: 381 - 2003 / 1 / 29 - 05:07
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    



في الفقرات الختامية من القسم الأول من البيان الشيوعي يتوصل ماركس وإنجلس الى تنبؤين بشأن مستقبل المجتمع البرجوازي، يناقض واحدهما الآخر كما يبدو. فمن جهة يتنبآن بأن يصل حكم البرجوزاية الى نهايته لأنه يقود البروليتاريا الى إملاق متزايد:

" (البرجوازية) لا تصلح للحكم لأنها غير قادرة على تأمين وجود العبد ضمن شروط عبوديته، لأنها مضطرة لتركه يغوص في هذه الحال. فهي تريده أن يطعمها لا أن تطعمه إن المجتمع لا يستطيع العيش في ظل هذه البرجوازية، أو بتعبير آخر، لا يعود وجود المجتمع متلائماً مع وجودها" (البيان الشيوعي).

ومن جهة أخرى، يتنبأ ماركس وإنجلس بأن يصل حكم البرجوازية الى نهايته لأنه يقوض شرط وجوده بصورة حتمية غير واعية. إنه يقوض إمكانية المنافسة بين العمال.

"إن تقدم الصناعة، الذي تلعب البرجوازية دور دافعه غير الواعي، يستبدل عزلة العمال، الناجمة عن التنانفس بتجميعهم بصورة ثورية ناجمة عن إتحادهم. إذن فتطور الصناعة الحديثة يسحب من تحت أقدام البرجوازية ألاساس الذي تستند إليه في إنتاج و تملك المنتجات . و عليه فإن البرجوازية تنتج ، قبل كل شيء، حفاري قبرها. ولهذا فان سقوطها وانتصار البروليتاريا حتميات بالقدر ذاته".

إن الأطروحة التي أعرض أدناه تقول بأن هذين التنبؤين يمثلان نقطة القوة والضعف في آن للأرث الماركسي. فهما يمثلان نقطة قوة لأن الإتجاهات الجوهرية في الإقتصاد الرأسمالي العالمي طوال السنوات المئة والأربعين التالية لكتابة البيان الشيوعي قد أكدت صحة التنبؤين في كثير من جوانبهما الرئيسـية. أما نقطـة الضعف فتتمثـل في أن السيناريوهين متناقضان فيما بينهما جزئياً. وأهم من ذلك، فقد ظل التناقض بلا حل ، في نظريات وممارسات أنصار ماركس.

يمكن عرض التناقضين، كما أراه، بالشكل التالي. السيناريو الأول يوصل الى عجز بروليتاري مطبق. فالتنافس يمنع البروليتاريا من المشاركة في منافع التقدم الصناعي ويقودها الى حالة من الفقر المطبق تجعلها عبئاً على المجتمع عوض إن تكون قوة منتجة. أما السيناريو الثاني فيقود الى حالة معاكسة، الى سلطة البروليتاريا. إذ يؤدي التقدم الصناعي إلى إستبدال التنافس بالأتحاد بين البروليتاريين، الأمر الذي يقّوض قدرة البرجوازية على تمّلك منافع التقدم الاقتصادي.

بدهي أن ماركس لم ير وجود تناقض بين السيناريوهين. فالنـزوع نحو إضعاف البروليتاريا يخص جيش العمل الأحتياطي، ويفضي إلى تقويض مشروعية حكم البرجوازية. أما النزوع نحو تقوية البروليتاريا فيخص جيش العمل الفعال، وهو يفضي الى تقويض قدرة البرجوازية على تملك الفائض.

تكمن قوة هذا النموذج في بساطته. فهو يستند الى ثلاث فرضيات. الأولى، كما أشار ماركس في المجلد الثالث من رأس المال، هي أن حدود رأس المال يفرضها رأس المال نفسه، أو بتعبير آخر، ان تطور رأس المال وانهياره في نهاية المطاف أمر كامن في "جينيات" النظام الموروثة. والعنصر المحرك والدافع لتطور وانهيار رأس المال هو "تقدم الصناعة". إذ لا يمكن للتراكم الرأسمالي أن يمضي متصاعداً الأ إذا طّور الصناعة. لكن تطور الصناعة يستبدل التنافس بين العمال، الذي يستند التراكم إليه، بإتحادهم. وهكذا يصبح التراكم الرأسمالي، عاجلاً أم آجلاً، مهزوماً ذاتياً.

تقوم فرضية ثانية على أن الفاعلين (الذوات) في التغيير الاجتماعي بعيد المدى وواسع النطاق، هم تجسيدات شخصية للأتجاهات البنيوية. فالمنافسة بين أفراد البرجوازية تضمن تطور الصناعة، فيما المنافسة بين أفراد البروليتاريا تضمن أن تعود منافع التطور الى البرجوازية. لكن تطور الصناعة يعني اتساعاً لا سابق له في التعاون بين وضمن عمليات العمل. وهذا الأتساع يفضي عند مرحلة تطور معينة الى تحول البروليتاريا من مجمع من الأفراد المتنافسين الى طبقة متماسكة قادرة على وضع حد للأستغلال.

ان الوعي والتنظيم إنعكاسان لعملية المنافسة والتعاون البنيوية التي لا تعود الى أي إرادة فردية أو جماعية. والنضالات المتعددة التي تشنها البروليتاريا تمثل مكوناً جوهرياً في عملية تحويل التغيّر البنيوي الى تغيّر إيديولوجي وتنظيم. لكن هذه النضالات نفسها تجد جذرها في التغيرات البنيوية. وهذا هو "الفهم" الوحيد الذي يمكن "إدخاله" إلى البروليتاريا بصورة مفيدة من خارج شروط حياتها:

"إن الشيوعيين لا يمثلون حزباً منفصلاً معارضاً لأحزاب الطبقة العاملة الأخرى. فليست لديهم مصالح مستقلة ومنفصلة عن مصالح البروليتاريا ككل. إنهم لا يعرضون أي مبادئ فئوية خاصة بهم، يسعون من خلالها لتشكيل وتطويع الحركة البروليتارية.

يتميز الشيوعيون عن أحزاب الطبقة العاملة الأخرى بما يلي فقط:

1) في النضالات الوطنية لبروليتاريا مختلف البلدان يؤكدون على المصالح المشتركة لكل البروليتاريا بغض النظر عن قوميتها، ويبرزون ذلك في المقدمة.

2) في مختلف مراحل التطور، التي يجب أن تمر بها نضالات الطبقة العاملة ضد البرجوازية، يمثلون دوماً وفي كل مكان مصالح الحركة ككل" (ماركس وإنجلس، "البيان الشيوعي).

 

فرضية النموذج الثالثة هي أولوية الاقتصاد على الثقافة والسياسة. بل يتم تعريف البروليتاريا بتعابير إقتصادية محض، بوصفها "طبقة من الشغيلة، الذين لا يستطيعون العيش ما لم يجدوا عملاً، ولا يجدون عملاً ما لم يزيد عملهم رأس المال. هؤلاء العمال الذين يجب أن يبيعوا أنفسهم بالتدريج، هم سلعة، مثل كل المواد المعروضة للبيع، وبالتالي فهم معرضون لكل تغيرات المنافسة، ولكل تقلبات السوق" (البيان الشيوعي).

إذن فبموجب المخطط الماركسي، إما أن يكون البروليتاري فرداً متشظياً يتنافس مع أفراد آخرين (متشظين مثله) للحصول على وسائل العيش، أو أن يكون عضواً في طبقة عالمية تناضل ضد البرجوازية. وليس ثمة بين الطبقة العالمية والفرد المتشظي جماعة وسطى قادرة على ضمان الأمان أو مركز مثل عضوية الطبقة. ذلك أن المنافسة في السوق تجعل كل تجمع وسطي مختلاً وبالتالي حالة عابرة.

