|
تأويل ما نحن فيه
الصديق بودوارة
الحوار المتمدن-العدد: 4833 - 2015 / 6 / 10 - 22:09
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
للناس بصر ، وللأديب بصيرة . هذه هي القاعدة الذهبية التي لا مناص من التسليم بها وللاقرار بصحتها ولو كره الكارهون . للناس بصرهم المتعجل ، ذاكرتهم المتسرعة ، ومخزونهم الذي لا يحسب حساباً للسنين العجاف . لكن الأديب والشاعر والمفكر شئ آخر ، إنه كون مختلف ، فمن أراد أن يصل إلى بصيرة المبدع ، عليه أن يقرأ ما يعنيه ، لا أن يقرأ ما يكتبه . " زكريا تامر" ، وهو الغني عن التعريف ، كتب منذ 26 سنة يالتمام والكمال ، وبالتحديد في العدد السابع من مجلة "الناقد" ، طيبة الذكر ، التي سكتت عن الكلام منذ عام 1995 ولم تنبس بورقة واحدة حتى الآن . كتب "زكريا" قصة كان اسمها "التأويل" ضمن زاوية ثابتة كان يخصصها للناقد وقد اختار لها اسم " قال الملك لوزيره" . أحياناً يضيع الملوك أوقاتهم في الحكم ، لكنهم لا يضيعونها في الكلام ، نظرية غريبة بعض الشئ ، لكنها حقيقية إلى حدٍ لا يُصدق . ولكن ، لماذا نرجع إلى الوراء 26 عاماً لكي نعالج مسافةً من الفراغ صارت تشغلنا هذه الأيام ؟ وإلى أين صار يقودنا الشك ويعبث باليقين الذي طالما اعتقدنا بثباته وديمومته وصوابه ؟ لنبدأ هذه المقالة بالاعتراف إذن ، فقد صار علينا أن نعترف بأن الكثير من الثوابت قد أصابها الاهتزاز ، وأن القضايا الكبرى المصيرية ، أصبحت الآن مجرد هياكل معدنية صدئة لا تحتاج منا الموت دونها بقدر ما تحتاج دورة صيانة مكثفة ، لكي لا أتورط في الدعوة لاجتثاثها نهائياً من على وجه الواقع المعاش . إن القضايا " الملحة" ، و"الحتمية" ، و"الكبرى" ، و"الحلم المقدس بالحرية" ، و"ضرورة الكتابة ضد قبضة العسكر" ، والدعوة إلى "الموت من أجل الانعتاق النهائي" من سيطرة الأقلية الحاكمة ، كل هذا الركام أصبح الآن عبئا على منظريه ، ومحل شك كبير من المجاميع التي كانت منذ عقد واحد من الزمان على أهبة الاستعداد لتموت من أجله . هذا هو الواقع الجديد الذي يتشكل الآن ، فكيف يمكن أن نكتب نقداً من واقع الحال لقصة "زكريا تامر" التي كتبها منذ 26 سنة بالتمام والكمال ؟ إن المبدع "زكريا تامر" يصور في قصته الساخرة مشهداً لملكٍ مستبد يروي لوزيره الخانع الذليل ،حلماً راوده ليلة البارحة ، فكيف كان حلم الملك ، وكيف كانت مذلة الوزير ؟ الملك ــ رأيت الناس يدخلون إلى حديقة قصري من غير إذن . الوزير ــ سنقبض عليهم فورا . الملك ــ هجموا على كل مافي حديقتي من شجر، وأكلوا الثمار كلها ، وعندما نفذت الثمار أكلوا أوراق الشجر، وعندما نفذت الأوراق أكلوا الأغصان ، وعندما نفذت الأغصان أنقضوا على الجذوع محاولين التهامها . ويواصل الملك بعد ذلك وسط نفاق الوزير : ــ فجأة ، تنبه الناس إلى الشمس فوثبوا عليها والتهموها كما يلتهم الجائع برتقالة . أكلوا كل شيء ، أكلوا أسوار قصري ، أكلوا جدران الغرف والسقوف ، أكلوا النوافذ والأبواب ، أكلوا الملاعق والصحون والستائر ، وأكلوا السجاد ، وصار قصري مجرد أرض خاوية . طبعاً ، في ذلك الوقت ، أذكر أني استمتعت بقصة زكريا تامر" هذه ، كنت منتشياً بسرده لخوف الملك المستبد من رعاياه ، وكوابيسه بقرب نهايته على أيدي الجياع . كنت ، ومعي الكثيرون ، قطرة ماء في نهر كبير ، يسير صوب غاية الانعتاق ، ويحلم بالديمقراطية على النموذج الغربي ، وينتظر بفارغ الصبر أن يتحقق حلم الملك ، وأن يهاجم الجياع قصره ، وأن يأكلوا في قصره كل شيء . لهذا ، كانت قصص "زكريا تامر" و " محمد الماغوط" ، واشعار "أحمد مطر" و"مظفر النواب" تستهوينا ، وكنا نركض وراءها كما يركض الطفل صوب قطعة حلوى ، هذا كان منذ 26 سنة أو يزيد ، فهل سنركض الآن صوب قطعة حلوى كوابيس الملك أم سنركض في الاتجاه المعاكس ؟ كل شيء تغير الآن .. إنه " تسونامي" بشع ، مريب وموحش وحزين ، هذا الذي صار واقعاً جديداً نعيشه الآن ، أليس هو زمن الأسئلة الكبرى يقبل من جديد ؟ انتظرنا بفارغ الصبر أن يتحقق كابوس ملك زكريا تامر ، وأن يأتي زمنٍ يموت فيه وزيره المتملق المنافق ، وأمضينا زهرة شبابنا في الانتظار ، وعندما آن الأوان اكتشفنا ذلك السر القبيح . لقد تحقق حلم الملك بالفعل ، لقد (( أكلوا كل شيء ، أكلوا أسوار قصري ، أكلوا جدران الغرف والسقوف ، أكلوا النوافذ والأبواب ، أكلوا الملاعق والصحون والستائر ، وأكلوا السجاد ، وصار قصري مجرد أرض خاوية )) حدث كل هذا معاً ، وفي أيام قليلة ، ولكن الذي تم أكله والتهامه لم يكن قصر الملك ، لقد كان الوطن هو العصف المأكول ولم يكن قصر الملك أيها السادة . من قال إن الوزراء المتملقين مهرةً في تفسير أحلام الملوك ؟ هذا ما حدث ، وهذا هو السؤال الذي أعاد طرح كل شيء من جديد ، فهل نحن بالفعل أمة وصلت إلى الدرجة المطلوبة من الجهوزية لممارسة الديمقراطية ؟ وهل أن ديمقراطية الغرب هي الثوب الذي يلائم مقاس ثقافتنا البعيدة والقريبة ؟ وهل نحن على استعداد للاعتراف الآن بأننا أمة من الطغاة ، يسكن جسد كل مواطن منها مستبد صغير ينتظر فرصته بفارغ الصبر حتى يفرغ شحنته المكبوتة في ما تيسر من بني قومه ؟ صفر كبير ، وإخفاق بشع بكل المقاييس ، وعلى الامتداد الجغرافي الكبير للتجربة التي أطاحت بالطغاة ، كانت النتيجة واحدة تقريباً ، نحن لسنا مؤهلين لممارسة الحرية ، ونحن لازلنا تلك الشعوب التي يلزمها دائماً زعيم يتصدر الصفوف ويقود المسيرة ، ويخطب على منصته المزخرفة لساعات طويلة ـ لايقاطعه أثناء خطابه سوى كوب الماء النظيف وهتافات مرتبة بعناية قبل الخطاب وبعده . هذه هي الحقيقة التي اكتشفناها الآن أيها السادة . بعد الخراب الذي حدث ، وبعد تغول المواطن على مبدأ المواطنة ، وبعد استبداد الناس بالوطن ، وبعد طغيان الفوضى على مفهوم الحرية ، وبعد عهود من الحكم الشمولي من قبل الفرد على المجاميع ، هاهي المجاميع تمارس الحكم الشمولي على الدولة ، فتطيح بالدولة وتتجزأ الولاءات إلى فسيفساء مدمرة . هذه هي الصورة ، وهذا هو السبب في أننا نعتذر الآن للوزير المتملق ، ذلك الذي كان يبرر للملك المستبد طغيانه بأشد العبارات مداهنة وليونة : ــ من واجب البلاد أن تحتفل بنجاة ملكها ليل نهار ،وطوال سبعة أيام . ــ الناس غاضبون لأنك تمنعهم من اظهار حبهم لملكهم ، وهم ليسو بمخطئين ، ومن حقهم أن تتاح لهم الفرصة لدفع ضرائب أكثر . شخصياً ، أعتذر لك سيدي الوزير المتملق ، لقد كنت واهماً ، وها أنا أعلن على الملأ أنك كنت محقا ، فقد اكتشفنا بعد أن دفعنا ثمناً غاليا ، أن طاغية واحد هو أفضل ألف مرة من ملايين الطغاة ، وأن الحرمان من الحرية هو أفضل مليون مرة من المعاناة من الفوضى ، وأن الحكم الشمولي لفرد واحد ، هو أحسن ملايين المرات من حكم شمولي يمارسه الناس على وطن بأسره . أعتذر منك سيدي الملك ، فقد أكتشفنا الآن أن " زكريا تامر" مخادع كبير ، وأنه ورطنا في الانتقاص من قيمة ملك مقتدر ، وأن كابوس الملك لم يكن بشعاً لمجرد أنه أزعج نومه الملكي المقدس ، بل لأننا اكتشفنا أنه عنما روى لوزيره أن الناس (( هجموا على كل مافي حديقتي من شجر، وأكلوا الثمار كلها ، وعندما نفذت الثمار أكلوا أوراق الشجر، وعندما نفذت الأوراق أكلوا الأغصان ، وعندما نفذت الأغصان أنقضوا على الجذوع محاولين التهامها .)) اكتشفنا أنه لم يكن يقصد حديقته ، بل كان يقصد الوطن ، ذلك الذي هجم الطغاة الجدد على كل مافي حديقته من شجر، وأكلوا الثمار كلها ، وعندما نفذت الثمار أكلوا أوراق الشجر، وعندما نفذت الأوراق أكلوا الأغصان ، وعندما نفذت الأغصان أنقضوا على الجذوع محاولين التهامها .!!
#الصديق_بودوارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جوزف بلاتير وابن الرومي
-
ليبيا وأسماء المرقش
-
المُغتسلة
-
شيطان أبوهم يبقى إيه
-
يد .. في وجه الوطن
-
ميم
-
مأزق الحوثيين
-
لعبة شارلي ابيدو
-
مجلس أمن الجثث
-
القداسة .. بذيل قرد
-
الدم الرخيص .. جداًً !!
-
سوق متعة الكذب !!
-
مطلوب غاندي .. ليبي !
-
متاهة الحقائق الضائعة
-
ثورة صباحي أم دولة السيسي ؟!!
-
أحزان الولاية الرابعة
-
أوكرانيا .. الربيع الميت !!
-
الماليزية .. وأختها الليبية !!
-
دروس الثورة الثانية (1)
-
نهاية العصر الأردوغاني !!
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|