|
تمهيد : كتاب (أثر التصوف السياسي في الدولة المملوكية )
أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن-العدد: 4827 - 2015 / 6 / 4 - 17:06
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تمهيد : كتاب (أثر التصوف السياسي في الدولة المملوكية ) تمهيد : لمحة عن الدولة المملوكية : (648 هـ ـ 921 هـ ) ـ ( 1250 م ـ 1517م ). يعتبر قيام الدولة المملوكية حدثا فريدا في التاريخ الإسلامي، حيث حكم المماليك وهم رقيق الأيوبيين – أملاك أسيادهم الأيوبيين ، وتقودهم في مبدأ الأمر امرأة هى شجرة الدر. وهذا الوضع لم يكن له ليستمر إلا بقوة المماليك ودهائهم وضعف الأيوبيين وتناحرهم وقوة مركز مصر في العالم الإسلامي على أنها الملجأ الوحيد لإنقاذ المنطقة من الصليبين والخطر المغولي القادم ، وقد استطاع المماليك تأكيد نفوذهم بإرهاق الوجود الصليبي ثم إزالته نهائيا في نفس الوقت الذي قضوا فيه على الخطر المغولي وبمطاردة المغول في الشام لم تقم للدولة الأيوبية قائمة في الشام بعد أن انتهت من مصر . وهكذا ورثت الدولة المملوكية الفتية العروش الأيوبية في الشام ومصر . أولا : خطوات إقامة وتوطيد الدولة المملوكية في مصر يظهر أن المماليك لم يفكروا في الخروج على طاعة الأيوبيين إذ بذلوا كل ما في وسعهم في القضاء على حملة لويس التاسع ، وحفظوا السلطة كاملة لتوران شاه في وقت كان أبوه الصالح أيوب ميتا وهو بعيد في العراق . ولو كان لديهم طموح لاستغلوا تلك الجروح القاسية في مصلحتهم ، إلا أن أقصي ما كانوا يطمعون فيه هو التقدير والعرفان بالجميل ، ففوجئوا وتوجسوا شرا من السلطان الجديد توران شاه وهو لا يختلف في شيء عن صغار الأيوبيين فعاجلوه بالقتل قبل أن يوقع بهم ، فقتل توران شاه كان عملا وقائيا في بدايته كما يظهر من استقراء وقائع التاريخ ، إلا أن القضاء على توران شاه أوقع المماليك البحرية في مشكلة من يخلفه. ولإنقاذ الموقف فقد توجت شجرة الدار أرملة الصالح أيوب ، وهي امرأة أظهرت حنكتها السياسية وقت الشدة ، وبدأت الدولة المملوكية بشجرة الدار وسيوف المماليك البحرية تفاوض لويس التاسع وإذ انتهت من ذلك حتى واجهت عدة مصاعب أهمها : 1- الخليفة العباسي والرأي العام الإسلامي : لم يستسغ الخليفة العباسي – وهو يمثل الرأي العام المسلم – أن يتولى الأمر امرأة ولو كانت على مثال شجرة الدر . وبعث الخليفة يتندر على السلطة الجديدة. وتحاشيا لإغضابه والرأي العام معه فقد تم حل المشكلة بأن تتزوج من أيبك الداودار وتقاسما السلطة وصارت شجرة الدار تحكم ولكن من وراء ستار. وإذ انتهت تلك المشكلة توجه المماليك لحل المشكلة الأخرى . 2- المصريون والأعراب والشيعة : لم يرض المصريون أن يحكمهم مماليك الأيوبيين . يقول أبو المحاسن ( أن أهل مصر لم يرضوا بسلطان مسه الرق ، وظلوا إلى أن مات السلطان أيبك وهم يسمعونه ما يكره حتى في وجهه إذا ركب في الطرقات ) ولذا اشتد المماليك في قسوتهم على العامة المتذمرين من توليهم السلطة حتى أن المقريزي وأبا المحاسن يقولان إن الصليبين لو ملكوا مصر ما فعلوا بالمصريين كما فعل بهم المماليك في بداية عهدهم . ولا ريب أن المصريين وإن خضعوا بالقهر للقوة الجديدة إلا أن القهر لا