وعلى العموم يتكون النموذج الماركسي الأصلي من نموذج للمجتمع البرجوازي ينطوي على ثلاثة تنبؤات قوية:

1- ينـزع المجتمع البرجوازي إلى الإستقطاب في طبقتين، البرجوازية والبروليتاريا، معرفة كطبقة من العمال الذين لا يستطيعون العيش إلا إذا وجدوا عملاً، ولا يجدون عملاً إلا إذا أدى جهدهم الى زيادة رأس المال.

2- ينزع التراكم الرأسمالي إلى إفقار وتقوية البروليتاريا في الوقت نفسه، وذلك في إطار المجتمع البرجوازي. ويرتبط تعزز دور البروليتاريا بموقعها كمنتج للثروة الاجتماعية. أما إفقارها فيرتبط بدورها كقوة عمل مسّلعة بهذا القدر أو ذاك، خاضعة لكل تقلبات المنافسة.

3- تنـزع قوانين منافسة السوق العليا، اجتماعياً وسياسياً، إلى دمج النـزوعين السابقين في عملية تفقد النظام البرجوازي مشروعيته، مما يستحث أن يخلفه نظام عالمي غير تنافسي وغير استغلالي.

ولكي يستطيع تقويم مدى توافق تلك التنبؤات مع التاريخ اللاحق للرأسمالية، من المفيد تجزئة السنوات المئة والأربعين التي تفصلنا عن عام 1848 الى ثلاث حقب متساوية الطول تقريباً، الأولى من 1848 إلى 1896، والثانية من 1896 إلى 1948 والثالثة من 1948 حتى يومنا.

إن اتجاهات وأحداث الفترة الأولى الرئيسة (1848 – 1896) تتوافق مع توقعات البيان الشيوعي. فانتشار ممارسات التجارة الحرة وثورة المواصلات، التي انطلقت طوال العشرين عاماً أو ربع القرن التي تلت 1848، جعلت رأسمالية السوق حقيقة عالمية أكثر من أي وقت مضى. فقد اشتدت المنافسة على السوق العالمية وتوسعت الصناعة بسرعة طوال معظم نصف القرن اللاحق.

غدت بلترة الفئات الوسطى أكثر اتساعاً، وان لم تكن بالإتساع ولا بالثبات اللذين يجري الحديث عنهما غالباً. وبدا استقطاب المجتمع إلى طبقتين متمايزتين متضادتين نزوعاً لا خلاف حوله، وإن تفاوت نطاقه بين بلد وآخر. ويعود هذا الاستقطاب من جهة إلى تقلص الفئات الوسطى، ومن جهة أخرى الى اتساع الفجوة بين دخول البروليتاريين وملكيات البرجوازيين، وأخيراً إلى التمركز السكني الأكبر للبروليتاريا وانعزالها في أحياء خاصة.

وفي الوقت نفسه كانت ثمة قرائن على نزوع التراكم الرأسمالي إلى إفقار وتقوية البروليتاريا. فالتمركز الأوسع للبروليتاريا، ارتباطاً بانتشار التصنيع، سهّل إلى حد كبير تنظيمها في إتحادات، والموقع الستراتيجي للعمال الأجراء، في عمليات الإنتاج الجديدة، منح تلك المنظمات سلطة هائلة لا في مواجهة أرباب العمل الرأسمالي فحسب، بل في مواجهة الحكومات أيضاً. وأبرز تعابير هذه السلطة، وإن لم يكن التعبير الوحيد عنها، النجاحات التي أحرزتها الحركة العمالية البريطانية أواسط القرن التاسع عشر،في تحديد طول يوم العمل وتوسيع الحقوق الانتخابية.

غير أن البروليتاريا كانت تتعرض لمزيد من الإفقار كذلك، فكل انتصار حققته كان محدداً بشروط قوى السوق، التي قّيدت قدرت العمال على مقاومة تحكم البرجوازية الاقتصادي والسياسي. وفي هذه الفترة بالذات اتخذت البطالة أبعاداً كمية ونوعية جديدة خففت من مزايا التحسن في شروط عيش وعمل البروليتاريا وشددت الضغوط التنافسية في وسطها.

وأخيراً، وكما تنبأ البيان الشيوعي، عملت نزعتا الإفقار والتقوية المتضادتان معاً على زعزعة إذعان البروليتاريا لحكم البرجوازية. فالدوران الحر نسبياً للسلع ورأس المال والعمال ضمن نطاق الدولة الواحدة وفيما بين الدول زاد كلفة ومخاطر البطالة في صفوف العوائل البروليتارية. وإذ فقدت البرجوازية مشروعيتها من جراء ذلك، ازداد الاستقلال السياسي للبروليتاريا عن البرجوازية واتخذ بعداً جديداً. ولا يبدأ عصر أحزاب الطبعة العاملة السياسية إلا في هذه الفترة. ولكن سواء ظهرت الأحزاب العمالية أم لم تظهر، فد أخذ العمال الأجراء في بلدان المركز يتخصلون من خضوعهم التقليدي للمصالح السياسية للبرجوازية وبدأوا يعملون من أجل مصالحهم الخاصة باستقلال عن البرجوازية، و بالضد منها إذا اقتضى الأمر.

كانت كومونة باريس عام 1871 أكثر مظاهر هذا التحرر السياسي للبروليتاريا إثارة (ودورامية). ففي كومونة باريس احتفظت البروليتاريا لأول مرة بالسلطة السياسية "طوال شهرين كاملين" (كما كتب ماركس وإنجلس بحماس في مقدمة الطبعة الألمانية للبيان الشيوعي عام 1872). وبالرغم الهزيمة، احتفى ماركس بكومونة باريس واعتبرها نموذجاً للتنظيم المستقبلي للبروليتاريا كطبقة حاكمة.

كان نجاح البيان الشيوعي بالتنبؤ بالخطوط العريضة التي تسم السنوات الخمسين التالية أمراً مثيراً ولا يزال. ولكن لم تتوافق كل الوقائع ذات العلاقة مع المخطط الماركسي. بيد أن أهم انحراف عن هذا المخطط تمثل في الممارسة السياسية البروليتارية نفسها.

 

كانت كومونة باريس المحاولة المهمة الوحيدة التي قامت بها البروليتاريا للاستيلاء على سلطة الدولة وتكريس نفسها كطبقة حاكمة وفق الخطوط التي نظّر لها ماركس. لكن هذه المحاولة لم يجمعها جامع تقريباً بذلك النوع من الاتجاهات التي تفترض النظرية الماركسية أنها تقود إلى ألاستيلاء الثوري على السلطة. فلم تكن حصيلة عوامل بنيوية (أي تعزز قوة البروليتاريا نتيجة التقدم الصناعي، بالترافق مع تزايد إفقارها الناجم عن تسليع قوة العمل). بل كانت حصيلة عوامل سياسية بالدرجة الأولى؛ هزيمة فرنسا على يد بروسيا والظروف القاسية الناجمة عن الحرب الفرنسية – البروسية. بتعبير آخر، حاولت البروليتاريا القيام بثورة سياسية لا بسبب التناقض المتزايد بين تعاظم استغلالها وبين تعاظم قوتها في عمليات الإنتاج، بل لأن الدولة البرجوازية أثبتت عجزها عن "حماية" المجتمع الفرنسي عموماً، وبروليتاريا باريس على وجه الخصوص في وجه دولة أخرى.

