|
أزمة في صناعة الشيطان
نورالدين هميسي
الحوار المتمدن-العدد: 4854 - 2015 / 7 / 2 - 08:13
المحور:
الصحافة والاعلام
"لم تكن الانتصارات الكبرى للدعاية فيما تم تحقيقه، بل فيما لم يتحقق. عظيمة هي الحقيقة، ولكن أعظم منها الصمت عن الحقائق". ألدوس هوكسلي. "أفضل العوالم".
وأنت تتحدث عن الدعاية يبدو لك الأمر وكأنك رحلت 100 سنة إلى الوراء. لقد ظهرت الدعاية مع الحرب العالمية الأولى وجرى تطويرها أكثر مع الحرب العالمية الثانية، ثم لبست ثوبا آخر أثناء الحرب الباردة لما أصبح الرهان ليس الحرب النفسية فقط، بل صناعة شيطان يجمع المؤمنين على قلب رجل واحد. لم يكن ظهور الراديو والتلفزيون وقبلهما الصحف بالحدث الذي قد يفلت من أجندة الساسة وأصحاب المال، فمثل هذه الأدوات جمعت هذا الكم الهائل من البشر لأول مرة منذ خلقهم على اهتمامات موحدة، وجعلت منهم قطيعا ووعاءً انتخابيا وسوقا رائجين. كان هارولد لاسويل من الأوائل الذين انتبهوا لحركية الدعاية في المجتمع المعاصر، ولكن إدوارد بيرنيز، خبير العلاقات العامة ومستشار وزارة الحرب الأمريكية، كان من الأوائل الذين وضعوا لها أسسا منهجية وتطبيقية لتفعل فعلها. كان بيرنيــز على يقين بطبيعة الشكل الذي يأخذه هذا المجتمع الجديد حينما تُقرَأ الصحف وتشتغل أجهزة الراديو، وقد كان مولعا بمعرفة طرق تحرك الخيال الجماعي، لذلك دعا إلى التحكم في الحشود عن طريق أساليب مستشفة من بحوث علم النفس، وهلل بميلاد الحكومة الخفية التي تهيمن على كل شيء مستلهما من فكرة اليد الخفية التي تحدث عنها آدام سميث في لعبة صناعة الثروة. خرج هذا النوع من الدعاية عن وظيفة الشيطنة إلى رحاب الحياة الاجتماعية بُعيد الحرب العالمية الثانية وواكب أزهى سنيــن المشروع الرأسمالي الذي يرسم الممثل الكوميدي الفرنسي ديودوني مشهدا في إحدى عروضه بمقطع ساخر للرجل الخاضع للإشراط السيكولوجي الرأسمالي وهو يتلقى أوامر الحياة اليومية من قوة خفية: انهض، اذهب إلى العمل، اكدح، ارجع إلى البيت، شاهد التلفزيون، قبل زوجتك، توقف، اذهب للحمام... يقول الأمريكيون قبل ذلك بأن وزير الدعاية في ألمانيا النازية جوزيف غوبلز استوحى أساليبه الدعائية من أعمال بيرنيز، ولكنه أطعمها من كتاب الدبلوماسي الفرنسي جوزيف دي غوبينو الذي يحمل عنوان: "مقالات في نظرية التفاوت بين الأجناس" الصادر منتصف القرن التاسع عشر. في سنوات الحرب الباردة. ارتفعت مخاطر الموجهة النووية الشاملة، واستعرت معها نيران حرب الكلمات. تجسد زيارة الرئيس السوفياتي نيكيتا خروتشوف إلى الولايات المتحدة نموذجا متكاملا لعمل الدعاية والدعاية المضادة، فبينما خرج كل الأمريكيين إلى الشارع لكي لا يفوتوا فرصة نادرة لرؤية "الشيطان"، كان خروتشوف يناور داخل العقول الأمريكية ويكسر كل التمثلات التي غرسها الإعلام الأمريكي حياله وحيال بلده، وحيال الشيوعية بعد الرعب الأحمر الذي زرعته المكارتية بحثا عن سحق أي دعاية لمصلحة الفكر الشيوعي الذي تملك ناصية النقابات العمالية في أمريكا. ولأن الدعاية فن أمريكي النشأة، فقد شهدت سنوات الثمانينيات نمطا جديدا من الدعاية قائما على تسويق صورة وهوية الإمبراطورية المتفوقة على حساب الشيطان، فواصلت إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغن، نجم أفلام الكاوبوي، لعب ورقة شيطنة السوفيات بالموازاة مع اندلاع حرب النجوم، فدخل البلدان في تنافس محموم وفيه بعض الطرافة على غزو الفضاء. تفاخر الروس حينها بكون فالنتينا تريشكوفا أول امرأة تصعد للفضاء عام 1963، كما كان لهم السبق في صعود أول حيوان للفضاء من خلال الكلبة "لايكا" عام 1957، التي ماتت ساعات بعد الإقلاع وبقيت ظروف وفاتها ســرا من أسرار الاتحاد السوفياتي إلى غاية مطلع الألفية الجديدة، قبل أن ترد الولايات المتحدة بإرسال قرد الشمبانزي "ألبرت" عام 1961، في حين سبقت فرنسا لشرف إرسال أول قطّ "فيليكس" لأسباب سياحية لا علاقة لها بالحرب الباردة. بقيت التراشقات الدعائية بين المعسكرين صامدة إلى غاية انهيار الاتحاد السوفياتي، وهنا انتهت فترة ذهبية من تاريخ الدعاية، وبدا وكأن فرانسيس فوكوياما كان محقا في نهاية التاريخ، ولكن حتى لو انتهى التاريخ فإن للدعاية احتياطيا يكفي لأجيال قادمة. عرفت السنوات الأولى مرحلة جديدة من العمل