|
العلمانية حل للإنسانية المفقودة
صليبا جبرا طويل
الحوار المتمدن-العدد: 4852 - 2015 / 6 / 30 - 10:40
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هبطت وتراجعت ممارسة القيم الإنسانية في عالم اليوم ، وازداد العنف والكراهية الموجهة بين الشعوب، وارتفعت وتيرة الصراع. فكانت شاهدا و دليلا على الإنسانية المفقودة. الأكثر تضررا لنتائجها الطبيعة والإنسان. واجبنا كبشر العمل الدءوب لجلب الشعوب تحت مظلة إنسانية واحدة. ألا وهي مظلة العلمانية، بصفتها النموذج الأكثر حضاريا، والحامية الحقيقية لقيم الإنسان وحقوقه التي يكفلها الدستور لكل أطياف المجتمع.
جوهر الإنسانية ومضمونها يكمن في القيم السامية الخالدة التي حملها لنا تراث البشرية عبر الآلاف السنين منذ فجر الخليقة إلي يومنا الحاضر. هذه التراكمات الفكرية شارك في صياغتها نساء ورجال عظام من أنبياء، وفلاسفة وحكماء وأدباء الخ... كانت جهودهم ثمرة خبرات وتجارب في الحياة. فالإنسانية لا يمكن نزعها من التراث البشري ولا تشويه معناها، إلا عند من بني معتقلا فكريا متينا حول عقله، سجنا لا يليق بجوهر الحياة وعظمة الإنسان المخلوق الأرقى. فعقول الخارجين عن قانون الحياة وتطورها، والمنعزلين في بيئات تمنعهم من مشاركة الجنس البشري في نهضته، هم ألأكثر بعدا عن الانسجام مع الطبيعة، والكون، والحياة، وإخوتهم من البشر. لذلك يصعب اندماجهم مع المحيط العالمي، فيسعون لبناء عالم منغلق متشدد فلسفته القضاء على كل ما هو أخر وتدميره وإنهاء وجوده.
تنمو الإنسانية، وتترعرع، وتكبر، وتثمر في بيئة مليئة بقيم الحرية، المساواة، العدالة، الحب، الجمال، النزاهة، ألأمانة، الصدق الخ...فيها الذكر ليس أفضل من الأنثى، والمثقف من الجاهل، والمتكلم من الأبكم، والسامع من الأصم، والمشاهد من الضرير، والواقف على قدميه من الكسيح، ومن له أب أو أم ليس أفضل من اليتيم أو اليتيمة، والمتزوجة من العز باء، وأعجمي اللسان من العربي، والمؤمن من الملحد، والمسيحي من البوذي، وأحزاب اليسار من أحزاب اليمين، والأبيض من الأسود ... فقط يكون الإنسان أفضل من أخيه الإنسان بإنسانيته.
أصبحت الإنسانية عندنا شعارا بلا مضمون، واجهة بلا معنى، هدفا لا يطبق، وحلما لا يتحقق. نكتفي، ونفتخر ونكابر بما نحن عليه، وفيه، وبه، ونكرره في كل مناسبة. نخاف أن نعيش في عالم بلا حدود، في عالم منفتح على الأمم والشعوب. نخاف أن نذوب وتضمحل حضارتنا لأننا نشكك بقدرتها على الثبات والمعاصرة، نشكك بتماسكها وقوتها وعمقها، لقرون توقف تواصلنا بها،ومنعنا تفعيل العقل. خضارتنا لم تكن يوما نقية عربية صرفة، كما يفترض البعض أن تكون. أتساءل متى كانت الحضارات العالمية نقية يوما ما؟ الم تتلاقح الحضارات بعضها مع بعض على مر العصور؟.