ربما قيل إن العزيمة في الحرب لم تكن غير الفتيل الذي فجر التناقضات البنيوية باعتبارها السبب الأعمق والحقيقي. والمشكلة الكامنة في اعتراض كهذا هي أن مستوى الحرب الطبقية المباشرة بين العمل ورأس المال (كما تدل عليه، على سبيل المثال، الحركة الاضاربية) كان في البلدان التي تطورت فيها التناقضات البنيوية على أكمل وجه (في إنكلترا طوال الفترة محل البحث، وفي الولايات المتحدة منذ عام 1870) أعلى منه في أي بلد آخر في واقع الحال. ومع هذا لم تبد الاضطرابات العمالية في تلك البلدان أي ميل، مهما كان ضئيلاً، للتحول الى ثورات سياسية. ولو كانت البروليتاريا الصناعية البريطانية (الأكثر تطوراً بكثير من غيرها كطبقة بذاتها، والأكثر استعداداً للنشاط الاضرابي في فترة 1871) تبدي أقل ميل للثورة السياسية لاتخذ ممثولها في الأممية الأولى موقفاً أكثر إيجابية من كومونة باريس. والواقع أن موقف هؤلاء السلبي كان مؤشراً ذا دلالة على وجود مشكلة جدية في المخطط الماركسي. ومن المرجح أن هذا ما حفز ماركس على التخلي عن انخراطه الفعال في الممارسة السياسية العمالية.

تأكد الانفصام بين الأشكال المباشرة والأشكال الملتوية للصراع الطبقي بطرق مختلفة إثر كومونة باريس. فكما أشرنا سابقاً تطابق حدوث الكساد الكبير في أواخر القرن التاسع عشر مع نهوض هائل للحركة الإضرابية (الشكل الأكثر مباشرة للصراع الطبقي) ومع تشكيل أحزاب عمالية وطنية (الشكل الملتوي للصراع الطبقي). وبرغم أن هذين النـزوعين بدياً مؤكدين لتنبؤات البيان الشيوعي، إلا أن انفصالهما في المكان جعل من توافقهما مع المخطط الماركسي أمراً صعباً. ذلك أن البلدين اللذين تزعما النشاطات الإضرابية (بريطانيا والولايات المتحدة) كانا في آخر قائمة البلدان التي شكلت أحزاباً للطبقة العاملة، في حين أن البلد الذي تزعم عملية تشكيل حزب للطبقة العاملة (ألمانيا) كان متخلفاً في نشاطه الإضرابي. وعلى العموم بدا أن تشكيل أحزاب الطبقة العاملة أمر ضعيف الارتباط بالاستغلال الاقتصادي وتشكل الطبقة العاملة والصراع البنيوي بين العمل ورأس المال. وعوض ذلك يبدو أن المحددات الأساسية لذلك هي محورية الدور الفعلي والمتوقع الذي تلعبه الدولة في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والنضال من أجل الحقوق المدنية الاساس (حق التجمع والتصويت بالدرجة الأولى) للطبقة العاملة. ففي ألمانيا التي كان دور الدولة فيها شديد الوضوح، والبروليتاريا الصناعية المتنامية فيها محرومة من حقوقها المدنية الأساس، اتخذ الصراع الطبقي شكلاً ملتوياً يمر عبر تنظيم حزب للطبقة العاملة. وفي نهاية الكساد الكبير فقط، وبالدرجة الأولى أثناء طور الرخاء اللاحق اتخذ الصراع الطبقي شكل صدام مباشر بين العمل ورأس المال. أما في بريطانيا والولايات المتحدة حيث كان تنظيم الدولة أقل مركزية، والبروليتاريا قد أمنت حقوقها المدنية الأساس، فقد اتخذ الصراع الطبقي شكل نشاط إضرابي وتمحور حول تأسيس النقابات. ولم تنجح محاولات تأسيس أحزاب عمالية فاعلة وطنياً إلا في وقت متأخر جداً في بريطانيا، في حين أنها لم تنجح قط في الولايات المتحدة.

بين عامي 1896 و 1948 تعرض إنتظام قواعد السوق العالمية وتوزعها المتساوي بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين إلى الانكسار. كما أن توقعات ماركس عن التجانس المتـزايد لشروط وجود البروليتاريا العالمية لم تتحقق. فقد كان ماركس يفترض أن السوق العالمية تفعل فعلها متجاوزة الدول، لا من خلال المرور بفاعلي كل دولة. وهذا الافتراض متأثر بايديولوجيا القرن التاسع عشر الليبرالية. ولكن ظهر أنه ينطوي على خطأ جسيم، لأن السوق العالمية في عصره كانت، أولاً وقبل كل شيء، أداة للتحكم البريطاني بنظام الدول الأوروبية الآخذ في الاتساع. وبهذا فقد ارتكزت فعاليتها على توزيع محدد للقوة والثروة بين كثرة من المجموعات الحاكمة، لا يمكن للهيمنة البريطانية ان تستمر من دون تأمين استمرار رضاها، أو إذعانها على الأقل.

مثّل كساد 1873 – 1896 الكبير نقطة الذروة والنهاية معاً لقواعد السوق العالمية بصورتها التي كانت قائمة في القرن التاسع عشر. في مجرى هذا الصراع تعرضت قواعد السوق العالمية الى العطب. ومن ثم الى التعطيل خلال وبعد الحرب العالمية الأولى. لكن انهيار قواعد السوق العالمية لم يوقف "تقدم الصناعة" ولا "تسليع العمل"، وهما النـزوعان اللذان افترض المخطط الماركسي أن يوّلدا في آن واحد زيادة القوة الاجتماعية للعمل والبؤس الجماهيري للعمال. وعلى الضد من ذلك كانت الحروب الكونية والتحضير لها عوامل تقدم صناعي وإفقار جماهيري اكثر قوة من أي دور لعبته قواعد السوق في تحقيق ذلك. غير أن تقوّض السوق العالمية أدى كذلك الى توزع القوة الاجتماعية والبؤس الجماهيري بين مختلف قطاعات البروليتاريا العالمية بصورة أقل تكافؤاً بكثير عما كان عليه الحال من قبل.

وعلى العموم، ففي فترات التعبئة للحرب ازداد حجم جيش الصناعة الفعال (بصورة مطلقة وكنسبة الى حجم الجيش الاحتياطي) في معظم مواقع الاقتصاد العالمي، بما في ذلك البلدان غير المنخرطة مباشرة في الحرب. يضاف الى ذلك، أدى "التصنيع المتزايد للحرب"، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إلى جعل التعاون بين المجندين الصناعيين لا يقل أهمية عن (إن لم يكن أكبر من) تعاون المجندين العسكريين في تقرير نتائج المجهود الحربي. وهكذا تنامت السلطة الاجتماعية للعمل بشكل متناسب مع تصعيد الصراع على النفوذ ضمن النظام الدولي.

غير أن الحروب الكونية امتصت كذلك كميات متصاعدة من الموارد وقطّعت شبكات الإنتاج والتبادل التي كانت وسيلة تحصيل تلك الموارد. ونتيجة لذلك، تناقصت القدرات الإجمالية للطبقات الحاكمة على استيعاب مطالب العمال أو أنها لم تزدد بالسرعة ذاتها التي ازدادت بها السلطة الاجتماعية للعمل. وهكذا خلقت الحروب العالمية مزيجاً من السلطة البروليتارية والحرمان البروليتاري، وهما ما افترض المخطط الماركسي أن يقودا الى تشديد الصراع الطبقي وصولاً إلى الانهيار لسلطة رأس المال.

في الواقع وّلدت كلا الحربين العالميتين موجات من الصراع الطبقي. فقد كان النشاط الإضرابي عموماً يتناقض خلال السنوات الأولى للحربين ليتصاعد بسرعة خلال سنواتهما الأخيرة. والذروتان اللتان بلغتهما الاضطرابات العمالية خلال الفترتين لم يكن لهما مثيل في التاريخ السابق لهما، بل بقيتا الأعنف بلا منازع حتى يومنا هذا. وترافق مع كل من الذروتين حدوث ثورة اشتراكية كبرى، الثورة السوفياتية مع الذروة الأولى والثورة الصينية مع الذروة الثانية. ومع أن موجات الصراع الطبقي هذه لم تضع حداً لسلطة رأس المال، إلا أنها ولدت تغيرات جوهرية في أسلوب ممارسة تلك السلطة.

