بشاراه أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 4853 - 2015 / 7 / 1 - 17:43
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في تعليق من أخ كريم بعنوان: (المحور المغلوط لكتاباتك في الحوار المتمدن), جاءتنا ملاحظات منه على مواضيعنا التي آخرها كان بعنوان: "تعليقات 4 (تصحيح مفاهيم), وقد أيده فيها مجموعة من القراء والقارئات الكرام والكريمات,, قال لنا فيها ما يلي:
أولاً, قال المعلق: ((... كل فرد له الحق في الدفاع عن معتقده لان كل فرد يعتقد ان دينه الحق وما سواه باطل ولكن لا يجوز لاي كان ان يستغل شعارات لا تمت لدفاعه لا من قريب ولا من بعيد. فمقالاتك تحت محور ـ العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني هو تظليل واضح لانه لا يمت للعلمانية ولا الى الدين السياسي ولا الى نقد الفكر الديني باي صلة لان ما تكتبه هو واضح وصريح في تثبيت الفكر الديني. فعليه يجب ان تختار محورا آخر لكتاباتك يتفق مع معتقدك ولك الشكر والتقدير لاخلاصاك لدينك ودفاعك المستميت عنه ولو ان ما تكتبه هو مثاليات لا وجود لها على ارض الواقع في بلاد المسلمين وفي دار الاسلام بالذات.
ثانياً قال: الناس لا يهمها المثاليات بل يهمها التطبيق. ان ما يجري في بلداننا الاسلامية بموافقة دهاقنة الدين يدل بلا ريب اننا اسوء امة على وجه الارض ودليل سوءها ان من يحكمونها هم اسوء خلق الله منذ الخلافة الاموية والى وقتنا الحاضر ولا نستثي الا مرحلة بسيطة في عهد الخلفاء الاربعة (مع التحفظ) بتاييد ديني. خد بلاد الحرمين مثالا على ما اقول.
ثالثاً تساءل قالئلاً: لماذا انقسمت الامة الاسلامية على نفسها وكل يكفر صاحبه وهو ما نشاهده الآن من خراب ودمار لاقتتلال المسلمبن مع بعضهم؟...)).
بالطبع, هذا نوع آخر من المتابعة والنقد البناء لما نكتبه, مما يعني أنه يخضع لتمحيص ومتابعة وتقييم القراء والمتابعين بصفة عامة والمخلصين منهم بصفة خاصة - من العديد من المفكرين وأرباب العقول الحرة وغيرهم - من كل النواحي,, وهذا نعتبره ميزة تستحق النظر والإعتبار. وحتى في حالات المواقف السالبة المتحاملة فإنها مع تلك السلبية تتيح لنا - عند إخضاعها للتمحيص والتحليل قبل الرد – مجالاً واسعاً للحوار وفرصة سانحة لتصحيح المفاهيم المغلوطة,, وفي الغالب يردون على أنفسهم وبشهادتهم انهم قوم لا يفقهون.
إن النظرة الضيقة التي نعاني منها جميعاً هي أن ينصب إهتمامنا بطائفة واحدة أو بعض الطوائف من البشر دون الأخرى, فالله تعالى قد خلق هذا الإنسان جاهلاً لا يعرف شيئاً عن الكون حوله, يؤكد ذلك قوله تعالى في سورة النحل: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ «« لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا »» « وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ » - لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 78). ولكنه بعد ذلك قضى أن "يُعَلِّمَهُ البيان", حتى يستطيع "به" مراجعة مفاهيمه وملاحظاته وتجاربه وتجارب الآخري, والظواهر الطبيعية,,,, ويخضعها للبحث والتدقيق والتنقيح والتصحيح والفهم والتفاعل بها ومعها, وفي ذلك تدرج معرفي متراكب ومتصاعد, يرتقيه الشخص السليم المعافى الذي حافظ على "بصيرته" حية متقدة حليمةً سليمة يتبصر بها ويدرك ما لا يستطيع أن يدركه غيره (من غافل موهوم, إلى جاحد مختوم).
إذ أنَّ المطلوب من هذا الإنسان أن يدرك صدق الغيبيات – عبر التدبر والتفكر والتمحيص – ليؤمن بها عن قناعة فلذلك,, ولأن الله ذاته غيب (لا تدركه الأبصار وهو يدركها), ولكن كثير من المدركات في الكون - بكل الحواس المتوفرة لدى هذا الإنسان بما في ذلك الحكمة والفراسة – من سماوات وأرضين وما بينهما تشهد بأن لها صانع مبدع بديع, فإذا كانت الحواس المتاحة عجزت عن إدراك هذه المخلوقات والإحاطة بها علماً - لقصرها وعجزها الفطري على ذلك المستحيل عليها - فكيف يعقل أن يتجاوز الإنسان كل هذه العجز الفطري الطبيعي حتى يبلغ – بمحسوساته وحواسة ومداركه هذه - إدراك هذا الخالق البارئ البديع العلي الكبير؟؟؟ ..... لذا قال الله تعالى في سورة الرحمان: (الرَّحْمنُ 1)، (عَلَّمَ الْقُرْآنَ 2)، (خَلَقَ الْإِنسَانَ 3)، («« عَلَّمَهُ الْبَيَانَ »» 4).
فعادةً ما يوصف الدارسون والباحثون والمفكرون برجاجة العقل وتفتح المدارك "تفرداً وتميزاً" عن من سواهم من العامة والغافلين والجاهلين والمجهلين, وذلك فقط (إن إنحازوا للإخلاص والشفافية والصدق, ونكران الذات, ومغالبة الهوى, ومحاسبة النفس,, وإقامة الوزن بالقسط). أما الجهلاء المتجهلون والأغبياء المختومون, فهم - مع فسادهم المزمن, وإفسادهم الماحق - إلَّا أن ذلك ليس بالضرورة أن يكون هذا العيب فيهم متأصلاً على إطلاقه.
ولكن لعلهم حقيقةً قد عملوا على تعطيل ملكة البيان لديهم فأصيبوا بالعمه ومقتضياته, من بلادة وتدله وغباء, فإستسلموا لذلك ألتبلد والعفوية, وعدم المبالاة بكنه ما يدور حولهم من غرائب وعجائب ومتناقضات, وإكتفوا بالتقليد الأعمى وإستبدلوا الفكر الساطع بالبدع والإبتداع والطِّيَرة والخرافات والإنحرافات وتحكيم الهوى والشهوات,, فسخر منهم أرازلهم من سحرة ودجالين ومشعوذين وإستحوذوا عليهم بكلياتهم وإستنفذوا مقوماتهم الإنسانية والسلوكية والأخلاقية بكاملها,،، فإختلت لديهم الموازين, وجثم الران على قلوبهم التي توسدها إبليس فأحدث فيها.
فالإنسان عموماً هو ذلك المخلوق الذي جعله خالقه "مُفَكِّراً", وربط مجده وتقدمه بالعلم والتعلم والتدبر والتفكر والفرضيات العلمية والتجارب المعملية التي يتوخون فيها إثبات صحة ما فرضوا وظنوا, والتي قد يصيبون فيها أو يخيبون أو أن تأتي المحاولة بإكتشاف آخر لم يكن مقصوداً بذاته,,, ثم التكامل والحوار مع الآخرين بدون عصبية الجهلاء أو تعصب السفهاء المتنطعين المتألهين الذين يريدون إخضاع غيرهم لأهوائهم وتخريفاتهم. فهؤلاء إستحوذ عليهم الشيطان فإستعبدهم ثم سلطهم على أنفسهم قبل أن يغري ويغوي بهم غيرهم.