يعني إلا الحقد الدفين المكبوت ، وقد أستغل هذا الشعور بعض العلويين فجمع إلى جانبه كثيرا من الأعراب وأعلن الثورة وأن ملك مصر يجب أن يكون للعرب وليس للأرقاء ، وهذا ما فعله حصن الدين ثعلب . الذي أقام دولة عربية مستقلة في مصر الوسطى ومنطقة الشرقية في بداية الدولة المملوكية وحاول حصن الدين الاتصال بالناصر الأيوبي عدو المماليك إلا أن عقد الصلح بينهما أضاع أمل حصن الدين فعول على الاعتماد على جهوده الذاتية . وبعد أن فرغ أيبك من الخطر الأيوبي الخارجي قام بتوطيد سلطته في الداخل فأرسل أقطاي زعيم المماليك البحرية بجيش تمكن من هزيمة الأعراب في بلبيس . وطلب حصن الدين الأمان فأمنه المعز أيبك ثم اعتقله وقتل أصحابه وعامل الأعراب بالعسف حتى ذلوا وقلوا على حد قول المقريزي . والواقع أن توطيد الدولة المملوكية بدأ حقيقة في عهد قطز الذي انتصر على الخطر المغولي وفي عهد الظاهر بيبرس الذي قلّم أظافر المغول والصليبين لان الشام هو بوابة الخطر الذي يأتي لمصر في عهد الانتقال من دولة إلى دولة . المماليك والشام كان الشام الخطر الأكبر على الدولة المملوكية الناشئة ففيه الصليبيون ومفهوم أنهم أعداء للسلطة الجديدة التي أبادت حملة لويس التاسع ، وفيه الملوك الأيوبيون وهم لن يسامحوا في سقوط مصر بين مماليكهم وعبيدهم بعد أن قتلوا توران شاه . ثم كان الخطر الأكبر على الجميع وهم المغول الذين اكتسحوا في الجولة السابقة الدولة الخوارزمية ثم عادوا في هذه الجولة فاكتسحوا قلاع النزارية الباطنية في آلموت ثم دمروا بغداد والخلافة العباسية سنة 658 . وتهاوت أمامهم العروش الورقية لأبناء أيوب وسلجوق في الشام والعراق ، ووقع على كاهل المماليك في بداية دولتهم أن يتعاملوا مع ذلك الخطر بعد أن انحدر للشام واتجه لمصر .وقد أفلحت الدولة المملوكية في مد سلطانها على الشام حتى الفرات بل وصلت إلى أبعد ما وصل إليه صلاح الدين في عهد الظاهر بيبرس الذي اخضع الأرمن ودمر عاصمتهم وامتد ملك الدولة في عهده إلى أقصي اتساعه . ولتتبع خطوات المماليك في ضم الشام وتعاملها مع تلك القوي . 1- الورثة الأيوبيون في الشام : تزعمهم الناصر داود الذي استولى على دمشق في الصراع ضد المماليك بعد تولى شجرة الدر السلطنة ، ذلك أن الناصر داود كان أكبر الورثة الأيوبيين، ثم أن مركزه الجديد في دمشق يفرض عليه أن يحدد موقفه من القاهرة . وتحالف الناصر داود مع الصليبين . وبدا الصراع بينه وبين المماليك في غزة سنة 648 فهزمه أقطاي كبير المماليك البحرية . ولم ييأس الناصر داود فجمع أقاربه من الملوك الأيوبيين وزحف بهم إلى مصر ودارت معركة كبيرة عند الصالحية وانهزم فيها الناصر داود مع كثرة عساكره لان المماليك الذين كانوا في جيشه انحازوا إلى الجيش المملوكي المصري ، وأسر المعز أيبك جملة من الملوك الأيوبيين في المعركة والأمراء المتعاونين معهم . وفي سنة 649 استولى أقطاي على الساحل الشامي ونابلس إلى نهر الشريعة فسير الناصر داود حملة من دمشق إلى غزة ، فخرج المعز أيبك بجيش إلى الصالحية. وترددت الرسل بينه وبين الناصر داود. وبعث الخليفة العباسي الشيخ الدردرائي ليصلح بين المعز أيبك والناصر داود ودارت مفاوضات طالب فيها المماليك بجزء من