|
السيمات العامة لتبلور الفكر الحديث
جبوري يونس
الحوار المتمدن-العدد: 4843 - 2015 / 6 / 20 - 23:51
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
مــــدخـــــــل : لا شك في أن لكل عصر خصائصه الثقافية و العلمية والتاريخية ، التي تتباين بتباين الظروف والأزمنة والحقب " الأزمنة اليونانية القديمة ، العصور الوسطى ، الأزمنة الحديثة ، أزمنة ما بعد الحداثة " ولذلك فمن نافلة القول إذن أن الفكر الفلسفي الحديث نشأ في سياق زمني تحكمت فيه ظروف تاريخية وأخرى ثقافية وعلمية ــــــــــ " الإصلاح الديني "، وكذا الاهتمام بالعلم نهيك عن الاهتمام المتزايد بالمناهج، إبلاء الإنسان أهمية قصوى في مجال البحث والمعرفة وهو ما يسمى بتذويت المعرفة أو بالأحرى تذويت العالَم" ــــــــ تفاعلت وساهمت في ولادة حقبة جديدة ، كانت بمثابة نقطة التحول من العصر الوسيط ، إلى العصر الحديث . ويتيح لنا ما سبق أن نؤطر هذا الموضوع بالأسئلة الآتية : إلى أي حد يمكننا مقاربة هذه التحولات ؟ وما مدى فاعليتها في تجاوز السائد وإعلان الميلاد الجديد ؟ و أي مكانة يحتلها المنهج في هذه الحقبة بالضبط ما دمنا أشرنا سلفا إلى حضوره القوي عند جل الفلاسفة ؟ وهل حقا كانت إعادة النظر في المناهج العلمية مسألة ضرورية ؟ المحور الأول : الدين والعلم والإنسان كمعالم كبرى للعصر الحديث 1-1 تضاؤل سلطة الكنيسة . لقد أخذ الدين موقعا مهما وأساسيا في العصور الوسطى ، إذ أن الاهتمام الذي كان سائدا من قبل رجال الدين ، منصب على مهمة التوفيق بين الفلسفة والدين إلى حدودٍ أن أصبحت فيها الفلسفة خادمة للدين ، وخاضعة لسطوته ليكون العقل بذلك شيء ثانوي بل لم تعد الحاجة إلى إعمال العقل ضرورية كما يقول الغزالي مادام هناك حضور للدين وبالتالي انتصار له ،الأمر الذي أدي إلى جمود الحياة العقلية والعلمية في أوربا ، لكن سرعان ما ستشهد هذه الأوضاع تحولا كبيرا خاصة بعدما أخذت معالم القرون الوسطى في الاختفاء مع نهاية القرن الرابع عشر ومطلع القرن الخامس عشر والذي يشكل بدوره الإرهاصات المهمة لولادة الفلسفة الحديثة ، بحيث ظهرت نزعات تحررية لتتجاوز سلطان الكنيسة رفض المفكرين على إثرها تدخل الكنيسة في العلم كما تم رفض الإجحاف المادي الذي فرضته والحديث هنا عن حركة الإصلاح الديني التي أخذ الألماني ما رثن لوثر شارة قيادتها سنة 1517م ، إضافة إلى الإنجليزي جون كالفان ، وهو إصلاح جاء عقب الفساد الذي عرفته الكنيسة في تلك الفترة حيث كان الشغل الشاغل لرجال الكنيسة الكاثوليكية هو التهافت في كسب الأموال عن طريق مخادعة الناس ، متخذين صك الغفران وسيلة في ذلك بدعوى أن لهم دور الوساطة بين الخالق والمخلوق ، وقد أبان ما رثن لوثر أن "مثل هذه الأمور ماهي إلا خرافات لا أساس لها من الصحة فضلا عن أنها بدع مرفوضة " ، ولذلك فقد ارتأى أن أفضل خدمة يمكن القيام بها هي ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية حتى يتسنى للناس فهم مضامينه