فإذا كانت كل الأديان قد جاءت من أجل الإنسان "كل الإنسان بصفة عامة" إلَّا من أبى, ولم يأتِ الأنبياء والرسل بهذه الأديان للناس "وهُمْ قابعون في صوامعهم ومعابدهم, وبيعهم, وكنائسهم ومساجدهم" يتعبدون ويتعاونون ويناصحون,,, وإنما جاءوا والناس "غالبيتهم" في فجور وقتال وظلم وتطفيف وبغاء ومثلية وضلال يعمهون, ولكن, رغم ذلك لم يمنع أولئك الأنبياء والرسل من إيصال الحق إليهم حيثما كانوا وأينما ثقفوا,, فصار منهم المقتصد, وكثير منهم ساء ما كانوا يعملون.
فما دام هذا الإنسان قد خلقه الله "حُرَّاً" في إختياره, و "مُفَكِّراً", بطبعه وطبيعته التي فُطر عليها,، فلا بد من أن تكون الخلافات والإختلافات في الرأي والفكر والمعتقد والتوجه والإختيار,,, أمر طبيعي, والتباين في السلوك أمر حتمي. ولكن ما ليس طبيعياً هو تعمدهم "تعطيل ملكة الفكر" وإخماد نوره, بالتمرد والهوى والجنوح للشر, أو تدويره وتخميره بالجهل,,, فَيَضِلُّ الإختيار, ويتصادم السلوك,, فيتحول ذلك "التصادم" الطبيعي – في غياب المنهجية الواضحة والمعايير السليمة – إلى تناحر وتخاصم وتدابر وتعالي وشراسة وبغي وقتال.
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
لم تكن أمامنا خيارات أخرى أو مسالك بديلة,, عندما بدأنا الكتابة عبر موقع "الحوار المتمدن", والسبب بلا أدنى شك موضوعي ومنطقي حيث كانت كل كتاباتنا "ولا زالت" هي عبارة عن ردود "إما على مواضيع منشورة سلفاً بهذا الموقع, (أقل ما يمكن أن توصف به هو انها مجحفة ضالة ومضلة معتدية على الإسلام ديناً ونبياً ومنهجاً وأمة)",، " أو على تعليقات ساخرة مستفذة أراد أصحابها إستغلال عنوان الموقع بصورة سالبة ليبثوا - من خلال محاوره - أكاذيبهم وإفتراءاتهم وإتهاماتهم وشتائمهم وسخرياتهم وتهكمهم بالإسلام وإلهه ونبيه وكتابه والمسلمين,, دون أن يتوقع أي أحد منهم وجود شخص يمكنه أن يناهضهم ويقف في مواجهتهم بتفنيد وتحليل ومناقشة ما يأفكون, وإقامة الحجة على ذلك, وتقديم البينة على أنهم لا يعلمون, ولا يفقهون, بل هم أولاً وأخيراً يأفكون.
ولكننا,, بإلتزامنا بالمبدأ الأساسي المعلن للموقع وهو (الحوار المتمدن), إستطعنا أن نعجزهم "إعجازاً" كاملاً وذلك بأسلوب علمي تحليلي فريد, ناقشنا في إطاره العام كل مغالطاتهم فقومناها وأقمنا الحجة والدليل والبرهان عليها. المعم في ذلك أننا لم نحاولهم كأشخاص وإنما حاورنا وناقشنا أفكارهم وتخرصاتهم لنبين زيفها وكذبها أمام القراء الكرام, وهذه غاية في حد ذاتها ليس من السهل تجاهلها أو تجاهل ضرورتها لأننا إستطعنا أن نجعل ما كتبت أيديهم ووثقت حجةً عليهم.
أردنا من ذلك أن نثبت لهم في عقر دارهم ومن على منبرهم, وللجميع أننا أهل حوار ومرجعية سليمة وأبعاد إستراتيجية راسخة و"دائمة المدى", وأننا نملك ناصية تلك المنهجية الكاملة الشاملة في إدارة الحياة المتمدنة المتحضرة الراقية لأن مصدرها الخَلَّاقُ العَلِيمُ. فالمهم في الأمر أننا نسعى إلى تأكيد أصالة منهجنا وإعتداله وميزانه القسط, وأننا نمتلك ناصية الحق والحقيقة, التي نقتبس منها الشجاعة الأدبية والقدرة الفكرية التي تؤهلنا للتعامل مع الإنسان كما هو, دون أن نتدخل في إختياره ما لم يتدخل هو في إختيار غيره ويحاول فرض سلطانه وسحره عليه والغمط من حريته والتدخل في خصوصيته.
نعم,, بلا شك أنت مُحِقٌّ في أن لكل فرد الحق في أن يدافع عن معتقده, متى ما شعر بأن معتقده هذا يحتاج إلى عون خارجي يسعفه فيدافع عنه ويدعمه ليغطي مثالبه ونواقصه التي تجعله عاجزا عن مواكبة التغيرات الطبيعية التي يفرزها التطور كلما إزدادت ثقافة الإنسان المعرفية,,,,
ولكن!!! معتقدنا نحن الذي هو (في مَنْ لَّا يعتريه نقص ولا عيب ولا عجز,, في من لا يضل ولا ينسى, في علام الغيوب، الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم...) هل يحتاج منا إلى دفاع عنه؟؟؟, وهو الكامل المكتمل والشامل لكل ما يَجِدُّ في الحياة من أغيار هي بمثابة كشف "مقصود" منه لمزيد من الأسرار التي تؤكد للعقلاء قيومية الخالق وإعجازه وقدرته,, في الواقع على الدفاع عنا وحمايتنا وتعليمنا ما جهلناه وتذكيرنا بما نسيناه أو تناسيناه؟؟؟
إذاً,, فأنا لا أحتاج لأن أدافع عن عقيدتي كما تقول, بل ولن أكون مضطراً لذلك.
والأبعد من هذا وذاك,, أنه (إذا ثبت في يوم من الأيام أو لحظة من اللحظات انَّ هذه العقيدة الحقة, قد إحتاجت إلى الدفاع عنها من أي نوع وبأي قدر, كان هذا الإحتياج دليلاً مادياً موثقاً, وإعترافاً صريحاً منها ومن معتنقيها على أنها عقيدة غير سليمة),, وبالتالي تصبح بالية ومتداعية بل ومفتراة على الله, بقدر ومقدار لا تستحق معه أن تُتَّخَذَ "عقيدةً" حقيقية إبتداءاً.
في حقيقة الأمر قد إعتاد الناس أن يبتكروا مسميات غريبة, ما أنزل الله بها من سلطان, هي في الواقع ليست عقائد, أو معتقدات, أو أديان لها أصل أو مرجعية, وإنما هي عبارة عن (تقلبات فكرية متطرفة) مدَّعاة ومفتراة, وغالباً ما تنشأ في ظلام الفراغ الوجداني الذي يعيش فيًه الفرد أو الجماعة التائهة الضالة,, ثم من محدودية الأفق التصوري لديهم, مع غياب المراجعية المعرفية الموثقة إمَّا لجهل مُطْبِقٍ, أو تمرد مُغْلِقٍ.
فالعلمانية مثلاً, والماركسية, والداروينية الإلحادية, والدين/الإسلام السياسي, ونقد الفكر الديني, بالإضافة إلى الرهبانية والصوفية والطائفية,, الخ كل ذلك ليس له علاقة بعقيدة أو معتقد حقيقي له أصول وفروع وكيان ووجود, وإنما هي قناعات ومغالطات وشطحات فكرية مُدَّعَاة,, ليس لها ثوابت جوهرية أو موضوعية قد يبلغها المتبني لها كتعويض لحالة الفراغ النفسي والوجداني بل والفكري الذي يتركه الخواء العقدي لديه. فالمتمسك بمثل هذه القناعات الفكرية غير المبررة يجد فيها شيء من "وهم" التوازن الداخلي الذي ينشده ليقنعه بأنه على صواب حتى إن لم يستطع تبريره أو تقديم برهان على وجوده وصحته.