ففي واحد من قراراته الختامية توقع مؤتمر الأمية الاشتراكية لعام 1896 قرب حدوث أزمة عامة تطرح على جدول أعمال الأحزاب الاشتراكية مهمة ممارسة سلطة الدولة وعليه فقد فرض القرار على بروليتاريا جميع البلدان "كضرورة ملزمة أن يتعلموا، بوصفهم مواطنين واعين طبقياً، كيفية إدارة مشاريع بلدانهم للصالح العام".

واعتماداً على تلك المنطلقات وجد برنشتاين وفرة من الأدلة التي تدعم أطروحة الزيادة الدائبة للسلطة الاجتماعية للعمل والقليل من الأدلة التي تدعم أطروحة الزيادة الدائبة في بؤس العمال. ودعماً للأطروحة الأولى بيّن التحسن الملموس في مستويات عيش وعمل البروليتاريا الصناعية. ولم يكتف بذلك، بل أشار أيضاً إلى توسع وتحول الديموقراطية السياسية من أداة إخضاع للطبقات العاملة إلى أدوات لتحررها. كان برنشتاين يكتب هذا في أواخر الكساد الكبير لفترة 1873 – 1896 وفي بداية الحقبة الجميلة للرأسمالية الأوروبية (كما كانت تسمى)، لذا لم يجد سبباً يبرر انعكاس هذه الاتجاهات خلال المستقبل المنظور. فمنظمات المجتمع الحديث الليبرالية وجدت لتبقى. وهي تتمتع بمرونة كافية للتكيف مع الزيادة اللامحدودة في السلطة الاجتماعية للعمل. وكما كان الحال في الماضي، فكل ما هو مطلوب " منظمة وعمل متفان". أما الثورة الاشتراكية، بمعنى دكتاتورية البروليتاريا الثورية، فهي ليست ضرورية ولا مرغوبة .

لخص برنشتاين موقفه بشعار "الحركة كل شيء، الهدف لا شيء". وبدا هذا الشعار استفزازياً للماركسيين الاصلاحيين والثوريين على حد سواء. والواقع أن إصلاحياً (كارل كاوتسكي) هو الذي قاد الهجوم ضد تحريفية برنشتاين. وتكمن حجة كاوتسكي، في الجوهر، في أن كل المكاسب الاقتصادية والسياسية التي حققتها البروليتاريا هي مكاسب ظرفية، وأن الأزمة العامة حتمية، بل أنها تختمر منذ الآن. وفي مثل هذه الأزمة ستسعى البرجوازية بالقوى لاسترداد كل تنازل اقتصادي وسياسي اضطرت لتقديمه الى البروليتاريا. وفي ظل ظروف كهذه سيتم فقدان كل شيء ما لم تكن البروليتاريا ومنظماتها مهيأة لاستلام القمم القائدة في الدولة والاقتصاد والاحتفاظ بها، بالوسائل السياسية الثورية ان اقتضى الأمر.

وبهذا حافظ كاوتسكي على كل ما شاب صياغة ماركس من غموض بخصوص العلاقة بين النضالات الراهنة للبروليتاريا ("الحركة" بموجب شعار برنشتاين) وبين هدف الثورة الاشتراكية النهائي ("الهدف"). أما لينين، الذي وقف إلى جانب كاوتسكي ضد برنشتاين، ثم سار بحجة كاوتسكي إلى نهايتها المنطقية. فإن كان الاستيلاء الاشتراكي على سلطة الدولة وحده قادرا على إنقاذ وتوسيع كل المكاسب التي سبق أن حققتها الحركة، فمن الواضح أن للأول أولوية على الثاني. ينجم عن ذلك أيضاً، أن إنجازات الحركة مضللة. وأول أسباب ذلك ضرورة أن نأخذ بنظر الاعتبار الخسائر المستقبلية التي ستتعرض لها الحركة حتماً، إن تركت لحالها. والسبب الثاني هو أن هذه المكاسب تعكس جانباً واحداً فقط من ظروف البروليتاريا. لقد أضاف لينين هنا توكيداً جديداً على أطروحة "الارستقراطية العمالية"، وأهمل ضمنياً رأي ماركس القائل بأن أفضل مؤشر على مستقبل الحركة العمالية في أوروبا القارية وغيرها، يتمثل في حاضر وماضي الحركة العمالية في بريطانيا. فبرأيه أن السلطة الاجتماعية المتـزايدة للعمل في بريطانيا ظاهرة محلية قصيرة الأمد مرتبطة بموقع بريطانيا في القمم القائدة للاقتصاد العالمي. أما حاضر ومستقبل البروليتاريا، في أوروبا القارية على وجه العموم وفي الأمبراطورية الروسية على وجه الخصوص، فيتمثل في البؤس الجماهيري المتزايد والاضطهاد السياسي المستمر، برغم وجود حركات عمالية عالية النشاط وحسنة التنظيم.

حين نسترجع اليوم التطور الفعلي للحركة العمالية خلال مجمل الفترة 1896-1948، نجد الكثير من الأدلة لصالح مواقف لينين أو برنشتاين، لكننا لا نجد إلا القليل من الأدلة التي تدعم موقف كاوتسكي الوسطي. ويعتمد الأمر على الزاوية التي يختارها المرء للمراجعة.

حصل التقدم الأكثر إثارة في السويد وأوستراليا. لكن التقدم الأكثر أهمية من وجهة نظر السياسة والاقتصاد العالميين، حدث في بريطانيا (القوى المهيمنة المتدهورة ولكن القوى الكولونيالية المسيطرة بعد)، وفي الولايات المتحدة (القوة المهيمنة الصاعدة). فالحركة العمالية المنظمة التي كانت قوة هامشية وتابعة في السياسة الوطنية لكلا الدولتين عام 1896، أصبحت بحلول عام 1948 الحزب الحاكم في بريطانيا وذات نفوذ حاسم على حكومة الولايات المتحدة. ولقد تحقق كل ذلك بالضبط وفقاً للمسار الذي تنبأ به واقترحه برنشتاين، أي مسار الاعتماد على حركات متفانية، حسنة التنظيم قادرة على استغلال أي فرصة تتاح لها لتحويل السلطة الاجتماعية المتزايدة للعمل الى رفاه اقتصادي أكبر وتمثيل سياسي أفضل. وفي هذا السياق لم يعد هدف الثورة الاشتراكية مطروحاً قط كموضوع للنقاش، ولم تجد فكرة الطليعة الثورية للبروليتاريا إلا القليل من الأنصار.

غير أن فترة 1896 – 1948 هي كذلك فترة النجاحات الكبرى للثورة الاشتراكية. ففي هذه الفترة بالذات استولت المجموعات التي اعتبرت نفسها الطلائع الثورية للبروليتاريا على وسائل الحكم فيما يقرب من نصف أوروبا وآسيا. وبرغم أن تجارب البروليتاريا في كل من الأمبراطوريتين الروسية والصينية سابقاً تختلف من نواحي عدة، الا أنها تميزت بأوجه شبه مهمة. فقد فشلت حركات الاحتجاج العنيفة (عام 1905 في الأمبراطورية الروسية وأعوام 1925-1927 في الصين) في إحداث تحسين لشروط عيش البروليتاريا. وكان الجانب الطاغي على تجربة البروليتاريا في هذين البلدين هو تزايد البؤس الجماهيري عوض تزايد السلطة الاجتماعية. يضاف إلى ذلك أن تصعيد الصراع الدولي على السلطة ("الإمبريالية" وفق نظرية الثورة اللينينية) زاد من عجز الطبقات الحاكمة عن توفير الحد الأدنى في الحماية للبروليتاريا.