بدل تفسيرات رجال الدين الواهية ، وهي دعوة صريحة إلى أهمية حرية كل إنسان في عملية الفهم دون وساطة الكنيسة وهذا ما دعت إليه الحركة الإنسية بغية خلق ما يسمى "( كهانة الجميع )، أي أن كل إنسان على اتصال مباشر بالله " وبموجب ذلك تضاءلت سلطة الكنيسة إلى حدود الانسلاخ عن الدين والمقدس وفصله عن كل ما هو دنيوي كالسياسة مثلا ، فما لله لله وما لقيصر لقيصر ، وهذا ما يجعل من ثقافة الأزمنة الحديثة أقرب إلى الثقافة العلمانية منها إلى الثقافة الدينية. ولذلك يمكن القول إن الفلسفة الحديثة هي فلسفة التحرر من كافة القيود التي كبلت العقل في العصور الوسطى، إنها فلسفة الولاء ، فلسفة المواطن الصالح الحر ، بل إنها نمط من التفكير الذي يشكل بنية الثقافة البشرية في احتكاكها بالواقع الإنساني وليس أبدا التعالي عليه وإلا فما حاجتنا إليها . 2-1 تزايد الاهتمام بالعلم . ويعد من العوامل الأساسية التي ساهمت بشكل كبير في ولادة ونمو العلم الحديث في أوربا و يمثل مجموعة من المعارف التي ارتبطت بالعصر الحديث معلنة تعارضها مع العصر القديم فقد تم الانتقال من عصر عقلي إلى عصر عقلي جديد وذلك بالثورة العلمية التي حدثت خلال سنة 1543 بحيث نشر فيها عالم بولندي (1473-1543) اسمه كوبرنيك كتابا تحت عنوان " حول دوران الأفلاك السماوية " يعلن فيه أن الأرض تدور حول الشمس وحول نفسها بينما كان الناس يعتقدون أن الأرض هي مركز الكون والشمس والنجوم هي التي تدور حولها وذلك تبعا للنظرية الأرسطية التي قام بطليموس بمعاودتها ، وأمام هذا الوضع المختلف والمتناقض ظهرت أبحاث ودراسات جديدة خاصة في مجال الفلك والفيزياء بعدما اندلعت ثورة في الرياضيات والفيزياء على يد ثلة من العلماء ، ابتداء من العالم البولندي كوبرنيك ثم الإيطالي غاليليو صاحب الكتاب العظيم والخطير الذي نشر سنة 1632 والمعنون بــ" محاورة حول نظامي العلمين الأكبرين البطلميوسي والكوبرنيكي "إضافة إلى الفرنسي رونيه ديكارت (أنتج نظرية رياضية عرفت بالهندسة التحليلية) ووصولا إلى الألماني كبلير (واضع أسس علم الفلك الجديد) والإنجليزي إزاك نيوتن صاحب كتاب "المبادئ النظرية للفلسفة الطبيعية " نشر سنة 1687 عمل فيه على التوفيق والتوحيد بين الفلك والفيزياء والرياضيات مضيفا إلى ذلك نظريات جديدة أبرزها " نظرية الجاذبية "والتي كانت بمثابة إجابة عن فرضية الأرض لكوبرنيك، وتجدر الإشارة إلى أن العلم الحديث غض الطرف عن اللغة الكيفية التي تؤدي في أغلب الأحيان إلى الوقوع في الخطأ ليهتم باللغة الكمية الدقيقة، إنها لغة الحساب والأرقام والرياضيات التي لا تتأثر بالعواطف والميول والرغبات، ويبدو أن هذه الفكرة قد خطرت ببال جاليليو ، ثم ديكارت بعد ذلك ، وانتشرت بعد ذلك كمبدأ ضروري للعلم الطبيعي في العصر الحديث ، بحيث أصبح يُنظَرُ للطبيعة ككم هندسي وامتداد متجانس لمكوناتها حتى تم نَزْع الطابع الإحيائي السحري عن الطبيعة لتتحول كما يقول غاليليو إلى " كتاب مفتوح مكتوب