|
فلسفة مبسطة: مفهوم حقوق الإنسان
نبيل عودة
كاتب وباحث
(Nabeel Oudeh)
الحوار المتمدن-العدد: 4850 - 2015 / 6 / 27 - 22:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تطور مفهوم حقوق الإنسان مع تطور المواجهة ضد أنظمة الحكم المطلق، وتحديد صلاحيات السلطات، وبرز اتجاه تقسيم المسؤوليات في الأنظمة التي تطورت عقب صعود البرجوازية حيث جرى الفصل بين السلطات القضائية، التشريعية والتنفيذية. تعتبر انكلترا من أبرز الساحات السياسية لهذا الصراع الذي اشتهر بكونه صراعا لتحديد صلاحيات الكنيسة ومنح حقوق للأفراد والجماعات. أيضا شهدت الساحة الأمريكية عملية تحرير العبيد، ولا يمكن تجاهل أهمية مبادئ الثورة الفرنسية ودورها الكبير في مجمل التطورات السياسية حول موضوع حقوق الإنسان والمواطن كما جاء في الإعلان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الوطنية عام 1789 والتي تعتبر وثيقة أساسية عرفت الحقوق الفردية والجماعية للأمة. الإعلان عكس فكر التنوير ونظريات العقد الاجتماعي والحقوق الطبيعية التي طرحها في فلسفاتهم مفكرون أمثال جان جاك روسو، جون لوك، فولتير، مونتيسكيو، وشكل الخطوة الأولى لصياغة الدستور الديمقراطي الذي ميز النظام الرأسمالي ونظم نهج السياسي والاجتماعي. رغم أن الإعلان حدّد حقوق البشر دون استثناء (وليس حقوق المواطنين الفرنسيين فقط) إلا أنّه لم يحدد مكانة النساء أو العبودية بشكل واضح. إن لمبادئ هذا الإعلان مكانة دستورية في القانون الفرنسي الحالي. كذلك هناك أهمية كبيرة للثورة الأمريكية وتحرير الولايات المتحدة الأمريكية والوثيقة الصادرة عنها، ثم الثورة الفرنسية، والثورة الروسية… الخ. الاختبار الثاني لهذه الأفكار يمكن ان نجدها في اجتهادات المفكرين وتنظير الفلاسفة ابتداء من الحقبة الإغريقية، والرومانية، ثم الحقبة الحديثة في الغرب، والتي تعتبر فلسفة الأنوار التي دعت لقيادة العقل للعالم من معالمها الرئيسية. شكلت فلسفة الأنوار نقلة حاسمة في التطور الفكري للإنسانية، حيث جعلت الإنسان مركزا للعالم ونظرت إلى العقل كأداة أساسية لفهم الكون والطبيعة. أن مفهوم حقوق الإنسان قد تبلور عبر تفاعل تجربتين تاريخيتين طويلتي الأمد: تطور الواقع بكل تغيراته وانقلاباته وخاصة تبوء البرجوازية المكانة المتقدمة في قيادة المجتمع، تطور الاقتصاد، تطور العلوم والتعليم، هذا من ناحية أولى ومن الناحية الثانية تطور الفكر، خاصة الفكر الراديكالي النقدي (بما فيه الفكر الديني لمارتن لوثر الذي قاد انقلابا راديكاليا ضد الكنيسة الكاثوليكية) وطرحه لنظريات سياسية واجتماعية ودينية وفلسفية جديدة.وضعت الإنسان في رأس سلم أولوياتها. للأسف اليسار لم يتطور ليدفع قضايا حقوق الإنسان إلى الطليعة أكثر وأكثر. هل المشكلة كانت في نظريته ؟ ماركسيته مثلا؟ أم في اطمئنانه لنظامه الاشتراكي وتوهمه انه يقود المعركة الدولية من اجل حقوق الإنسان والمواطن؟ هل باستطاعة نظام قمعي استبدادي، استبدل الفكر الماركسي الإنساني بالبطش والإرهاب لمواطنيه ن يطرح مفاهيم حول حقوق الإنسان والمواطن وهو نفسه أول من قضى عليها؟ لا يمكن إلا التأكيد ان اليسار بدأ يتحول تدريجيا إلى يسار مراهق فكريا، ببغاوي يكرر مقلات ميتة ويدافع (ويروج) عن أكبر عملية تضليل فكري عرفها التاريخ المعاصر، ويعيش بوهم ان انتصاره بات قاب قوسين أو ادني كما بشرته اللينينية والستالينية، وأقول بوضوح ان الستالينية كانت جريمة ارتكبت ضد الفكر التنويري وضد الفكر (والمشروع) الماركسي، وتجميد تطوير الماركسية بما يطابق التغيرات التي لم تتوقف في المجتمعات البشرية. لا ننفي ان النظام الرأسمالي بتطويره التكنولوجيا الحق الأضرار بإنسانية الإنسان والدمار للبيئة. نفس الأمر جرى في