الساحل الشامي الجنوبي بالإضافة إلى مصر . وفى سنة 651 تقرر الصلح على أن يكون للمصريين إلى الأردن وللناصر ما وراء ذلك وأن يدخل فيما للمصريين غزة والقدس ونابلس والساحل كله وأن يطلق المماليك الملوك الأيوبيين الأسرى . وواضح أن المماليك نجحوا في مد سلطانهم إلى جنوب الشام مع الساحل ، وقد وافقهم الناصر داود ونال لنفسه الشام الشمالي وطبعا كان ذلك على حساب أقاربه الأيوبيين المأسورين عند المماليك منذ معركة الصالحية. وقد اشترى الناصر داود حريتهم من أسر المماليك بعد أن اتفق مع المماليك على اقتسام الشام . ثم كان الامتحان الأكبر للدولة المملوكية الناشئة أمام المغول . (( المماليك والمغول )) وكان المغول أكبر خطر هدد المنطقة تحركوا من أقصي الشرق يدمرون كل جزء من العالم يمرون به، فقضوا على إمبراطورية الصين وتجمعات الترك الرعويين ، وما لبثوا أن هزموا الدولة الخوارزمية بعد عدة جولات . ومنها انفتح الطريق أمامهم للدولة العباسية فدمروا بغداد وقتلوا الخليفة العباسي وسكان بغداد . وسار الرعب في ركابهم وسبقهم في القدوم .واستسلم لهم بعض الأمراء الأيوبيين كحاكم حمص الذي خدم هولاكو وسار في صحبته والناصر داود حاكم دمشق وحماه .وخضع للمغول الصليبيون في إنطاكية والأرمن في أرمنيا . وتوغل المغول في الشام وبعث هولاكو للمماليك يطلب خضوعهم . كان قطز يتولى نيابة السلطنة للسلطان الصبي على إبن أيبك . وأنتهز الفرصة فأعلن نفسه سلطانا وأخذ في الاستعداد وأرسل مقدمته إلى غزة يقودها بيبرس فهزم حاميتها المغولية. وفي هذه الأثناء هلك منكوخان الخان الأكبر فانسحب هولاكو بجزء من الجيش إلى الشرق وترك الباقي تحت قيادة كتبغا ليواجه المماليك . وسار قطز قرب عكا ثم جاءته أنباء بأن كتبغا عبر نهر الأردن وأنه نفذ إلى الجليل الشرقي فسار مسرعا إلى الجنوب الشرقي فوصل عين جالوت . معركة عين جالوت : ( 658 هـ 1260 م ) : وقدم كتبغا ولم يكن يعلم أن جيش المماليك قد سبقه وكان قطز يدرك تفوق قواته في العدد فاخفي الجانب الأكبر منها في التلال ولم يعرض للعدو إلا المقدمة التي يقودها بيبرس ووقع كتبغا في الفخ فهجم على مقدمة الجيش بكل قوته فتقهقرت أمامه واستدرجته إلى التلال فأحاطت به جموع المماليك وطوقته ، وأبلى كتبغا في القتال دون جدوى إذ أن الهزيمة حاقت بالمغول لأول مرة في تاريخهم . وتعتبر عين جالوت من المعارك الفاصلة في التاريخ العالمي ، إذ بها اندحر المغول شرقا ، واكتسبت السلطة المملوكية الجديدة احترام العالم الإسلامي ، فقد أنقذوا المسلمين ليس في الشرق الأوسط فحسب وإنما في أفريقيا. ومن ناحية أخرى عجل القضاء الحربي على المغول بدخول بعضهم في الإسلام حين أسلمت القبيلة الذهبية التي تحكمت في العراق وكونت به دولة مغولية مسلمة .واستولى قطز على سائر بلاد الشام حتى الفرات وخضع له أمراء الشام الأيوبيون وعجلت هذه المعركة بزوال الصليبين إذ أن المماليك المنتصرين عزموا على التخلص النهائي من الصليبيين فتابع بيبرس الذي قتل قطز وخلفه – الجهاد ضد الصليبيين والمغول في نفس الوقت . وتأكدت بذلك سلطة المماليك كأكبر قوة في مصر والشام . الظاهر بيبرس والمغول : تمكن بيبرس بعد أن تسلطن من الاستحواذ على إمارات الأيوبيين في الشام وعاقب المسيحيين الذين تحالفوا مع المغول مثل ملك أرمنيا وأمير إنطاكية الصليبي .