صباح راهي العبود
الحوار المتمدن-العدد: 4838 - 2015 / 6 / 15 - 14:42
المحور:
الطب , والعلوم
يدور الحديث بين حين وآخر عن خبر إكتشاف أثرقديم أو هيكل عظمي لإنسان أو حيوان عمره ملايين السنين ,أو ربما قارورة خزفية أو بقايا طعام كان يتناولها السلف الموغل في القدم, لا بل أحياناَ يتم وصف طعامه والملابس التي يرتديها وكيفية الحصول عليها, ويخبرونك أحياناَ أخرى عن قبرلملك عاش في زمن غابر يتم تحديده والى غير ذلك من أمور تخص ما مضى من زمن بعيد.ولعل القاريء غير ملام على عدم معرفته بتلك الخبرات والمعلومات ,ولكي نغني ونزيد ثقافته بهذا الصدد يتوجب علينا أن نكشف له بعض المعارف التي يمتلكها علماء الآثار من خلال (الأركيوبولوجيا) وهو العلم الذي يعنى بدراسة البيئة المادية الدالة على ماضي الإنسان القديم ومخلفاته ودراستها وإخضاعها للتحليل العلمي سواء أكانت هذه المخلفات مادية أم فكرية وتشمل الموضوعات التي من الممكن رؤيتها وتحسسها وقياسها وتصنيفها والتي تعكس تطورالحياة البشرية والمعارف والتقنيات عبر العصور من مبان وعمائر وقطع فنية وأدوات حجرية وقطع فخار وحلى ذهبية مدفونة مع صاحبها أو ربما بقايا معبد فخم أو مدينة طمرتها مياه السيول والفيضانات أو دفنها زلزال ضارب,و أحياناَ تكون هذه اللقى حبوب أو بذورة متفحمة أو دقائق صغيرة يتم فصلها عن التربة .ويمكن من خلال هذا العلم رسم صورة عن معالم تلكم الحيوات في المجتمعات القديمة. وعلم الآثار هذا يدخل ضمن علم (الأنتروبولوجيا) الذي يختص بدراسة الجنس البشري وتراثه الفكري والمادي للسلالات البشرية بعد الإنسان العاقل ومكانه في الطبيعة , والصفات التي تميزه عن القرود العليا وكيفية المقارنة مثلاَ مابين جمجمته وجمجمة غيره من القرود وبقية الحيوانات الأخرى.وعلم الآثار يختلف عن علم التاريخ, فالأخير يعنى بدراسة مسيرة الشعوب على وفق سجلات مكتوبة,أي أن هذا العلم نشأ بعد ظهور الكتابة وتوثيق الأحداث , في حين أن علم الآثاريتطلع الى معرفة الكيفية التي تطورت بها الحضارات(مصنوعات,رسوم,آثار,إستيطان..) ومكانها وزمانها الذي ظهرت فيه والأسباب التي حدت بالناس لبناء المدن وإقامة الطرق التجارية ,وعن الأسباب والتغيرات التي جعلتهم يغيرون نمط حياتهم مثلاَ من الصيد الى الزراعة ثم الى الرعي وتدجين الحيوانات,وعن أسباب نشوء المدنيات السابقة وسقوطها كالذي حدث لحضارات الرومان والإغريق والفراعنة وغيرها.
