أخبار الشرق - 3 كانون الثاني 2003
تناذر اليأس
الشرط العربي سيئ وتعيس إلى درجة لا مجال للمبالغة فيها في بداية هذا العام الجديد: مزيج من الفراغ والغيبوبة والعجز، من تسلط النظم وتخاذلها وتعب المجتمعات وإعيائها وحيرة الثقافة وبلبلة العقول؛ من القهر والبؤس والتوجس؛ ومن الدم والدموع والبترول. يضاف اليوم إلى هذا المزيج، وهو ليس جديدا بحال، احتلال العربي الموقع الشاغر للشيطان الذي سبق أن شغله اليهود، وكان آخر أسلافنا فيه "إمبراطورية الشر" السوفياتية!
دم: لم يعد موت الفلسطينيين خبراً، إنه تعريفهم وهويتهم. ولم ينزف العراقيون خلال أكثر من عقد الدم الصحيح الذي يجتذب الكاميرات ووسائل الإعلام. يثابر الدم أيضا على النز أو النزف في سجون التعذيب القاتلة التي تدمر الجسد وتسحق الروح وتدوس القلب، أو في الشوارع والقرى في اليمن السعيد وجزائر المليون شهيد. ثالوث العنف في العالم العربي لا يتبدل إلا قليلا: السلطات الدموية بين المشرق والمغرب، العنف الإسرائيلي ومذابح الفلسطينيين المستمرة، عنف معارضات "خوارجية". والظاهر اليوم أن مركب التسلط والاحتلال والخوارجية الذي طبع المشهد العربي بطابعه خلال ربع القرن الأخير قد أخذ بالدخول في مرحلة جديدة من تاريخه بعد 11 أيلول الأمريكي: تحالف التسلط مع الاحتلال بعد أن اكتشف الطرفان قضية مشتركة تجمعهما: "الإرهاب الأصولي". لكن من غير المتوقع أن يتغير القانون الأساسي: الخضوع للإملاءات الخارجية يترافق عادة مع زيادة نزف الدماء الداخلية.
دموع: أحيانا يفلح الدم في أن يكون خبرا: يفرض حضوره على شاشات التلفزيون، خصوصا إن كان الدم الحرام (دم الأمريكيين أو الإسرائيليين أو من في تابعيتهم). أما الدموع فتبقى في أعماق البيوت والقلوب: لا يسمع بالنحيب أحد ولا يعرف عن الدموع أحد، كشأن الغائبين الذين اختفوا ولم يرهم أحد منذ عقود وعقود، وكشأن الأمهات اللاتي متن في انتظارهم. تتراكم الدموع خفية إلى أن يبلغ تناذر اليأس طورا متقدما من دورة حياته، فينفجر الألم إيلاما وتتصعد الدموع إلى دماء: دماء الضحايا ودماء الأعداء بلا تمييز. فالعيون التي غشاها الدمع والقلوب التي انفطرت بصمت في العزلة تفقد القدرة على التمييز.
بترول: القصة هنا قصة سفه موصوفة. لو تعلق الأمر بفرد لكسب ورثته بكل سهولة دعوى الحجر عليه. لكنه سفه مصنوع ومؤمن عليه ومحمي، ومشرع له أيضاً. هذه القصة منسوجة من والجشع والاغتيال والفحش والبورنوغرافيا والمخابرات وصفقات الأسلحة والناس الذين لا يؤمنون بأي شيء أبداً. عالم السلطة الذي يلتقي فيه المال والعنف والجنس في تحالف شيطاني مقدس. كيف يستغرب لهذا الزواج الذي يمتزج فيه الاغتصاب والتواطؤ والاحتقار أن ينجب مسوخا وغيلانا، ألطفهم أسامة بن لادن؟ تُرى بأي شيء يقصّر القتلة من جنرالات المخابرات وملوك البترول وأساطين المال المسروق والنخاسون من تجار اللحم البشري عن أسامة؟ إنه على الأقل يؤمن بشيء ما في وقت يشكل الذين لا يؤمنون بأي شيء على الإطلاق تهديدا حقيقيا لمجتمعاتهم وللإنسانية وللحياة على كوكب الأرض.
يحكم هذا العالم القبيح الذي تنطبق عليه خير انطباق التنديدات القرآنية بالفجّار المترفين ثلاثة أنواع من "الأبطال": الطاغية المعاصر أمنيّاً للحداثة، مُحدَث النعمة الذي يجمع بين التوحش وما بعد الحداثة، والمستعمر العنصري المشارك في الحداثة والصانع للتفوق الأخلاقي والقضايا الكاسبة. ويعبد هذا العالم المكون من ذكور فقط ثلاثة آلهة: السلطة والمال والجنس.
هذه هي الملامح الأساسية للمسألة العربية التي تولدت عن إجهاض مشروع التحرر العربي، بخذلان القائمين عليه لروحه النهضوية، وبتحالف خصومه من القوى المحافظة العربية وأعدائه الأمريكيين والإسرائيليين ضده. المسألة العربية صناعة عربية أجنبية مشتركة. وخلال ربع القرن الأخير أخذت هذه المسألة تتعفن وتتفسخ، ليصل تفسخها حد الانفجار في 11 أيلول 2001. "العالم العربي هو رجل العالم المريض في بدايات القرن الحادي والعشرين" (إلياس خوري، ملحق النهار، 15/ 12/2001).
