|
القانون وصعود الرأسماليّة (جزءٌ أوّل)
ديفد وايتهاوس
الحوار المتمدن-العدد: 4855 - 2015 / 7 / 3 - 08:40
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
مُلاحظة مِن المُترجم: نُشِرَت هذه المقالة كنصٍ لمحاضرة صوتيّة ألقاها ديفد وايتهاوس في مؤتمر «Socialism 2014»، وقُمت عِند ترجمة النّص بتعديل بعض صياغات الجُمل لتتناسب مع هيكل المقالة.
-------------------------------------------------------------------------------- وُلِدَ دريد سكوت عبدًا، ولكنّه رفع دعوى قضائيّة لأجلِ حريّته مُحتجًا بأنّه عبر حدود الولاية لولايةٍ أخرى حيث الاستعباد غيرُ قانونيّ. رفضت المحكمة العليا النّظر في القضية عام 1857 تحت ذريعة كونِ السّود ليسوا مواطنين أمريكيّين لهم حقوق وبالتالي لا يحقّ لهم وُلِدَ دريد سكوت عبدًا، ولكنّه رفع دعوى قضائيّة لأجلِ حريّته مُحتجًا بأنّه عَبَرَ حدودَ الولاية لولايةٍ أخرى حيث الاستعباد غيرُ قانونيّ. رفضت المحكمة العليا النّظر في القضية عام 1857 تحت ذريعة كونِ السّود ليسوا مواطنين أمريكيّين لهم حقوق وبالتالي لا يحقّ لهم ا«لمثول» أمام محكمةٍ فدراليّة. صورة إلكترونيّة ©1998 مِن جمعيّة ميزوري التاريخيّة، سينت لويس. كلٌ من القانونِ وصعود الرأسماليّة موضوعان واسعانِ جدًا، فلذا نحتاجُ لتضييق نطاق النقاش بطريقتين: الأولى هي التركيز على التراث القانوني الأمريكي، مع استعراضٍ طويلٍ نوعًا ما لجذورِه الأوروبيّة، وليس ذلك لأن أوروبا وأمريكا الشماليّة كانتا نموذجًا للتطوّر القانوني احتذى بِه بقيّة العالم، وإنما على العكس تمامًا، تطوّرت الأمور بشكلٍ مختلف في أرجاء العالم بعد نشأةِ الرأسماليّة الغربية، ولذلك فلا يسعنا المجال لذكر كلّ هذه التطوّرات. إن عرض قليلٍ من القصّة الأمريكية سَيَفِي بالحاجة ويزيد على ذلك أيضًا. وأمّا الطريقة الثانية لتضييق نطاق هذا النقاش ستكون عن طريق التركيز على القوانين المرتبطة بالتجارة ومن ضمنها قوانين العقود والممتلكات، هذا النوع من القوانين مثيرٌ للاهتمام لأنه يشير للعلاقات الاقتصاديّة التي تشكل أساسَ حياتنا الاجتماعيّة.
وقبل تقديم الخطوطَ العريضة لهذا النصّ، يجب أولًا ذِكرُ أمرٍ ما حول أهميّة الملكيّة الخاصة: قد تبدو الملكيّة الخاصة كعلاقةٍ بين «شخصٍ» وشيء»، ولكنّها في الواقع علاقةٌ بين أشخاصٍ مختلفين. تحت النظام الرأسمالي، أغلبُ علاقات الملكيّة يتمّ تجريدها لشرطين بسيطين: حين أملِكُ أنا شيئًا ما، أنت لا تملِكه. أنا لديّ حريّة استخدام الشيء وبيعه والحفاظ عليه وتركِه لشخصٍ آخر حين أموت. والمهمّ هو أنني أملك القوّة القانونيّة لمنعك أنت من القيام بأيٍ من هذه الأمور بهذا الشيء.
