|
ثلاثاً في ثلاث
عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)
الحوار المتمدن-العدد: 4853 - 2015 / 7 / 1 - 23:47
المحور:
الطب , والعلوم
في مساء يوم تشريني من عام 1997 وبعد عودتي لشقتي بشارع حيفا، تلقيتُ عبر الهاتف نبأ مؤسف بأن عمي الأكبر، عميد عائلة المبارك قد وافته المنية في بيته بشارع فلسطين، فتحركنا أعضاء العائلة كلٌ من بيته لنتجمع. بعد امتصاص الصدمة، كان علينا التحرك سريعاً استعداداً لأيام صعبة، فوزعنا في الليل العمل الذي علينا منذ الصباح الباكر لليوم التالي القيام به، كان واجبي أن أبحث عن بيوت الأقرباء الذين لا يمكننا الاتصال بهم. في الليلة التالية كان عليّ الذهاب لحي (الميكانيك) لتبليغ عائلة لم نصلها بعد، وكان (مشوار) صعب حيث خيم الليل وما كنت أعرف العنوان مما صعب عليّ المهمّة، وحين وجدتهم واصطحبتهم لشارع فلسطين كان الفجر قد شق نوره... هكذا مرت أول ليلتين لم أذق فيهما طعم النوم بتاتاً... في النهار كان علينا إتمام تحضيرات يوم الغد (الثالث) وكانت مهمتي شراء القهوة من (الشورجة) بمرافقة أحد الأقارب، توجهت أولاً بالسيارة لشقتي بشارع حيفا واستأذنت قريبي لدقائق بأن أستحم وأغير ملابسي... كانت الشقة خالية وأطفالي وأمهم ببيت جدهم، وما أن أخذت (دوش) سريع ودخلت غرفة منامي، حتى أعلن (عقلي الباطن) عجزه التام عن الشروع بأي عمل، فاستسلمت لأمري واستغرقتُ بنوم عميق لم أتعوده بحياتي، تاركاً قريبي (مزروعاً) بالسيارة تحت العمارة. لم أنهض إلا بعد أكثر من ساعة حين دق جرس الباب، لأجد قريبي مغتاظ عليّ بشدة قائلاً بأننا بواجب وعلينا أتمامه، وكان و(كنتُ) على حق! التقيت زوج أختي الطبيب لأسأله عما حصل، ليقول بأن الإنسان لو لم ينَم 72 ساعة متتالية، ليس من قوة بالأرض ولا عقار ولا حتى (الملح على الجرح) يمكنه أن يُبقيه صاحٍ أكثر!
من هذه المقدمة نستطيع الاستنتاج بأن كثير من الأفعال التي نظنها إرادية كالأكل والنوم، هي في الواقع غير ذلك، ومنها ما سنتحدث عنه في مقالنا والذي من تسميته يمكننا معرفة محتواه، في أن الإنسان لا يمكنه أن يحيا ثلاث أمور بثلاث توقيتات... ثلاث دقائق دون تنفس، وثلاث أيام دون ماء، وثلاث أسابيع دون طعام، هذه هي الثلاثة في ثلاث... × × × لو حدث وأن توفي الجنين ببطن الأم قبل شهره السابع، يتم إخراجه من بطنها بعملية (إسقاط لجنين ميت) ويتبع ذلك عملية تنظيف الرحم (الكورتاج)، لكنه لو مات وهو في شهره السابع أو أكثر، فتصبح العملية (ولادة لطفل ميت) وتُمنح الأم بهذه الحالة ـ بحسب القانون العراقي ـ نفس الراحة وإجازة الولادة كمن تلد طفلاً حياً، حتى أن المولود الميت بعد شهره السادس يُمنح أسم (عبد الله) ويُسلم للأبوين كي يقوما بدفنه. يُنظر إلى جنين