والوثنيين الذين يعبدون الأصنام والحجارة والأنعام والبشر,,, ليس لديهم أي منطق أو مدلولات أو حقائق علمية تجعلهم يسلكون ذلك المسلك المهين والمبددة لإنسانيتهم واللاغي لعقلانيتهم,, ومع ذلك يصعب - إن لم يستحل - أن يغير أحد فكره المريض الضال, لأنها تعتبر تقلبات فكرية متطرفة مدعاة مبنية على متناقضات ومغالطات وإفتراضات غوية كامنة في مدركات الشخص.
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
فأنظر إلى منهجية الحوار, وحتمية الإقناع والإقتناع الموثقة في القرآن الكريم, الذي يصر إصراراً لا هوادة فيه على إلإلتزام بمبدئها كاملاً, سليماً, واضحاً معافى,, نذكر فيما يلي بعضاً من نماذجها القائمة في الأساس على توجيه الله تعالى لكل أنبيائه ورسوله بعدم الزيغ عنها قيد أنملة,, فعلى سبيل المثال لا الحصر:
نجد أن الله تعالى أمر نبيه ورسوله موسى بن عمران وأخيه هارون - عليهما السلام - بأن يسلكا مع فرعون الطاغية الجبار المتألِّه إسلوب الحوار رغم أن الأمل في هدايته – في علم الله السابق والقديم – يعتبر بعيد المنال ولكن سبحانه وتعالى أراد أن يرسخ مبدأ إقامة الحجة على المتمرد والمعاند فقال لهما في سورة طه,: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى 43).
لاحظ أنه لم يطلب منهما أن يحارباه أو يقاتلآه أو يلزماه قهراً وقسراً أن يرجع عن كفره وبغيه,, بل ألزمهما الله مبدأ الحوار معه "إقناعاً وإقتناعاً", فقال لهما بمنتهى الصراحة والوضوح: (فَقُولَا لَهُ «« قَوْلًا لَّيِّنًا »» لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى 44), رغم أن مجرد الحوار مع هذا الجبار الطاغية المتأله يمثل قمة الخطر على هذين النبيين الأعزلين وهما بذاتيهما لا نصير معهما ولا معين من موارد مادية ولا بشرية, ولكن هذا حق فرعون عليهم الذي كفله له الله تعالى ليأخذ فرصته كاملةً في التفكُّر والتدبُّر ثم الإختيار الحر, ويظهر ذلك جلياً في قول موسى وهارون لربهما - "تعقيباً على تكليفه لهما بهذه المهمة الصعبة الخطرة عليهم بكل المقاييس - إن لم تكن مستحيلة" - على البشر, قال الله عنهما إنهما: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى 45).
ولكن,, مع ذلك الخوف والهلع الذي أبديانه صراحةً,, لم يسقط ربهما عنهما هذا الجانب الخطر الحساس من المهمة وهو "الحوار المباشر معه وتخييره", وإكتفى الله تعالى فقط بأن طمأنهما بأنه سيتولى حمايتهما دون المساس بحتمية إجراء الحوار المباشر معه وإحترام حق الخيار الذي هداه الله للإنسان, حتى إن كان المحاور من ألد أعدائه وأكثرهم له عصياً,, لأن مبدأ الحوار والإقناع والإقتناع لا بديل له عنده سبحانه, لذا خاطبهما: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى 46).
وكذلك جاء في سورة الأعراف, عدد من الحوارات المفتوحة المباشرة التي أجرتها أنبياء الله ورسله تأكيداً لمبدأ الإقناع والإقتناع والإختيار الحر, الذي تؤكده الصور الحضارية الراقية التي كفلها الله لعبيده البشر وألزم بها رسله وأنبيائه, منها:
1. قوله تعالى عن نوح عليه السلام أول الرسل: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ «« يَا قَوْمِ »» اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰ-;-هٍ غَيْرُهُ «« إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ »» 59), فكان رد قومه عليه قاسياً مباشراً فجَّاً: (قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ 60), ومع ذلك لم ينفعل رسول الله نوح أو يسخط عليهم أو يرد عليهم بغلظة تتناسب مع جلآفتهم وصلفهم, وإنما إتَّبع أمر ربه له بإلتزام الحوار "صـــــــابراً" على أذاهم وإستخفافهم به وتهديدهم له, فإستحق بذلك أن يكون "أول أُوْلِي العَزْمِ من الرسل" إذ كان رده في غاية الأدب والرِّقَّةِ والثبات والإتزان: (قَالَ «« يَا قَوْمِ »» لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ «« وَلَكِنِّي »» رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ 61).
ليس لي أي غاية خاصة, أو أجندة شخصية وإنما مهمتي هي أن: (« أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي » «« وَأَنصَحُ لَكُمْ »» - وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ 62), ثم قال لهم: (أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ « لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا » - وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ؟؟؟ 63).
ولكن رغم كل هذه المرونة والوضوح والتبرير والخوف عليهم, لم يجد منهم سوى الصدود والإعراض والغلظة,, بل والتهديد المباشر له ولمن تبعه من المؤمنين,،، صور الله هذا الموقف النموذجي الراقي من الحوار من جانب من إصطفاه رسولاً من عنده,, قال: (فَكَذَّبُوهُ « فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ » وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا - «« إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ »» 64). فما بكت عليهم السماء ولا الأرض.
2. كما حكى الله تعالى عن نبيه هود "عليه السلام",, مبيناً كيف كان حواره الراقي النموذجي مع قومه على نفس النسق وإلتزمه بما إلتزم به سلفه نوح عليهما السلام – قال تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ «« أَفَلَا تَتَّقُونَ ؟؟؟»» 65), برِقَّةِ التعبير وسمة التخيير الصريح الواضح, الذي ليس فيه تشنج ولا تقريع ولا فوقية ولا إلزام,, ولكن أنظر جيداً إلى رد المخاطبين ومقابلتهم لهذا الأسلوب الراقي بالصلف والجحود "وهذا ديدنهم دائماً إلى يومنا هذا وغدٍ,, وأنظر إلى ردهم العاجز الذي لا يحترم مبدأ الحوار ولا يعرفه: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ « إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ » « وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ » 66), ولكن رغم هذه الغلظة والصلف, لم يخرج نبي الله من حلمه وصبره وإلتزامه بمنهجه الرباني ,،،، رد عليهم بكل أدب وثقة وثبات: (قَالَ « يَا قَوْمِ » - لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ « وَلَكِنِّي » رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ 67), مهمتي منحصرة فقط في أن: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي «« وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ »» 68), ثم قال لهم – رداً على إستخفافهم به وتقليلهم لشأنه - : (أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ «« لِيُنذِرَكُمْ؟ »» وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً « فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » 69),,, ولكن لا حياة لمن تنادي, وهذا تماماً هو موقف الكثيرين الذين يعاصروننا الآن وغداً وإلى اليوم الموعو.
وبالرغم من هذا الحوار الذي يقطر رقةً وحناناً وصدقاً من طرف هود حرصاً وخوفاً على قومه من عاقبة الأمم الهالكة قبلهم,, جاء ردهم العاجز الذي ينزف قيحاً ويقطر غسليناً من طرف قومه الغلاظ العُتُلَّة: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا « فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ » 70), إلى هنا قد أدى نبي الله هود دوره الذي كلف به كاملاً, فلم يبق بد من الحوار معهم, ولكن بقي رد السماء على هذا الكفر غير المبرر بجانب البغي والإعتداء على الغير, وجاء الحسم من الله تعالى على لسان هود الذي أعلن عليهم إنتهاء مهمته معهم إلى ذلك الحد وصار أمرهم عند ربهم مباشرةً: (قَالَ «« قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ »» أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ 71). عندئذ قال الله تعالى, مبيناً كيف كان حسمه للحالة الحرجة المهلكة التي أوصلوا أنفسهم إليها, قال: (فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ « بِرَحْمَةٍ مِّنَّا » وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ 72).