الدعائي، وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر العام 2001، خرج الرئيس الأمريكي جورج بوش ليعلن عن هوية الشيطان الجديد: إنه الإرهاب الدولي. بقيت عمليات الاستقطاب عن طريق الإعلام متواصلة، وهذه المرة تحركت آلة الإعلام الأمريكي والدولي إلى الشيطان الجديد، ولكن هذه المرة يبدو وكأن مهمة صناعة الشيطان الجديد ليست سهلة وستقدم منتوجا غير محدد الملامح في أحسن الأحوال. تحدث بوش عن محور للشرّ يضم العراق، إيران وكوريا الشمالية، وحينما تحركت آلة الحرب ضد الإرهاب، ازدادت هوية الشيطان غموضا بعد أن دكت الطائرات الأمريكية أفغانستان والعراق، وبعد أن ضربت العمليات الإرهابية كل أصقاع العالم، تعرضت آلة صناعة الشياطين الإعلاميـة لخلل مشين بعد أن عجزت عن الإجابة عن سؤال: من هو الإرهابي؟. لا مجال للجدل هنا في أن تهمة الإرهاب أصبحت لصيقة بطريقة آلية بالإسلام، وإذا كانت أغلب الجماعات الإرهابية في العالم تعلن الإسلام مرجعية لها، فإن الغرب كاملا عجز عن وسم الإسلام بالإرهاب، وراح يدخل في تصنيفات هيتيروكرومية ومبهمة: إسلام معتدل وإسلام متشدد، إسلام متسامح في مقابل إسلام متعصب، إسلام تكفيري مقابل إسلام للتعايش... وغيرها من التصنيفات التي جعلت من مهمة التعريف بالشيطان الجديد محاطة بالكثير من الغموض. رغم ذلك، استفاد الإعلام الغربي من هذا الغموض في إعطاء الشرعية لكل عمل عسكري أمريكي وأوروبي يأتي على أرواح الكثير من الأبرياء، حيث تم التدخل في العراق بذريعة صلة نظام صدام حسين بالإرهاب، ثم لدواع مشابهة تم غزو ليبيا، وفي سوريا يجري الحديث بقوة عن علاقة نظام الأسد بجماعات إرهابية، وصارت تهمة دعم الإرهابيين تلصق بالكثير من الدول، وأكثر من ذلك، تحولت الشيطنة إلى رياضة شعبية احترفتها دول أخرى دخلت على الخط، وبات هذا الشيطان الغامض لباسا على مقاس الكلّ يمكن لأي أداة إعلامية الاستثمار فيه. مع ميلاد تنظيم داعش، وصلنا إلى الدرجة القصوى من الغموض، وبقدر ما شكلت نشأة هذا التنظيم وتوسعه الرهيب في الشرق الأوسط علامة استفهام حول مدى قوة هذا الشيطان الغامض، بقدر ما صار من الأسهل الاستثمار في الرأي العام الغربي لتبرير أي تدخل عسكري في كل منطقة من العالم. سنلاحظ بوضوح بأن تمركز ميليشات داعش في أراض معينة في سوريا والعراق وليبيا يسهّل من تحديد موقع وهوية شيطان هذا العصر، ولكن الأوراق ستختلط لما نتتبع خارطة العمليات التي يقوم بها هذا التنظيم في أماكن أخرى في أوروبا وأستراليا، حيث يمكن القول مع الأوروبيين بأن الشيطان ليس بعيدا عنا، أو بأنه نائم بيننا ولكننا لا نعرفه بدقة. الدعاية بعد 100 سنة تتخبط، وصناعة الشيطان تواجه الآن أزمة وهي تتعاطى مع ظاهرة بالغة التعقيد. لقد وفر تنظيم داعش مادة دعائية دسمة للإعلام الغربي زادتها تسجيلات العمليات الإرهابية وبثها عبر شبكات التواصل الاجتماعي ثراء، ولكن رغم ذلك لا يزال الشيطان متخفيا من وراء لثام. بالعودة إلى ألدوس هوكسلي، فإن الدعاية الغربية التي تفشل في تعريفنا بالشيطان رغم كثرة ما تقول قد تنجح في ذلك في ثنايا ما صمتت عنه من حقائق وما لم تحققه الحرب العالمية على الإرهاب فوق الميدان.
#نورالدين_هميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السلاح في حدود مجرّد التواصل..
-
كل المبررات لكي لا تكون صحفيا
-
بين النظرية والموضة.. عن الموضوعية، الذاتية والنرجسية
-
حول التنظير في حقل الإعلام ومجازفاته
المزيد.....
-
سقط من الطابق الخامس في روسيا ومصدر يقول -وفاة طبيعية-.. الع
...
-
مصر.. النيابة العامة تقرر رفع أسماء 716 شخصا من قوائم الإرها
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى يستخدمها -حزب الله- لنقل الأ
...
-
كيف يؤثر اسمك على شخصيتك؟
-
بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل حاخام في الإمارات
-
حائزون على نوبل للآداب يطالبون بالإفراج الفوري عن الكاتب بوع
...
-
البرهان يزور سنار ومنظمات دولية تحذر من خطورة الأزمة الإنسان
...
-
أكسيوس: ترامب يوشك أن يصبح المفاوض الرئيسي لحرب غزة
-
مقتل طفلة وإصابة 6 مدنيين بقصف قوات النظام لريف إدلب
-
أصوات من غزة.. الشتاء ينذر بفصل أشد قسوة في المأساة الإنساني
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|