لقد أنجز الربع الختامي للقرن العشرين تمام تحول العروبة من عنوان لحركة تحرر قومي تقدمية، من هوية منفتحة لشعب مظلوم مضطهد ومستغل من قبل الإمبريالية، ومن مشروع لتقدم شعب ثائر ووحدته وتدخله في التاريخ، إلى موطن أشد نظم الطغيان عتواً، وأكثر النخب تفسخا وتخاذلا وانحلالا، والمورّد العالمي الأكبر للنفط والتعصب الديني والإرهاب. لقد أمسينا المعاصرين الإرهابيين للعالم دون أن نكون معاصرين له، إن حاكينا صيغة ماركس عن ألمان ما قبل النصف الأول من القرن التاسع عشر. وليس أقل أدوارنا اليوم شأناً أننا نلبي حاجة الغرب الإمبراطوري إلى أوغاد: أشرار يجب سحقهم، وضعفاء لا يكلف سحقهم شيئاً.
مرض الروح
لماذا لدينا الكثير من العناء والقليل من المعنى؟ لماذا لم نستطع أن نحول هذا الوضع البائس إلى فن وفكر راقً إلا في القليل النادر؟ كنا عندئذ جعلنا منه انحطاطاً نسبياً ومرحلياً عابراً، وبمعنى من المعاني، ضرورياً. وكيف أمكن لبعض الأدب والفن والفكر الهزيل أن ينتحل الإبداع ويختطف الحداثة ويسهم تحت رايتها في تثبيت مشاعر النقص والذنب عند العرب المعاصرين، وبعدم أهليتهم التاريخية والحضارية؟ كيف نجح في تثبيت الاقتدائية بدلا من فتح الأبواب مشرعة أمام المغامرة والمغايرة؟ وكيف نفسر الإقبال الحماسي على هجاء الذات والحط من قيمتها وجدارتها، والنضال المستميت من أجل تفكيك شخصيتها والتهوين من شأنها بغير مرض الروح؟ ولماذا يصر الكثيرون باسم الحداثة والعقلانية على تخييرنا بين الجنرال الاستئصالي كبديل وحيد عن التماهي مع أسامة بن لادن الأصولي، إن شئنا الاقتصار على رمزي حداثتنا الفعلية؟ ليست هذه الأسئلة هامشية؛ فباحتكارها للحداثة الأصيلة وتبشيرها بالاستلاب وصَغارها المعنوي أسهمت الحداثة "الجهادية" في تقوية مواقع الجهادية الأصولية وصب الماء في طاحونتها. بعبارة أخرى، إن زيغ الحداثة هذا إذ يفسر طابعها النخبوي وشبه الفاشي يسهم أيضاً في فهم تعايشها وتكاملها مع ما قد نسميه زيغ الأصول أو الهوية، أي التثبت النفسي على رسوم عالم منقض لا سبيل إلى استعادته، والنزعة إلى النقاء والطهر التي لا تطيق الابتعاد عن النموذج/الأصل/ المثال. ليس من شأن زيغين أن يصنعا هدى وسدادا بالطبع.
القصد عل كل حال هو أن المسألة العربية حصيلة مركبة من أحوال سيئة وحلول سيئة، من مشكلات صعبة وإشكاليات غير مناسبة، من واقع شاق ووعي شقي. القصد أيضاً أن المجال الأول لمواجهة مرض الروح هو الروح نفسها، الأرض المهجورة للقلب والضمير والوجدان. إن الدعوة إلى العقل وحده لا تؤدي إلى تخشب الروح فقط، بل وإلى أبشع أشكال اللاعقلانية والقسوة والإرهاب. وهي تغفل أن ما تشكو منه ثقافتنا المعاصرة ليس إمعانها في الروحانية حسب وهم "عقلاني" شديد الشيوع بقدر ما هو خاطئ، بل هو جفاف منابعها الروحية وقصور أهلها عن رعاية قيم الإبداع والجمال والإيمان والحب التي تسمو بالحياة وتفتح آفاقا خصبة للتسامي والارتقاء. فمن شأن التطرف الإبداعي أن يقدم بديلا راقيا عن التطرف السياسي والعقائدي الذي يحوّل الدين مدونة من الطقوس الخالية من المعنى والأوامر والنواهي القطعية. ومن شأن جنون العالم أو الفنان أن يغني عن جنون الطاغية أو عن الهوس الديني. ومن شأن الإيمان أن يهب السكينة والتئام الروح وأن يزكي النفس المطمئنة ويشفيها من شقاء الوعي.
لن تجد الروح العربية بلسمها الشافي إلا إذا استطاعت أن تعبر عن مأساتها في فكر وفن وإبداع تتجدد بها الثقافة العربية والذات العربية. وعندئذ سيكون بؤس الحاضر "لحظة" ضرورية، ويجد عناءه تسويغه اللاحق في المعنى المستقبلي.
__________
* كاتب سوري - دمشق