3. وحكى الله عن نبيه صالح نموذجاً مضيئاً آخر من نماذج ضرورة الحوار الراقي الهادف بين البشر ومعهم للإقناع والإقتناع الموصل للإختيار الحر المسئول, وكيفية حواره النموذجي مع قومه العصاة الغلاظ, ملتزماً نفس منهجية سلفيه نوح وهود عليهم السلام, قال تعالى في ذلك: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا «« قَالَ يَا قَوْمِ »» اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ « هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً » فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 73).
لا تهديد من جانبه ولا وعيد, ولا تشنج أو تعصب, فقد عرض عليهم الأمر عرضاً وبين لهم العاقبة, ثم ذكرهم بأنهم خلفوا قوم هود الذين فعلوا مثل فعلتهم هذه فعاقبهم الله تعالى عقاباً شديداً, قال لهم: (وَاذْكُرُوا « إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ » « وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا » « فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ » « وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ » 74), حوار هاديء, رصين غايته إصلاح حالهم وذات بينهم لرفع الظلم والضيم والعنت وبأس بعضهم عن بعض،،, مُقَّدمٌ فيه أدلة وبراهين وشواهد تكفي لإعمال الفكر بعد جِنَّةٍ حيَّدته ثم خدرته أو غيبيته.
ولكن الكفر ملة واحدة, والجهل دائماً يدلل عليه الكبر والصلف: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ « لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ » - « أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ؟؟؟ » قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ 75), (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا « إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ » 76).
لم يكتفوا بالقول والتكذيب والإعراض – في حدود إختيارهم الحر – ولكنهم تجاوزوه, وجنحوا لفعل الشر والبغي والإعتداء المباشر على آيات الله "تحدياً", فخرجوا من دائرة إختيارهم إلى ساحة البغي والعدوان المادِّي المباشر وإختاروا المواجهة والتحدي, فتولى الله أمرهم بذاته, قال تعالى في ذلك: (« فَعَقَرُوا النَّاقَةَ » « وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ » « وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ » 77).
إلى هذا الحد قد إنتهى دور الرسول بإغلاقهم باب الحوار ودخولهم في مواجهة مباشرة مع ربهم ورب الناقة التي إعتدوا عليها, فصدر حكم الله عليهم, قال: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ 78), أما بالنسبة لرسوله صالح, الذي قد إنتهت مهمته, ولم يعد له دور معهم بعد ذلك,,, قال الله عنه: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ 79). وإنتهى أمرهم بهلاكهم كأن لم يغنوا فيها من قبل وذهبت ريحهم وبقي لهم يومهم الذي يوعدون.
4. كما حكى الله عن نبيه لوطاً, وكيفية حواره الراقي مع قومه العصاة الغلاظ الشواذ المثليين القذرين المنتنين, ملتزماً معهم نفس منهجية أسلافه نوح وهود وصالح عليهم السلام, قال تعالى فيه: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ «« أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ !!!»» - مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ 80), (« إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ » - بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ 81), ورغم أنهم أقذر من أن يُحَاوَرُوا بهذا القدر من الإنسانية وإلتزام حرية الإختيار حتى من هؤلاء السفلة المنحطين المرضى المخنثين, ومع ذلك أنظر إلى ردهم الأجوف الأرعن المقرف, كما صوره الله تعالى في قوله: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا « أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ » 82).
فأهل القذارة يرون الطهارة والتطهر عيباً يجب مقاومته وإستئصاله ليستمروا في إسرافهم ونتنهم, وكان هذا الرد كافياً لإغلاق باب الحوار معهم, وبالتالي لن يكون للرسول دور يقوم به سوى ترك الأمر لربه الذي سيتولاه بعدله وقسطه, فقال تعالى بعد ذلك عن لوط عليه السلام: (فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ « إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ » 83), ثم بين الله نوعية وكيفية العقاب الذي إستحقوه فقضاه عليهم بأمره, قال: (« وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا » - فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ 84), فجعل الأرض عاليها سافلها, وأمطر عليهم حجارة من سجيل.
5. أيضاً حكى الله عن نبيه شعيباً في مدين, وكيفية حواره الراقي النموذجي المثالي مع أولئك القوم العصاة الغلاظ المطففين في الكيل والميزان, والمشتهرين ببخس الناس أشياءهم,,,, ملتزماً نفس منهجية أسلافه نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام جميعاً, فيكفيه "رقة ورحمة" أن خاطب هؤلاء المجرمين بقوله لهم «« يَا قَوْمِ »», ولم يزد على أن نصحهم بأن يعبدوا الله ربهم, ثم يقيموا الميزان بينهم بالقسط, ولا يبخسوا الناس أشياءهم, ولا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.
وكما هو واضح أنَّ كل نصيحته كانت لصالحهم وإصلاحهم ورفع بأس بعضهم عن بعض, قال تعالى مبيناً ذلك الحوار الراقي: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ «« يَا قَوْمِ »» - اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ - قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ «« فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ »» « وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ » « وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا » - « ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ » إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 85).
ثم نصحهم بأن يتركوا الناس لإختياراتهم الحرة المكفولة لهم من ربهم, فما دام أنهم قد إختاروا لأنفسهم الكفر والفسوق والعصيان بحرية,, فلماذا لا يتركون الذين إختاروا الإيمان والصلاح لإختيارهم بحريتهم أيضاً؟؟؟ ولماذا يقعدوا لهم بكل صراط يوعدون ويصدونهم عن سبيل الله الذي إختاروه لأنفسهم وبقناعاتهم وبكامل حرياتهم؟؟؟ فهل هناك أي مبرر أو تفسير لهذه التجاوزات سوى أنهم "يبغونها عوجاً", حتى لا يذكركم حال المؤمنين المضيء بالوهدة المظلمة التي أدخلوا أنفسهم فيها؟؟؟ لذا قال لهم نبي الله شعيباً ناصحاً محذراً: (وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ « تُوعِدُونَ » - وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ - «« وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا »» وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 86).
وقال لهم, ما دام أن كل طائفة إختارت لنفسها توجهها بحرية تامة, فلماذا تعترضون سبيل المؤمنين وتتدخلوا في إختيارهم؟؟؟ علماً بأنهم هم لم يتدخلوا في إختياركم ويجبروكم على الإيمان.... أليس الواجب والمنطق والعدل يقتضي بأن كل طائفة تبقى على إختيارها لنفسها وتلتزم خيارها ثم تترك الحكم بين الطائفتين لله الذي سيفصل بينهما بالقسط؟؟؟, قال شعيبُ لقومه: (وَإِن كَانَ « طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ » « وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا » - فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ 87), فماذا كان رد المُحاوَرين بهذه الدرجة من الرقة والرقي والمنطق والعدل؟ وماذا جرحوا وتجنوا بعد ذلك؟؟؟: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ «« لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا »» - قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ؟؟؟ 88).
فأنظر كيف كان رد نبي الله شعيباً, "بالطبيع يستحيل أن نعود في ملتكم بعد أن أنجانا الله منها, وقد فصَّل ذلك في نقاط بينها الله تعالى, قال فيها موضحاً لهم إستحالة العودة إلى ملتهم: (« قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا» « وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا » - وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا - « عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا » « رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ » وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ 89).... فكيف كان فتح الله تعالى بين شعيب أتباعه, وبين قومه المكذبين المعانديك؟؟؟
ولكن هذا القدر من الرقي والمسئولية الذين لا يعرفهما أصحاب التقلبات الفكرية المنحرفة, ولا حتى عُبَّاد الهوى والشيطان, لذا كان ردهم "كالعادة" عاجزاً, فهم لا يكتفون بإختيارهم الكفر والفساد لأنفسهم, ومعاندة الرسل, بل يقومون بكل عمل يمكن أن يسبب مضايقات أو أذى عليهم وعلى أتباعهم, وملاحقتهم حتى تتدخل السماء لحمايتهم وحسم أمر المعتدين, قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ «« لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ »» 90), وهذا تهديد مباشر لأتباع شعيب إن إتبعوا شعيباً ولم يعودوا في ملتهم مرة أخرى,,, فتولى الله أمرهم بعد ذلك الإعراض والفجور,, فحسمه, حيث بيَّن ذلك الحسم بقوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ 91), فأصبحت النتيجة وبال عليهم, قال تعالى: (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا «« الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ »» 92).