ولكونِ «المُلكيّة» علاقةٌ اجتماعيّة، تظهر أنواعٌ جديدة من الملكيّات الخاصة وتتصدّر حين تتغيّر العلاقات الاجتماعيّة – بالخصوص مع تحسّن علاقات الطبقات الاجتماعيّة مع بعضها البعض أو استيائها. سنركّز هنا على أربع مراحِل تَحوّل فيها القانون استجابةً للتطوّرات الاجتماعيّة. أولًا، سننظر للجذور الأساسيّة للقوانين الرأسماليّة، والتي تصل لتوسّع التجارة في أواخر القرون الوسطى، ونوعُ الملكيّة المتصدّر في ذلك الوقت كان البضائع التي بالإمكان نقلها عبر البر والبحر، والقوانين ذاتُها نظّمت الحياة في أوساطِ الطبقات الغنيّة المنخرِطة في التجارة، مثل: التجّار والمصرفيّين. وفي الفترة الثانية، تمّ توسيع القوانين التي نظّمت تجارة البضائع المتحرّكة لتشمل الأراضي. أمّا هذه النقلة فقد عكست صعود البورجوازيّة منذ بداياتِها الصغيرة، وكانت هجومًا مباشِرًا على الموقع الاجتماعيّ لطبقات النبلاء المالِكة للأراضي. أمّا الفترة الثالثة، فسنتّجه فيها من أوروبا لفيرجينيا فترة الاستعمار، حيث نفّذ ملّاك الأراضي أعمالًا قانونيّة رائدة لكيفيّة التعامل مع البشر كممتلكات – مع إضحاء عمالة العبيد الإفريقيين أمرًا لا يمكن الاستغناء عنه لدى الاقتصاد الجنوبيّ. وفي حالة الفترة الرابعة – ونقصد بها وقتنا الحاضر – يغلب عليها «الاستعبادُ المأجور». والنوع المتصدّر من المكيّات الخاصة في هذه الفترة هو القوّة العاملة. فالعمّال اليوم – قانونيًا – أحرارٌ ومتساوون مع البورجوازيّة، ولكن هيمنة هذه العلاقات القانونيّة يتوافق فِعلًا مع سطوة الرأسماليين على العمّال.
إذًا، سيكون هذا استعراضًا سريعًا للتاريخِ الاجتماعيّ لأربعةِ أنواعٍ من الملكيّة: البضائع والأراضي والعبيد والقوى العامِلة.
الفترة الأولى: البضائع المتحرّكة
سنبدأ أولًا بالحياة التجاريّة للمدن الأوروبيّة في القرون الوسطى. سُمِّيَ سُكّان هذه المُدُن بـ«البورجوازية»، وهو مُصطلح كان يُستخدم مُسبقًا بحلول عام 1007، ومعناهُ بكلّ بساطة هو «قاطِن المدينة». كسب بعضهم معيشتهم عن طريق البيع والشراء فقط، وهُم طبقة التجّار، وثروتهم هؤلاء تتجسّد في المّال وفي الأنواع المختلِفة للبضائع المتحرّكة، أي تِلك التي بالإمكان حملُها ونقلها من شخصٍ لآخر. ولكنّ أغلب الحياة الاقتصاديّة في القرون الوسطى كانت زِراعية، إذ عمِل المزارعون في عقاراتٍ للنبلاء مالكي الأراضي (landholder) في أوضاعٍ شِبه استعباديّة عُرِفت بـ”القنانة” (serfdom). وفي هذه الحالة، كان انتقالُ الثروة مِن الأقنان إلى النبلاء يأتي عن طريق المحصول الزراعيّ، لا الأموال، إذ أنّهم أخذوا حصّةً مُحددة سنويًا مِنه، وأمّا الأقنان فقد نفّذوا عملهم بغرض الاحتفاظ بحقّهم في حراثة الأرض لأجل الحصول على قوتِ يومِهم، أي أنّهم عن طريق ذلك كسبوا معيشتهم، ولكنّهم لم يتاجِروا بما حصدوا.
اعتمد التجّار على المصرفيين لتمويل عمليّاتِ الشراء الكبيرة، والمصرفيّون هؤلاء – بالطبع – يتعاملون بالأموال فقط وليس بالبضائع، وكسبوا معيشتهم عن طريق فرض الفوائد. بالإمكانُ تسمية هاتين المجموعتين – مجتمعِتين – بـ«طبقةٍ رأسماليّة»، لأنّهما عاشتا عن طريق تحويل الأموال لأموالٍ أكثر. ولكنّ لم يكن هنالك نظامٌ رأسماليّ في تلك الفترة، وذلك لسببين: السبب الأول هو أنّ النظام العام كان إقطاعيًا. إذ أنّ النبلاء كانوا هم المهيمنون وثروتهم تجسّدت في الأراضي لا في الأموال، واستغلّوا الأقنان لامتلاكهم لقوّة السّيف. والسبب الثاني هو انعدامُ وجودِ طبقةٍ عاملة لكي يستغلّها الرّأسماليّون، فمع أنّهم امتلكوا أكوامًا كبيرة من الأموال، لم يوظِفوا في هذه الفترة أموالَهُم بغرض التّحكم بعمليّة الإنتاج.