بلغة المثلثات والمربعات والأشكال الهندسية " ، وهكذا حول العلم الحديث الطبيعة إلى " معادلات رياضية وأشكال هندسية أي إلى هياكل عظمية فارغة كما يقول برترند راسل ، أو إلى مجرد مخزن للطاقة منذور لأن يتحول إلى موضوعات قابلة للاستهلاك كما يقول هيدجر" . . ومن ثم جاز لنا القول أن هذا العصر يمثل انطلاقة للعلوم نحو الآفاق الواسعة للتجربة العلمية ، التي كان هدفها تحرير العقل الإنساني من كل قيد ومن كل سلطة فكرية، خاصة في ظل السطوة الأرسطية المسيطرة على العقول، بحيث كانت آراؤه هي السائدة وصوته هو المسموع، وكانت أفكاره وعلمه الطبيعي حاضرة بقوة في الجامعات الأوربية ، وتؤيده في ذلك السلطة الدينية. إذ لم يكن لأحد الجرأة في الخروج على نظرية العلم الأرسطية ، وكل من حاول ذلك فجزاءه لا يكون يسيرا بل عسيرا يتمثل عادة في عقوبات كالموت أو الحرق أو السجن أو النفي وما شابه ذلك من قبل الكنيسة التي كانت ترعى العلم الأرسطي آنذاك، ولا يخفى على أحد كيف كانت العقوبة التي أنزلت على جاليليو إذ تم الحكم عليه بالإقامة الجبرية في بيته إلى أن وافته المنية . 3-1 الاهـتمام بـالإنسان . تتسم الفلسفة الحديثة بخاصية لربما كانت نتيجة للصراع الطويل الذي كان محتدما وحامي الوطيس في العصر الوسيط ، بين الدين من جهة والعقل من جهة أخرى وتكمن هذه الخاصية في الاستخفاف الحاصل بالمجال اللاهوتي ، ليتم في مقابل ذلك الإعلاء من شأن الإنسان وكرامته ، وهذا ما حصل مع الحداثة عموما إذ جعلت للإنسان قيمة مركزية صار بموجبها يدرك نفسه كذات مستقلة ، خاصة وأن العقل في هذه الفترة بالتحديد يعد ملكة مؤَسِّسَة للموضوعات والمعارف وهو ما سَيُعرَف عند ديكارت بالكوجيتو أي أن هناك انتصار للذات المفكرة ، ورؤية ذاتية للعالم ، حيث حرصت على أن يحيا الإنسان حياة أفضل لكون الإنسان يمثل أهم كائن في العالم الطبيعي فهو الغاية والوسيلة في نفس الآن من حيث كونه يدرك الموضوعات فضلا عن رغبته الدائمة في التحرر من العوائق والعراقيل وربما كانت هذه الفكرة شرط أساسي في المعرفة ، ليكون " الإنسان ذاته هو العامل الفاعل في التطور والتحضر ، القادر عليهما والمسؤول عنهما . إنه سيد قدره خيره وشره ، والخير يأتي كلما استوعب هذه الحقيقة وقام بفروضها معتمدا قواه وإمكاناته الذاتية " وهو في نفس الوقت إيمان بالعقل كميزة للإنسان ، ومنبع تفوقه ونجاحه ، إنه الأداة والوسيلة التي تجعله يطل على الحقيقة ، ويتطلع إلى اليقين .ومنه يمكننا القول بأن الفلسفة الحديثة قد تميزت بسيادة نزعة إنسانية ، أعادت الاعتبار للعقل البشري ، و آمنت بقدرته على فهم العالم و السيطرة على الطبيعة. وبهذا نكون قد أشرنا إلى بعض التحولات والعوامل وكذا السمات التي ساهمت بشكل كبير في تبلور وتميز الفلسفة الحديثة في جل مذاهبها ، والتي من خلالها يتسنى لنا فهم ومعرفة هذه الحقبة المهمة من تاريخ الفلسفة ، إن لم تكن أهمها على الإطلاق . المحور الثاني : سؤال المنهج باعتباره السؤال