بئر السيع ـ فلسطين المحتلة
لقد شهد العالم في أواخر ثمانينات ومطلع تسعينات القرن الماضي سلسلة من الهزائم العسكرية تلتها سلسلة متصلة من الانهيارات السياسية تصب معظمها في صالح المركز الإمبريالي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية والذي عزز بدوره من مكانة حليفتها، دولة الكيان الصهيوني، وأكد دورها كرأس حربة وقاعدة عسكرية متقدمة في عمق الوطن العربي. فمن انهيار الاتحاد السوفييتي كقوة كانت تعادل الوحش الأمريكي، إلى تدمير العراق كقوة عربية توازي الكيان الصهيوني عسكرياً، إلى إجهاض الانتفاضة الشعبية الفلسطينية بصفتها أحدثت نقلة نوعية في تاريخ المقاومة الفلسطينية، ومن ثم فرض مشروع أوسلو التصفوي على اليمين الفلسطيني، وتهافت الأنظمة العربية الرجعية على التطبيع مع الكيان الصهيوني، كل هذه تؤشر إلى تغيير حاد وخطير في معادلة الصراع العربي- الصهيوني، يصح وصفها بحالة الهزيمة.
بلا شك أن هذا هو تغيير جدي في المعادلة لصالح معسكر الأعداء، وهنا نقصد أعداء القضية والشعب الفلسطيني والأمة العربية برمتها. فعلى هذه الأرضية الرديئة تصاعدت مجموعة أصوات جديدة - قديمة بين فلسطينيي الداخل تتصدرها شريحة من "المثقفين" المنتفعين، يرتكز خطابها على فرضيتين هما مزيج خبيث بين إستدخال الهزيمة بمعنى التسليم بها كأمر واقع، وانتهازية الموقف المتردي أصلاً ليحققوا مكاسب طبقية ضيقة بعيدة عن طبيعة الصراع. فمن جهة تجدهم يقولون بأن العالم قد "تغيّر" ولذا علينا طرح خطاب جديد يتناسب مع معطيات المرحلة، ومن جهة أخرى تجدهم يعللون موقفهم التنازلي هذا بأن القيادة الفلسطينية قد تخلت عن فلسطينيي الداخل في تصورها لحل القضية الفلسطينية ولذا علينا، فلسطينيي الداخل، أن نتدبر أمورنا لوحدنا.
صحيح أن خارطة صراعات العالم قد تغيرت، وأن خارطة الصراع العربي – الصهيوني قد تغيرت لصالح الطرف الأخر، وصحيح أن هذا التغيير هو عبارة عن هزيمة عسكرية - سياسية مؤلمة حقاً، وهي مرحلية وعابرة بلا شك، وتصب بالمحصلة في مصلحة معسكر الأعداء. وعليه فأي مشروع فكري سياسي في هذه المرحلة يدرك أبعاد الصراع وجوانبه المختلفة لا بد أن ينطلق من حتمية زوال المرحلة، فلا هذه "نهاية التاريخ" كما يقول فوكياما ولا هذه مرحلة ما بعد الاستعمار في حالتنا كما يقول ادوارد سعيد، وبالتالي فما نحن بحاجة إليه هو مشروع صمود وتصدي خلال مرحلة الهزيمة حتى تزول، وليس مشروع تعايش ينطلق من إستدخال الهزيمة وترويض الجماهير على التكيف لها والتعايش معها.
لم يعد خافياً على احد الخلل الفكري الذي يرتكز عليه مشروع حقوق "المواطنة" في دولة نعيش فيها "كأقلية قومية" "وتمديد" ديمقراطيتها إلى درجة تكون "دولة كل مواطنيها" وما إلى ذلك من شعارات ما بعد حداثية ربما تناسب أقلية إثنية لها خصوصيتها الثقافية وتعيش في دولة عادية، أو دولة متعددة الثقافات بطبيعتها وليس "دولة" هي في جوهرها مشروع استعماري عنصري إجلائي. فمشروع التعايش هذا ينطلق من فرضية خاطئة مفادها أن القضية الفلسطينية على وشك الحل حسب مشروع اوسلو! وهكذا تجد رموز ومنظري مشروع المواطنة يتشدقون برفضهم اوسلو لفظياً من جهة ولكنهم عملياً يكملوا مسلسل اوسلو من خلال التنظير لمشروع التعايش القديم - الجديد لفلسطينيي الداخل في دولة المشروع الاستيطاني الصهيوني.