إذًا، ماذا كان دورُ القانون؟
كان القانون يلعبُ دورٍ في مواضِع معيّنة، وهي مواضِعُ النزاع التي تحدث كثيرًا حتى أطلق النّاس عليها مسمّيات محدّدة (القتل، على سبيل المثال) ولربما بدأوا بالتمييز بين أنواعِها، مثل: القتل غير المتعمّد مقابِل القتل المتعمّد. ولكنّ القوانين التي تعلّقت بالتجارة نشأت عن نوعٍ خاص من النزاع. فلنأخذ أعمال البيع والشراء، فهي ممارسةٌ طقُوسيّة يتوقّع فيها كلٌ من الطرفين مصلحةً ما، فلذا يكون هنالك نزاعٌ حين لا تتحقّق توقّعاتُ أحدِ الطرفين أو لا يوفّي أحدُ الطرفين توقّعاتِ الآخر – أي حين يفشل هذا الطّقس. وعلى نفسِ مِنوال مواضِع النزاع الأخرى، نشأت قوانين التجارة لأنّ بعضًا من هذه «الطّقوس» فشلت مرّاتٍ كافية حتّى أطلقَ الناس مسمّياتٍ وأوصافَ على هذه المشاكل: «لقد سلّمّت البضائع، ولكنّ الطّرف الآخر تأخر»، أو «كانت البضائع متضرّرة» أو «أخذ الطّرف الآخر أموالي وهرَبَ من المدينة».
قد تبدأ الكثيرُ من الممارسات الطقوسيّة أو الشعائريّة قبل أن يولِّدَ الناس أفكارًا متطوّرة جدًا عنها، فما بالُكَ بأفكارٍ قانونيّة حول ما يجب فِعلُه حين تستاء الأمور. تُخلَقُ الفئاتُ والمؤسسات والعلاجاتُ القانونيّة لتنظيمِ ممارساتٍ يُعمَل بِها مُسبقًا، أي أنّ الممارسة تسبِق خلق هذه المفاهيم. وكما يشير الماركسيّون: النشاطات الفعليّة هي ما ينتج الحاجة للأفكار. فالأفكارُ القانونيّة إذًا لا تنشأ من العدم ومِن ثمّ تبدأ بتحكيم ممارساتِ النّاس. هذا الأمر واضحٌ جدًا حين يتعلّق بالقانون، وذلك لأنّ القوانين الجديدة والأفكار الجديدة كثيرًا ما يتمّ صُنعُها للتعامل مع حالاتٍ ملموسة لم يتوقّعها النظام القانوني.
قد تدفع الممارسة الاجتماعيّة لخلقِ أفكارٍ قانونيّة جديدة، ولكن حين تُستحدَث الأفكار القانونيّة، ينعكِسُ تأثيرُها على الممارسات المستقبليّة، وذلك لأنّ الفئات القانونيّة التي ينتجها الناس لوضعِ تصوّراتٍ للواقع الاجتماعيّ – القتل غير المتعمّد مقابِل القتل المتعمّد كما ذُكِر آنِفًا – ليست هي الطُرق الوحيدة لتشكيل هذا الواقع. بالإمكان إعادة تشكيل هذه التصوّرات أو توضيحها، وحين يتمّ ذلك، بالإمكان مشاركة هذه التصوّرات الجديدة اجتماعيًا وتمكينها مِن إعادة هيكلة تصرّفات الناس بطريقةٍ متزامنة. ولهذا السبب، فإنّ ولادةَ القوانين والقضايا النموذجيّة يجعل من الطقوس الاقتصاديّة موحّدةً ومُتوقّعةً أكثر، وهذا أمرٌ جيّد في التجارة.
كان جزءٌ كبيرٌ من القانون في القرون الوسطى يُمارَسْ مِن قِبل الفردُ نفسِه، وذلك بسبب نشوءِ تقاليدٍ قانونيّةً مختلفة داخل كلّ مدينة. وكان هنالك عرفٌ قانونيّ منتشر – قانون التجارة (law merchant) – وقد نشأ من خلال التجارة الخارجيّة ما بين المدن. شمل قانون التجارة الأساسيّات مثل: العقود بين التجّار وعلاقات الاستدانة ما بين التجّار والمصرفيين.