الإنسان في بطن أمه على أنه جزءً حي من جسمها حتى بلوغه شهره السابع، حينها يكون كائناً متكاملاً لكنه يبقى غير مستقلاً، لأنه لا يقوى العيش منفصلاً عن رحم الأم الذي يحافظ على درجة حرارته ويحميه ويمده بالأوكسجين والغذاء عن طريق شبكة الأوعية الدموية التي تغلف جدار الرحم. ماذا لو ماتت الأم حينما تكون حاملاً، سيموت الجنين بعد فترة قصيرة جداً بالتأكيد، لكن ما السبيل لإبقائه حياً؟ أن يُزود بحاضنة مطابقة لرحم الأم يمكنها المحافظة عليه وتدفئته وتزويده بالأوكسجين والغذاء، ومع أن حاضنة تحافظ على الجنين وتقوم بتدفئته موجودة منذ زمان، لكن العلم لحد اليوم عاجز عن بناء آلة أو مصدر خارجي يمكنه أن يضخ أوكسجيناً وينتزع ثاني أوكسيد الكربون من الدم، أي رئة خارجية، وأن يزوده بالغذاء ويُصفي منه المخلفات، مثل الكبد والأمعاء والكلية، وجهازاً يجدد الدم باستمرار كنخاع العظم والطحال... حينها سيتسنى لنا ـ والكلام هنا مجازاً ـ الاستغناء عن أجهزة الجسم هذه. المخلوقات الحية التي تولد من أرحام أمهاتها أي اللبائن، تحيا أولاً أجنة معتمدة على أمها، ثم يكتمل نموها فتكون مستقلة. ماذا يعني أنها مستقلة؟ أن تستطيع الاعتماد على نفسها بالتغذية والتزود بالأوكسجين، بشرط أن يكون للمحيط من حولها القدرة لتزويدها بمتطلبات البقاء، دفء وهواء وماء وغذاء... وتعامل الجسم مع هذه المتطلبات يبدو للوهلة الأولى أنه من الأفعال الإرادية، لكن الواقع مختلف، فتحكمنا بمنامنا وأنفاسنا وعطشنا... تصبح ليست بأيدينا لو أعلنت أجسامنا حاجتها بحسب أوامر الدماغ وإلا فسيغضب ويخرج عن الخدمة! دماغنا ليس آلة يتم برمجتها بحيث حين يحدث وأن (تتشابك) الفعاليات فيها، تتوقف من تلقاء نفسها وتعيد النهوض... دماغنا لا يرضَ القيام بذلك.
لماذا يأمر دماغنا الجسم ليوفر له متطلباته بعمليات التنفس والتغذية حين يتوفر الهواء والماء والغذاء؟ ولماذا يأمر الدماغ أجسامنا بالموت لو لم تخضع له وتوفر له متطلباته هذه؟
(1) لما كنا أطفالاً، كنا نتسابق بمن يستطيع كتم أنفاسه لفترة أطول، ويكون الفائز دائماً هو من (يزاغل) علينا ويسترق نفساً إضافياً! وبالرغم من أنه يمكننا أن نتحكم (قليلاً) بعملية التنفس (الشهيق والزفير)، لكن عملية التنفس هذه تعتبر من الأفعال اللاإرادية مَثلها مثل دقات القلب التي يمكن تسريعها بالإجهاد، لكن لا يمكننا إيقافها، فلا يمكن للشخص أن ينتحر بقطع نَفَسهِ حتى الموت، فقط ممكن ذلك بفعل خارجي أقوى من إرادتنا كالخنق، وأقصى مدة نتحملها هي ثلاث دقائق فقط... لماذا؟ لأن غاز ثاني أكسيد الكربون (السام) سيتراكم بالرئة ويتسبب بتسمم الدم الصاعد للدماغ، فيوقف هذا الأخير أوامره للقلب بالاستمرار بالخفقان ولبقية أعضاء الجسم بالعمل...