وفي هذه الآونة أعلن بركة خان زعيم القبيلة الذهبية إسلامه، وتحالف مع بيبرس وتعاونا معا أمداد كيكاوس السلجوقي بجنود تمكن بهم من استعادة ملكه في الأناضول . ولم يستطع هولاكو الانتقام من المماليك مع تحالفه مع الأرمن والصليبين ، وانشغل بهجوم بركة خان عليه. وتمكن بيبرس بذلك من توفير وقته لإجهاد الوجود الصليبي في عكا إلى أن انتهي نهائيا في عهد الأشرف خليل بن قلاوون الذى أجلاهم عن عكا آخر معقل لهم . وحتى تستكمل مصر مظاهر زعامتها للعالم الإسلامي فقد دعا بيبرس أحد أقارب الخليفة العباسي ونصبه خليفة في القاهرة .إلا أن بيبرس تخوف من طموح الخليفة الجديد فحجز عليه ثم بدا له أن يتخلص منه فبعثه بجيش صغير ليحارب المغول فهزم وقتل . وعين آخر محله . واقتصر دور الخليفة على مبايعة كل سلطان وأصبح من جمله شعائر الدولة المملوكية التي أضحت بها القاهرة حاضرة العالم الإسلامي بعد بغداد . 3- المماليك والصليبيون … ارتفع شأن المماليك بانتصارهم على حملة لويس التاسع ، وارتبط توطيد الحكم المملوكي في عهد الظاهر بيبرس بحروب نشطة ضد الإمارات الصليبية في الشام .على أن جهد بيبرس توزّع بين قتال الصليبين والأرمن مع المغول في نفس الوقت . ومن ذلك أن بيبرس هزم الأرمن ونهب مدنهم ليؤمن ملكه في حلب وشمال الشام . ولم يترك الفرنجة يستريحون ، فأكثر من الإغارة عليهم حتى أصبحت حياتهم في عكا لا تطاق ، ثم فاجأ إنطاكية وأقتحمها ودمرها بمن فيها ، وبسقوط إنطاكية في يد بيبرس أنهار الصليبيون في شمال الشام حتى أن الفرسان الصليبيين الدواية تخلوا عن قلاعهم المجاورة لإنطاكية .. وتابع قلاوون جهد سلفه بيبرس فاستولى على حصن المرقب الحصين واخرج عنه الأستبارية ثم أثم الاستيلاء على اللاذقية وفتح طرابلس ... ونقضت عكا الهدنة فتجهز للقضاء عليها – وكانت العقل الأخير للصليبين إلا أنه مات قبيل تحقيق غرضه فأتم ابنه ذلك العمل – عملا بوصية أبيه .. وباستيلاء الأشرف خليل بن قلاوون على عكا سلمت صور وبيروت وانطرطوس وعثيلت وارواد وظلت جيوش المماليك تزرع الساحل الشامي من أقصاه إلى أقصاه بضعة شهور تدمر كل أثر للفرنج في المنطقة وأنهي المماليك بذلك الحروب الصليبية التي بدأت قبلهم بنحو قرن ونصف القرن وخلصت لهم سيطرتهم على الشام . ثانيا : انتشار التصوف في مصر المملوكية 1- بدأ التصوف فردياً وانتشر تدريجياً بدخول الكثرة فيه لأنه لا يحتاج إلى عقل كبير وبحث كثير حتى إذا جاء العصر المملوكي أصبح التصوف فيه ظاهرة بارزة .. 2- ولقد تداخلت العوامل التي أثرت في ازدهار التصوف في العصر المملوكي وتفاعلت في تاريخ التصوف ذاته ليصبح التصوف بها مؤثراً في تاريخ المجتمع. ولتوضيح ذلك فإن ظلم المماليك ـ مثلاً ـ كان من عوامل لجوء الناس للتصوف إلا أننا عندما نعرض لظاهرة الظلم نجد بعض الصوفية قد أسهم في تأييده إيجاباً وسلباً، مما يجعل الباحث دقيقاً في تعرضه للعوامل المؤثرة في الازدهار حتى لا تتداخل في آثار التصوف نفسه والتي هي صلب البحث . 