نشكك أيضا بما نؤمن به من ثقافة وفكر، شكنا في بعض الأحيان يصل إلى زعزعت ثقتنا بأنفسنا لأننا دائما متوترين وفي جبهة مفتوحة ضد من يخالفنا. لا نعرف قدر أنفسنا وعمق أحاسيسنا.تربيتنا خاطئة غير قائمة على أسس علمية، تعلمنا أن التفكير والسؤال درب علينا أن لا نسلكه أو نخوض فيه لأنه سيدخلنا في متاهات عقلية ويخرجنا عن، ومن وعينا وتقاليدنا وثقافتنا . زائرون، مستجمون نحن على شاطئ بحر العقل، والفكر والمعرفة لا نخوض غماره. نعيش مغتربين في عالم كبير يمتد ويتسع كل يوم في اكتشافاته.نغرق في إعادة صياغة الذات ولا ندري أين وكيف نبدأ. علاوة على ما نحن فيه من تراجع نريد أن نحقق ذاتنا الضائعة وطموحاتنا المعلقة في الماضي، ونعمل بديكتاتورية، بقسوة كي نسترجعها. عجلتنا الحضارية تسير إلى الوراء. فعندما لا نتمكن من التقدم نعود إلى نقطة البداية، إلى الصفر حضاري، إلى الماضي السحيق ، ثم نعلن عن بدء انطلاقة جديدة بعزيمة، وشكيمة، وقوة، نحشد لها أنصارنا، نهلل ونقيم احتفالات ومهرجانات وخطابات تدوي ولا تروى، تبهر ولا تملئ عين، كلمات لا تقنع أُذُن . كلما فشلنا نعيد الكره من جديد، بنفس أمنياتنا وأفكارنا وأساليبنا القديمة، غير متسلحين بثقافة، وتخطيط، وروح إبداع عصرية... لعنة الجمود حلت علينا، لا مكان للتجديد عندنا. نصغ مفاهيمنا الإنسانية و نقيسها، ونمارسها، بما يناسب أفكار زعمائنا، ونرفض بشراسة، بهمجية ما لا يتقبلوه منها.
في العلمانية الفروقات والثقافات المتنوعة والمتعددة بين شعوب العالم تأخذ طابعا إنسانيا شاملا مع محافظة كل منها على خصوصيتها دون أن تنصهر الواحدة بالأخرى. العلمانية تنادي بفصل الدين عن الدولة، وليس منع ممارسة الدين والروحانيات كما نروج. فيها لا يكون الدين بديلا للأحزاب السياسية، ولا الانتماء الديني بديلا للمواطنة، ولا تميز بين معتقد وأخر. كما أنها لا تعمل على إلغاء الأديان ومحاربتها، بعكس الأديان التي تحاربها، وتتهجم عليها. توفر العلمانية المناخ المناسب لازدهار الأديان ونشرها من قبل رجال الدعوة والمبشرين دون التعرض لأي فرد منهم أو اعتقاله وسجنه.
إذن لماذا نحارب العلمانية؟... لأنها في نظر اغلب قياداتنا شرا، بدعة، كفر. دولة الحاد، ديمقراطية منحلة، إباحية الخ... علنا وبشكل فاضح تلعب أيضا لعبة مزدوجة. من جهة تعمل على إثارة وعى الشباب وتهيئة وتشحنه نفسيا وذهنيا لمحاربة العلمانية، ومن جهة أخرى تستمر في علاقاتها معها. محاربتنا لها قائم على واقع له تفسير منطقي. كمواطنين تم خديعتنا، وجرنا لمحاربة كل من يحارب الرموز، والمسئولين، لأنهم مستهدفون. فمن واجبنا العمل على تثبيتهم وتمكينهم في مراكزهم والمحافظة عليهم كمكسب لاستمرار الدولة وسياستها من أعداء الأمة. شهوتهم لاستمرار مصالحهم والبقاء في حكم وإدارة البلاد والعباد أهم من أي تغير على المستوى المحلي والعالمي.. هذه المنهجية أدت إلى تراكم رأس مال الدولة وملكيتها محصورا بين أيديهم ، يتصرفون به متى وكما يشاءون. اوجدوا لهم، أعوان منتفعين، ينفذون الأوامر المطلوبة بالقوة والبطش ضد كل من ينتقدهم أو يطالب بالحريات والتغيير، تحت حماية قانونية مرنة متساهلة. لتامين أنفسهم، وعائلاتهم من غدر الزمان عمدوا إلى ادخار أموالهم خارج حدود الوطن في الدول العلمانية، كما شجعوا هذه الدول على إقامة قواعد عسكرية في أرضهم خوفا من سقوط أنظمتهم ومحاسبة الشعب لهم. في غياب شفافية القانون وتفعيله يصبح كل ممنوع مباح . در الرماد في العيون أسلوبهم... يتبرعون بسخاء من جيوبهم، التي هي أساسا أموال الشعب. فلا مكان لتنمية اقتصادية حقيقية، ولتطور علمي، وحريات. الهدف إبقاء الشعب أميا ليسهل التحكم فيه وقيادته. سنبقى ملغيين محليا، ومغيبين عالميا برضي، ومعرفة، وإرادة زعماؤنا.