استمدّ القانون التجاريّ من قوانين روما أيضًا، فقد طوّر الرومانيّون القدامى ممارساتٍ تجاريّة وأنشأوا معها قوانينَ أيضًا، مِنها وسائلٌ استُخدِمت لتجميع موارِد أطرافٍ متعددة لتكوين شراكاتٍ قادرة على إنشاء مشاريع كبيرة، ولكن حين انحلّت الإمبراطوريّة الرومانيّة، انحلّ معها النظام القانوني الرومانيّ في أوروبا.
لم يرجِع القانون الرومانيّ لأوروبا بشكلٍ كبير إلى أن أتت فترة الحملات الصليبيّة، والّتي استمرّت منذ 1095 وحتى 1291. كان أحد أسبابِ محاولة الاستحواذ على الأرض المقدّسة هو السيطرة على موقعها كمركزٍ تجاريّ رئيسيّ في العالم. ربَط الشرق الأوسط مُدنًا تجاريّة رئيسيّة في شمال إيطاليا بشبكة التجارة الواسعة في العالم الإسلامي التي امتدّت من شرق إفريقيا وحتّى عُمق آسيا. وكان القانون الرّومانيّ في أوساط التجّار العرب والمسيحييّ الشرق (البيزنطيين) تراثًا حيًا، ولكنّ حتى مع انتهاءِ الحملات الصليبيّة كفشلٍ عسكريّ للغرب، فقد وفّرَ الانخراط القريب مع شبكات التجارة التي يسيطر عليها المسلمون لأوروبا طقمًا جاهزًا من القوانين للتعامل مع التجارة.
كما ذُكِر آنِفًا، ينمو القانون من رحِم الحاجة لصياغةِ مفاهيم حول الممارسات المعمول بِها مُسبقًا، ولكنّ نشوء هذه المفاهيم القانونيّة يقوم بأمرٍ معاكس وهو إعادة هيكلة الممارسات المُستقبليّة. وفي حالة القانون الروماني، فقد كان هنالك جهازٌ كامل من الممارسات الاقتصاديّة السابقة – للرومانيّين أنفسهم والمسلمون ومسيحيّو الشرق من بعدهم – المتفوّقة جدًا والتي دفعت لتكوين هذا التراث القانونيّ.
كشفت الحملات الصليبيّة بالتالي لمجموعةٍ من التجّار الأوروبيّين الغطاء عن نظامٍ أكثر تقدّمًا، ذو أفكارٍ قانونيّة سمحت لهم بإعادة صياغة مفاهيم جديدة وإعادة تشكيل سلوكيّاتهم بسرعةٍ مُعتبَرة. ساعدت هذه الأشكال القانونيّة الجديدة على تصعيد وتيرة كميّة المعاملات التجاريّة – في الوقت ذاته الذي أصبح فيه التجّار أكثر انخراطًا في الشبكات التجاريّة الشرقيّة الضخمة. وجلب الأوروبيّون وسائل المحاسبة التجاريّة من الشّرق – ناهيك عن الصّفر الهنديّة العربيّة التي سمحت للتّجارِ بأن يتركوا رموز الترقيم الرومانيّة المُزعجة. ساعَدت كلّ هذه العوامل مجتمعةً الطبقات الثريّة الأوربيّة في زيادة ثروتها ووزنها الاجتماعيّ.
ساهمَت عودة القانون الرومانيّ لأوروبا – ولو لفترةٍ قصيرة – في توسيع الدور السياسيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، وذلك لأنّ مسؤولي الكنيسة بإمكانهم قراءة كُتب القانون الروماني، التي كُتبِت باللغة اللاتينية. ولهذا السّبب، ذهب التجّار للمحاكم الكَنَسيّة الكاثوليكيّة في سعيهم لتسوية نزاعاتهم المتعلّقة بمعاملات المسافات الطويلة. ولكن حين يكون النزاع داخل المُدن، كانوا يستخدموا التراث القانويّ المحلّي.
هذه الأمور كلّها تكشِف لنا عن أحجيةٍ حول كيفيّة فرضِ هذه المحاكِم لقراراتِها، فالقوى المسلّحة الحقيقيّة في ذلك الوقت كانت في يد طبقة النبلاء الإقطاعيّة، والتجّار لم يُريدوا للنبلاء بأن يتدخّلوا في شؤونِهم. كانت المُدن-الدّول الإيطاليّة ناميةً كفاية لدعمِ أجهزةٍ حكوميّة محليّة، ولكن أغلب المدن لم تكن كذلك. لم تكن هنالك دولة واقِعًا، إذ اعتمدنا تعريفَ الدّولة كـ«الفصائل الخاصة من رجال مسلحين القادرة على استخدام القسر الجسدي»، ولم تكُن هنالك بالتأكيد دولةٌ ممتدّة على كلّ أرجاء أوروبا لفرضِ قراراتِ المحاكم الكَنَسيّة البعيدة.