3- وفي البداية : فالعصر المملوكي يمثل حلقة في العصور الوسطى التي تميزت بالتعصب الديني دون فهم حقيقي لروح الدين حتى أن الدين أصبح ممثلاً للقومية فالرحالة تافور يستعمل كلمة (مسلم ) تعبيراً عن الجنسية ... هذا مع تشابه الرسوم الدينية لدى المسلمين والنصارى في ذلك العصر، فالأضرحة والمزارات للمسلمين تقابلها تماثيل العذراء والأيقونات لدى النصارى كأساس عقائدي لدى الفريقين مع أن الإسلام منع التوسل والالتجاء لغير الله ولكن شاع التوسل لدى المسلمين والنصارى في العصور الوسيطة ، حتى أن الأكراد مثلاً وهم مسلمون عظّموا شريفاً صالحاً مرّ عليهم في سفره ولحبهم فيه (أرادوا قتله ليبنوا عليه قبة عظيمة يتوسلون بها) أسوة بما يفعله غيرهم إلا أن الشريف هرب منهم(بليل تاركاً حوائجه) . وتأثر المغول – كأمة وافدة على المنطقة- بالتوسل الصوفي قبل إسلامهم وبعده. وحين مات هولاكو 663 بنيت على قبره قبة – كشيخ صوفي – بقلعة تلا ، واعتنق المغول الإسلام وتصوفوا حتى إن أحدهم ترك الملك لابن أخيه زهداً وتفرغاً للتصوف ، وغدا قبر تيمورلنك ت808 مزاراً مقدساً تحمل له النذور ويتبركون به (ويأتون له من البلاد البعيدة للتوسل) . 4- ومن ناحية أخرى فللمغول أثرهم في ازدهار التصوف ، لأن القاهرة احتلت مكانة بغداد كعاصمة للعالم الاسلامى بعد القضاء على الغزو المغولي وتأكد مركزها بانهيار الإمارات الإسلامية في الأندلس وتهديد الفرنجة للمسلمين في شمال أفريقيا ، فتوافد على مصر العلماء والمتصوفة من الشرق والغرب . والمقريزي يعلل كثرة قدوم المشارقة لمصر بتهديد المغول للخلافة العباسية وإسقاطها و السخاوي يذكر أن الصوفي أبا إسماعيل القرشي جاء إلى مصر هرباً من التتار ، بل أن العيني – المؤرخ المملوكي – كان من الوافدين على القاهرة وقد عد (من جملة الأوصاف الجميلة )للظاهر ططر (أن أي عالم أو فقير صالح يرد إلى الديار المصرية يحسن إليه ). 5- وساعدت السياحة الصوفية على كثرة القدوم للقاهرة ومصر، خاصة وأن موقعها المتوسط جعلها نقطة مرور للرحالة الصوفية ومحطة أساسية لمريدي الحج من صوفية شمال أفريقيا. فالعلوي المؤرخ المغربي في رحلته للقاهرة حرص على زيارة مشاهد الأولياء المغاربة من أساتذته . وقيل في ترجمة أبى عبد الله (السائح) المغربي أنه ولد بالمغرب وساح طويلاً حتى رحل مكة وورد دمنهور فأخذ الطريقة الشاذلية ت 684 ، أي أن هذا السائح الصوفي بدأ حياته في مسقط رأسه بالمغرب وبعد سياحته استقر به المقام بمصر شاذلياً حتى توفى . على أن الأعاجم كانوا أكثر شهرة من المغاربة في السياحة الصوفية وفى القدوم إلى مصر، فوصف بعضهم ممن قدم القاهرة بأنه (أفنى حياته في السياحة) وذكر أبو المحاسن أن شيخه الفولي قدم القاهرة في سياحة وطاف نصر الله العجمي ببلاد كثيرة ونزل مصر ومعه مريدوه وأكثر شمس الدين الأيكي من التنقل ( بين بغداد ومكة واليمن ودمشق وباشر مشيخة الشيوخ بالقاهرة) ومثله تنقل مولانا زادة وابن المهتاز .. وتشبه بهم بعض الصوفية المصريين وصفوا بالسياحة مثل شرف الدين النساوي ... ولكثرة الأعاجم القادمين لمصر من الصوفية أصبح لقب (أعجمي)علماً على المتصوفة بل أن الأعاجم كونوا طبقة خاصة وصفهم ابن بطوطة بأنهم (أهل معرفة بالتصوف ) 6- ومن الصعب حصر القادمين من الصوفية لمصر إلا أننا نشير إلى أن ذلك القدوم الصوفي استمر