الذهبي للعصر 1-2 أهمية المنهج . لعل الاهتمام بالمناهج كان من أهم سمات الفلسفة الحديثة على الإطلاق ، فقد كانت زيادة الاهتمام بالعلم في نفس الوقت اهتماما متزايداً بالمنهج العلمي و العمل على تطبيقه بغية الوصول إلى اليقين ، والاستفادة من بعض قوانين العلم ونقلها إلى ميدان الفلسفة ، وقد بلغ هذا الاهتمام ذروته في القرن السابع عشر حتى سُمي هذا القرن على وجه الخصوص بعصر الاهتمام بالمناهج خاصة مع ديكارت صاحب كتاب المقال في المنهج ، ورغم كون الاهتمام بالمنهج أصبح مع فلاسفة وعلماء العصور الحديثة فإنه ليس ظاهرة حديثة العهد ، بل كان منذ سقراط ليظهر بشكل واضح مع أرسطو والحديث هنا عن القياس الذي كان يمثل المنهج الرسمي والسائد والطاغي في الساحة العلمية والمعرفية ويراد به " قول مشهور متى وضع فيه شيء لزم عنه بالضرورة شيء غيره " وهذا تحديد أرسطي ويمكن أن نعاوده على شاكلة أرسطية أخرى بقولنا .
القضية الكبرى -;---;-- كل إفريقي فان القضية الصغرى -;---;-- كل مغربي إفريقي النتيجة -;---;-- كل مغربي فان لكن سرعان ما سيتعرض هذا المنهج الأرسطي لموجة من الرفض والدحض والانتقاد من قبل مجموعة من الفلاسفة والعلماء أمثال بيير لا رامي (1515-1572) وهو من الأوائل الذين عملوا على زعزعة الفلسفة المدرسية ونقد المنطق الأرسطي خاصة قواعده التي يرى أنها ليست إلا إرهاقا للعقل ،وله كتاب بعنوان "في أن كل ما قال أرسطو وَهم"، ثم جيورادنو برونو (1548-1600م) وهو من أبرز ممثلي عصر النهضة الذي انتقد هو الآخر المذهب الأرسطي في مقابل دفاعه عن علم الفلك الجديد فضلا عن ما قام به جاليليو في هذا الموضع بحيث اهتم بالرياضيات كوسيلة ذات جدوى وأهداف تتجاوز مرامي القياس الأرسطي هذا وقد بلغ النقد مبلغه مع كل من بيكون صاحب وديكارت الذين رموه بالجمود والعقم ، وقدموا منهجا بديلا عنه . 2-2 النقد البيكوني. فعلى صعيد المنهج كما سبق وأن أشرنا ، أخذ مفكرو العصر الحديث بنقد القياس الأرسطي والإشادة بمنهج جديد أكثر فاعلية في المعرفة وهو الأمر الذي نجده عند بيكون اعتقد فرنسيس بيكون أن هناك عيوبا تكترث المنطق الأرسطي ، وخاصة في القياس ، مبينا ضعفه في كونه لا يعتمد على التجربة ولا على الملاحظة وليس فيه أشياء جديدة ، فهو " يفرض الموافقة على القضية دون أن يمسك بالأشياء " ، وبالتالي لا يساهم في تقدم العلم ، هكذا يكون عقيما غير منتج ينطوي على المصادرة على المطلوب ، أي أنه بمثابة مغالطة تجعل المطلوب جزئا من المقدمات المراد بها إنتاجه ، وقد أدى هذا ببيكون إلى وضع كتابه " الأورجانون الجديد" أو" القانون الجديد " فإن كان أرسطو قد وضع الأورجانون القديم ، فقد عمل بيكون على الرد عليه بأورجانونه الجديد الذي يناسب طبيعة المعرفة العلمية الحديثة لأن الإقبال على دراسة الطبيعة كما يقول بيكون يجب أن تكون بطريقة مباشرة باعتبارها الطريقة الأنسب أي التحرر من الوسائط واستبعاد كل ما من شأنه أن يلعب دور الوساطة بين العالم