أما نبي الله شعيباً فقد إنتهت مهمته عند هذا الحد من الحوار الذي أغلقه قومه بتعنتهم وسفههم, وقد رأي عاقبة المكذبين من قومه بعينه, قال تعالى: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ 93)؟؟؟. وهكذا كانت ولا تزال مسيرة كتب الله ورسله وأنبيائه فيما يتعلق بالحوار الذي يعتبر المحور الأساسي في التعامل بين البشر بغض النظر عن إيمانهم أو كفرهم, ويكفي تأكيداً على ذلك أن الله تعالى – مع قدرته على قهر عباده "قهراً",, إلَّا أنه تعامل معهم بالحوار والإقناع والإقتناع, وكفل لهم الخيار الحر بل وجَرَّمَ من يغمطه على أحد.
فإذا نظرت بتعمق أكبر إلى مقالاتنا وقارنتها مع ما بهذا الموقع من مقالات ومواضيع تقطر شبهات مغرضة ظالمة حول الإسلام ونبي الإسلام والمسلمين, ثم تذكرت أن هذا الموقع يرتاده أناس كُثُرٌ, بشتى صنوفهم ومشاربهم ومعتقداتهم وأفكارهم التي قد تتأثر سلباً وإيجاباً بالأفكار "الحية" والمواضيع الساخنة الحساسة التي نتصدى لها بثقة وثبات وقناعة, ونكشف زيفها وإفكها ونقيم الحجة والدليل ثم البرهان على ذلك الإفك والزيف والخداع,,, لأدركت على الفور أن هذه الكتابة وبهذا الموقع "بالذات" وأمثاله ضرورية وهادفة ومؤثرة في الفكر الإنساني بصفة عامة وفي الفكر السويِّ المعتدل,, الذي يبحث عن الحق والصدق والحقيقة بصفة خاصة.
ولأدركت بأن هذا النوع من الكتابة ليس مُضَلِّلاً كما تقول وإنما مُحرِّكاً للفكر ومُفعِّلاً لملكات العقل لدى الأصحاء من البشر الذين يحتاجون إلى الشق المعرفي الغائب عنهم لعل الصورة تكتمل لديهم فيحسن لديهم الإختيار بقدر أكبر وأوثق, وهذا قد يعينهم على تصحيح أو تثبيت مسارهم وسلوكهم وأدائهم, وغالباً ما ينقذهم من هيمنة التقلبات الفكرية المتطرفة والتيارات المعاصرة. فأين الضلال في ذلك, أخي بن محمد؟؟؟
قد يظن كثيرون معك بأن إختيار محور آخر "عنوانه" أكثر إتساقاً وتساوقاً مع مقالاتنا بدلاً من محور يتضمن "العلمانية والماركسية", وغيرها ولكن هذه نظرة نراها ضيقة وينقصها البعد الإنساني خاصة إذا كان عنوان الموقع الأساسي هو (الحوار المتمدن) فنحن نعتبر هذا الأكثر شمولية ومناسبة وإتساق من التيارات الأخرى ذات الأفكار التي أشرنا إليها, لأن حواراتنا كلها "حوارات متمدنة تنشد الحق والحقيقة ولا شي غيرها" لكل البشر دون إستثناء,, وفي هذا تأكيد للقاصي والداني بأن "القرآن" هو صاحب القدح المعلى في "الحوار الراقي القسط" وليس غيره. لأنه يستمع جيداً للمتحدث قبل أن يرد عليه بالقول الفصل الذي لا يترك خلفه سوى "متمرد مكابر أو مختوم" غابر.
صدقت,, فإن كل ما نكتبه – ما دام أنه يتضمن القرآن الكريم – لا بد من أن يكون عين "المثاليات" وذروة سنامها وكبد حوتها. إذ أن هذه المثالثات - في الواقع - ليست "خرافات" أو "شطحات", أو "تخيلات وأوهام" ,,, وإنما هي غاية كل الأصحاء من البشر دون إستثناء, بل هي واقع مغموط في الدنيا والحياة العملية بقدره كافٍ ومؤثر, ولكنها مطلوبة من الجميع رغم أن الغالبية العظمى من البشر قد ضلت الطريق إليها وتاهت في بحور التقلبات الفكرية المتطرفة والأفكار, وغبش التيارات المعاصرة المبتدعة وظلامها. ومع ذلك لا يمكن وصفها بالإنقراض, أو القول بأنها غير موجودة على الأرض - وإن عزَّتْ وتشوهت في بعض الأحيان, وتشظَّت في بعضها الآخر.
فكيف يمكن لقاريء القرآن الكريم ومطلع على سنة رسوله الخاتم وأسوته أن يظن بأن هناك عمل يمكن أن يقبله الله خارج إطار هذه المثاليات التي تقول عنها؟؟؟ فالمثاليات هذه هي البنية التحتية التي تلزم لصياغة وبناء العمل الصالح الذي يقبله رب المثاليات, حتى تصبح الحياة الدنيا في حدها الأمثل, حتى يتمكن العبد من قيامه بواجبه بحرية وأمن وسلام وإختيار ومسئولية دون أن يعكر صفاءه أحد أو شيء.
أما تعليقكم على إختيارنا المحور الذي تعتقد بأننا قد أخفقنا في إختياره لكتاباتنا, وإعتقادكم بأن هناك محاور أخرى كثيرة يمكن الإنطلاق منها لأنها "في رأيكم" ورأي الكثيرين غيركم انها الأنسب لمعتقدنا, فهذا رأي مقبول لدينا ولكثيرين غيرنا فقط في التعميم, بل لقد جاءنا في بعض التعليقات المخلصة من أخ كريم مثلكم رأياً مشابهاً لرأيكم,, وهذا بلا شك رأي صائب إذا ما أخذناه في إطار محدود,, ولكن لو تمعنا في المعتقد الذي نقف خلفه ونستنير به, ومدى قدرته على الخوض في الصعاب نفسها بثبات وشموخ لأنه الحق المبين, الذي جاء من الحق الرحمان الرحيم, لأدركت معنا أننا بهذا التميز والتفرد نستطيع أن ننطلق من أي محور وفي أي موقف, ونحاور كل عاقل ينشد الحق والعدل والحقيقة ونجاهد كل أفاك أثيم عبر الحوار وبه,, وتقديم الأدلة والبراهين التي تدعم موقفنا,,
وما دام أننا نستطيع أن نؤثر في من حولنا, بتقديمنا للناس قيماً أخلاقية وعقدية وإنسانية متميزة "مثالية" حقيقية قابلة للتحقيق في كل زمان ومكان بغض النظر عن محور الإنطلاق ومنبر الحوار وموقع أو ساحة اللقاء, ما دام أن المستهدف هو عقل الإنسان الحي الحر, وما دمنا لا نخشى من الحوار ولا نقبل به بديلاً مهما علا وغلا وسما ثمنه. فإختيار الموقع لا يعتبر هاما أو على الأقل لا يعتبر الأهم إذا ما حافظنا على ورح ومباديء ومعايير معتقدنا الذي محوره الأساسي هو الأخلاق, وأدواته (الشفافية, والأمانة, والثقة في المعتقد والصدق في التوجه, وقبول الآخر على علاته ومستوى تفكيره وإستعداده...).