نتيجة لهذه السياسة، يكون دورنا كدول وشعوب، تابع ومستهلك لما تنتجه هذه الدول من ألاف الكماليات، والسلع، والأسلحة الخ... التي بإمكاننا معاينتها وإحصائها في أسواقنا، وشوارعنا، وبيوتنا، وجيوشنا. هذا ما يغيظنا كشعوب لأننا لسنا مشاركين في أي من الصناعات والاكتشافات والاختراعات العالمية. لا مكانة لنا في عالم اليوم إلا من خلال أبار النفط التي نملك، قريبا وخلال عقود قادمة ستجف آبارنا، وتجف مواردنا دون وجود بديل نعتمد عليه كمقوم للدولة مستقبلا. نحن نعيش في ظل دول تتفوق علينا، نستورد منتجاتها، بينما أبناؤنا يبحثون عن فرص عمل ويعيشون في بطالة شبه دائمة. بغياب من يرعاهم من وزارات، ومسئولين، ومؤسسات لوضع خطط تنموية لاستيعابهم، أو منح معاش بدل بطالة لهم. هذه السلبيات لا تحتمل، بقوة أثرت في شعور الشباب القلق العاطل عن العمل بشكل خاص، ونظرتهم للدول العلمانية – المعرفة مسبقا بالعدو، بالمستعمر الصليبي الذي يتربص بنا ويستهدف عروبتنا ليدمر مجتمعاتنا"المدمرة أصلا"- مما ساهم بشكل خاص في نبذ مفهوم الإنسانية بشكلها العالمي الحالي وتبني مفاهيم قبلية. مجمل القضية في عالمنا العربي "قضية طبقية". لن تنجح نتائج ثورات الربيع العربي الدموي من تخطيها وتصحيحها لعقود قادمة ما لم تقضى على الفروق الطبقية والمذهبية والحزبية بين مواطنيها.
في عالم العلمانية لا وجود لطبقية، أو اختلاف، أو تمييز، أو أفضليه مكون بشري على مكون أخر. في العلمانية كل البشر متساوون. لا أظنها يوتوبيا ومستحيلة الممارسة. لان الكلمة "مستحيلة " تعني عدم رغبتنا في الشروع لتبني هذا الموقف الإنساني. الإنسانية لا يحميها سوى نظام واحد، وهو النظام العلماني. نظام بلا قيود بلا ممنوعات بلا حدود تقف حائلا أمام طموح الإنسان وإبداعه الفكري والفني والأدبي والنقدي من نساء ورجال وشيوخ وشباب...نظام فيه الجميع تحت القانون، لا احد فوقه مهما كان منصبه، أو نسبه، أو طائفته...
ما كتبته في مقالتي هذه معظمنا يعرف حقيقته وبعمق، ويدركه كل الإدراك، ويقر بواقعه كل الإقرار... لكن للأسف... إما لا يفهمه- اشك بذلك- وإما يكون متصلبا، عنيدا، عنصريا الخ... لا رغبة تعتريه للتنازل عن وضعه، وأنانيته، ومكاسبه التي يجنيها من وراء تعنته. لذلك نجده يحارب، وغير مستعد لممارسة إنسانيته من خلال العلمانية، ولا حتى من خلال القيم الإنسانية... مع العلم أن الدول العلمانية تفتح أبوابها كملجأ آمنا لمعظم المشردين، والمضطهدين في عالمنا العربي الغارق في خلافاته على نمط داحس والغبراء.
علينا أن نغير خطابنا، وإيقاف جرعات الوريد التي نتعاطاها كمضادات لمقاومة المعرفة والحداثة. والاعتراف باستحالة التقدم من جيل إلى جيل إن حصرنا المعرفة في زمن معين. حاضرا نحن بأمس الحاجة إلى البحث، وعمل دراسات دقيقة عميقة في التراث الإنساني – السجل الحضاري- المدون في بطون مئات الكتب كي نكتشف أسراره لمساعدتنا في فهم وحل لغز نظرة العالم الغير ايجابية لعالمنا العربي، ولفهم أعمق لذاتنا ولموقعنا من حضارات العالم اليوم. إما الاندماج الحضاري العالمي وإما الاحتضار الحضاري البطيء.
#صليبا_جبرا_طويل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار المواطنة أهم من حوار الأديان
-
خطاب ديني وطني وَحْدَويّ
-
أخي العربي.. مثلك أنا
-
الإنسان صناعة الإنسان
-
الله والعقل واستمرار والوجود
-
النقد بابٌ للحريات وللتقدم
-
متدين، أم مؤمن؟!
-
الإعلام المرئي يحرض على الإرهاب
-
ماذا بعد ضرب داعش؟
-
داعش والأبجدية
-
مسلمون ومسيحيون معا
-
ما هذا الوطن؟؟؟
-
مهزلة فكر وثقافة
-
المراءون يغتالون الوطن
-
أيها العاطلون عن العمل اتحدوا
-
غياب المعرفة سبب تراجعنا
-
طفل يتيم أنا
-
سلام للمرأة في الثامن من آذار
-
المرأة والحرية
-
لك في عيد الحب - فالنيتين -
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|