بعد سقوط بغداد وحتى نهاية الدولة المملوكية. فمن الشرق قدم أبو بكر الشيباني البغدادي ت 664 والبرهان الجعبري ت687 والضياء السبتي ت696 وقدم الشيخ حياك الله الموصلي في دولة المعز أيبك والشيخ يادار ت780 وعلى الشامي ت783 وعلى الخرساني ت 797 وقنبر العجمي ت 787 وجمال الدين النيسابوري ت 791 ونصر الله العجمي بعد الثماني مائة وشمس الدين الخرزباني ت 809 وابن الحداد ت819 وعبد الرزاق بن عبد الله الذي وفد سنة810 وفى سلطنة برسباي وفد حيدر العجمي ونور الدين العجمي .. واستمر التوافد حتى نهاية الدولة فقدم حسن العراقي وحملت الصوفية المعتقدة عائشة الباعونية إلى القاهرة وتوفيت بها سنة 922 . 7- ونزل بعض القادمين في خانقاه سعيد السعداء مثل أبى بكر الشيباني البغدادي ، وخصصت لهم زوايا عرفت بزوايا الأعاجم . وحرص الواقفون على تخصيص أماكن للقادمين في الخوانق التي توقف على الصوفية ، ففي وثيقة الوقف على خانقاه بيبرس الجاشنكير (وله أن يقدم الوارد على الديار المصرية على غيره من أهلها .. ) فالوثيقة تفضل الصوفية القادمين على الصوفية المصريين ، وفي وثيقة وقف الناصر محمد (- .. الرباط الأول المشتمل على ستين بيتاً فإنه جعله رباطاً مأوى الفقراء الواردين إليه) واشترطت وثيقة جمال الأستادار في بعض الصوفية أن يكونوا ( غرباء عن البلاد المصرية أفاقية من أهل البلاد الشاسعة، لهم حسن حالة وتقدم وصحبة بالسادة المشايخ الصوفية) . 8- واصطحب بعضهم معه الوفود من المشرق فقدم علي الأوبراتى بمريدين من المغول وقدم الفقراء الحيدرية مع شيخهم ابتداء من سنة 655 . وقدم النسفي من خوارزم بفقرائه، وأتى القراباغي بأصحابه من العراق ، وجعل رجب التركماني زاوية بالرميلة مأوى لأتباعه الواردين من العجم . وقدم نجم الدين الكردي بطائفة من الأكراد ومثله البسطامي . وحسن جلبي 879 وجمال الدين الشيرازي 881 وفي حوادث سنة 740 قدوم طائفة من العجم بزى غريب ولهم شيخ يعرف بالشيخ زادة . وفي القرافة (تربة آل المسلسل من آل العجم ولهم فيها زاوية ) . والشاذلي أشهر الوافدين من شمال أفريقيا . ويعبر عن فرحته بالقدوم إلى مصر بقوله (لما قدمت إلى مصر قيل لي يا على ذهبت أيام المحن وأقبلت أيام المنن ) قد وجد في مصر ملاذا من الاضطهاد الذي عانى منه في أفريقيا وكتب من الإسكندرية ( الكتاب إليك من الثغر حرسه الله ونحن في سوابغ نعم الله نتقلب . ومن مراكش قدم فتح الأسمر ونزل دمياط وقبله فخر الدين الفاسي 662 وخليفته عنبر و الأقطع التيتاني وشهاب الدين التلمساني 776 ومن تونس أبو المواهب الشاذلي 882 والشيخ مدين من ذرية أبو مدين وأبو حفص البجائي 919 . ومن الأندلس قدم ابن أبى جمرة .. 9- وقد وجد أولئك القادمون في مصر بيئة صالحة للتصوف في العصر المملوكي حيث استحوذ المماليك على الحكم والحرب وهم فئة غريبة ظالمة فلم يجد المصريون أمامهم إلا التصوف . والشعراني كمتصوف مصري عبر عما يختلج في نفسية المتصوف المصري حين عد من المنن الإلهية عليه شهودهُ(لأصل ولاة الزمان حال ولايتهم فيشهد الأمير تراباً حال رؤيته له أميراً) ويقول ( ولا تزال الأسافل ترتفع في الأرض قديماً ... وكذلك القول في سائر الجبابرة من الملوك إلى عصرنا ، هم كالتراب في حال ملكهم ...