أبرز هذان النـزوعان المتباينان، تطور القوة الاجتماعية للعمل في بعض المواضع وتقدم الثورات الاشتراكية على أرضية البؤس الجماهيري في مواضع أخرى، سمة صارخة كلياً. فقد بيّنا معاً المناعة التاريخية للبروليتاريا الصناعية تجاه الأيديولوجيات و الممارسات الأشتراكية – الثورية . فحيثما كانت القوة الأجتماعية للبروليتارية الصناعية مهمة ومتنامية، لم تكون للثورة الاشتراكية قاعدة مؤيدة، وحيثما حظيت الثورة الاشتراكية بقاعدة مؤيدة، لم تكن للبروليتاريا الصناعية سلطة اجتماعية. ولقد ظهر هذا الترابط العكسي بين السلطة الاجتماعية للعمل وبين المزاج الاشتراكي الثوري للعمال منذ زمن كومونة باريس، وإن اتخذ شكلاً جنينياً آنذاك في حين اكتسب خيار برنشتاين مشروعية من النجاحات اللاحقة، التي أحرزتها الحركة العمالية في العالم الأنكلوساكسوني وفي سكندنافيا، واكتسب خيار لينين مشروعية من النجاحات اللاحقة للثورات الاشتراكية في امبراطوريتي روسيا والصين سابقاً، فقد خيار كاوتسكي في ألا يختار مشروعيته كستراتيجية سياسية بفعل النجاحات اللاحقة للثورات المضادة في وسط وجنوب أوروبا. إذ يمكن أن نعزو أسباب صعود الفاشية والاشتراكية القومية، جزئياً على الأقل، إلى العجز المزمن لمنظمات الطبقة العاملة في تلك البلدان عن الاختيار بين النشاط الاصلاحي المتفاني والنشاط الثوري المتفاني.

ولا بد من القول إن هذا العجز المزمن عن الاختيار ارتبط بالوضع الاجتماعي الأكثر تعقيداً الذي واجهته المنظمات العمالية في تلك المناطق، فقد اتسم الوضع بمزيج يجمع بين تزايد السلطة الاجتماعية للعمل وتزايد البؤس الجماهيري، لا بسيادة أحد النـزوعين على حساب الآخر. وكان التناقض حقيقياً ومحدداً. إذ أدى هذا المزيج الى توليد مزاج ثوري محسوس، الى جانب مزاج أكثر إصلاحية، في صفوف البروليتاريا الصناعية. لكن المزيج الأخير أوقع قيادة الحركة في معضلة دائمة. وكان خيار كاوتسكي عدم الاختيار والجهاز السياسي والنظري المؤثر الذي قدم له الدعم، قد وفر كثرة من التبريرات لقيادة امتنعت عن ترجيح كفة الميزان لصالح اتجاه محدد، وفضلت، عوض ذلك، أن تعكس بصورة سلبية الانقسامات التي مزقت الحركة، فعّقدت بالتالي حالة التشوش والارتباك السياسي.

في عام 1948 كان الاستقراء البسيط للاتجاهات الاجتماعية والسياسية الرئيسية، خلال نصف القرن الماضي، يشير الى نهاية وشيكة لسلطة رأس المال. فعن كل جولة من الحروب الشاملة والصراع الطبقي كان ينتج زحف كبير للثورة الاشتراكية في أطراف وأشباه أطراف الاقتصاد العالمي، وتطور كبير في القوة السياسية والاجتماعية للبروليتاريا الصناعية في بلدان اللب.

لكن النـزوع انعكس. ومرت الرأسمالية خلال العشرين سنة التالية بـ "عصر ذهبي" جديد من التوسع الذي لا سابق له. والتطور الأكثر أهمية في هذا السياق والذي أثر على انعكاس ذلك النـزوع هو تهدئة العلاقات الدولية وإعادة بناء السوق العالمية تحت هيمنة الولايات المتحدة.

واليوم تختلف الاسس الاجتماعية للسوق العالمية جذرياً عما كانت عليه في القرن التاسع عشر. ففي نهاية الحرب لم تتجه الولايات المتحدة إلى إعادة بناء نفس النوع من السوق العالمية الذي انهار إثر السنوات الخمسين السابقة للحرب.

وتمثل الجانب الأكبر أهمية في هذه الستراتيجية في دعم الولايات المتحدة لعملية "ازالة الاستعمار" ولتوسيع وترسيخ نظام الدول ذات السيادة. كان فرانكلين روزفلت، مثل سابقه ولسن، يشاطر لينين ضمنياً في الاعتقاد بأن صراع دول اللب الرأسمالي على الاراضي والسكان هو مباراة حصيلتها خسارة جماعية لأنها توّلد ظروفاً مواتية للثورات الاشتراكية و لإنهيار سلطة رأس المال عالمياً في نهاية المطاف فإذا أريد إيقاف مد الئورة الأشتراكية في أوروبا وآسيا، قبل أن يفوت الأوان، فلا بد من وضع حداً لهذا الصراع والاعتراف بحق تقرير المصير للقطاعات الأضعف من البرجوازية العالمية والبروليتاريا العالمية.

أن بوسع الولايات المتحدة أن تقدم نفسها، وأن ينظر لها على نطاق واسع، كحاملة لا لمصالح رأس المال فحسب، بل لمصالح العمل كذلك. وهذه السياسة بالذات، الى جانب دعم عملية إزالة الاستعمار هي التي حولت التفوق العسكري والمالي للولايات المتحدة الى هيمنة عالمية حقاً.

وهكذا أصبحت القوى العسكرية والمالية للولايات المتحدة قاطرة لتصدير ايديولوجيا وممارسة الحركة العمالية الأميركية الى أبعد المناطق التي وصلتها هذه القوة. وليست تلك الايديولوجيا والممارسة غير أولوية الحركة على الهدف. وحققت عملية زراعة هذه الايديولوجيا أكبر نجاحاتها في البلدان المهزومة (ألمانيا الغربية واليابان) التي استحوذ الجيش الأميركي فيها على السلطة الحكومية المطلقة لوحده أو بالاشتراك مع حلفائه،والتي سارت فيها عملية التصنيع مسافة كافية بحيث تمكن الحركة العمالية المنظمة هناك من تكوين قاعدة اجتماعية راسخة. ولكن اعادة تركيب العلاقات الطبقية من فوق بواسطة قوة اجنبية ما كان لها ان تحقق شيئاً، حتى حيث كانت شديدة النجاح، لو لم تتبعها اعادة صياغة قواعد السوق العالمية والنشر السريع لبنى التراكم التي استندت اليها السلطة الاجتماعية للعمل في الولايات المتحدة.

وهكذا تعكس المضاربة المالية والنشاطات الرامية لخفض التكاليف عجز رأس المال المؤسساتي المتعاظم عن التكيف مع القوة الاجتماعية للعمل التي تترافق مع توسع رأس المال المؤسساتي ذاته. والأثر الرئيسي الناجم عن ذلك يتمثل في الانتشار المحدود، ولكن الحقيقي والواضح، للبؤس الجماهيري في منطقة اللب. وقد اتخذت هذه الظاهرة اشكالاً عدة: انخفاض الأجور الحقيقية (في الولايات المتحدة بالدرجة الأولى) وتزايد الجهد المبذول من جانب البروليتاريا للحصول على نفس الدخول في كل مواقع اللب تقريباً.