ولمعرفة الماضي لدى علماء الآثار وسيلتان ,الأولى هي علم الآثار الذي تحدثنا عنه والذي يهتم بالأشياء المادية .أما الثاني فهو علم اللغات الذي يفيد في قراءة النصوص المحفورة أو المنقوشة والتي تتضمن كثير من الإشارات والدلالات والرموز التاريخية والفنية التي يحتاجها علم الآثار.ولكل فئة من اللقى أسلوبها وطرقها الخاصة التي تختلف عما عليه في بقية اللقى والآثار, فالأواني الخزفية والتماثيل والرسوم المحفورة أو الناتئة والحلى والمصوغات مثلاَ يمكن معرفتها حسب تسلسلها التاريخي لتحديد العصور والحضارات التي تعود لها هذه المعثورات.وكان التنقيب في الماضي يعتمد على النبش والحفرالعشوائيين بأدوات بسيطة وبأيدي عمال جهلة وبدون برنامج علمي يعتمد في معظم جوانبه على الخبرة وقوة الملاحظة والإستنتاج الصحيح, في حين أبتكرت أخيراَ آلات وأجهزة خاصة بالتنقيب وبأيدي مهرة وبإشراف علمي يتوخى الدقة والحذر للحصول على اللقى دون أن تصاب بأي تشويه أو تأثير يطمس أياَ من معالمها . كما أستخدمت أخيراَ أجهزةالتصويرالجوي مثل جهازالمقاومة,ومقياس المغناطيسية وأجهزةالتصويرالشعاعي لمعرفة مادة الأثر,وأجهزة الفحص والتحليل المختبري ,وجهاز( كاربون 14 المشع),وجهاز تحديد نسب وكميات الفلور وغيرها.وهم يسعون بذلك الى التفتيش عن كل ما إندثربسبب الزمن آو التخريب والغزو أو تقلبات الجو والتغيرات الجيولوجية الفيزياوية مثل الزلا زل والبراكين ,وأيضاَ النيازك القادمة من الفضاء الخارجي و الساقطة على الأرض . فالبحث الأثري إذن هو السبيل الوحيد الذي يساعد علماء الآثار على إستنباط أوجه الحياة في المجتمعات التي وجدت قبل إختراع الكتابة ومنذ خمسة آلاف سنة فأكثر ,وهو يشكل رافداَ في إغناء معلوماتنا لدراسة المجتمعات القديمة والتي لم تترك سجلات أو آثار مكتوبة.
الآثار التي يتم العثور عليها أما أن تكون لقى منقولة مثل الألواح الطينية والأحجار وأدوات الزينة (كالخرز),أو لقى ثابتة مثل المغارات والمنازل والحفر والمقابرأو قنوات الري أو أية منشئات بنتها تلك الأقوام أو صنعتها . وقد تكون اللقى طبيعية موجودة الى جانب الأدوات والمصنوعات الثابتة مثل البذور والحبوب والأطعمة والجلود والقطع الخشبية والمزهريات وغير ذلك. يقوم علماء الآثاربمسح المنطقة أو الموقع على وفق طرق علمية تساعدهم على كشف المواقع الأثرية مستخدمين بذلك المسح السيزمي (بالموجات أو التصوير الجوي),ثم ترسم خرائط لمعظم هذه المواقع وتحدد الأبعاد ويتم جمع المعلومات ليجرى بعدها التنقيب في المواقع المحدد ة بما فيها المواقع تحت الماء, ثم توثق الرسوم والصور والإحصاءات وغيرها وتصنف. يقوم العلماء بعد ذلك بدراسة ما حصلوا عليه من آثار وإستنتاج الحقائق. فمثلاَ نوع الأدوات المستعملة وحجم البيت يدل على عدد ساكنيه,وتدل المجوهر ات في القبور على الطبقة الإجتماعية التي ينتمي إليها المدفون. ويمكن لعلماء الإستعانة بعلماءالأحياء والجيولوجيا والمعمارين والمهندسين لمساعدتهم في تحليل المعلومات التي يحصلون عليها حول معرفة نوع الطعام وطرق ذبح الحيوانات وصيد السمك ومعرفة نوع المحاصيل الزراعية و النباتات البرية والنشاطات الزراعية القديمة وعن التغيرات الجيولوجية الحاصلة في تلك المنطقة ,وعن تطورالشكل الهندسي للمباني . كما يمكن التعجيل في عمليات التقويم بالإستعانة بأجهزة الحاسوب.
هناك طرق عدة يتبعها علماء الآثار لتحديد عمر المعثورات القديمة ,منها التسلسل القدمي (تاريخ نسبي) وفق مقارنات وليس تواريخ حقيقية , أما التاريخ المطلق الذي تتركزطريقة حسابه على نوعية المادة التي يراد تحديد عمرها بطريقة الإشعاع (الراديوميتر) فيستعمل الكاربون 14 المشع أو الفلور الموجود في الأثر , لأن عنصرالفلور متوفر في المياه الجوفية الذي يحل محل عناصر أخرى في العظام.وبمعرفة ما يحتويه الأثر من الفلور يمكن حساب عمره.كما تستعمل عناصر مشعة أخرى لهذا الغرض.