فشل مؤتمر كامب ديفيد الثاني عام 2000، حيث كان من المفترض أن يشكل الحلقة الأخيرة والنهائية في مسلسل التصفية كما هندست له الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني، يعود بالأساس إلى محاولة شطب حق العودة. والعودة هنا بدون مواربة تعني عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم التي تم احتلالها وتشريدهم منها عام 1948. وبما أن لا القيادة الفلسطينية ولا أي قوة في الأرض كان باستطاعتها أن تتنازل عن هذا الحق المقدس وان تنزع فتيل الثورة من ضمير الشعب في نفس الوقت، فكانت نهاية مشروع أوسلو حتماً محكوم عليها بالفشل. وللذين ما زالوا يراهنون على إمكانية نفخ الروح في مشروع التسوية من خلال العودة للمفاوضات مع قيادة الكيان الصهيوني، فشلال الدم الجاري والمقاومة المتواصلة وبربرية الاحتلال على مدار العامين الماضيين تؤكد بالملموس نهاية مشروع اوسلو التصفوي والعودة إلى رسم معادلة الصراع بمفهومه الحقيقي كصراع تناحري بين حق شرعي وباطل استعماري.
وبالعودة إلى جذور المشروع الاستيطاني الصهيوني يتضح بأن مخطط التطهير العرقي للشعب الفلسطيني كان لا بد أن يحتل حيزاً أساسيا في البرنامج الصهيوني حتى يتسنى لهم إقامة دولة العرق الواحد. وهكذا تم تهجير الغالبية العظمى من شعبنا من الأرض التي أقيمت عليها دولة المشروع الصهيوني في مرحلتها الأولى عام 1948. فالذين لم تتمكن العصابات الصهيونية من اقتلاعهم من أرضهم آنذاك يشكلون الوجه الأخر والمكمِّل لقضية اللاجئين. وهكذا فقد توجه الكيان الصهيوني منذ نشأته إلى محاربة الوجود الجماعي الفلسطيني على صعيدين: تذويب وامتصاص الأقلية المتبقية على هامشه لأنه لم يعد من الممكن التخلص منهم عملياً (أي الترحيل رغم أن هذه الإمكانية ما زالت واردة)، والعمل على تشريد وتوطين اللاجئين في الشتات ثم الحيلولة دون حقهم في العودة. بدون مواربة، مرّة أخرى، فإن التسوية الجارية تستثني بشكل واضح كل ضحايا الاحتلال الأول من الفلسطينيين، أي الذين تم تشريدهم من جهة والذين يجري تذويب هويتهم وامتصاصهم على هامش الكيان الصهيوني من جهة أخرى. وهكذا ينحصر سقف الحل المنشود من التسوية الجارية في بناء "دويلة" فلسطينية أو ما هو دون ذلك في الضفة والقطاع لفلسطينيي الاحتلال الثاني (1967) بشرط أن تكون تابعة للاقتصاد الصهيوني المتطور ومنفذ لبضائعه وهيمنته على أسواق الوطن العربي.
وهكذا يتبين، وكما قلنا في التيار القومي الجذري عندما رفضنا إستدخال الهزيمة قبل عشر سنوات، يتبين بأن مشروع الهزيمة من "دولة كل مواطنيها" إلى "أقلية قومية في نظام ليبرالي" إلى" حكم ذاتي ثقافي" وصولاً إلى "برلمان عربي" مرتبط بالبرلمان الصهيوني، كلها تقعر لغوي في خطاب انهزامي تبلور على أرضية فاسدة جوهرها أن القضية الفلسطينية على وشك الحل النهائي بصيغة أو بأخرى على شكل كيان في الضفة والقطاع!. استدراجا في نفس المنزلق، جاء خطاب الحقوق المدنية لفلسطينيي الداخل كتوجه قديم – جديد للتعايش والاندماج في دولة الكيان الصهيوني. وفوق كل ذلك، فإن أي محاولة لصياغة أي مشروع سياسي ينظّم علاقة فلسطينيي الداخل بالدولة اليهودية، من خلال المبالغة المبتذلة في خصوصية هذا الجزء من شعبنا، بمعزل عن مسيرة التحرر الوطني بشكل عام وعن حق العودة للاجئين بشكل أساسي، هي مساهمة في تفكيك وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة مصيره.