من أجل فهم كيفيّة فَرضِ الإلزام القانونيّ يجب التنبّه لكون هذه النزاعات جرت في داخِل طبقة اجتماعيّة واحدة – وهذه الطّبقة لم تكن حينها منقسمة عن طريق تفاوتاتٍ كبيرة في الثروة، وذلك يعني أنّ الفَرْضَ القانونيّ قد يأتي من الإلزام الجماعيّ، مِثلَ أن يرفُضَ الناس – على سبيل المثال – القيام بصفقاتٍ تجاريّة مع شخصٍ تجاهل أمرًا من محكمةٍ في مدينةٍ ما. وقد تدعو المحاكم الكَنَسيّة أيضًا بممارسةِ ضغطٍ جماعيّ، وإن لم يتُبْ المُخالِف فقد تطلب الكنيسة من المسيحيين بنبذِ المخالِف – أي قطع كلّ العلاقات الاجتماعيّة معه – مما سيُنهي مسيرة ذلك الشخص التجاريّة. وأغلبُ المُخالِفين آمنوا أيضًا أنّهم سيذهبون للنّار إن استمرّوا في خطيئتهم، فلذا كان لديهم حافزٌ خاص لإطاعة محاكِم الكنيسة.
بدأت العمليّة القانونيّة بالتغيّر لاحقًا مع تصاعد السُلطة الملكيّة، ولكن سنلخّص هنا بعض النُقاط حول الفترة المذكورة أعلاه:
جعلت الحياة الاقتصاديّة للبورجوازيّة منهم أحرارًا قانونيًّا ومتساويين مع بعضهم البعض، إذ أنّ كثيرًا مِنهم كانوا أقنانًا سابقين كسبوا حرّيتهم عن طريق الهرب إلى المُدن من أراضي النُبلاء. وحتى في معاملاتهم الاقتصاديّة كانوا أحرارًا إذ أنّه بإمكان أيٍ طرفٍ يدخل صفقةً تِجاريّة أن يتركها إن لم تُعجبُه، أي أنّ كلًا من الطرفين لن يدخلا في هذه الصفقة قسرًا.
وهؤلاءِ الناس كانوا متساوين قانونيًا – ليس لأنّ كلًا منهم امتلك مقدار الثروة ذاته الذي امتلكهُ غيره – وإنما لأنهم امتلكوا حقوقًا قانونيّة متساوية لممتلكاتِهم. ممّا يعني أنّهم – على عكسِ الأقنان – حازوا على ممتلكاتِهم من غير أي التزامات، وبذا تمكّنوا من التصرّف بها كما شاءوا.
وآخر ما يجب ذكره حول هذه الفترة هو أنّ المساواة النسبيّة داخل هذه الطبقة أعطت المنتمين لها الإحساس بأنّ القانون يشكّلُ قواعد اللّعبة، فهو الذي يضع حدودَ السلوكيّات داخل السّوق، والناس بعمومِهم التزموا بالقواعِد لأنّهم لم يرغبوا بإعاقة اللعبة الاقتصاديّة هذه عن طريق التوّجه للمحكمة. كان هدفُ اللعبةِ التجاريّة هذه – بالطبع – هو درّ الأرباح وإن كان كلّ اللاعبين محشورين نوعًا ما داخل هذه القواعِد فبإمكانهم الاستمرار في هذه اللعبة ولدى كلٍ منهم فرصةُ الحصول على المال.
وسنضعُ هذه الاستعارة بصورة «اللعبة» في عين الاعتبار في تحليلنا للفترات الأخرى القادِمة.
الفترة الثانية: الأراضي
في الفترة التي تلت، والتي امتدّت منذ عام 1200 وحتى عام 1500، كانت قوّة الملوك في تصاعد وكانت الطبقة البورجوازية منخرطة في نزاعاتٍ محتدّة مع الطبقات الأخرى. وكما ذُكِر آنِفًا، فهذه الطبقة كنت تعمل على صياغةِ مفاهيمٍ حول قوانين لا تنطبق إلّا عليهم هم. لم تُطبّق القوانين في القرون الوسطى واقِعًا إلّا على أصحاب الرتب الاجتماعيّة المتساوية، فبعض القوانين اختصّت بحقوق النبلاء، وأخرى تمّ تطبيقُها على الأقنان. ومِن ناحية العمّال الحِرفيين المَهرة القاطنين في المدن فقد شكّلوا نقاباتِهم الخاصة بقوانين خاصّة بهم لتنظيمِ عملهم وعلاقاتهم المتبادلة.