سنركزفي دراستناهذه على كيفية قياس عمر الأثر بطريقة الكاربون 14 المشع على وفق معادلة أعدت لهذا الغرض .ولا بد لنا من التطرق الى مقدمات قبل الولوج في ذلك. وبدءاَ نذكرأن كل مادة من المواد في الكون تتكون من جزيئات,وكل جزيء يتشكل من إتحاد ذرات ,وكل ذرة مكونة من نواة تدور حولها إلكترونات(سالبة الشحنة),والنواة تحتوي على بروتونات (موجبة الشحنة) ونيوترونات (متعادلة الشحنة).مجموع البروتونات والنيوترونات يمثل الكتلة الذرية لذلك العنصر.عدد البروتونات ثابت لكل عنصرولكنه يختلف من عنصر لآخر. أما عدد النيوترونات فهو مختلف من عنصرلآخرلكنه يكون متشابها لعنصر معين,وقد يكون مختلفاَ في العنصر نفسه, وفي هذه الحالة يسمى( نظير العنصر), وقد يكون للعنصرعدة نظائر . بعض النظائر تكون مستقرة وبعضها الآخر غير مستقر(قلقة) فتتحلل عن طريق الإشعاع على هيئة دقائق (ألفا) الموجبة أو جسيمات (بيتا) السالبة.ومع إستمرار الإشعاع يكون قد أصاب المادة تحلل إشعاعي يعتمد على مدى إستقرار تلكم الذرات. الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية هو خليط غازي من نيتروجين ( حوالي 78%) وأوكسجين (حوالي 20%) إضافة الى ثنائي أوكسيد الكاربون وأبخرة وغازات أخرى بنسب صغيرة جداَ. فعندما تحاول الأشعة الكونية القادمة من خارج الكرة الأرضية إختراق هذا الغلاف الغازي فإنها ستصطدم بذراته فينتج عن هذاالإصطدام أشعة ثانوية على هيئة نيوترونات ذات طاقة حركيةعالية, وسيتعرض النيتروجين لهذا الهجوم الكوني (النايتروني) الذي سيعمل على تحرير بروتون واحدمن كل ذرة نيتروجين 14 التي لها (7 بروتونات + 7 نيوترونات) إذ أن الكتلة الذرية لذرة النيتروجين هي (14),ويكون هذا البروتون الموجب المتحررعلى هيئة ذرة هيدروجين أحادية.وبالنتيجة سيبقى في ذرة النيتروجين بعد قصفه (6) بروتونات(أي تتحول الى كاربون) و(8) نيوترونات بعد إضافة النيترون القاصف الى الذرةأي أن ذرة النيتروجين قد تحولت الى ذرة كاربون 14 فيها 6 بروتونات + 8 نيوترونات, وستكون هذه الذرات غير مستقرة إذ تسعى لأن يكون عدد النيوترونات (6) كعدد البروتونات ليتحول الى كاربون (12) المستقر بمررور الزمن أي أن هذه الذررات ستشع نيوترونات سعياَ للتوازن. ولقد وجد أن كل ذرة كاربون 14 في الجو أو في أي كائن حي يقابلها ترليون (مليون مليون) ذرة كاربون 12 بدءاَ,وتقل هذه النسبة بمرور الزمن بسبب الإشعاع.وللعلم فإن الكائنات الحية تمتص كل أنواع الكاربون بعد تحوله الى ثاني أوكسيد الكاربون بفعل إتحاده مع أوكسجين الهواء والذي تمتصه النباتات بعمليةالتركيب الضوئي وهذا بدوره ينتقل الى الحيوانات بعد تناولها للنباتات والى الإنسان سواء أكان غذاؤه نباتا أم حيواناَ, وبالتالي فإن كل أجسام الكائنات الحية ستحوي على كل نظائر الكاربون وبالنسب الموجودة في الجو نفسها ,وهذه الكائنات لا تمييز بين تلك الأنواع من النظائر.