من الأسباب الأكثر شيوعاً بوفاة المسن ـ إنساناً أو حيواناً كالكلاب والقطط وحتى الطيور ـ توقف الجهاز التنفسي عن أداء واجباته خلال النوم، فحالة التوقف عن التنفس خلال المنام تسمى بـ (انقطاع النفس النومي) وهي حالة قد تعتبر مرَضيّة وغريبة في الأعمار الطبيعية، لكنها متعارفة وتشكل السبب الرئيس لرحيل المعمّر حين نجده في الصباح غارقاً بنوم أبدي.
كان الإعدام شنقاً في السابق يؤدي لمعاناة بسبب كونها عملية (خنق) قد تطول دقائق، لكنها تحدث اليوم حين تضغط عقدة الحبل على الفقرات العنقية بسبب ثقل الجسم المتدلي لحظة فتح البوابة تحت القدمين بصورة مفاجئة، فتنكسر الرقبة و(تخلع) الحبل الشوكي... فينتهي كل شيء سريعاً. الشنق، وبرغم أنه يحدث اليوم بغرف مغلقة وليس أمام الناس كالسابق، لكنه ليس الطريقة المثلى لإنهاء حياة إنسان، فتخدير المحكوم ثم زرقه إبرة سامة ـ ربما ـ هو قتل رحيم، هذا لو كان المعدوم يستحق الرحمة أصلاً. وعلى أية حال تبقى الإجابة عما لو أن المعدوم قد عانى من ألم أم لم يعانِ، متروكة للمعدوم نفسه!
(2) يشكل الماء ثلثي أوزاننا وثلاثة أرباع وزن الرضيع، ويتواجد بأجسامنا إما طليقاً أو بتكوينات كل خلايانا، وبالتالي فهو العنصر الرئيس في أحشائنا وأنسجة جسمنا دون استثناء، وهو مكون أساسي للنبات أيضاً. أجسامنا تفقد يومياً ما بين 2 ـ 3 لتر ماء ـ عن طريق التنفس (نصف لتر) والتبول والبراز (لتر ونصف) والتعرّق (نصف لتر) ـ وتختلف الكمية ونسبها بحسب البيئة والعمر والحالة المرضية... وعملية شرب الماء ليست فقط لإطلاق السموم عند التبول أو ترطيب الجلد وتبريده أو لإنتاج اللعاب والدمع وغيرها، وإنما يقوم الجسم وبتحكم دقيق بتغيير كافة سوائله وتدويرها، فالـ (سائل الزجاجي) مثلاً والذي يملأ داخل العين، يقوم الجسم باستبداله باستمرار...
النباتات ايضاً، تستبدل المياه المكونة لأجسامها بعمليات التبخر والنتح، وتقوم بتعويض الماء بعملية إمتصاصه من الأرض بما يوازي ويعادل بالضبط ما تفقده، أما عملية إتاحة الماء لأجسامنا فتتم بشرب لتر ونصف منه بشكل مباشر كماء وعصائر، ولتراً بأكل الفواكه والخضر التي يشكل فيها 90% ومن بقية الأغذية حيث معدله يصل لـ 80%...
عدم تعويض هذه الكميات، يؤدي بالنبات لليباس والموت، وفينا لاختلال العملية الفسيولوجية اللاإرادية التي يعمل الجسم على موازنتها حين يُشعرنا بالعطش، وأي نقص يعني (الجفاف)، جفاف العيون والفم والجلد وكل شيء داخلنا... لكن الجفاف ليس كل شيء، ففي عملية التبول، تطرح الكليتان ـ واللتان هما مصفاة ذات كفاءة عالية لا تتوقف طيلة عشرات السنين ـ السموم لخارج الجسم، وأي انخفاض بكمية البول، تُهيج الأعصاب وتلوث الدم الذي يؤدي بمرور الساعات لرفض وردة فعل عنيفة من قبل الدماغ وبالتالي توقف عمله ليحكم علينا بالموت. (3)
قطع الغذاء الذي تشكل مواده (ما عدا الماء) ربع ما نلتهمه، يؤدي لضعف الجسم وتراخي العضلات ببطء لأن الخلايا بدون تغذية تفقد قدرتها على العيش، فتنخفض حرارتها وتبدأ بالتلف مما يؤدي لتشنج الأعصاب. بعد مرور أسابيع قليلة، لا يحتمل الجسم ذلك فتبطأ فعالياته حيث تستهلك الخلايا كافة السكر المخزون فتتراخى العضلات ومنها عضلات القلب، فتختل ضرباته وتتباطأ فتتناقص كميات الدم الصاعد للدماغ ليعلن رفضه واحتجاجه... ويقرر (الخروج) عن الخدمة تاركاً الجسد بلا روح.