لم تترافق زيادة البؤس الجماهيري مع تناقص متناسب في القوة الاجتماعية للعمل. وتعكس المضاربة المالية بروز تناقض بين توسع المؤسسات وتزايد القوة الاجتماعية للعمل. ولكن لا يمكن ايقاف الأخير من دون توقف الأول. وهكذا فان الأثر الرئيس الذي ينجم عنها هو تقويض الإجماع الأجتماعي الذي استند اليه حكم رأس المال منذ الحرب العالمية الثانية.

وفيما يتعلق بنشاطات تخفيض الكلفة، فقد اتخذت هذه ثلاثة اشكال رئيسة:

أ- استبدال مصادر العمل الأجير الأعلى بموارد أرخص داخل كل بلد من بلدان اللب والمظهر الأكثر أهمية لهذا الأحلال هو تزايد استخدام النساء ضمن قوة العمل الأجيرة. أما المظهر الثاني فهو استخدام الأوسع لعمل المهاجرين من الجيل الأول. وغالباً ما يكون هؤلاء مهاجرين غير شرعيين .

ب- احلال موارد عمل اجير ارخص محل موارد العمل الأكثر كلفة عبر حدود الدول، وبخاصة بين مناطق اللب والمناطق الاكثر طرفية. والمظاهر الأكثر اهمية لهذا الاحلال تتمثل في اعادة توطين المشروعات في المناطق الطرفية واحلال المنتجات المستوردة محل الانتاج المحلي.

ج- احلال قوة العمل المثقفة والعلمية محل قوة عمل البروليتاريا في عمليات الانتاج. وابرز مظاهر ذلك هي الأتمتة واستخدام التقنيات المستندة الى العلوم.

ان نوعي الاحلال الأولين أكثر اهمية بكثير من حيث اثرهما في نشر البؤس الجماهيري الى بروليتاريا بلدان اللب. غير ان ايا منهما لا ينطوي على تقليص القوة الاجتماعية الاجمالية للبروليتاريا العالمية، بل انهما ينطويان ، بالاحرى، على نقل القوة الاجتماعية من احد قطاعات البروليتاريا العالمية الى قطاع آخر. فالاحلال داخل بلدان اللب ينقل القوة الاجتماعية من الذكور الى الاناث ومن ابناء البلد الى المهاجرين، وكلهم اعضاء في البروليتاريا الصناعية. والاحلال عبر حدود الدول ينقل القوة الاجتماعية من بروليتاريا احدى الدول الى بروليتاريا دولة اخرى. وفي كلتا الحالتين يجري تداول القوة الاجتماعية بين الايدي، لكنها تظل قوة للبروليتاريا الصناعية.

وعلى الضد من ذلك تنطوي الأتمتة والتقنيات المستندة الى العلوم على تقلص القوة الاجتماعية للبروليتاريا بتركيبها القائم حالياً. فبنقل التحكم بنوعية وكمية الانتاج من العمال الاجراء ألخاضعين الى المدراء والمثقفين والعلماء، يقوم هذا النوع من الاحلال بنقل القوة الاجتماعية من عمال مبلترين من حيث الجوهر الى عمال، هم، في احسن الأحوال، مبلترون فقط بالمعنى الصوري لأنهم يعملون مقابل أجر أو مرتب. ولكن كلما ازدادت قوة هذا النزوع وكلما كبر حجم قوة العمل الادارية والعلمية في عمليات الانتاج في مجمل الاقتصاد، اشتد نزوع رأس المال كذلك لإخضاع قوة العمل هذه لتحكمه، مما يجعل بلترتها بذلك اكثر حقيقية مما كانت عليه حتى ذلك الحين. وعليه، ففي هذه الحالة ثمة نقل للسلطة الاجتماعية من ايدي البروليتاريا الصناعية، لكن هذا النقل ليس اكثر من مقدمة للتوسيع اللاحق لحجمها وسلطتها.

ينتج عن هذا ان تدهور مستويات معيشة البروليتاريا في بلدان اللب ليس مرتبطاً بخسارة السلطة الاجتماعية قدر ما يرتبط باعادة توزيعها بين صفوف اعضائها الراهنين واللاحقين. اذ لم تعد السلطة الاجتماعية والبؤس الجماهيري مستقطبة بين قطاعات مختلفة من البروليتاريا العالمية كما كان عليه الحال في أواسط القرن العشرين. فقد بدأ البؤس الجماهيري بالانشار بين صفوف بروليتاريا اللب، في حين بدأت السلطة الاجتماعية تتسرب الى بروليتاريا الاطراف وانصاف الاطراف. اننا نقترب، باختصار، من السيناريو الذي تنبأ به ماركس وانجلس في البيان الشيوعي، أي السيناريو الذي تتجه فيه القوة الاجتماعية والبؤس الجماهيري الى التأثير على المادة الأنسانية الواحدة عوض ان تصيب قطاعات مختلفة ومنفصلة من البروليتاريا العالمية.

ولا شك ان القوة الاجتماعية والحرمان المادي لا تزال تتوزع بشكل صارخ التفاوت بين مختلف القطاعات المكونة للبروليتاريا العالمية. وبقدر ما نستطيع التنبؤ، سيبقى هذا التوزيع شديد التفاوت خلال فترة طويلة قادمة. ومع هذا، فان ما شهده النصف الأول من القرن العشرين من نزوع نحو استقطاب مكاني للقوة الاجتماعية والبؤس الجماهيري للعمل في اقاليم مختلفة ومنفصلة ضمن الاقتصاد العالمي قد بدأ بالانعكاس.

فخلال الفترة الممتدة من سنة 1948 وحتى 1968 اخذت القوة الاجتماعية التي كان التمتع بها مقصوراً تقريباً على البروليتاريا الصناعية في العالم الأنكلو – سكسوني بالانشار نحو البروليتاريا الصناعية في منطقة اللب كلها، التي صارت تضم معظم أوروبا الغربية واليابان في حين بقي البؤس الجماهيري ظاهرة سائدة في اوساط الجمهرة المبلترة وشبه المبلترة في العالم الثالث. غير ان هذا الاستقطاب بدأ يعيق المزيد من التوسع لرأسمال المؤسسات ابتداء من حوالي 1968. ففي مناطق اللب أخذت القوة الاجتماعية المتسعة للعمل تتدخل جدياً لاعاقة تحكم رأس المال بعمليات الانتاج. في حين ان اتساع البؤس الجماهيري للعمل في مناطق الاطراف اخذ يقوض مشروعية تحكم رأس المال، ويفقر السوق، ويحبط تعبئة قطاعات واسعة من البروليتاريا في الانتاج.

وفي مجابهة هذه العوائق المتعاكسة والمتبادلة التأثير باتجاه شل المزيد من التوسع، يحاول رأس المال المؤسساتي منذ ذلك الحين التغلب على مصاعبه بالاستفادة من البؤس الجماهيري لبروليتاريا الاطراف وانصاف الاطراف في الاقتصاد العالمي على حساب القوة الاجتماعية للعمل في اللب. وساهمت في تسهيل هذه المحاولة عملية اعادة بناء السوق العالمية الجارية، التي غدت منذ عام 1968 متزايدة الاستقلال عن مصالح ونفوذ الولايات المتحدة بشكل حصري، وهذا يعكس، من بين اشياء أخرى، التنظيم فوق القومي المتزايد الاتساع والعمق لعمليات الانتاج والتوزيع الذي يحاول راس المال المؤسساتي من خلاله تجاوز واحتواء وتقويض القوة الاجتماعية للعمل في اللب.

