|
حكم مجحف بحق تيسير علوني: الصحافة كساحة صراع بين الشمال والجنوب
هويدا طه
الحوار المتمدن-العدد: 1339 - 2005 / 10 / 6 - 12:14
المحور:
الصحافة والاعلام
ماذا يكشف لنا الحكم الذي صدر بحق تيسير علوني في محكمة أسبانية؟ ذلك الحكم الذي وإن برأ علوني- مراسل قناة الجزيرة في مناطق الحرب- من تهمة الانتماء إلى تنظيم القاعدة.. إلا أنه قضى بسجنه سبع سنوات مع دفعه غرامة وحرمانه لمدة 25 عاما من حقوقه المدنية كمواطن يحمل الجنسية الأسبانية.. عقابا له على ما رأته المحكمة (جرائم) ارتكبها: الاتصال بأعضاءٍ في تنظيم إرهابي للحصول على معلومات صحفية.. والقيام بتوصيل مبلغ ٍ من المال إلى أعضاءٍ في التنظيم إبان عمله الصحفي في أفغانستان، وإجراءه- كصحفي- مقابلة مع أسامة بن لادن زعيم التنظيم عام 2001، ماذا يتداعى من تساؤلاتٍ أمامنا بعد هذا الحكم.. سواء نحن بنو جلدته أو أمام العالم ككل؟ أولا: لعل (سهولة) دحض هذه الاتهامات منطقيا وقانونيا هي أكثر ما يثير الدهشة هنا! (أو ربما التوقف.. للبحث عن الأبعاد الأخرى في تلك القضية)، فمنطقيا في نظر الهيئات المدنية العالمية المختلفة.. المدافعة عن تيسير علوني.. أو عن حقوق الصحفيين وحق الشعوب عموما في وجود صحافة حرة.. يجب على الصحفي- بل ومن صميم عمله كصحفي- أن يبحث عن (مصادر) قريبة من الحدث الذي يحقق بشأنه للحصول على معلومات.. هكذا يفعل كل صحفي نجح في كشف حقيقة أمر ٍ ما.. في قضايا محلية هنا وهناك أو في قضايا عالمية كبرى، أما مبلغ الأربعة آلاف دولار الذي تبرع علوني بتوصيله بين أفراد عائلة من المغتربين.. كخدمة إنسانية يقوم بها ربما أي مواطن عربي (أو حتى غير عربي) تجاه مغتربين من بلاده.. فهو مبلغ ضئيل بالنسبة إلى تنظيم ٍ كتنظيم القاعدة (يقول الأمريكيون إن شبكة ً تتبعه.. تتلاعب بالملايين في بورصة نيويورك!)، ولا تشير شواهد عملياته- التي تتكلف أكثر من ذلك المبلغ بكثير- إلى أن تنظيم ٍ بهذا الثراء مضطر إلى تلك الوسيلة لتوصيل مبلغ بهذه الضآلة، وفيما يخص المقابلة التي أجراها علوني مع بن لادن.. فإن قناة الجزيرة التي أجرى علوني المقابلة باسمها.. لم تبثها.. بل بثتها محطة CNN، التي حصلت على نسخة منها (بطريقة غير قانونية!) ولم تُتهم المحطة ومسئولوها بالضلوع في عمل ٍ إرهابي أو غير قانوني! بل وعلوني ليس الصحفي الوحيد الذي أجرى مقابلة مع بن لادن.. فمثلا روبرت فيسك الصحفي البريطاني الشهير أجرى مقابلة معه كذلك.. ولم يُسمع صوت إدانة له بهذا الشأن هنا أو هناك، وحتى نص الحوار الذي دار بين بن لادن كضيف في المقابلة وتيسير علوني كصحفي محاور.. تضّمن أسئلة استفسارية طرحها علوني عن (جدوى) فتاوى قتل المدنيين الأبرياء في سبيل قضية ما.. مهما كانت مشروعية مطالب هذه القضية، أي أنه حتى ذلك اللقاء الصحفي (المهني) لا يحمل أي إشارة في أسئلة المحاور إلى تحيزه لبن لادن أو تعاطفه مع تنظيمه وعملياته. هذا منطقيا، أما قانونيا.. فهناك دلائل واضحة قدمتها الهيئات المعنية بملابسات قضية تيسير علوني.. دفاعيا أو رقابيا أو حقوقيا.. تشير إلى أن القضاء الأسباني تجاهل (بتعمدٍ مبيت) المسار القانوني المتعارف عليه للأدلة والقرائن، سواء هذه التي أدين علوني على أساسها.. أو تلك التي كان يمكن لها أن تبرئ ساحته.. لو أن المحكمة الإسبانية أخذت بها ولم تتجاهل مطالب الدفاع بشأنها.. كسماع شهود معينين مثلا. المنطق والقانون إذن لا يقبل كلاهما ما حدث لهذا الصحفي.. ما يثير تساؤلات حول (دافع) المحكمة الإسبانية وراء (الإصرار) على تلك الإدانة.. التي جرفت قضية علوني من محاكمة جنائية تبنى على أدلة نفي أو إثبات.. إلى شكل من أشكال (محاكمة السياسة للصحافة).. وتساؤلات حول مستقبل حرية نشر