الدولة الاشتراكية التي أنجزت تطورات كبيرة لكن بسحق حقوق الإنسان وبممارسة إرهاب غير عادي ضد المواطنين. لقد صدق الفيلسوف الفرنسي التنويري جان جاك روسو بقوله "ان الحضارة الحديثة سوف تصل إلى الجدار المسدود في يوم ما، إذا لم يرافق تقدمها المادي والتكنولوجي تقدم أخلاقي وأنساني على المستوى نفسه". من الواضح ان النظام الشيوعي عانى من أزمة أخلاقية. بقدر لا يختلف، بل يتجاوز، النظام البرجوازي. أي ان الفكر الماركسي استبعد تماما من ممارسة النظام "الاشتراكي!!". طبقت ديكتاتورية ستالينية تحت اسم ماركس. النظام البرجوازي غرق بالثروة والشهوة لمزيد من الثروة. لكن رغم ذلك النظام البرجوازي (ربما خوفا من الثورة الاشتراكية والدعاية السوفييتية التي صورت الاتحاد السوفييتي جنة عدن للعمال) أعطى مواطنيه مكاسب حقوقية واسعة وديمقراطية شاملة واستطاع ان يعالج أزماته بالأموال الطائلة التي كان يكدسها.بينما النظام السوفييتي (الاشتراكي!!) مارس القمع والنفي وتحويل الملايين إلى المنافي والعمل ألقسري (العبودية) من أجل ضمان استمراره والصمت عما يجري داخل سوره الحديدي. طبعا تغير الوضع كثيرا بفترة خروتشوف وبريجنيف، لكن لم يرق إلى مستوى المجتمع البرجوازي ، أي ان المجتمع الاستغلالي حسب المفاهيم الماركسية كان أكثر عدلا مع مواطنيه، يكفي انه أسس دولة الحق والقانون والتناوب على السلطة بشكل ديمقراطي لذلك يمكن القول ان النظام الرأسمالي فاز بالمنافسة التاريخية على النظام الاشتراكي ليس لكونه أفضل، بل لكون النظام الاشتراكي لم يكن اشتراكيا ولا ماركسيا. حول حقوق الإنسان والمواطن أقدم لكم هذه القصة التعبيرية.
التهمة: منافس للدولة
ادعي المحامي أن موكله غير مذنب إطلاقا، وان الموضوع لا يتعدى نزاع عمل بين الدولة وموكله. وقال أن الدولة تريد لنفسها احتكار أنواع معينة من الأشغال، هذا يتناقض مع قانون حق الإنسان باختيار مهنته ونوع عمله وضمان ممارسته لعمله بحرية ، يتناقض أيضا مع جوهر فلسفة القانون. من حق الدولة أن تجني حصتها من الأرباح عبر جهاز الضرائب، أما أن تتهم موكلي بممارسة نوع معين من العمل، تدعي انه وقفا عليها فقط، مما يتناقض كما أسلفنا مع فلسفة القانون الذي يقر بحق الإنسان باختيار مهنته، ورغم ذلك، الدولة تنقض قوانينها وتقدم موكلي للمحاكمة الجنائية، هذا يا سعادة القاضي، تجاوز لكل الأعراف القانونية المشروعة، وللقوانين التي أقرتها الدولة نفسها.ولحقوق الإنسان والمواطن كما يطرحها القانون وأيضا حسب القانون الدولي. كان القاضي أثناء استماعه لمرافعة المحامي، يبتسم على غير عادته، رغم انه من القضاة العبوسين. عندما أنهى المحامي مرافعته سأله القاضي والابتسامة تتسع لتمتد نحو أذنيه: - هل أنهيت مرافعتك الرائعة؟ سأقترح أن تسجل مرافعتك في كتاب القانون القادم كأطرف مرافعة ألقيت في المحاكم. ربما تجد لك مكانا في كتاب جينيس كأغرب ادعاء قدم دفاعا عن متهم.. وقد تسجل ضمن فلاسفة القانون ؟ - هذا من لطفك سيدي القاضي. هل افهم أن موكلي بريء؟ - البراءة موضوع لا علاقة له بمرافعتك الرائعة. - المرافعة رائعة..؟ ولا تضمن البراءة لهذا الإنسان الذي قضى عمره مخلصا لعمله وكريما مع أهل بلده؟ - أعترف انه كان مخلصا لعمله، بل وبارعا فيه، لدرجة انه من الصعب كشف طرق وأساليب إنتاجه ومعرفة المزيف من الصحيح.. - أخاف أن يكون سيدي القاضي يميل لقبول موقف الدولة كما طرحتها النيابة، فهي لم تثبت انه ارتكب جناية، كل ما هنالك انه قام بإنتاج بضاعة مشابهة منافسا الدولة في إنتاجها. هل هذا يختلف عن النزاع بين تاجرين أو أكثر يتاجرون بنفس المواد؟ - للدولة مسؤوليات السهر على حقوق المواطن يا أستاذ ، وصيانة الحقوق الجماعية والفردية، صيانة أمنها واقتصادها من التلاعب، موكلك تجاوز الحد وعرض اقتصاد الدولة للخطر وهذه جريمة كبيرة . - لا استطيع سيدي أن افهم كيف تحمي الدولة هنا حقوق موكلي لم يقتل، لم يسرق، لم يرتكب جرائم جنسية، كل ما هنالك نافس الدولة بإنتاج مشابه؟ انه مجرد اختار عملا الدولة تدعي انه وقف عليها فقط، لأنها تريد تأمين احتكارها لهذا العمل. ولا ننسى سيدي أن هناك قانون ضد الاحتكار. سيدي القاضي موكلي أصر على اختيار مجال عمله حسب روح القانون ونصه، لماذا تمنع الدولة هذا الحق من موكلي؟ هل تخاف أن تكسد بضاعتها ؟ وأن يقل الطلب عليها ؟ أعتقد أن موكلي لم يؤثر على نشاط الدولة المشابه، لم يكن منافسا بحجم يرعب الدولة وهو مستعد لدفع كل مستحقات الضريبة والتأمين، لكن الدولة ترفض وتصر على عقابه.. فلماذا تصر الدولة على تجريم موكلي ومنعة من ممارسة عمله ونشاطه الإنتاجي ؟ لا تنسى سيدي القاضي ان فلسفة القانون تعطي تبريرا كاملا لموكلي بان يمارس حقه في اختيار مهنته بشكل ديمقراطي. اتسعت ابتسامة القاضي، لدرجة يصعب تصديقها، أين اختفى عبوسه وكشرته وتصرفه الدائم بأنه ملحوق بالوقت. ترى ما الذي يجعله سعيدا مبتسما بل يكاد ينفجر بالضحك ؟ قال للمحامي بلطافة لا تعرف عنه في جلسات محكمته: - صدقني أني معجب بخطة دفاعك وشرحك لفلسفة القانون، لكني ملتزم بنصوص واضحة وليس بفلسفة تصلح للحوار الأكاديمي فقط.. عندما أتورط بقضية جنائية سأوكلك للدفاع عني قضائيا وفلسفيا!! - ستحصل على أفضل خدمة دفاعية وسأتجاهل انك لم تنصفني بالكثير من القضايا. - حسنا الآن نعود لموضوعنا، أفهم أن موكلك يعترف بالذنب؟ - موكلي لا يعتبره ذنبا، القانون بفلسفته الواضحة ينص على حق الإنسان في اختيار عمله بحرية، هذا من جهة، فكيف تفسر أن الدولة تريد تجريمه لأنه نافسها بإنتاج مشابه؟ هل منافسة الدولة في الإنتاج جريمة؟ .. أنا أرى انه تصرف ضمن قانون حق اختيار المهنة.. والخطأ ليس بتصرف موكلي انما بشكل تفسير نشاطه. - لكن الموضوع ليس مهنة، بل الاعتداء على حق للدولة بإدارة شؤون الاقتصاد والمجتمع ، موكلك سبب فوضى مالية كبيرة ، اغرق السوق بأوراق مالية لا قيمة لها مثيرا أزمة مالية خطيرة وبسببه كادت تعم الفوضى في المجتمع وينهار الاقتصاد؟ - فوضى وانهيار اقتصاد ، هذا ادعاء لم تثبته النيابة ولم تثبت صحته بأي حال .. ولم تدعيه الدولة، وعلى فرض أنها ادعت ذلك، هل كل ما تقوله الدولة هو كتاب مقدس ؟ - عزيزي المحامي المتعلم ، كيف تفسر أن موكلك أنتج عملات مزورة وسوقها خلال سنوات طويلة، أليس هذه جناية ضد الدولة والمجتمع والتسبب بالفوضى في سوق الأوراق المالية ؟ - إطلاقا لا، انه إنتاج لنفس البضاعة، وهذا حق موكلي في اختيار مهنته!! لسبب ما انفجر الحضور في قاعة المحكمة بضحك صاخب. عبس القاضي للحظة، وثم انفجر ضاحكا لا يقوى على التقاط أنفاسه. [email protected]
#نبيل_عودة (هاشتاغ)
Nabeel_Oudeh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلسفة مبسطة: الثورة، النظام والشعب
-
فلسفة مبسطة: التفكير الانديكتيفي..!!
-
فلسفة مبسطة: سنة أولى فلسفة
-
كل شيء يبدأ بخطوة واحدة...
-
لعبة الغولف
-
خطر على المؤمنين..!!
-
فلسفة مبسطة: فشل التوجه الى المرجعية
-
فلسفة مبسطة: فلسفة الدحض
-
الحمير تعقد قمة طارئة..!!
-
فلسفة مبسطة: فلسفة الدين
-
فلم وثائقي يكشف: جرائم حرب إسرائيلية في حرب 1967
-
من تسجيلاتي القصصية
-
خبر عاجل من البي البي سي
-
ابشروا يا قادة العرب: لكم ملكوت السماء!!
-
فلسفة مبسطة: الفلسفة البراغماتية
-
الدرجة 13
-
محنة المسيحيين - محنة العالم العربي!!
-
حسين الغزاوي ينتظر جائزة نوبل
-
حكومة لتحضير الانتخابات القادمة
-
الناصرة بلدي: نحو العمل وليس المناطحة!!
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|