ومن هذا المشهد زهد في الدنيا من زهد ، وقالوا أف لدنيا سبقنا بها هؤلاء السفلة. وأيضاً فإن جميع أحوالها تفنى فتزهوا نفوسهم عن التعلق بشيء يفنى واختاروا الباقي ) . ويجعل أحمد أمين من ظلم المماليك دافعاً لانتشار التصوف حيث افتقد المصريون العدالة في الأرض فأملوها في السماء . 10- وأسهمت الأوبئة والمجاعات و نقصان النيل في تحطيم الاستقرار النفسي للشعب المصري المملوكي . وقد كانت تلك الظواهر المفجعة شيئاً طبيعياً في العصر المملوك فلا يكاد يخلوا مصدر تاريخي من التعرض لطاعون أو مجاعة، فالطاعون مثلاً وقع في سنوات : 764، 781 ،791 ،819 ،821 ،822 ،833 ،841 ،847 ،853 ،864 ،873 ،896 ،902 ،903 ،908 ،909 ،910 ،911 ،918 . أي كان وقوع الطاعون شيئاً عادياً حتى ابن إياس يقول عن رياح الخماسين سنة 922 ( وكانت خماسينية مباركة لم يظهر فيها شيء من أمر الطاعون ) . وكثيراً ما يرتبط وقوع الطاعون بانخفاض مستوى النيل وحدوث المجاعات حتى أن المقريزي وضع في ذلك رسالته( إغاثة الأمة في كشف الغمة ) يقول فيها عن مجاعة عام 696 (وجافت الأرض والنواحي والأسواق من كثرة الموتى وكثرة أكل لحوم بنى آدم وخصوصاً الأطفال .. ومن شأن النفس القلقة المنهارة أن تركن للدين ـ وكان التصوف هو الدين العملى وقتها . مظاهر الانتشار الصوفي 1- الفقهاء صوفية ولا أدل على انتشار التصوف من تأثر الفقهاء بالتصوف مع وجود العداء التقليدي بين الفقهاء والصوفية ، وابن تيمية – عدو الصوفية – قيل أنه (نشأ في تصوف وعفاف ) وتأثر في كتاباته بالمتصوفة السابقين وبعد موته نسبت له بعض الكرامات وتبرك الناس بنعشه وبماء تغسيله ورؤيت له منامات صالحة ودفن بمقابر الصوفية ، أي أنه تأثر بالتصوف حياً وميتاً. وقيل في الفقيه ابن دقيق العيد ( له بالتجريد تخلق وبكرامات الصالحين تحقق ) ، وقضى أكمل الدين البابرتي حياته في الفقه ومع ذلك اعتقده الناس لصلاحه فاستقدم من حلب ليتولى الخانقاه الشيخونية ( وبسبب ذلك كان الملحوظ عند أرباب الدولة من الفقهاء ) والواقع أن انتشار التصوف نشر في العصر حب المشهورين بالصلاح من غير الصوفية كما يظهر في ترجمة ابن النقاش وابن النجار والشمني لذا تجد القاضي الأرمنتي يحب أن يوصف بالصلاح حتى يعتقده الناس حتى أنه ( إذا فهم من أحد أنه لا يعتقده يحقد عليه ويقصد ضرره ) . ودان بعض القضاة بالتصوف حتى تركوا وظائفهم وتصوفوا وتنافس فقهاء آخرون في الاعتقاد في الأولياء حتى أن الشعراني يقول لخصومه من الصوفية ( لا تغتر بكثرة المعتقدين من العوام والفقهاء) فقرن الفقهاء بالعوام في مجال الاعتقاد في الصوفية . وتشبه الفقهاء بالصوفية فصارت للفقهاء خرقة تستعمل كناية عن وضعهم الوظيفي فيقول السبكي عنها ( هذه الخرقة – أعنى خرقة الفقهاء – رفيعة) وأدى ذلك إلى الخلط بين مفهومي الصوفي والفقيه ولاحظ ابن بطوطة ( أن أكثرية الفقهاء بمصر من الأعاجم ) ، يقصد الصوفية ، و المقريزي المؤرخ المصري يقول عن الفقراء الصوفية ( وهم جل الفقهاء وطلاب العلم ) 2- المماليك صوفية : ووصف المماليك عادة بالاعتقاد في الصوفية وقد جعل العيني ذلك من وجوه أحقية ططر للسلطنة ونصحه بالإحسان إليهم ومن ناحية أخرى تشبه المماليك بالصوفية