تعرّض قانون البورجوازية التجاريّة لعلاقات التبادُل الطوعيّة، وأمّا القيمة التبادليّة أو أسعار بضائعهم فقد حدّدتها قوى السّوق المجرّدة، ألا وهي قوى العرضُ والطَلَب. ومع أنّ علاقاتِ السوق حكَمت ونظّمت التبادل، فهي لم تحكم أو تنظّم الإنتاج، فعلاقات الإنتاج حكمت عليها هويّة الفرد، أي رُتبتهُ أو مكانتُه الاجتماعيّة. فكمّيات بضائع المزارع أو الأموال التي فُرِض على الأقنان تسديدُها للّوردات قُيِّدتْ بقوانين عرفيّة حكمت التزامات مرتبتِهم الاجتماعيّة، وأما الالتزامات الأخرى فقد جرت على نفسِ المنوال. أُلزِمَ الأقنان بالبقاء على الأرض وألّا يتصرّفوا بِها باستقلاليّة. وفي المقابل، وفّر النبلاء تدابيرَ حمايةٍ عسكريّة وأعطوا الأقنان حقّ استخدامِ الأرض لمصلحتهم الذاتيّة وحقّ توريثها لأبنائهم.
وفّرت العلاقة ما بين اللورد والقنّ لكلٍ منهما حقوقًا معيّنة على الأرض. الأرضُ بالتالي لم تكن ذلك الشيء الذي بالإمكان امتلاكُه من غير التزاماتٍ وبيعُه لمشتريٍ مجهول. فقد كانت أمرًا شخصيًا جدًا ولم تكن العلاقةُ طوعيّةً البتّة، ولم يكن للسّوق أي علاقة بِها. وعلاقاتُ الإنتاج في أوساطِ الحِرفيين كانت شخصيّةً أيضًا، إذ أنّ نقابةُ الإسكافيين هي من يحدّد عدد الأحذية التي ستُصنع وكيفيّة تقسيم العمل ما بين رؤساء النقابات والصنّاع المهرة (journeymen)، ومقدار ما سيُدفَع لكلّ فرد. والأسعار تُحدّد وِفقًا لمفهومٍ تاريخيّ وهو مفهوم «السعر العادِل» للأحذية.
القوانينُ التي حكمت معاملاتِ السّوق لم يتم توسيعها لتشمل الإنتاج الاقتصاديّ إلّا من خلال سلسلةٍ من الصراعات التي أسقطت علاقات الإنتاج السائدة، وحين اندلعت هذه الصراعاتُ لم يعلم البورجوازيّون إلى أين ستؤول الأمور. ما قاموا بِه هو فقط الوقوف لأجلِ مصالِحهم قِبال الطبقات الأخرى.
كسبت الطبقات البورجوازيّة حلفاء مهمّين حين أمسك الملوك بزمام السلطة، بالخصوص في إنكلترا وفرنسا. أتى الملوك من أكثر عوائل طبقة النُبلاءِ قوّةً، ولكنّهم أسسوا علاقةً مستقلّة مع البورجوازيّة، وحين مدّ ملكٌ ما سلطته الملكيّة على مقاطعةٍ كبيرة، وسّع معها مدى التعاملات التجاريّة الموثوقة – كان ذلك جزئيًا عن طريق فرض نظامٍ تجاريٍّ موحّد. وبذا أفسح الإلزام القانونيّ الجماعي مِن داخل الطبقة البورجوازيّة المَجال للقسرِ عن طريق قوّة الدولة.
ساعد توسّع نطاق للتجارةِ المنظّمة هذا البورجوازيّة على الاغتناء أكثر. وفي المقابل، موّل المصرفيّون الجيش وبيروقراطيّة الدولة، بينما دفعت الطبقات الثريّة كلّها ضرائبًا للملك، ووجَد الملوك والبورجوازية في النبلاء الأقل شأنًا عدوًا مُشتركًا، فهؤلاء النبلاء كانوا منافسين للملوك ولكنّهم أيضًا اتّخذوا من سرقة التجّار الذين ينقلون بضائعهم عبر أراضي النُبلاء هِواية لهم. وكانت النتيجة أن تدخّلت السُلطة الملكيّة لإيقاف ذلك. ساعدت البورجوازيّة – باختصار – المُلوك في توسيع نفوذِهم وساعد الملوك البورجوازيّة في توسيع ثروتهم.
