|
متعويتي زاهدة
المصطفى صباني
الحوار المتمدن-العدد: 4840 - 2015 / 6 / 17 - 20:40
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ترجمة : المصطفى صباني حديث مع ميشيل أونفري حول كتابه الأخير "الكــون المتنــاغــم" خص به Michel El Techaninoff و Martin Legros يعيد ميشيل أونفري في مؤلفه الأخير "الكون المتناغم" (cosmos) 1 تعريف أخلاقه المتعوية على خلفية التحدي الإيكولوجي، والمناداة بجعل الطبيعة "الديانة الوحيدة الصحيحة"، هذا لقاء مع الفيلسوف الأكثر شعبية من بين الفلاسفة الفرنسيين، بل أيضا من بين الأكثر إثارة للجدل. ************************************* ساحر ولعين، لذوي وأخلاقي، مفكر، واختزالي. ميشيل أونفري أولا وقبل كل شيء هو موقظ، بمزيج من الحماس وروح الجد، وجب أن نراقبه في هذا الربيع ما بعد الظهر، يتحدث مدة ساعتين دون مدونة أمام قرابة ألف شخص جاؤوا للإنصات له في الجامعة الشعبية لمدينة كاين (caen) يعيد الحياة إلى فلاسفة المادية والمتعوية واللادينية، ورسالة الجامعة التي لم يتوقف برنامجها عن الاغتناء منذ نشأتها 2002، بعيد بلوغ جون ماري لوبين (Jean marie le Pen) 2 الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، هي "جعل العقل شعبيا" وفق وصفة كوندورسي (condorcet) 3، موضوع اليوم ؟ ساحة قتاله الجديدة : "مقاومة العدمية المعاصرة"، بعد كتابه اللاذع ضد فرويد، الذي أثار ضده حفيظة قسم من الانتلجنسيا، وكتاب "مبحث في نفي اللاهوت" 4 الذي جعل منه عدوا لكل المتعصبين حاليا ـ في شهر يناير الأخير يبدو أن الأخوين كواشي اللذين انكفآ داخل مطبعة دامرتان (Dammartin) بجويل (Goele) كانا حانقين على فيلسوفنا ـ فقد أبرز للوجود تأليفا جديدا سماه "الكون المتناغم" هاجم فيه بحدة نوعا من الحداثة، وامتدح الأرض، العمودية، الجذور والميراث، أذاك انحراف [عن أسلوبه في الكتابة] ؟ كيف ما كان الأمر، فقد كانت لهذا المهووس بالكتابة الجرأة على الإقرار، بعد نشر تسعين كتابا بـ "أن هذا هو في الواقع الكتاب الأول". وما يستوجب قوله هو أنه كتاب يحمل بصمة الموت : موت أبيه ورفيقة دربه. بصمة قادته إلى إتخام متعويته بالعبء المأساوي، خصوصا إذا حمل على عاتقه إدراج أخلاقه المتعوية ضمن الاهتمام الإيكولوجي بالعالم. لقد قبلنا دعوته وذهبنا لقضاء يوم صحبته، نسبر فيه طموحه الجديد، في شقته وسط كاين ذات البياض الناصع، المانح لرؤية بانورامية على السماء، أتلك أمارة؟ لا يتوفر محطم الأصنام إلا على القليل من النصب الإفريقية الصغيرة، وغطاءين للرأس هندين جد جميلين، كتاب الماضي وروح الحضارات المتوارية والسماء المرصعة بالنجوم، بهذه العلامات القليلة والبسيطة، لكن الملهمة، حدد ميشيل أونفري لنفسه بناء أسس أخلاق جديدة، فلنسر إذن على هديه. • ينفتح كتابك الأخير "الكون المتناغم" على موت أبيك، هذا الحدث الذي أعقبه موت رفيقة دربك قد قسم حياتك إلى قسمين، وأمام الفاجعة. بدا لك عدم كفاية المذهب المتعوي الذي تتبناه، فكيف تغلبت على المحنة ؟ • ميشيل أونفري : نحن لا نقيم الحداد، بل الحداد يقيم فينا .