المعلومات دون تهديد للصحفيين.. حقوقيا وسياسيا وأخلاقيا.. عربيا ودوليا. ثانيا: قد لا تجد إجابة لهذه التساؤلات- ربما- إلا إذا لامست وجه الصراع الرئيسي في المشهد العالمي الحالي، لتكتشف أن كل تفاصيل الظلم والغبن والقهر الذي تتعرض له الشعوب في طموحاتها وحقوقها الإنسانية.. تندرج تحت هذا الصراع الرئيسي.. الذي تأتي (حرية الصحافة) كإحدى ساحاته، صراع يقسم العالم إلى قسمين.. أحدهما في شمال الكوكب تمثله قوة إمبراطورية كبرى تتسلح بتقدم تقني مذهل.. وتطلب مجالا حيويا- يشمل العالم بأسره- لتنتفع بهذا التقدم على حساب الشعوب حقوقيا واقتصاديا وسياسيا.. حاضرا ومستقبلا، والقسم الآخر يمثله الجنوب عموما وهو شعوب العالم- والعالم الثالث على وجه الخصوص- وفي القلب منه العالم العربي.. الذي يشكل إحدى البؤر المتأججة لهذا الصراع بما يتوفر فيه من موارد ومصالح.. تطلبها هذه القوة الإمبراطورية دون مراعاة للعدالة (وإن كانت مراعاة العدالة على كل حال ليست من صفات الإمبراطوريات الطامحة باستمرار لتوسيع مجالها الحيوي)، وفي هذا السياق فقط - سياق الصراع بين شمال متقدم وجنوب مثقل بتخلفه- تأتي (مقاومة) الجنوب للغبن، بكل أدوات المقاومة الممكنة ومنها محاولة (كشف الحقيقة) على يد صحافة حرة تصطف إلى جانب الشعوب.. ويأتي كذلك قمع القوة العظمى لهذه المقاومة في كل صورها.. سواء كانت مقاومة سياسية تمثلها مختلف حركات مناهضة الهيمنة الغربية على مقدرات العالم.. أو مقاومة عنيفة تمثلها الحركات المسلحة في مختلف أنحاء العالم (والقاعدة واحدة منها وليست الوحيدة على كل حال).. أو مقاومة فكرية يمثلها أولا رفض النخب الواعية في أنحاء العالم لتلك الهيمنة الممتدة سرطانيا لتشمل جميع مناحي الحياة على الأرض سياسيا واقتصاديا وثقافيا.. ويمثلها ثانيا (حرية الصحافة) التي تقمعها القوة العظمى.. حتى لا تنتقل الحقائق من مدركات يدركها المفكرون إلى وقائع ينقلها الصحفيون للجماهير، ودع عنك هنا كل الدعاوى الغربية المملة حول حقوق الإنسان وقيم الحرية والديمقراطية.. فهذا بكل بساطة.. كذب! إذ يبدو أن (إنسان الجنوب) لا تقصده وثائق تلك الحقوق والقيم! وما يتعرض له تيسير علوني هو إحدى تفاصيل هذا القمع من قِبل القوة العظمى ضد صحفيين- في الجنوب أو في الشمال نفسه- يتجرؤون على (كشف حقيقة القبح) الإمبراطوري في سعيه لقهر شعوب الأرض.. فقد كان علوني هو نافذة العالم الوحيدة على جريمة ضرب بيوت أفغانستان الطينية وساكنيها بصواريخ وقنابل اليورانيوم المنضب! ثالثا: أما عن (وسائل) القمع الإمبراطوري لحرية الصحافة- كإحدى مظاهر مقاومة الشعوب للهيمنة- فهي تتدرج.. من تضليل الرأي العام العالمي إلى قتل الصحفيين مباشرة كما حدث في العراق وأفغانستان وباقي بؤر الصراع.. إلى استخدام (القانون) والقضاء.. في الولايات المتحدة نفسها أو في الدول الدائرة في فلكها.. سواء كانت دولا أخرى في الشمال أو دولا مستبدة تابعة في الجنوب نفسه، لذلك لا يختلف كثيرا وجود صحفيين ومصورين في معتقل غوانتانامو عن مقتل صحفيين (عرب وغير عرب.. مسلمين وغير مسلمين) في فلسطين.. ممن يكشفون بشاعة ممارسات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني.. ولا يختلف كثيرا عن الاعتداء بالضرب على صحفي كعبد الحليم قنديل أو جمال بدوي في القاهرة.. أو تلفيق التهم لصحفيين في مختلف أنحاء الدول العربية.. ولا يختلف كثيرا عن رضوخ القضاء الأسباني لضغط هذه القوة العظمى من خلال إدانة علوني المبيتة.. شاءت أدلة النفي أو أبت. رابعا: الموقف العربي- رسميا وشعبيا- تجاه قضية علوني هو موقف ملتبس لا يخدمه ولا يخدم القضية الأكبر.. قضية حرية الصحافة بشكل عام كساحة للصراع الأكبر بين القوة