نتج عن ذلك تحويل هائل للمادة البشرية التي تكون جيوش الصناعة الفعالة والاحتياطية. فبالمقارنة مع ما قبل عقدين، ثمة اليوم نسبة أكبر بكثير من جيش الصناعة الفعال في اطراف وانصاف اطراف الاقتصاد العالمي. في حين يحتوي الجيش الفعال في اللب على عدد اكبر من النساء والمهاجرين في المستويات الدنيا وعلى علماء ومثقفين مبلترين شكلياً في مستوياته العليا. وتفرض عملية التحويل هذه ضغوطاً ملموسة على العمال المحليين الذكور في بلدان اللب المستخدمين في المستويات الوسطى والدنيا من الجيش الفعال للقبول بمستويات عائد ادنى مقابل جهدهم تحت طائلة الابعاد عن الجيش الفعال.

اما انصاف الأطراف فقد بدأ المستقبل منذ الان. اذ شهدت الثمانينات انفجارات كبرى للاضطرابات العمالية في بلدان مختلفة، اختلاف بولندا عن جنوب افريقيا وعن كوريا الجنوبية. ونحن نشير هنا الى ابرز ملامح الموجة المتصاعدة من النزعات العمالية فقط. وبرغم الاختلاف الجذري بين النظم السياسية والبنى الاجتماعية لهذه البلدان. فان انفجارات العمال فيها تفرز سمات مشتركة مهمة، يشبه بعضها تلك الني اتسمت بها موجات الصراع الطبقي في الولايات المتحدة خلال الثلاثيات والاربعينات، وفي اوروبا الغربية خلال أواخر الستينات وأوائل السبعينات.

وفي كل تلك الحالات، استندت النزاعات الصناعية، الى حد كبير، الى قدرات جمهرة البروليتاريا الصناعية على تعبئة الذاتية والتنظيم الذاتي. وتستمد هذه القدرات أسسها من داخل شروط الحياة البروليتارية كلياً. انها تعكس الأختلال الجوهري بين القوة الاجتماعية الجديدة والبؤس الجماهيري القديم للبروليتاريا الصناعية في هذه البلدان.

ان اوجه الشبه صارخة من هذه الجوانب. ومع هذا، فالاختلافات بين هذه الموجة الأخيرة والموجات الأبكر لا تقل أهمية عن اوجه الشبه. لقد تبين ان قمع هذه الحركات لا يقل صعوبة عن قمع الحركات الأولى. لكن التكيف معها اصعب بكثيرمن حالة أوروبا الغربية والولايات المتحدة. ولا يكمن السبب في طبيعة المظالم التي يشتكي منها العمال، فهي تدور حول حقول اكثر اساسية بكثير، بل يكمن السبب في القدرات المحدودة لدول ورأسمال أنصاف الأطراف على التكيف حتى مع المطالب الأكثر اساسية. ولعل النتيجة ستكون نزاعاً اجتماعياً مستعصياً من النوع الذي تنبأ به ماركس وانجلس في البيان الشيوعي. ان ماركس قد افترض ان قواعد السوق ستقوم بشكل دائم وثابت بنشر القوة الاجتماعية المتزايدة للعمل وبؤس العمال الجماهيري المتزايد في داخل وعبر مختلف مواقع الاقتصاد الرأسمالي العالمي. ولكن على امتداد فترة طويلة لم يتحقق هذا الافتراض في الواقع العملي. فخلال النصف الأول من القرن العشرين ادى تصاعد الصراع على السلطة بين الدول، أولاً، الى ان يصاب عمل السوق العالمية بالعطب، ومن ثم بالشلل التام. وقد تزايدت القوة الاجتماعية للعمل والبؤس الجماهيري للعمال بوتائر أسرع من السابق ، و لكن بصورة مستقطبة جعلت بروليتاريا بعض المناطق تتمتع بزيادة في قوتها الاجتماعية بالدرجة الأولى، وبروليتاريا المناطق الأخرى تعاني من زيادة بؤسها الجماعي بالدرجة الأولى. وكانت نبوءة ماركس تقول ان اشتداد هذين النزوعين نحو زيادة القوة الاجتماعية وزيادة البؤس الجماعي للعمل يوّفر دافعاً هائلاً لانتشار النضالات والايدولوجيات والمنظمات البروليتارية. لكن الصورة المستقطبة التي تجسدت عبر هذين النزوعين جعلت النضالات والايدولوجيات والمنظمات بروليتارية تتطور في مسارات لم يتوقعها ماركس ولا دعا اليها.

ان فرضية تأثير النزوعين على المادة الانسانية نفسها على امتداد حيز الاقتصاد الرأسمالي العالمي تمثل عنصراً جوهرياً في نظرية ماركس عن التحويل الاشتراكي للعالم. فبموجب هذه الفرضية فقط ستكون النضالات اليومية للبروليتاريا العالمية ثورية في اساسها، بمعنى انها ستفرض على الدول ورأس المال قوة اجتماعية لا تستطيع قمعها ولا التكيف معها. فالثورة الاشتراكية، وفقاً لذلك عملية طويلة الأمد وواسعة النطاق تفرض عبرها مجموعة هذه النضالات على البورجوازية العالمية نظاماً يستند الى الاجماع والتعاون عوضاً عن القسر والتنافس.

وفي ظل هذه العملية، كان مفروضاً بالطليعة الثورية، ان كان لها دور، ان تلعب دوراً معنوياً وتربوياً اكثر منه سياسياً. فوفقاً للبيان الشيوعي، لم يكن مفترضاً بالطليعة الثورية حقاً (الشيوعيين) ان تشكل احزاباً خاصة بها في معارضة احزاب الطبقة العاملة الأخرى. ولم يكن مفترضاً ان تطور الطليعة مصالح خاصة بها منفصلة ومستقلة عن مصالح البروليتاريا ككل. ولم يكن مفترضاً بها ان تصيغ اسساً عصبوية تكيف وتصهر الحركة البروليتارية بواسطتها. وفي مقابل ذلك افترض البيان الشيوعي ان يتقيد الشيوعيون بالتعبير عن المصالح المشتركة لمجمل البروليتاريا العالمية وللحركة ككل وان يمثلوا هذه المصالح، ولكن في مجرى النضالات البروليتارية.

فرض تصعيد الصراع الدولي على النفوذ، وما رافقه من انهيار لقواعد السوق العالمية، على اتباع ماركس ضرورة تاريخية تتمثل في اختيار احدى ستراتيجيتين بديلتين، لم تمثلا بالنسبة لماركس بديلين قط. فكما بّينا كان الخيار يكمن بين تطوير روابط عضوية مع قطاعات البروليتاريا العالمية التي عانت بصورة أكثر مباشرة وانتظاماً من النزوع نحو تزايد البؤس الجماهيري من جهة، او تطوير روابط عضوية مع قطاعات البروليتاريا العالمية التي استفادت بصورة اكثر مباشرة وانتظاماً من النزوع نحو زيادة سلطتها الاجتماعية من جهة اخرى. وقد فرض هذا الخيار التوزع المتعاظم لعمل هذين النزوعين على امتداد الاقتصاد العالمي. وكان ماركس يأمل ويعتقد ان هذا التوزع، الملحوظ حتى في ايامه بشكل جنيني، سيتناقص بمرور الزمن. لكن تصاعد الصراع على النفوذ بين الدول ادى، عوض ذلك، الى تقوية كلاً من النزوعين وزيادة انقسامهما مكانياً. ومن هنا كانت ضرورة الاختيار، بل والاختيار الدقيق.

مّثل تطوير روابط عضوية مع الفئات الأضعف من البروليتاريا العالمية، على حساب تطوير الروابط مع الفئات الأقوى، ميزة مزدوجة للماركسيين. اذ تجاوب هذا الخيار، أولاً، مع شعورهم بالسخط الأخلاقي على البؤس الجماهيري للبروليتاريا العالمية. ولا شك ان هذا البؤس كان واحداً من أكبر دوافع سير الكثير منهم على خطا ماركس. وثانياً، تجاوب هذا الخيار مع احترام الماكسيين لأنفسهم، بمعنى انه اشعرهم بوجود شيء يمكن ان يقوموا به شخصياً للتغلب على البؤس الجماهيري للبروليتاريا العالمية. ولا شك ان هذا لعب دوراً كذلك في تحفيزهم على الانخراط في الممارسة السياسية للطبقة العاملة.