والموضوع ولهذا السبب يرى بيكون أنه لِزَاما علينا في بداية الأمر تحرير العقل البشري من التصورات السائدة والمواقف القديمة التي ألقت بالعقل في ظلمات الجهل والانحراف عن الفهم الصحيح للطبيعة وإدراك قوانينها في أفق التحكم فيها والسيطرة عليها ، لأن من خلال عادات الحياة اليومية ومداولاتها أصبح العقل محشوا بمذاهب فاسدة وأوهام فقد حاول بيكون إصلاح العلوم والاعتماد على الطريق الاستقرائية لا الطريقة القياسية فبعدما كان العلم القديم يبحث في الصورة أراد بيكون بهذا الجديد أن يبحث في الماهية والمادة ، من هنا كان هدف بيكون يتمثل في تصحيح مسار العقل البشري وذلك بإرساء قواعد التفكير السليم و المنهج المنتج عن طريق نقد المنطق الأرسطي ، وكشف عيوبه لكونه الأداة التي استعان بها القدماء في الوصول إلى نظرياتهم الخاطئة ، خاصة وأن المنهج الذي كان سائدا هو منهج محدود لا ينزاح عن ما هو كائن تلجأ إليه أغلبية الناس لأسباب أهمها قصور قدراتهم العقلية ، في مقابل المنهج الحديث والذي يعتبره بيكون هادف ومنتج يرتبط بأناس لا يقبلون الركون إلى استعمال المعارف السائدة بل ويعملون على تجاوز السائد واختراق المعطى والدفع بالبحث إلى أقصى تخومه القصوى منقبين بذلك عن معرفة يقينية لأن الهدف الأساسي هو " أن نرسي درجات متزايدة من اليقين " ، وقد قال بيكون عن هاته الفئة الباحثة عن الحقيقة والطالبة للمعرفة " فلينضموا إلي كأبناء حقيقيين للمعرفة ، حتى نَعبُر الأفنِـيَّة الخارجيةَ للطبيعة ، تلك التي وطأتها الحشود ، فنفتح منفذا في النهاية إلى غرفها الداخلية " ، وهو منفذ يكون عن طريق المنهج الاستقرائي الجديد يمكن أن نقول عنه أنه وجهين أحدهما نقدي هدام والثاني باني ، ويتمثل الجانب النقدي في أنه يهدف بداية إلى تخليص العقل البشري من التصورات والأفكار والمواقف التي تقوم كوسائط بين العالم والموضوع المدروس حاجِبَةً عنه الفهم الصحيح للطبيعة والإدراك المباشر لقوانينها إذ أصبح العقل بفعل العادات اليومية ومداولاتها مَحشُوًا بمذاهب فاسدة وأوهام فارغة ويحدد بيكون هذه الأوهام في أربعة رئيسية هي " أوهام القبيلة ، أوهام الكهف ، أوهام السوق ، أوهام المسرح " ، أما الوجه الثاني أو الجانب المؤسس فيتمثل في إرسائه للقواعد التي تشكل منهجه الاستقرائي والتي من شأنها تمكين كل من استعملها بلوغ المعرفة بطريقة مباشرة وذلك بالانطلاق من جمع الحقائق لكون هذه العملية هي المادة الأولى للبحث العلمي والاستقراء عن طريق الملاحظة والتجربة ، ليتم بعد ذلك ترتيب الأفكار والمعارف والحقائق المتجمعة ، ثم الاستقراء العلمي من خلال استنتاج الأحكام والخصائص الذاتية للظواهر التي نحن بصددها ، من هنا يتبين لنا أن المنهج البيكوني يقوم على الاستقراء الذي ينتقل من الجزئيات إلى الكليات معتمدا على الملاحظة والتجربة ، فهو يهدف إلى التوجه المباشر إلى الطبيعة نفسها حتى يتسنى لنا التحكم فيها وتسخيرها لصالح الإنسان ، ويرى بيكون أن الباحث بعد أن يجري التجارب ويجمع الشواهد عليه أن يقوم بترتيبها في أفق بلوغ الحكم العلمي النهائي أو القانون . 