أما تفضلك بشكرنا وتقدير إخلاصنا "كما تقول" على محاولاتنا المتواضعة للغاية لتفنيد الشبهات المغرضة وإبطالها بكشف زيفها وضحالة فكر أصحابها, فهذا شعور طيب منك, شكرك الله عليه وجزاك به خيراً,, ولكن يا أخي الفاضل,, لو كنا مخلصين حقاً,, وبالقدر المطلوب منا "في عصر الفتن التي نعيشها اليوم" جنباً إلى جنب مع أهل الفتن ومروجيها, ومستميتين في الحفاظ على تفرد ديننا كما تفضلت، وتحملنا المسئولية الملقاة على عواتقنا "كورثة للأنبياء والرسل" وقدَّرْنَا أنَّ معنا كتاب الله المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وفعَّلناه وإستخرجنا للناس كنوزه وثماره,,,, لما سكتنا على هذه الشبهات حتى صارت فتناً وضلالات عصفت بالكثيرين من شبابنا وشاباتنا وشيوخنا, خاصة وأن كل هذه الشبه هي لا تربوا عن عاصفة في فنجان, يكفي أن تعرض على كتاب الله فتصير في التو واللحظة هشيماً تذروه الرياح إن لم تكن سراباً بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
على أية حال نحن لا نفعل بأكثر من عرض الإفتراءات والأكاذيب على القرآن فيتولى هو الباقي فيُظهر الحق عالياً خفاقاً منيراً وسرعان ما ينذوي الباطل فيذهب جفاءاً كزبد السيل الذي لا نفع فيه.
إن َّنفي وجود المثاليات - التي قلت عنها - من على ارض الواقع في بلاد المسلمين وفي دار الاسلام بالذات, فهذه نراها مبالغة لا تمثل الواقع الفعلي, رغم أنها متوقعة من المتابعين الواعين,, فإما أن يفرزها الحرص الشديد والقلق على الأمة, أو يفرزها القنوط واليأس والإستسلام منهم أو من غيرهم. فلا يزال في أمة محمد الخير الكثير رغم أنه غير كاف لمجابهة التحديات التي يواجهها البشر والورطة التي أدخل الناس فيها أنفسهم بأنفسهم.
وقولكم بأن الناس لا تهمها المثاليات بل يهمها التطبيق, هذه حقيقة ولكن, لو تذكرنا بأن غثاء السيل بين المسلمين يتزايد تجمعه وتكاثره على السطح بل ويكاد يخفي تحته ما ينفع الناس من ماء عذب تحتضنه الأرض, ولا ننسى أن آخر ذرة من خير وإيمان ستكون في أمة محمد, وأنت تعرف أن هذا ليس إدعاءاً وإنما بشارةً,, بلا شك أن التطبيق الفعلي هو المطلوب, ولكن,,,:
1. هل يمكن تصور وجود تطبيق في غياب توجيه سابق له؟
2. وهل يكون للتوجيه معنى إن لم يسبقه تنظيم يحدد المطلوب بكامله لمرحلة التطبيق؟؟
3. وهل هناك تنظيم يعتد به إن لم يفرزه تخطيط مدروس له عمق إستراتيجي وبعد تكتيكي, مبني على إستراتيجية واضحة مرنة تربط التخطيط بكل أبعاده بالتطبيق المنشود؟؟؟
4. وهل هناك ضمان لنجاح أي تطبيق إن لم يكن في إطار رقابة فعالة ؟؟؟
أليست كل هذه المطلوبات هي في حقيقتها "مثاليات", ومطبقة في الحياة العامة, وتثبت ضرورتها وأهميتها عملياً في كل لحظة من حياتنا؟؟؟
وأخيراً,, وفي ضوء ما ذكرناه,, هل تعتبر "المثاليات" هي المسئولة عن الإخفاق في التطبيق, أم أن الناس هم الذين إنشغلوا بالفتن والخزعبلات والتخاريف والدروشة والإزدواجية في المعايير, ثم اللهث وراء المطامع والمطامح السياسية التي وظف الكثيرون - من غثاء السيل - الدين لبلوغ تلك المطامح التي يتبرأ منها الدين ويلعن أصحابها؟
ان ما يجري في بلداننا الاسلامية هو التوهان عن معايير معتقدنا الذي ندَّعيه ونحن أبعد الناس عنه بقبولنا بالأمر الواقع, وعدم جديتنا في "جهاد ومجاهدة" الباطل بتبصرة الناس بما يحدق بهم من أخطار وذلك بكلمة الحق في وجه السلطان الجائر, دون عصبية وتعصب ورعونة وإستعجال النتائج بحرق المراحل.
وليس بموافقة أو مخالفة من أطلقت عليهم لقب "دهاقنة الدين", أو غيرهم, إذ أنَّ الدين الإسلامي الحنيف ليس له دهاقنة دين, ولا رجال دين, ولا أوصياء عليه ولا نواب عنه, ولا موهومين بالعصمة,,, كل هذه ألقاب زائفة,,, فالدين ليس بالمخالفة ولا بالموافقة, إلَّا إذا تحكمت فيه الأهواء والمصالح عندها ستنسلخ عنه عباءة الدين وتحل محلها خرق وأثمال البدع والزيغ والنفاق والضلال والدروشة والشطحات،،,, فإن قبلنا وإستسلمنا لأصحاب هذه الألقاب المبتدعة التي لا تمت للدين بصلة, حينئذ فقط نصبح في أسفل سافلين لأن هذه المثالب والنواقص لا تظهر في أمة إلَّا وتفشى فيها النفاق الذي يميت البصيرة بذهاب الإيمان عن القلوب,,, فماذا تنتظر من أمة جعلت بأسها بينها شديد, ونسيت يوم الوعيد.
الدين الإسلامي لا يتغير أبداً, فهو نفسه الذي أفرز جيل الصحابة (خير أمة أخرجت للناس), مع أنهم قبل عهد قريب من تحولهم هذا كانوا أميين مشركين "بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى", فأخبتت قلوبهم بالقرآن الكريم وسنة وأسوة رسول الله الخاتم الأمين, "منارة الأخلاق" ورمز القيادة الراشدة الرشيدة, وأبو الرحمة والرأفة والتواضع, وحامل مشعل "الميزان القسط" تماماً كما وضعه الله للأنام ,,, فسرى كل هذا النور في تلك القلوب التي ضلت وهفت في ماضيها للوثن ورفعت أكفها للصنم وقدمت قرابينها للإفك والطاغوت.
فهؤلاء النجوم الشوامخ قد تبعهم وسلك مسلكهم كثير من التابعين وتابعي التابعين لهم, من الذين تمسكوا بمنهجهم وأقتفوا أثرهم فجعلوا القرآن مرجعهم وحكمهم, بحب وإخلاص وتأسي,,, بعيدين كل البعد عن المبتدعين في الدين والبدع التي تحرق الإيمان كما تحرق النار الهشيم. فهذا النموذج موجود الآن ولكنه شاحب باهت عاجز عن تفعيل القرآن وإقامة الوزن بالقسط بين الناس كما أمرهم ربهم وجعله قرآناً يتلى ليكون شاهداً عليهم يوم يلقونه, وذلك بسبب تفرقهم وتشظيهم وذوبانهم في مذاهب وطوائف وشيع وجماعات,,, فكيف تتوقع أن يغير الله ما بقوم لم يغيروا هم ما بأنفسهم, خاصة وأن لديهم كل أدوات التغيير التي غيرت الأميين المشركين المتخلفين إلى خير أمة أخرجت للناس؟.
أليس الواجب على كل فرد منا وجماعة أن نرجع إلى مرجعية هؤلاء الشوامخ ونعمل مثلهم خاصة وأن المنهج الذي إنتهجوه محفوظ بحفظ الله له "كتاباً وسنةً إرتضاها الله تعالى للناس" قال تعالى مؤكذا ذلك ومقيم الحجة علينا جميعاً (اليوم أكملت لكم دينكم), فما دام ذلك كذلك,, فلن يصل إلى هذا المنهج الرباني "المحفوظ بحفظ الله له" أي طارئ تغيير أو تبديل أو تحريف. فهو موجود الآن بين أيدينا تماماً كما أنزله الله تعالى رحمةً للعالمين "وحياً يوحى" على أكمل خلق الله, وسيد ولد آدم قاطبة وإمام أنبيائه ورسله وخاتمهم الذي هو آخر ذرية آل إبراهيم الخليل أبو الأنبياء. إذاً,, وقد ترك لنا منارة سنته وهديه في كل مناحي الحياة لتي فصلها القرآن الكريم,, وبالتالي ,,,, (لم يترك الله لأحد منا حجة بعد ذلك,, فمن تركه من جبار قصمه الله ومن طلب الهدى في غيره أضله الله).