أن المقومات الأساسية للصراع ضد المشروع الإمبريالي – الصهيوني، ومن ثم اللبنات الأساسية لفكر المقاومة والتصدي له واضحة كل الوضوح. فمرحلة العولمة والهيمنة الإمبريالية الأمريكية "وشفط" ثروات العالم نحو المركز، بما فيها النفط العربي واحتكار السوق، لا يمكن تفسيرها بخطاب ليبرالي غربي أمريكي تحديداً. تفكيك الوطن العربي إلى دويلات متخلفة تحكمها أنظمة رجعية عميلة يشكل حجر الزاوية في فرض الهيمنة الأمريكية على المنطقة. المشروع الصهيوني لم يكن يوماً ما أي شئ غير مشروع استيطاني إجلائي أهم أهدافه الحيلولة دون وحدة الوطن العربي من خلال تشريد الشعب الفلسطيني وإقامة قاعدة عسكرية متقدمة للإمبريالية في المنطقة. تطورات الأحداث على مدار الأعوام القليلة الماضية من انتصار المقاومة اللبنانية في الجنوب، إلى تفجير الانتفاضة الثانية وهبّة أكتوبر في الداخل، إلى تجذر حركة مكافحة التطبيع بين الطبقات الشعبية في الوطن العربي، إلى عودة قضية اللاجئين وحق العودة إلى مركز الاهتمام المحلي والعالمي، تشير إلى أن فتيل المقاومة في ضمير الطبقات الشعبية لا يمكن أن ينزعه تحالف الكومبرادور الفلسطيني ولا الرجعية العربية مع الإدارة الأمريكية والشريك الصهيوني.
ففي مرحلة الهزيمة تنهار رموز قيادية كثيرة وتنجرف مع تيار إستدخال الهزيمة. وتبقى قلة قليلة من المثقفين العضويين تحمل الموقف الثوري كالقابض على الجمر. فاللقاء بين الجيل الذي تمرّد على الهزيمة ورفض إستدخالها وبين الجيل الجديد من الشباب المتحمس يشكل أرضية خصبة للنهوض بمشروع التحرر الوطني من جديد والحفاظ على جذوة الصراع حتى ينال شعبنا حقوقه الكاملة في العودة والحرية والاستقلال. ما نحن بأمس الحاجة إليه في هذه المرحلة الرديئة هو عودة جدية وجريئة للقاعدة الفكرية التي تفسر جدلية المراحل المختلفة في صراعنا مع مشروع الاستيطان الصهيوني، وتحديد معالمه الأساسية دون التسرع في حرق المراحل بهدف الوصول إلى حل يضمن مصالح البرجوازية الفلسطينية والشرائح المنتفعة المتذيلة لها. فلا إسرائيل أصبحت "ما بعد صهيونية" ولا الوطن العربي يعيش حالة "ما بعد الاستعمار" ولا دولة "الحل المرحلي" في الضفة والقطاع (أو الحل الدائم في قاموس مستدخلي الهزيمة!) ممكنة في ظل موازين القوى الحالية. فخطاب المرحلة القادمة لا بد أن ينطلق من الربط العضوي والجوهري بين حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم (منطقة 1948 تحديداً)، وتمرّد فلسطينيي الاحتلال الأول على منطق التعايش والتأقلم والتكييف مع ظروف "المواطنة" على الهامش الذي يحدده الكيان الصهيوني مهما تم توسيعه رمزياً ولغوياً وشكلياً.
**********
كنعان