... في كل ما تقدم، فإن مسألة الوفاة منذ يكون المخلوق جنيناً في رحم أمه أو بالغاً من العمر عتيّا، تحدث حين يعجز الجسم عن القيام بواجبه لخدمة الدماغ، وفترة (السماح) التي يمنحها الدماغ لأجسامنا كي تؤدي واجباتها ليست طويلة، لا تتعدى في أفضل الأحوال... أربعون ثانية.
متكبر هذا الدماغ وشايف نفسه، مو؟
عماد حياوي المبارك × ثلاث درجات لو ترتفع الحرارة بأجسام الكائنات ذوات الحرارة الثابتة يعني الموت الحتمي حيث سيتجلط الدم (تتحلل مواده وتنفصل البلازما) ويتلف الدماغ، هذا يعني أنه يجب المحافظة على حرارة أجسامنا دون الواحد وأربعين حتماً. × حقق غطاس الرقم القياسي في عدم التنفس بدون جُهد حين بقي تحت الماء فترة 11.35 دقيقة.
... بالرغم من سيرة الموت، هذا الزائر الذي نبغضه بشدة برغم أنه حق، لكن ما نبتغيه من البحث المبسط هذا، الإطلاع والمعرفة، وبدون ألم وبدون معاناة، لا نتعلم ولا ندرك الأمور أكثر...
#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)
Emad_Hayawi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هبهب
-
من نصرٍ... إلى نصر
-
جواسيس (غشمة)
-
حواس وعجايا
-
فيكتوريا
-
عادلون
-
رحلات الصد ما رد...
-
أذكياء لكن... أغبياء
-
شكراً عم (جيليت)
-
حارث
-
مَثار النقعِ
-
ختيارية زمن الخير
-
دينار... أبو العباس
-
هنا شارع السعدون
-
عناكب
-
شادي
-
طوبة كريكر
-
طابع أبو الدينار
-
مجرد خلخال
-
دقّ الجرس
المزيد.....
-
فوائد العسل لتقوية مناعتك في الشتاء
-
بكتيريا السالمونيلا الضارة تخفي مفتاحا لعلاج سرطان الأمعاء!
...
-
الرغبة في مضغ الثلج قد تكون علامة على هذا المرض
-
الطيران المسيّر للاحتلال يستهدف مجددا الكوادر الطبية لمستشفى
...
-
أفضل نمط حياة لصحة القلب وفحوصات مهمة
-
عاجل | مراسل الجزيرة: إصابات بين الطواقم الطبية في مستشفى كم
...
-
إصابة 3 من الطاقم الطبي لمستشفى كمال عدوان شمال القطاع بطائر
...
-
راقب لعب طفلك وانفعالاته.. علامات وعلاج اضطراب ما بعد الصدفة
...
-
رويترز: المغرب يفرض غرامة على شركة أدوية أميركية عملاقة
-
هل تنازلت إسبانيا عن المجال الجوي للصحراء الغربية لفائدة الم
...
المزيد.....
-
هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في يوم ما؟
/ جواد بشارة
-
المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
-
-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط
...
/ هيثم الفقى
-
بعض الحقائق العلمية الحديثة
/ جواد بشارة
-
هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟
/ مصعب قاسم عزاوي
-
المادة البيضاء والمرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت
...
/ عاهد جمعة الخطيب
-
المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين
/ عاهد جمعة الخطيب
-
دور المايكروبات في المناعة الذاتية
/ عاهد جمعة الخطيب
المزيد.....
|