فدعنا من الدهاقنة والمبتدعين والطائفيين والمتنطعين والمدروشين والمتزندقين,, فالحل يكمن فينا لأن العيب كذلك يكمن فينا, فقد أصابنا الوهن وسلمنا قيادنا لأعدائنا (هوى النفس والشيطان), وقد حذرنا الله تعالى ورسوله منهما في المقام الأول فلم نفقه ما قاله لنا شأننا في ذلك شأن الأمم السابقة.
فكل فرد إما ينتمي لحزب الله (قرآني محمَّدَي), ليس إدعاءاً وهويةً ونسب, وإنما عمل وسلوك وتفعيل لمنهج الله الذي إرتضاه للفرد, وذلك بقدر يكفي لأن يحسبه الله عنده (مؤمناً), أما ما دون ذلك فهو "بلا أدنى شك" من حزب الشيطان, (كافر كان,,, أومنافق), قال تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألَّا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين؟), فإذا قسنا أعمال المؤمنين في كل زمان ومكان بالتاريخ السياسي وسلوك الحكام في السابق والحاضر, نكون قد ظلمنا الكثيرين منهم الذين ضحوا بحياتهم من أجل الثبات على كلمة الحق, ولا يزال هذا النوع من المؤمنين موجودون بيننا ولكن لا يعلمهم إلَّا الله تعالى لأنهم ليسوا طلاب مقابلات تلفزيونية وندوات وسمنارات ومؤتمرات تعقد – في معظمها- وتنفض مخلفة وراءها مزيد من الخلافات والإنشقاقات والملاسنات علماً بأنه "يفتتح اللقاء" ثم "يختتم" بآيات من الذكر الحكيم, التي في الواقع لا تتجاوز الحناجر ليبلغ شحمة الأذن.
فالذين يحكموننا هم "منا", ولو كنا نستحق أفضل منهم "لتولى الله ذلك عنا" فصرفهم وأبدلنا بهم من هم خير لنا ولديننا. فالله تعالى يقول: (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
فالإنقسامات ليست من الدين في شيء, إذ الذي يسعى للإنقسام أو يرتضيه يكون إيمانه في خطر وقد تدخله في طوائف النفاق ولتأكيد ذلك دعونا نستمع إلى تصوير أبشع إنقسام حدث في عهد النبي, وماذا حكى الله تعالى عنه وعن أصحابه في سورة التوبة, مفنداً سلوكهم وحالهم ومآلهم, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا « الَّذِينَ آمَنُوا » مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ « اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ !» - « أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ؟؟؟» فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ 38), فهل يعقل أن يكون هؤلاء قد آمنوا إيماناً حقيقياً رغم قولهم (لا إله إلَّا الله, محمد رسول الله) أمام النبي نفسه؟, أم هم إدعوا الإيمان "بالقول" الذي لم يتجاوز حناجرهم, ولكن سلوكهم غير ذلك تماماً؟؟؟
ومن ثم,, قال تعالى لهم محذراً: (إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 39), هو في غنى عن نصركم لرسوله, وقد نصره من قبل بدونكم فهو قادر على نصره مرات ومرات, قال لهم: (إِلَّا تَنصُرُوهُ - « فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا » ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا «« فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ »» « وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا » « وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا » وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 40), فإن كنتم مؤمنين حقاً وصدقناً, أثبتوا ذلك عمليا: (« انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا » « وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ » - ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 41).
حقيقتكم أنكم تحكمون أهواءكم وتُغلِّبُون مصالحكم, وليس المحرك لكم هو الإيمان الذي تدعونه بأفواهكم. وقال لنبيه في الواقع هؤلاء يتحركون حسب مصلحتهم, لذا: (لَوْ كَانَ « عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًالَّاتَّبَعُوكَ » - وَلَكِن «« بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ »» وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ « لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ » - يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ - «« وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ »» 42), لذا,, فالله تعالى كره منهم روح النفاق هذه, وكان رسول الله حريصاً على إنقاذهم من الخطر الذي أوقعوا أنفسهم فيه, فأذن لهم بالخروج معه لعل الله يقبله منهم, ولكن الله قد كره خروجهم بل وعتب على رسوله بقوله له: (عَفَا اللَّهُ عَنكَ - «« لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ؟؟؟»» حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ 43).
ثم بين لرسوله الكريم انه كان يكفيه عِلَّةً فيهم تمنعه من أن يأذن لهم, أنهم إستأذنوه في الخروج ولم يسعوا إليه من تلقاء أنفسهم وبحماسة المؤمن وإقباله على الطاعة, وعليه قال له: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ « الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ » - أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ - وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ 44), لأنهم يتنافسون في الطاعة الكاملة,, (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ - « الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ » « وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ » - فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ 45), ثم برهن له سبب إستئذانهم بأنهم لم يكونوا يريدون الخروج إبتداءاً, لأنهم لو كانوا كذلك لأعدوا العدة للخروج كغيرهم من المؤمنين, ولكنهم لم يفعلوا ذلك فكشف الله سترهم لنبيه الكريم,,, فقال له: ( وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ - « لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً » - وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ «« فَثَبَّطَهُمْ »» وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ 46).
العلة الثانية التي لم يكن يعلمها النبي "ببشريته", فأعلمه الله تعالى بها وحياً, هي أن عدم خروجهم معه كان بسبب " انبِعَاثَهُمْ" الذي كرهه الله لذا " ثَبَّطَهُمْ ", ليكونوا مع القاعدين,, لأن خروجهم سيكون أثره سالباً على المؤمنين, فقال له: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُم - «« مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا »» « وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ » - وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ «« وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ »» 47), ثم ذكره بما فعلوه من قبل سعياً وراء الفتنة بتقليب الأمور لرسول الله, ولكن الله سلم,, قال لرسوله: (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ - « وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ » - وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ « وَهُمْ كَارِهُونَ » 48). هكذا كان جيل أصحاب رسول الله الذي قال الله تعالى لهم: (كنتم خير أمة أخرجت للناس).
لم تكن الأمور سهلة ميسرة خالية من المصاعب والمكائد من الطابور الخامس بينهم وهو أهل النفاق الذين إدعوا الإيمان وقالو لرسوله الكريم صراحةً "بأفواههم دون قلوبهم" (إنك لرسول الله) كذباً منهم ونفاقاً وهم يبطنون الكفر بكل أبعاده. وهذا يعني أن هؤلاء الصحابة قد نحتوا في الصخر وسطع نورهم من وسط ظلام حالك وبيئة مريضة قوامها الكفر والشرك والإلحاد, وأهل كتاب محرَّف,, ثم أهل نفاق أسود بغيض. ولكن كل هذا لم يمنعهم من التمسك بكتاب ربهم والتأسي برسوله الكريم بصبر وجلد وثقة بنصر الله الذي وعدهم. فإذا علمت بأن بيئتهم تلك كانت أشد قساوة وتعقيداً من بيئتنا الحالية رغم الفتن والوهن الذي نعيشه, لأدركت أن فرصتنا أكبر من فرصتهم خاصة وأننا قد ورثنا تجارب مئات الأجيال وأدركنا وشاهدنا آيات كثيرة كانت غيباً لديهم فآمنوا بها وتشككنا.
والآن بعد التعميم, أراد الله أن يفصل طوائف أهل النفاق في بضع آيات بينات مفصلات, كما يلي:
1. قال في بعضهم: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ 49), هم لا يريدون لكم أي خير, ويتربصون بكم أن تصيبكم المصائب, قال: (إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ 50), لذا ذكرهم يا محمد بأنكم موقنون بقضاء الله وقدره: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 51).