سنتّجهُ هنا للتركيز على إنكلترا بالتحديد، لأنّ الملك هنري الثامن هو من قام بأوّل هجومٍ كبير على الملكيّة الإقطاعيّة، وفي هذه الحالة لم يعمل القانون كقواعدَ تدير لُعبةً اقتصاديّة مُستمرّة، بل تكوّن مِنْ مجموعةً منَ المراسيم الملكيّة التي نزلت كمطرقة وغيّرت اللعبة.
منذ 1536 وحتى 1539، استولى هنري الثامن على كلّ الأراضي الواقعة تحت إدارة الدِير الكاثوليكيّة. كان هنري – بالطبع – في خلافٍ سابِق مع بابا الكاثوليك حول طلاقٍ ملكيّ، ولكنّ دافِعه الرئيسيّ في مواجهة الرهبان كان طمعه في أراضيهم. وكانت هذه التي استحوذ عليها الأراضي كثيرة – إذ تتراوح التقديرات بأنها كانت ما بين سُدس أو رُبع كلّ الأراضي في إنكلترا. وفي السنوات التي تَلت، باع أجزاءً منها لأصدقائه بغرض تمويل حروبِه في أسكوتلندا وفرنسا.
وكان بيعُ مِثل هذه الأراضي الكبيرة هو ما ساعد على تأسيس قيمة سوقٍ مفترضة لكلّ الأراضي في إنكلترا، وإن كانت قواعد الإقطاع قد استمرّت في إعاقة التجارة الحرّة للأراضي. وأعتقد أنّ هذا الأمر يماثِلُ ما كان يجري في الصّين، ففي تلك الفترة فقط بدأت بعض حقوق الأراضي تباع وتشترى، وقد أنتج ذلك مُسبقًا تأثيرين مهمّين: الأول هو أنّها جعلت الأراضي محلّ مُضاربات، والثاني هو أنّها قادت الصينيّين للنّظر للأراضي كاستثمار – وبالتالي تسعير الأراضي حسب الأموال التي من الممُكن أن تنتج عن استخدامها. وكلٌ من هذين العاملين وفّرا حوافِزَ لجلب عددٍ متزايد من الأراضي إلى السّوق.
ولأنّ الأرض من الممكن أن تصبح استثمارًا الآن، فهي ليست كأيّ سلعةٍ أخرى، وليست مُنتجًا مثل قميص قطنيّ. فالأرض وسيلةُ إنتاج. وحين أصبحت الأرض سِلعة، أصبح بإمكان الرأسماليين التحكّم بجزءٍ من عمليّة الإنتاج وليس فقط المتاجرة بالأشياء المُنتجة مُسبقًا. في إنكلترا، توضّح أنّ أكثر طرق توظيف الأراضي رِبحًا هي إخلاؤها من أغلب المزارعين، وتحويلها لمرعى أغنام ومِن ثمّ يتم بيع الصّوف. تواجَد بعض رعاة الأغنام التجاريين بالفعل قبل عهد الملك هنري الثامن، ولكن تسليع الأراضي أعطى العمليّة دفعةً كبيرة.
امتدّ طردُ المزارعين على طوال مئات سنين مرّت وعُرِف بحركة «التسييج» لأنّ ملّاك الأراضي كانوا يسيّجون الأراضي المشاعة التي كانت مُتاحة عِرفًا لاستخدام المزارعين. يحدث التسييج حين يطالب مالِك الأرض بحقّ التحكم بالأرض من غير التزاماتٍ لمن يعيشون عليها. أي بعبارة أخرى، ليس بإمكان الأرض أن تُصبِح سلعة إلّا من خلالِ صراعاتٍ أدّت في آخر المطاف لتدمير الحقوق الإقطاعيّة وعلاقات الإنتاج الإقطاعيّة.
وكان من المفترض أن تُفسِحَ قوانين الرُتب والمكانات الاجتماعيّة الطريق لقوانين العقود. وعلى حدّ تعبير المنظّر القانونيّ إفغيني باشوكانيس، أدّت علاقات السّوق لنشأةِ «الفرد القانونيّ المجرّد» (abstract legal subject)، وهي شخصٌ يمتلك الحقّ [القانونيّ] الكامل لقطعة عقارٍ خاصّة ما ويتصرّف في السوق كمالك عقارٍ مجرّد، لا كلورد أو كقنّ أو حتّى كبورجوازي.