إن نسبة الكاربون14 في الأجسام ستقل تدريجياَ بسبب الإشعاع وتصبح نصف ما كانت عليه وذلك بعد مرور 5730 سنة , ثم تؤول الى ربع قيمتها بعد بعد مرور 5730 سنة أخرى,والى الثمن بعد مرور مثل هذا الزمن, وهكذا تتضائل نسبة هذا الكاربون بمتوالية هندسية أساسها 0.5 ,والرقم 5370 يسمى عمر النصف للكاربون14 وهو يختلف من عنصر لآخر وتتراوح قيمته مابين 4000سنة وبضعة مليارات من السنين,ويمكن أن نعد عمر النصف للعناصر كساعة طبيعية دقيقة لحساب عمر الأثر من خلال ما تبقى من مادة الإشعاع ومعرفة نصف العمر للمادة المشعة.
إن قياس عمر الأثر بالطريقة الإشعاعية تعتمد على حساب ما تبقى من المشع بعد معرفة نصف العمر له. فبالنسبة لإستعمال كاربون 14 يمكن حساب عمر الأثرالذي هو بحدود لاتتجاوز 5730 سنة .أما إذا كان عمر الأثريفوق ذلك فتفحص عناصر أخرى في الأثر عمر النصف لها أكبر مثل البوتاسيوم 40 الذي عمر النصف له 1.3 ترليون سنة, واليورانيوم في حدود 4.5 ترليون سنة, والثوريوم في حدود 14 ترليون سنة والراديوم 49 ترليون سنة وهكذا...أما المعادلة التي يتم على وفقها حساب عمر الأثر فهي:-
T = {{In (Nf ÷No) ÷(-0.693)}} ×1/2 t
فعمر الأثر يساوي لوغارتم النسبة بين كميةاالعنصر المتبقي في المادة الى كمية العنصر الموجودة أصلاَ بالمادة مقسوم على 0.693 والناتج الكلي يضرب نصف عمر المشع.
2/1 يمثل نصف العمر للمشع.tأي أن
لتوضيح ذلك نأخذ مثالاَ .إذا كانت نسبة كاربون 14 في عينة تساوي 0.10 % مما كانت عليه أصلاَ فإن عمر العينة (الأثر) هو:-
T={ In 0.10 ÷ ( - 0.693)} ×5730 = (- 2.303) ÷(-0.693) ×5630 = 18940 YEARS
من المفيد أن يعلم القاريء أن إكتشاف الكاربون 14 كان عام 1940,وأستخدم لأول مرة عام 1949 من قبل ( ويلاردليبي ) وزملاؤه لتحديد عمر الآثار القديمة وعينات بايولوجية.
هناك نظيران مشعان قصيرا العمر أستخدما في تقدير الأحداث الجيولوجية هما الثوريوم 230 عمر النصف له (75000 سنة), والبروتكتينيوم 231, الأول ينتج من تحلل اليورانيم 238 .أماالثاني فينتج من تحلل اليورانيوم 235 وله عمر نصف (34000 سنة) ,وكلاهما يتجمع في رواسب البحر . كما يستعمل علماء الآثار ( الأرغون- بوتاسيوم ) لحساب عمر مكونات صخرية فيها مواد أثرية تحتوي على البوتاسيوم 40 المشع والذي يتحول الى أرغون 40 بنسبة ثابتة ,ومن خلال معرفة كمية العنصر المتبقي يتم حساب عمر الأثر. وقد أستخدم هذا لتقديرأعمار صخور وعظام وأدوات عثر عليها في شرق أفريقيا وتبين أن عمر بعضها يصل الى 1.75 مليون سنة,وهذا يعني أن لهذه العظام والصخور العمر نفسه.
أخيراَ لا بد لنا من أن نذكر أن تقدير أعمار اللقى والآثار القديمة بطريقة العناصر المشعة يعطي نتائج غير موثوقة بعد حصول التفجيرات الذرية وإنتشار المفاعلات النووية التي أحدثت خللاَ في نسب نظائر الكاربون في الغلاف الجوي و التي كان يعتمد عليها سابقاَ.
#صباح_راهي_العبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