وأياً كانت الدوافع وراء الخيار، فانه كان قراراً قاتلاً لا من وجهة نظر الماركسية فحسب، بل ومن وجهة نظر البروليتاريا العالمية والحركة العمالية والنظام الرأسمالي العالمي كذلك. فقد فرض على الماركسيين استعاضة مزدوجة عززت الى حد كبير قدرتهم علىتحويل العالم لكنها جعلتهم يفترقون بجذرية متزايدة عن روح ونصوص الارث الماركسي. في البداية فرض هذا على الماركسيين الضرورة التاريخية للاستعاضة بمنظمات من صنعهم عن المنظمات الجماهيرية التي عكست اعمال التمرد العفوية للبروليتاريا وغيرها من الجماعات والطبقات الخاضعة. ومن ثم، وما ان استولوا على السلطة، حتى فرض على المنظمات الماركسية الضرورة التاريخية بالاستعاضة عن منظمات البرجوازية وغيرها من الجماعات والطبقات السائدة وان تؤدي بنفسها المهمات الحكومية الكريهة التي عجزت الأخيرة عن ادائها او لم تكن راغبة بها.

ولكن ظهر النصف المخادع في الزعم القائل بأن بوسع الحركة العمالية العالمية أن تتشكل من جديد على صورة الحركة العمالية في الولايات المتحدة. فلم ينتج عن زيادة القوة الاجتماعية للعمل تناقص متناسب معها في البؤس الجماهيري للعمال كما حدث في الولايات المتحدة. اذ كلما توسعت الرأسمالية المؤسساتية، قلت قدرتها على التكيف مع كل القوة الاجتماعية التي وضعها توسعها نفسه في ايدي العمال. ونتيجة لذلك تباطأ التوسع وبدأ سباق خفض التكاليف في السبعينات والثمانينات.

كان تكشف الجوانب المخادعة في هيمنة الولايات المتحدة عاملاً رئيساً في تفجر ازمتها في اواخر الستينات وأوائل السبعيانات، ولكن لا الحركة العمالية المنظمة ولا التنظيمات الماركسية استطاعت اغتنام هذا الظرف الجديد. بل بالعكس. فالطرفان اصيبا بأزمة لا تقل بنيوية عن ازمة الهيمنة الأميركية.

من هنا فان ازمة الحركة العمالية المنظمة والتنظيمات الماركسية وجهان لعملة واحدة. اذ تعود ازمة الحركة العمالية المنظمة بالدرجة الأولى الى عجزها البنيوي عن وقف انتشار البؤس الجماهيري الى بروليتاريا بلدان اللب، في حين تعود ازمة التنظيمات الماركسية بالدرجة الأولى الى عجزها البنيوي عن انتشار القوة الاجتماعية الى قواعدها البروليتارية القائمة او المستقبلية. لكن الأزمة هي نفسها لأن كلا من شكلي التنظيم البروليتاري ليس مهيئاً للتعاطي مع حالة يتمتع فيها العمل بقوة اجتماعية تتجاوز ما تستطيع المؤسسات الاقتصادية والسياسية القائمة التكيف معه.

في ظل ظروف كهذه لم يعد التعارض القديم بين "الحركة" و"الهدف" الذي مثل اساس مساري تطور الحركة العالمية في القرن العشرين، ذا معنى قط من وجهة نظر المنخرطين في النضالات. وكما بين ماركس نظرياً. فان الممارسة البسيطة للقوة الاجتماعية التي تراكمت او الآخذة بالتراكم في ايدي العمال هي فعل ثوري بذاتها ولذلتها. ولقد دلل العدد المتزايد من النضالات البروليتارية منذ عام 1968 على ان "الحركة" و"الهدف" قد شرعا بالاندماج.

صاغ العمال الايطاليون، في ذروة نضالاتهم في اواخر الستينات، شعاراً بشر بهذا الاندماج ودعا اليه صراحة هو " لنمارس الهدف". ووفقاً لهذا الشعار تم تنفيذ مختلف ممارسات الفعل المباشر. وبرغم ان ممارسات الفعل المباشر لم تكن جديدة على الحركة، الا ان آثارها الاجتماعية الثورية كانت جديدة. فالقوة الاجتماعية المستخدمة في هذه النضالات وعبرها فرضت على تنظيمات الطبقة العاملة الاقتصادية وغير الماركسية اجراء اعادة تركيب كبرى لكي تتكيف مع الاندفاعة الديمقراطية والمساواتية للحركة.

ان التجربة الحديثة للحركة العمالية العالمية تتعارض بشكل واضح مع المقاطع التي اقتطفنا من "البيان الشيوعي" ، وهي مقاطع تتنبأ بتلاشي القيمة الاجتماعية المميزة للاختلافات بين البروليتاريا حسب العمر والجنس والقومية. ومن المؤكد ان السباق لتخفيض التكاليف الذي شهدته السنوات الخمس عشرة او العشرين الأخيرة قدم ادلة جديدة ومقنعة لصالح الملاحظة القائلة بأن كل اعضاء البروليتاريا لا يمثلون بالنسبة لرأس المال غير ادوات عمل تقل او تزيد كلفة استخدامها وفقاً لأعمارها وجنسها والوانها وقومياتها ودياناتها… الخ. ولكن تبين من هذا ايضاً ان ليس بوسعنا الاستنتاج من هذا الميل لرأس المال، وجود ميل لدى العمال للتخلي عن الفوارق الطبيعية والتاريخية كوسائل لتثبيت هوية اجتماعية متميزة بصورة فردية وجماعية، وهو ما استنتجه ماركس.

لقد ثار البروليتاريون عندما جابهوا ميل رأس المال للتعامل مع العمل ككتلة غير متمايزة لا تتمتع بخصائص فردية غير التمايز في القدرة على زيادة قيمة رأس المال. وكانوا لا يوفوّتون فرصة لالتقاط أي مزيج من السمات المميزة او لابتكار مزيج جديد (كالعمر او الجنس او اللون او أي تشكيلة من الخصائص الجغرافية التاريخية النوعية) يستطيعون من خلاله ان ينتزعوا من رأس المال نوعاً من المعاملة الخاصة. وقد نتج عن هذا ان العنصرية والأبوية والشوفينية – القومية كانت جزءاً لا يتجزأ من تكوين الحركة العمالية العالمية في كلا المسارين اللذين اتبعتهما خلال القرن العشرين. وهي لا تزال قائمة بهذا الشكل أو ذاك في معظم ايديولوجيات ومنظمات البروليتاريا.

وكما هو الحال على الدوام، فان تعطيل هذه الممارسات، والايديولوجيات والتنظيمات التي تمأسست فيها تلك الممارسات لا يمكن ان يحدث الا نتيجة لنضالات اولئك الذين يتعرضون لقهرها. وليس القوة الاجتماعية، التي يضعها سباق خفض التكاليف المستعر في ايدي قطاعات ضعيفة تقليدياً من البروليتاريا العالمية، الا مقدمة لهذه النضالات. وبقدر ما ستنجح هذه فان المسرح سيكون جاهزاً للتحويل الاشتراكي للعالم.

 

من كتاب : " الاضطراب الكبير " 1991 – دار الفارابي

الكراس الأول

 



#جيوفاني_أريغي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
- هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال ...
- الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف ...
- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...
- بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو ...
- حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء ...
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ...
- جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر ...
- بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
- «الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد ...


المزيد.....

- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - جيوفاني أريغي - تكوين الحركة العمالية العالمية وتحولها