3-1 النقد الديكارتي. لربما كانت الفكرة الأساسية التي ينطلق منها ديكارت في نقده للمنطق الأرسطي ورفضه للقياس هي نفسها التي انطلق منها بيكون والتي تتمثل في كون المنطق الأرسطي يقوم على قواعد لا تسمح بالابتكار والاختراع بل إن شئنا القول بالمنظور الديكارتي قلنا إنه يجعل الذكاء سجينا في أقفاص المعرفة السابقة ما يجعل نطاق المعرفة يتقلص ويضيق شيئا فشيئا بدلا من أن يعمل على نموها ويساهم في تطويرها ، فعندما نتوصل إلى أن " كل المغاربة فانون " كنتيجة لمقدمتين كما أشرنا في المثال السابق ، يقول ديكارت أننا لا نكون إزاء شيء جديد أو معرفة جديدة كما يرى أرسطو بل على العكس من ذلك فإننا نكون أما شيء متضمن في المقدمات أي أن ما يسميه أرسطو نتيجة ليس في نظر ديكارت إلا مصادرة على المطلوب ولتجاوز هذا الوضع التجأ ديكارت إلى الاهتمام بالرياضيات والاعتماد على العقل في المعرفة ، في محاولة للثورة ضد الفلسفة المدرسية خاصة فلسفة أرسطو ، إذ لم يقبل بأن يكون تحت تأثيره ، بل كان يؤمن بما يقنعه به العقل ، أما التابعين والقابعين تحت سطوة أرسطو فهم ليسوا إلا عبيدا تائهين من حيث أنهم يعتمدون على قياسه كوساطة للتفكير في الموضوعات على اختلافها في حين أنه في الحقيقة لا يؤدي إلى نشوء علم جديد وهذا ما يجعل تابعيه كما يقول ديكارت مقيدين بأغلال وسلاسل من الوصاية وغير قادرين على الرؤية التلقائية والمباشرة للعالَم يقول ديكارت " وإني لواثق أن أكثر متابعي أرسطو حماسا الآن ، يرون أنفسهم سعداء لو أن لهم من العلم بالطبيعة ما كان له حتى بشرط ألا يتجاوزوا قدر ما علمه ، إنهم مثل اللبلاب الذي ليس مستعدا لأن يرتفع إلى ما فوق الأشجار التي تسنده ، بل وكثيرا ما يهبط بعد أن يبلغ ذروتها لأنه يبدو لي أيضا أن هؤلاء يهبطون ، أي إنهم يردون أنفسهم على وجه ما ، أقل علما مما لو كفوا عن التحصيل " ، من هذا المنطلق يمكن يتضح مدى اتفاق كل من بيكون وديكارت في الٌقول بأن المنطق القديم قد مضى زمنه وأن هناك موضوعاً أجدر منه بالدراسة وهو المنهج العلمي الذي يلائم طبيعة العلوم الحديثة ، فقد أجمعوا على أن قيمة الفلسفة ومكانتها عرفت تراجعا وجمودا لأنها كانت تحتاج إلى طريقة جديدة وإلى " أن تبدأ مرة ثانية بقلم جديد ولوح نظيف وعقل مغسول مطهر" ، ليُنشأَ بيكون منهجه الاستقرائي التجريبي ، في حين تبين لديكارت أن السبيل الوحيد هو المنهج العقلي الذي استمده من الرياضيات .
#جبوري_يونس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدخل للإنفتاح على تاريخ الفلسفة
-
القدرة والكفاية والمهارة أية علاقة ؟
-
النظرية السلوكية في عوارض
-
الفلسفة درس في مناهضة العنف وألية لتدبير الإختلاف
-
أحلام هي أم كوابيس ؟
-
الفلسفة قراءة مستمرة لتاريخها
-
الفلسفة بما هي نمط للحياة
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|