وبين لهم أن كل ما يصيبكم هو خير لكم إن كان حسنة أو مصيبة, فتربصكم بنا خير لنا أما تربصنا بكم هو شر في كل أحواله لأنه سينتهي بعذاب إليم من عند الله,،، قال له: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ 52),
كما بين لهم أن الله تعالى لن يقبل منهم أي صدقة يقدمونها سواءاً أكانت طوعاً منهم أو كرهاً,, قال له:(قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ 53), وعدم قبول صدقاتهم مبرر,, قال: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ 54), ثم حذر رسوله بألَّا يغتر بظاهر يسر حالهم من أموال وأولاد, ولكن في حقيقتها وواقعها أنها أحدى أنواع العذاب الذي سيوقعه الله تعالى بهم في الحياة الدنيا, هذا خلافاً لما ينتظرهم في الآخرة, قال تعالى لنبيه الكريم: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ «« إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا »» وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ 55), ولا تصدقهم مهما حلفوا لك بأنهم منكم فهم ليسوا صادقين, قال: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ 56), والدليل على ذلك أنهم – في الجهاد -يريدون أن يغيبوا عن أنظاركم حتىل لا يطلب منهم الخروج, قال تعالى: (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ 57). هكذا فند الله حالهم بتفصيل معجز, وكشف سترهم بعد أو وصَّفهم توصيفاً دقيقاً.
2. (وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ 58), وهذا هو حال الكذابين المنافقين دوماً, قال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ 59), كان يجب أن يعلموا أن الصدقات لا تعطى بغير حساب أو ضوابط, وإنما الله تعالى قد حدد مصارفها ومستحقيقا المفروضة لهم حصرياً, قال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ - « لِلْفُقَرَاءِ » « وَالْمَسَاكِينِ » « وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا » « وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ » « وَفِي الرِّقَابِ » « وَالْغَارِمِينَ » « وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ » « وَابْنِ السَّبِيلِ » - فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 60), فكيف يريد هؤلاء المنافقين أن يعطوا منها وهم ليسوا ضمن هؤلاء المستحقين لها, ثم يلمزون فيها كأنك تحابي بها من تشاء.
3. (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ «« هُوَ أُذُنٌ »» - قُلْ « أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ » - « يُؤْمِنُ بِاللَّهِ » « وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ » « وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ » - وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 61). وهم يكذبون عليكم لريضوكم بأفواههم وتأبى قلوبهم الحاقدة عليكم, قال له: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ 62).
وقد إستنكر الله عليهم هذا الموقف, قال: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ 63), وهؤلاء المنافقين يعلمون أنك رسول الله حقيقةً, ويعلمون صدق مجيء الوحي إليك, لذا فهم يحذرون أن ينزل الله وحياً على رسوله لينبئه بما في قلوبهم من كفر, قال تعالى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ 64), فالمسألة ليست عدم تصديق للرسول الكريم, وإنما مجرد خوض ولعب وإستهذاء بآيات الله ورسوله, قال تعالى لنبيه الكريم: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ « إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ » - قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ؟؟؟ 65), فإن حاولوا الإعتذار لا تقبله منهم, قال تعالى لهم: (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ 66).
ثم أنظر إلى هذا التصنيف والتوصيف الدقيق للمنافقين, قال تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ - بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ - « يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ » « وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ » «« نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ »» إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 67), فكانت عاقبتهم أنْ: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ « نَارَ جَهَنَّمَ » خَالِدِينَ فِيهَا «« هِيَ حَسْبُهُمْ »» - وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ - وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ 68).
حالهم ومآلهم تماماً: (كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ « كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا » - فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ - « فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ » « وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا » - أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ 69), وأنتم والحال كذلك ستكونون خاسرين مثلهم وستنالون عقابهم. وإستهجن موقفهم هذا قال: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ - أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ - فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ «« وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ »» 70). وكذلك أنتم تظلمون أنفسكم بأنفسكم.
ثم أنظر – بالمقابل - إلى هذا التصنيف والتوصيف الدقيق للمؤمنين, قال تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ - بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ - « يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ » - وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «« أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ »» إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ 71). ليس ذلك فحسب, بل:
(وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ « جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ » - خَالِدِينَ فِيهَا - « وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ » « وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ » - ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 72), (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 73).
هم سيحاولون نفي قولهم كلمة الكفر وسيحلفون لكم على ذلك, فلا تصدقونهم, قال: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا - « وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ » « وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ » « وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا » - وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ - « فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ » « وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ » وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ 74).
4. (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ 75), (فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ 76), فكان لهم جزاءاً وفاقاً على نقضهم لعهدهم مع الله, قال: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ - إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ - « بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ » « وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ » 77), وقد إستهجن عليهم هذا السلوك, قال: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ؟؟؟ 78),
ثم قال: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ - « الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ » « وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ » - سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 79), إن هؤلاء المنافقين ذنبهم غير قابل للمغفرة حتى لو إستغفر لهم الرسول نفسه لن يفيدهم شيئاً لأن الله تعالى لن يقبله منهم,, قال لرسوله: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ - «« إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ »» - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ 80),
ثم قال عن المخلفين الظالمين لأنفسهم: ( « فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ » « وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» « وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ » - قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ 81), فما دام هذا هو ما إختاروه لأنفسهم, إذاً: ( « فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا » - جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ 82). وسيكونون مع الخوالف دائماً ولن يسمع لهم بالخروج معك مرة أخرى.
قال تعالى له في ذلك: (فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ - فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ – فَقُل « لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا » « وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا » - إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ «« فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ »» 83), ليس ذلك فحسب, بل:(وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا - وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ - إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ 84), (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ 85).
ثم قال تعالى أيضاً: (وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ - « أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ » - اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ « وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ » 86), (رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ «« وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ »» فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ 87), (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ - « وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ » وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 88), (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
إذاً,, أخي الفاضل,, فلننظر إلى واقعنا بمسئولية وجدية وإلتزام لمنهج الإسلام "كتاباً وسنة" إنْ كنا مؤمنين حقاً،،, ولننبذ التفرقة والتشظي والتدابر والتغابن,,, بدءاً من المذهبية وإنتهاءاً بالبدع والإبتداع في الدين والدروشة والشطحات الصوفية,,,, كما حدث لأهل الكتاب من قبلنا, وأنَّ الله تعالى لا يريد من الناس أقوالاً,, فقد إنتهى القول بقوله سبحانه,, ولا إدعاءات فهي سبب مصائب الأمة,, وانما يريد منا أفعالاً أمرنا بها وكتبها علينا, لا تخرج من إطاره وحدوده قيد أنملة فما دونها.
فالبسمة خير, واللقمة خير, وإماطة الأذى عن الطريق خير والصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والأمانة والعدل والإنصاف والقسط ...... كل هذا خير وقرآن مبين. أما إذا نظرنا إلى إخفاقات من سبقنا "حكاماً ومحكومين" وتفريطهم,, وإتكلنا على ذلك فلن نكون قد فعلنا سوى ما فعله الذين قالوا (هذا ما وجدنا عليه آباءنا وإنا على آثارهم مقتدون), قال تعالى (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) ولا ننسى اننا من هؤلاء الناس وسيسألنا الله عن هذا الفساد مثلهم إن لم يكن أكثر منهم لأننا حملنا الأمانة وهي كتاب الله وسنة رسوله الكريم, فعطلناها وجعلنا قرآنها عضيناً. وليعمل كل منا سعته وإستطاعته بما في ذلك النصح والتناصح, ويترك الباقي لخالقه, ولنتذكر معاً قوله تعالى في سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ - لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ - إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 105),,, صدق الله العظيم.
تحية طيبة كريمة للقراء الكرام والقارءات
بشاراه أحمد
#بشاراه_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