وفاة أبي صعقتني، وبعده بغتة جاءت وفاة رفيقة دربي التي عشت معها منذ سبعة وثلاثين عاما في مقصورة بارجونتان (Argentan) والتي لم تعد قدماي تطأ ذلك المكان، فقد طلبت من صديق أن يسترجع كتبي ويوزع الباقي ويبيع البيت، استقرت في كاين وحاولت مواصلة الحياة. هناك سوء فهم كبير حول المتعوية التي من المفترض أن أجاهر بها. لقد تصوروا دائما أن متعتي شبقية (libidinal)، جنسية (donjuanesque) و دونخوانية 5. وليس هذا إلا بعدا واحدا للعلاقة بين شخصين. المتعوية أولا هي في تلافي الكدر. مع التقدم في السن والمعاناة تصبح المتعوية متعوية التلافي، ويعني ذلك التآلف مع الآلام. حياة شخص في الثلاثينيات من العمر، يعيش مع أبويه ورفيقة دربه، ليست هي حياة شخص في الخمسينات يجد نفسه وحيدا حتى جسده قليلا ما يطاوعه، إن المتعوية تظل دائما في الصدارة. لكن الغاية تقتضي بعد الآن عدم الاستسلام للمعاناة التي تفرضها الحياة. • ماذا خلف لك والدك بعد الوفاة ؟ • ميشيل أونفري : بينما كان يتحدث قليلا، فقد علمني أبي [سبل] العيش. كان عاملا زراعيا، لقد تعلمت من رؤيته يعمل في حقول رئيسه أو في حديقته أكثر مما تعلمته من قراءة الكتب الأخلاقية. كان يعيش الزمن الفيرجيلي (virgilier) 6. وفي الوقت نفسه وثنيا ومسيحيا. مشدودا للكواكب والكون المتناغم، لكن يحيا وفق أخلاق عامة الناس المسيحيين، والطفل الذي كنته كان يعتقد بأننا فقراء، وكنا بالفعل كذلك من منظور اجتماعي، لكن أبي لم يكن يعتبرنا كذلك، وكان على حق. لم نأخذ أبدا إجازة، ولمن نذهب أبدا إلى مطعم وسينما ومسرح، لم يكن لدينا ما يكفي [لذلك من المال]، وما العيب في ذلك ؟ إن الفقر هو الرغبة في الحصول على أكثر مما تملك. والحال أن أبي لم يرغب أبدا أكثر مما لديه، لقد كان إذن غنيا بافتقاره لكل شيء، أنا لا أؤمن ببقاء الروح، لكن أعتقد أن الموتى يخلفون لنا ميراثا، والأمر بالنسبة لي أن أكون وفيا لهذا الميراث. لقد علمني أبي قياس الزمن والديمومة بالنظر إلى السماء المرصعة بالنجوم، والبحث عن مكانتي بين عالم الناس قياسا على هذه التجربة دون الاهتمام بأي قياس آخر. كان يمثل مظهرا للاستقامة والسداد. كان يستخلص الدروس من الطبيعة على النقيض من متاهات الثقافة، إن هذا هو ما يوجهني. • لقد عشت قسما من مراهقتك بدار الأيتام، وأمك هي التي أودعتك هناك. فكيف تآلف بين حب مطلق لأب وكراهية أم ؟ • ميشيل أونفري : أنا لم أبغض أبدا أمي. لم أكن أفهم لماذا تضربني. لقد كانت سليلة مؤسسات الرعاية العامة. ولكي تتخلص بدون شك من أشباحها كانت تعتدي علي فيما يشبه نوعا من تكرار الإكراه. وكنت أعلل النفس بالأمل في مواجهة ظلمها، ثم مع مرور الوقت انقلبت [عاطفتي نحوها] إلى شفقة. وقد ترك أبي الأمر على حاله لأنه كان يتعرض هو نفسه غالبا للإذلال. كان راضيا بما يحاق به، أما أنا فكنت أتمرد حين كانت تضربني، كان يمكن أن أعرض نفسي للقتل لكن لم أكن أبدا لأستسلم. لم أكن أدري من أين أتتني تلك القوة. • في دار الأيتام لم يتحسن الوضع ؟ • ميشيل أونفري : كان بعض القساوسة يعبثون بالأطفال. لم يحصل ذلك معي لكنه حصل مع آخرين، عشنا رعب الانتهاك الجنسي وفي جو قذر، مائة وعشرون في عنبر نوم، واستحمام واحد في الأسبوع وممارسة الرياضة كل يوم. لقد قاومت هذا العالم الموبوء بفضل الكتب، في مكتبة دار الأيتام عثرت على "صياد إسلادنا (islande)" لبيير لوتي (Pierre Loti) 7، والشيخ والبحر لهيمينغواي (Hemingway). وفجأة تنسمت الرذاذ وامتداد البحر. إن الكتب تفتح أمامك عوالم تسمح لك بالنجاة من تلك التي كنت تعيش فيها. شيئا فشيئا بدأت بكتابة قصص خيالية قصيرة قرابة العاشرة أو الحادية عشر من العمر، ثم مذكرات، فمحاولة روائية قرابة الخامسة عشر أو السادسة عشر من العمر، وفيما بعد جاءت الفلسفة. • كيف حدث لك ذلك ؟ • ميشيل أونفري : كنت أجهل كل شيء من الدراسات الجامعية الكلاسيكية حتى اسم التبريز نفسه. في الثانوية عشت حياة ماجنة قبل أن ألفت نظر أستاذتي للغة الفرنسية السيدة دوغي (Duguey)، ومن خلال متابعة قراءتي لنيتشه وماركس وفرويد على وجه الخصوص، توجهت بفضل منحة دراسية وجهة الفلسفة، وهنا حدثت صدمة لقائي بلوسيان جيرفانيون (Lucien Jerphargnon)، كان يلقي دروسا عن لوكريس (Lucrèce). وأنا الذي كنت أرى في المسيحية أفقا أخلاقيا متعذرا تجاوزه، اكتشفت أنه باستطاعتنا أن نكون أخلاقيين دون أن نكون مسيحيين، وأن نكون ماديين وفضلاء، تبادلنا الحديث عن مختلف المواضيع، تحدثنا عن غريبوي (Cribouille) شخصية لكونتيسة (comtesse) سيغور (Ségur) 8 التي رمت بنفسها في الماء كي ... لا تتبلل بالمطر، وقد رأى جيرفانيون في غريبوي شخصية مفهومية 9 تسمح بمعرفة حركة أولئك الذين ينتحرون "لخوفهم من الموت". وقد نشر في تلك المرحلة "العيش والتفلسف تحت حكم القياصرة" وكان ناشره بريفات (Privat) قد اقترح عليه جمع "العيش والتفلسف" في مصنف، يكون كل جزء منه مخصص لعصر . وقد اقترح علي كتابة الجزء المخصص للعصر الوسيط. وكنت قد رفضت دعوته، لكن تلك الدعوة غيرت حياتي، لقد منحتني ثقة لم يسبق أبدا لشخص بعد أن منحني إياها. كنت بالكاد في العشرين وقد بدأت إنجاز أطروحة وحصلت على منصب في الثانوية. • ماذا كانت تتناول أطروحتك ؟ • ميشيل أونفري : تناولت أطروحتي "الآثار الأخلاقية والسياسية للأفكار السلبية من شوبنهاور إلى سبينغلر (Spengler)"، أو كيف تساءل عدد من المفكرين؛ من نيتشه إلى باكونين؛ مرورا بستيرنر ( Stirner) وفيورباخ عن إمكانية بناء أخلاق وسياسة في غياب الإله، وذلك من 1819 تاريخ نشر "العالم كإرادة وتمثل" لشوبنهاور إلى 1918 تاريخ نشر الجزء الأول من "أفول الغرب" لسبينغلر، حصلت على ميزة حسن جدا دون تنويه لجنة التحكيم، لأني ذكرت فاغنير (Wagner) ـ ليست للمؤلف الموسيقي مكانة في أطروحة الفلسفة ـ وقد اقترحت علي مشرفتي على الأطروحة السيدة غويار فابر (Goyard – Fabre) في اندفاع وحماسة مهنة جامعية، ولأن حادثة فاغنير كانت قد قوة مناعتي ولأني كنت أرغب في الكتابة بحرية، فقد رفضت [اقتراحها]، ولغياب تحضير جدي، أخفقت في التبريز. درست عشرين سنة بثانوية مهنية، وبعد ذلك استقلت بغية تأسيس الجامعة الشعبية سنة 2002. والتي أقدم فيها كل أسبوع درسا أمام ألف شخص. • إنك تقيم للفلسفة "تاريخا مضادا" الذي يتعارض فيه تقليد مثالي مهيمن مع تقليد مادي مهمل، فما هو منهج قراءتك ؟ • ميشيل أونفري :اعتبر ما تم إبعاده من التاريخ الرسمي المسيطر، جزء من تاريخ الفلسفة الذي يشمل كتابا لا دينيين وماديين ومتعويين. إن منهجي بسيط : القراءة الكاملة للآثار وفق انتظام نشرها لتشمل حتى المقاطع التي خلفها المؤلفون بعد وفاتهم، وتقاطع ذلك مع سيرهم ومراسلاتهم، ويتلو ذلك، العمل على "تفكيك الأفكار المترابطة"، استئنافا لعبارة ريمي دوغورمان (Rémi de Gourmont)، لأن فكرة تكاد تستدعي دائما فكرة أخرى مقترنة بها آليا، هذا الاقتران غالبا ما يكون خاطئا. مثلا تفهم المتعوية كاستمتاع غير خاضع لعقيدة أو قانون، بينما تعني نوعا من الزهد. إن فصل المفكرين وأفكارهم عن كل حشو لأفكار مصطنعة تغشاهم. تلك هي المهمة التي نذرت نفسي لها. • في كتابك عن فرويد "افول صنم" قمت بعملية تنظيف... باحتقار المؤولين وكل ما نتج عن اكتشاف اللاشعور. • ميشيل أونفري : أنا واحد من القلائل الذين أعادوا فرويد إلى تاريخه وسياقه. أما كتاب السير الآخرون فهم يعيشون الأسطورة. أما فيما يخص المؤولين، فحقل التفكير الحقيقي شاسع بما فيه الكفاية، فلماذا إذن قراءة الأدب الثانوي الذي يعتم غالبا الأشياء؟ إن الفرويدين أنفسهم هم الذين يمحون الماضي حين يشوش على سيرتهم المعظمة لفرويد، ولست أنا [من يقوم بذلك]. يجب سرد وقائع محو فرويد وتزويره للمفكر الفرنسي جانيت (Janet) 10 ونهبه لفكره، إذا كان اللاشعور موجودا فليس فرويد هو من ابتكره، لقد قدم له صوغا مبسطا ومضللا، وفرادة نسبه الأصلي تكمن في تحويل استيهامه الأوديبي الخاص إلى نظرية ذات إدعاء كوني. • في مؤلفك الأخير تمجد العودة إلى الكون المتناغم للإغريق القدماء، وعالم ما قبل المسيحية وما قبل الحداثة. أليست هذه سذاجة ؟ أيمكن أن نتظاهر كأن الثورة العلمية التي نقلتنا من عالم مغلق إلى كون مفتوح لم تتم؟ • ميشيل أونفري :أؤكد على أنه بإمكاننا إخراج العالم من النصرانية والتخلص من الأيقونات الدينية، اللاهوتية أو المتسامية وإعادة توظيف الكون المتناغم بتجنب التقليد الميتافيزيقي الذي يتعارض فيه عالم الأفكار والإله "الحقيقي" مع عالم الجسد والطبيعة الظاهر. زد على ذلك أني أتغذى على أحدث الاكتشافات في علم النبات والفيزياء الفلكية والعلوم الطبيعية والهندسة الفضائية لوصف هذا النظام الطبيعي، ليس إذن الأمر هنا دعم وثنية جديدة. إن السذاجة هي رفض ما يعلمنا إياه العلم المعاصر. • ومع ذلك تؤكد أن الديانة الوحيدة الحقيقية هي الطبيعة وأن جنان الثقافة المصطنعة تبعدنا عنها !. • ميشيل أونفري :أكتبت ذلك ؟ [يقرأ المقطع من مؤلفه]، نعم إنك على حق، لقد أكد هيدغر أن نسيان الوجود هو المعضلة، وأعتقد من جهتي أن المعضلة هي نسيان موجودات (Etants) وأشياء هذا العالم، فلم يكن حسب منطق ما قبل الدين التوحيدي نسيان للموجودات لأن الناس كانوا يصونون علاقة مباشرة مع الطبيعة، والأفراد كانوا شديدي الوثاق بالموجودات، ويمكن لهذه الرابطة أن تعمل على إنشاء روحانية لا دينية جديدة، أي دين يكون بالمعنى الاشتقاقي وسيلة تعيد ربط بعضنا بالآخرين وذلك بشدنا ثانية إلى الطبيعة. إن الكون المتناغم هو النظام. إن الثقافة اليهود ـ مسيحية التي اختلق فيها الإله الطبيعة البرانية قد كسرت تلك العروة الوثقى مع الطبيعة. وبفضل علماء البيئة نعمل حاليا على العثور عليها. لنبذل جهدا ـ أكانت لي رغبة في قول ذلك ـ لأن الكون المتناغم يوجد في ما وراء الطبيعة !. • ما هو الفرق ؟ • ميشيل أونفري : إن الطبيعة هي ما له علاقة بكوكبنا [الأرض]، هي توازن مجالنا. كان علماء البيئة مصيبين حينما أثاروا انتباهنا نحو تبعيتنا لهذا المجال، لكن الأرض ضائعة في كون لا متناه ذي عوالم متعددة نسميه الكون المتناغم (Cosmos). لذلك وجب توسيع وعينا الوجودي بالطبيعة ليكون من بعد الآن وعيا على صعيد الكون المتناغم. لقد عشنا لحظة ميتافيزيقية عظيمة في تاريخ الفكر حين بدت لنا الأرض للمرة الأولى من القمر على شاشة التلفزة، في هاته اللحظة بالذات أضحت عبارة الكسندر كويري (Alexendre Koyré) ـ التي ذكرتها ـ ذلك المرور من عالم مغلق نحو كون لا متناه، تجربة ملموسة : لقد بدت لنا الأرض مثل كوكب ضائع في شساعة كونية ونحن فوقها. • يجسد الكون المتناغم للإغريق نظاما لا يتوقف علينا، بل نحن المتوقفون عليه. ما يميزنا عنهم ألم يكن على العكس من ذلك اكتشافنا إمكانية الإخلال بهذا النظام نتيجة فعلنا الخاص؟ • ميشيل أونفري : لن نعود للوراء في تخط للعلاقة البرانية [بالطبيعة] التي أرساها دين التوحيد، نحن نعيش في ظل منطق الحداد في علاقة بالطبيعة. هذا لا يمنع من الاسترشاد بالإغريق الذين يعتبرون أنفسهم جزء من الكون المتناغم، لذلك أتمنى أن لا يحسب الناس أنفسهم مجرد نتاج للحضارة، بل هم كذلك جزء من هذا الكل العظيم. لدفن الميت، قديما كنا نمدده في نعش من خشب ليتحلل في الأرض ويعود إلى الطبيعة، وزمن التحلل يتقاطع مع زمن الحداد. حاليا تسجن الأجسام في أكياس بلاستيكية لتوضع في نعش محكم الإغلاق ويلقى بها في سرداب من الإسمنت، لقد أضحى الموت لا إنسانيا. • أيشدك الحنين إلى نظام مفقود ؟ • ميشيل أونفري : لا، أنا أتابع مرحلة كانت فيها حكمة وصفاء، لأنه كانت لكل واحد مكانته في الكون المتناغم، لذلك فأنا أحاول أن أتعلم من تلك المرحلة، وعلى ما كانت عليه، وعن ما يمكن أن تصير إليه. إننا نعيش منذ الآن فصاعدا قلقا وجوديا متعاظما، وحضريا متراص اسمنتيا، مضاء ليل نهار. أنا مقتنع أنه بإمكاننا عقد صلة جد ملموسة بالعالم. • ما العمل ؟ • ميشيل أونفري : إني أقدم مسارات في كتاب "الكون المتناغم" وأقدم تجارب مثل تجربة الاستماع للموسيقى الرتيبة أو ممارسة الهايكو (Haiku)، والقراءة والتأليف اللتان توصلانا بقوى تتجاوزنا وتؤسسنا ـ الإيقاع، الانسجام، التكرار، الأنغام، الأسجاع والمجانسات ـ وبعيدا عن الفن، حين ينتقل الناس بشكل جماعي نحو شاطئ البحر لمتابعة عرض المد والجزر الكبيرين، لأن الناس يبحثون في أعماقهم الجوانية عن الجليل (Sublime) والمهيب، مثل الإنسان الأول الذي يقف أمام طلوع الشمس. هذا ما يريد قوله مفهوم "الدين الحقيقي"...دين يربط الناس بالعناصر دون إله. • منذ مدة طويلة احترفت المعتوية، ألا ترى أن تربية كل فرد لمتعته الخاصة قد يبعدنا منذ الآن عن استشراف اتصال متجدد مع كل الطبيعة العظيم ؟ • ميشيل أونفري : إن المتعوية المبتذلة منصرفة لمراكمة اللذات ومنافع الاستهلاك، وهو ما ينمي نكوصا أنانيا ونرجسيا. أنا لست واحدا من أولئك المتعويين الذين يرضعون السجائر الإلكترونية، المنبهرين بهواتفهم النقالة، والذين يتجولون بدرجاتهم البخارية ويبتلعون مضاداة الاكتئاب والحبوب المنومة. إن المتعوية التي أدافع عنها هي على النقيض من المنطق الحامي للاستهلاك، لم أقم أبدا بتقريظ التملك، وأنا بعيد جدا عن ثقافة الإنفاق، لم أتناول أبدا ولو مخدرا واحدا. سكرت مرة سكرا مرهقا بالكونياك (Cognac) دام يومين حين كنت في الكلية، هذا كل ما في الأمر. ولم أعاود ذلك أبدا، المتعة بالنسبة لي هي أولا ذلك النوع من الابتهاج للقيام بما نستشعر وجوب فعله. لذلك لا أعارض الرواقيين بالأبيقورينن. في بعض الأحيان نجد متعة في حرمان أنفسنا من لذة لأننا نعلم أن هذه اللذة سوف يتم تسديدها كدرا، لذلك نتجنبها خوفا من ذلك السداد. هناك أيضا متعة العمل المتقن. إن متعويتي هي متعوية زهدية، هي في الواقع نوع من الرواقية، فنحن لا نحيا بامتلاكنا العالم ولكن بامتلاكنا لأنفسنا. • تعجب بالخلافات وأحيانا تحدسها، في "الكون المتناغم" تسترجع جملة نموذجية من روح فيشي (Vichy) 11وبيتان (Petain) : "الأرض لا تكذب" كي تذكرنا بأن المفكر ذي الأصل اليهودي إيمانويل بيرل (Emmanuel Berl) هو الذي صاغها. • ميشيل أونفري : إن الخلافات سببها الصحفيون الذين ضربوا صفحا عن نصوصي، والدليل هو ظهور بيتان للحديث عن الكون المتناغم، وذلك الاستشهاد الذي لم أنسبه أبدا لنفسي... "لا تكذب الأرض أكثر مما لا تقول الحقيقة"، هذه هي الأرض باختصار. منذ قرابة قرن والفلاحون يدفعون فاتورة هذه العبارة المقترنة ببيتان بينما ندين بها لإيمانويل بيرل، ذلك المثقف العظيم الذي له قرابة عائلية بأسرة بروست وبرغسون، وصديق السورياليين، وهو رجل اليسار. بشكل عام فكل واحد يرغب في التفكير في قضية الطبيعة يصبح بسرعة بيتاني (Pétainiste) مقنع. • حتى وإن كنت لم تسترد العبارة لحسابك الخاص، فيفترض أنك تؤجج نارا لأن الأرض على وجه الخصوص واحدة من أقطاب التفكير الفاشي. • ميشيل أونفري : إنك تؤكد بشكل دقيق بأنني لم أستردها لنفسي. قد يحين الوقت للتمييز بين طريقتين للتفكير في الأرض. وبالطريقة نفسها التي يكون لنا فيها هيدغرين، لليسار ولليمين، يكون لنا في علم البيئة مفكرون لليمين وآخرون لليسار، لكن مؤسس علم البيئة العميقة النرويجي أرن ناش (Arne Naess) قليلا ما يشتبه في تعاطفه مع أقصى اليمين، وكذلك مؤسسو التقشف (decroissance) ليسوا فاشيين، ليست لي شعيرة [تقدس] الموتى، العرق، التجذر حتى وإن كنت أزعم بالقول أني من الأرض على قدر ما أنا من اليسار. أحب نورماندي وفيها أعيش، يمكن أن نحب أرضا، منطقة، رطوبة، مناظر طبيعية، جغرافيا تولد من جيولوجيا، وإذا تاريخا ثم أنطولوجيا، وأن تتهم بالفاشية. في اليسار، استمدت كراهية القرى والفلاحين من ماركس الذي فضل عليهم عمال المدن. ودون استرداد العبارة إلى حسابي الخاص، أقول إذا كانت الأرض لا تكذب فهي لا تقول شيئا. • فيما كنت تفكر حينما كان الأخوان كواشي اللذان اغتالا بعض أعضاء هيئة تحرير "شارلي إبدو" يترصدانك ؟ وكيف تموقع نفسك بالنسبة لعوده الديني ؟ • ميشيل أونفري : فيما يخص الأخوين كواشي وجدت هذه المعلومة في جريدة "لوموند" التي أثارت نحوي هذا النوع من الانتباه من دون أن تحذرني ودون أن يشغل بالها عما يمكن أن أصاب به من رصاصة، في الحقيقة، كنت دائما أعتقد أن سقوط جدار برلين ونهاية الشيوعية سيقودان إلى عودة الديني، وكان صامويل هاتنغتون (Samuel P.Huntington) على حق في تأكيده على نشوء الحضارات من الأديان، لذلك أستغرب رفض المثقفين لهذا الإثبات لأنه ناتج عن ابتذال مشوش. هناك بالفعل صراع للحضارات بين الغرب المنحط والإسلام الكوني الذي هو في كامل قوته. في وقت "مبحث في نفي اللاهوت" 2005، لم أكن أرغب في أن يكون لي اختيار بين قرآن بن لادن والكتاب المقدس لجورج بوش. كنت أرغب في الدفاع عن روح النقد واللائكية والتحليل الفلسفي الفولطيري (Voltairienne). وهذا النضال هو أكثر أهمية من أي وقت مضى. بخصوص الديانات التوحيدية الثلاث ينصح بشدة تقديم قراءة نقدية للمسيحية بينما تمنع حين يتعلق الأمر باليهودية والإسلام. فيمكن للفيلسوف أن يمارس كما يريد عقله النقدي على الكتاب المقدس ولكن ليس على التوراة والقرآن، لذلك لا أرغب في التفكير في ما يستوجب فيه التفكير. لحرية التفكير ضرورة دفع هذا الثمن. Philosophie Magazine, Mensuel n° 89, Mai 2015
هـــوامــــش : 1 – الكوسموس أو الكون المتناغم أو الكون الخلاق، هو العالم المحكم التنظيم المتعارض مع الكاووس (chaos) الذي يعني الفوضى و العشوائية. 2 – جون ماري لوبين هو الزعيم السابق للجبهة الوطنية الفرنسية المعروفة بعنصريتها وعداها للمهاجرين. 3 – عالم رياضي اشتهر بأعماله المخصصة للإحصائيات والاحتمالات، وإصلاحاته للنظام التربوي والقضائي (1743 – 1794). 4 – كتاب مترجم إلى اللغة العربية تحت اسم "كتاب نفي اللاهوت" ترجمة مبارك العروسي عن دار الجمل سنة 2012. 5 – الدونخوانية نسبة إلى الدون خوان وهي البحث عن التأمين النرجسي عبر القيام بمغامرات عشقية تتجدد باستمرار. 6 – الزمن الفيرجيلي هو الزمن الدائري لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد متبعا نفس المسار الدائري. 7 – كاتب سير ذاتية يسرد فيها رحلاته (1850 – 1923) نالت روايته "صياد اسلاندا" شهرة عالمية تحولت على إثرها إلى شريط سينمائي. 8 – روائية فرنسية من أصول روسية (1799 – 1874) يغلب على أعمالها الطابع الحكائي الخرافي ذات المنحى الأخلاقي. 9 – الشخصية المفهومية هي التي اختلقها جيل دولور وهي شخصية خيالية أو شبه خيالية تحمل تصورات وأفكار فلسفية كشخصية زرادشت عند نيتشه. 10 – بيير جانيت (1859- 1947) هو فيلسوف وطبيب نفسي فرنسي، هو من أبرز مظاهر الخلل النفسي عند العصابيين وفاقدي الذاكرة، وإليه يعود التنظير للتنويم المغناطيسي وتحويله إلى وسيلة للعلاج، والبعض يتهم فرويد بالسطو على أفكاره. 11 – هي سلطة تابعة للنازية الألمانية كان يرأسها الجنرال بيتان كانت تحكم فرنسا في ظل الحكم النازي لهيتلر.
#المصطفى_صباني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل عاد الديني أم رحل؟
المزيد.....
-
قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين
...
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|