ومع تصاعِد قوّةِ الدولة الملكيّة، صعدت معها الإيديولوجيا الجديدة حول القانون. ظلّت القوانين تعملُ كقوانينِ اللعبة – مُعلّمةً حدود التصرّفات المقبولة. ولكنّ هذه القواعد لم تُعد تُفرَضُ جماعيًا، فالدولة بدأت حينها بالتصرّفِ كحَكمٍ لهُ سُلطةٌ على الناسِ جميعًا. بالطّبع، كان هذا هو الوقتُ ذاته الذي كشفت فيه الدولة عن عدم محايدتها. فالملوك كانوا يوظّفون القانون كسلاحٍ في حربِهم الممتدّة ضدّ طبقة النُبلاء التي يحكمونها. وأمّا الفلّاحون فلم يسلموا مِن هذه الحرب، فقد كانوا «أضرارًا جانبيّة» في صراعِ طبقاتِ النبلاء.
أمّا البورجوازيّة فقد كانت بدورِها توظّف علاقات العقود للرفع من مكانتها على حساب كلّ الأطراف الأخرى، فالعقود هذه كانت غريبة لأنّها اتّفاقيّاتٌ خاصّة تخوّل كل طرفٍ حقّ استدعاء الدولة لتقهر الطرف الآخر. كانت الاتّفاقيّاتُ الخاصّة بالتالي تُدعَمُ مِن قِبل السلطة العامّة. والعقودُ هذه كانَت طوعيّة – كما ذُكِر آنفًا – لأنّ كلّ طرفٍ بإمكانه الخروج دونَ إبرام الصفقة، ولكنّ الناس لا يدخلون اتّفاقيّاتٍ بقوّة تفاوضيّة متكافئة. فعلى سبيل المثال، لو تفاوَض مالِك الأرض مع مزارعٍ حول استئجار قطعة أرض، فالطرف الغنيّ هنا سيأتي وعقدُه مكتوبٌ في يدِه لأنّ محاميه قد كتَبَه. قد تكون هنالك قوانينٌ تحمي حقوقَ المزارع بطُرقٍ مختلفة ولكنّه لا يعلم بذلك. وعلاوة على ذلك، فالعقدُ قد يحتوي بنودًا تنصّ على أنّ المزارع سيتنازل عن كلّ هذه الحقوق. وفي آخر المطاف، يوقّع المزارع العقد لحاجته لأن يقي عائلَتهُ مِن الموتِ جوعًا.
تتجاهلُ المنظومة القانونيّة مراتِبَ الناس الاجتماعيّة تحت ذريعة المساواة، ولكنّ النظام واقِعًا يُغني من يدخلوه بمكانةٍ اجتماعيّة متفوّقة. وهذا ليس أمرًا اكتشفهُ الراديكاليّون في القرن التاسع عشر، وإنّما فهِمَ الناس في ذلك الوقت – أي قبل 500 و600 عام – أنّ المساواة القانونيّة قد تكون أداةً لظُلمِ الضعيف. ومع مرور السّنين، أنشأ البورجوازيّة أيديولوجيّةً للحريّة والمساواة تتوافَقُ مع الرّفض المتعمّد لوجودِ الرُتب والمكانات الإقطاعيّة بحدّ ذاتها. وهذه هي الرّايَة الذي قاتلت البورجوازيّة وحُلفاؤها تحت ظِلّها في الثورة الإنكليزيّة في القرنِ السابع عشر.
عِوضًا عن الاستمرار في قصّة إنكلترا، سنقفز في الجزء الثّاني لـ«العالم الجديد»، وذلك لأنّ الثورة الإنكليزيّة حدثت في نفس الفترة التي تطوّر فيها نظامُ عبوديّة – وهو نظامٌ جديد للمراتِب الاجتماعيّة – في المستعمرات الإنكليزيّة.
المصدر: WorxinTheory
#ديفد_وايتهاوس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
أكادير: احتجاجات وإضراب عام للعاملات العمال الزراعيين باشتوك
...
-
بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع
-
فرنسا: هل ستتخلى زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان عن تهديدها
...
-
فرنسا: مارين لوبان تهدد باسقاط الحكومة، واليسار يستعد لخلافت
...
-
اليساري ياماندو أورسي يفوز برئاسة الأوروغواي
-
اليساري ياماندو أورسي يفوز برئاسة الأورغواي خلال الجولة الثا
...
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يثمن قرار الجنائية الدولية ويدع
...
-
صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|