الإمبراطورية والشعوب، فالرأي العام العربي سجن نفسه بإرادته (أو لعله بدون إرادته!) في مقولة إن اضطهاد علوني يأتي بسبب أنه (عربي مسلم).. ليتحول الأمر إلى قضية (دينية ثقافية).. ما يترتب عليه وقوع العرب في متاهة الشعور بالاضطهاد على الهوية العرقية أو الدينية.. وهو ما يجرف المقاومة العربية- كجزء من مقاومة الجنوب- ضد هيمنة الشمال.. إلى طريق عبثي عنصري دموي يجلب المزيد من القمع في دائرة مفرغة من (الفهم المحدود) لأسباب الصراع الحقيقية، لذلك ربما ينبغي على الصحافة العربية.. أن تحد من جر جماهيرها في طريق الشعور باضطهاد العروبة والإسلام.. ويكون ذلك باعتماد خطاب منطقي إنساني عقلاني تنويري بالأساس.. يكشف ما يحدث لتيسير علوني ولغيره من الصحفيين على أساس أنه (حرب أمريكية على محاولة كشف الحقيقة).. فهناك صحفيون يهود ومسيحيون وصحفيون غربيون وأسيويون وغيرهم اضطهدوا.. وأسباب اضطهادهم جميعا واحدة: محاولتهم كشف الحقيقة، عشرات الأمثلة تجدونها في وثائق المنظمات المدنية المدافعة عن حرية الصحافة في العالم.. والمنظمات المناهضة للقمع الأمريكي للشعوب. خامسا: فهم الظلم الذي تعرض له تيسير علوني في إطار ما يحكم العالم من صراع بين الشمال والجنوب هو بداية.. أولا نحو انخراط العرب إيجابيا في تيار تكتل سلمي شعبي عالمي.. يواجه هذه الإمبراطورية الشرسة في كل ساحات الصراع ومن ضمنها الصحافة، ونحو الاقتراب من قوى التحرر الإنساني في العالم ككل.. والابتعاد عن فخ تقزيم الظلم العالمي بحصره في مجرد (قضية اضطهاد العربي المسلم) فهذا المنطلق هو ما أدى إلى وجود تنظيم القاعدة نفسه! فتسبب فيما تسبب فيه من مضاعفة الأذى على الشعوب، وثانيا الفهم الأعمق لما جرى لتيسير علوني- الذي نتمنى فك أسره- كما تتمنى أيضا كل قوى التحرر في العالم- قد يكون خطوة على طريق (النقد الذاتي) لفهم العرب للعالم ولأنفسهم.. فما زالت العقلية الدينية تهيمن على محاولتنا تفسير كل ما نتعرض له من غبن- تتعرض له أيضا شعوب أخرى بملل أخرى! إذ ماذا يفيد تيسير علوني حشر آلهة السماء.. في خصومات أهل الأرض؟!
#هويدا_طه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زمن بث المؤتمرات الشعبية: كفاية تتحدى مبارك على الهواء
-
الموت بلا معنى.. لعنة أصابت بغداد
-
هيكل وبهية وتباشير الجيل الجديد
-
قمة العالم: لا مفر من مواجهة بين شمال متقدم وجنوب مثقل بماضي
...
-
إذاعتا الغد والإنقاذ أولى خطوات التمرد
-
فضائية مصرية من ميونيخ.. هل تنجح؟
-
الانتخابات المصرية: يخاف من الشهود من ينوي ارتكاب جريمة
-
أفراح الانتخابات المصرية تتواصل
-
يعني إيه واحد يعشق الكتابة؟
-
وكأن الحكاية جد: مرشحون.. لكن ظرفاء!
-
الانسحاب من غزة: بالطبع الفرحة ناقصة
-
لقطات من الفضائيات
-
وزير جميل في زمن قبيح
-
موريتانيا والظواهري والمستوطنين: حصاد الأسبوع الفضائي
-
الألوسيات وهندسيات الخرافة في برامج التنجيم والسحر على الفضا
...
-
ملح غاندي وطائرات بن لادن
-
القضاة المصريون: هل يصبحون آباء مؤسسين لعهد جديد
-
النقد في مكان آخر: وداعا فضائيات
-
أفلام الرعب: مصاصو الدماء في كل مكان
-
عن تأثيرهم في معادلة التغيير المصرية(2/2): الفلاحون والجيش..
...
المزيد.....
-
معالجات Qualcomm القادمة تحدث نقلة نوعية في عالم الحواسب
-
ألمانيا تصنع سفن استطلاع عسكرية من جيل جديد
-
المبادئ الغذائية الأساسية للمصابين بأمراض القلب والأوعية الد
...
-
-كلنا أموات بعد 72 دقيقة-.. ضابط متقاعد ينصح بايدن بعدم التر
...
-
نتنياهو يعطل اتفاقا مع حماس إرضاء لبن غفير وسموتريتش
-
التحقيقات بمقتل الحاخام بالإمارات تستبعد تورط إيران
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|