فتجرد بعضهم للتعبد في مكة وصار آخرون مريدين ،فكان للحنفي مريد من الأتراك أى المماليك . وتقلد بعضهم (مناصب صوفية ) الأمير سيف الدين طغاي (كان نقيب الفقراء) وكان معاصره قجماس من نقباء الطريقة الدسوقية وكان الأمير طوغان نقيباً للأحمدية والبيسري شيخاً لزاوية أبى السعود والأمير حاجى الرومي شيخاً للتربة الظاهرية . ووصف آخرون بصفات الصوفية فالسلطان قايتباي ( له تهجد وتعبد وأوراد وأذكار) (تتلى في الجوامع) وكانت لسرور الطراباي أذكار ووصف صندل المنجكي بالبركة وحكيت عنه حكايات (ما تقع إلا لكبار الصالحين) ووصف على التركي بالكرامات وبالاعتقاد فيه .. والتزم بعضهم في رسوم الدفن بشارات الصوفية (فكان على نعش الظاهر خشقدم مرقعة الفقراء) ومثله أرغون الناصري ولقبت زوجة خشقدم بالأحمدية نسبة إلى أحمد البدوي وكانت تحرص على زيارة ضريحه وحين ماتت جعل على نعشها خرقة الفقراء والأعلام الأحمدية . وكانت أم الأشرف شعبان تعتقد في الصالحين ، وقيل في تأبين السلطان قلاوون ( .. وهذا الذي ترك زينة الدنيا فما لقي الله إلا بلباس الفقراء ودليل ذلك ما على من هذه المرقعة) بل إن تسيد التصوف للحياة المملوكية حدا بكثير من المماليك للإعراض عن الجاه والانقطاع للزهد والتصوف فأمين الدين الأربلي تزهد بعد (الجندية وصار أحد مشايخ الصوفية) ومثله السليماني وصفى الدين بن أبى منصور وترك علاء الدين المنصوري إمارة الطبلخانة وتصوف وانقطع بلبان البيسري بزاوية أبى السعود وتنفيذاً لأمر الناصر محمد طرح أحمد الجوكندار الإمرة ولبس زى الفقراء ، وتصوف علم دار الناصري في أخر حياته ومثله ابن الأمير وابن أينال وكان شاهين المحمدي مقرباً لدى قايتباي فرجاه أن يخليه للعبادة ففعل فساح في بلاد العجم ثم رجع ليقضى بقية حياته في جبل المقطم .. مصر تصدر التصوف 3- وقد أخذت مصر تصدر الصوفية للمنطقة بعد أن تشبعت بهم هذا مع عدم إغفال عامل السياحة الصوفية ونشاط الطرق الصوفية المصرية الذي تعدى حدود مصر الجغرافية وقد كان الشيخ أحمد بن سالم المصري نزيل دمشق فقيراً متزهداً . ونزل الأخميمي الزاهد ت685 سافح قاسيون ـ بدمشق ـ (وكان صاحب توجه وتعبد للناس فيه عقيدة عظيمة) ومات ابن الفاقوس المصري ثم الدمشقي سنة 682 أمام المدرسة المجاهدية . وكان اللخمي القبابي نسبة إلى قباب بالصعيد ) (زاهداً عابداً عارفاً أقام بحماه في زاوية يزار بها معظماً عند الخاص والعام ) . واشتهر بالقاهرة الشاب التائب فرحل إلى دمشق (وبنى بها زاوية عمل فيها المواعيد واعتقده أهلها ) وبدمشق نفسها توفى ابن خيمان المصري (وكان يتعانى طريق الصوفية ) ومثله ابن سعيد المصري 815 (الموصوف بالفقر) وكان أبو بكر الدليواتي ت بعد915 (مصري الأصل ثم أصبح صاحب المزار المشهور بحلب) وبها كان نور الدين المصري ت290 معتقداً "ومن أتباع الطرق الصوفية قاسم الأحمدي ت 917 ــ من الطريقة الأحمدية ــ ووصف بالصلاح والاعتقاد ، وسلك ابن أحمد الوفائي ت 930 طريقة الوفائية كما كان أبوه وامتدت الوفائية الشاذلية إلى حلب .. وهكذا أصبح التصوف أبرز ظاهرة في العصر المملوكي دخله الكثيرون ، حتى أن الشعراني أنكر على الكثرة المنتحلين للتصوف ووضع في ذلك رسالته ( تنبيه المغترين) ، ووجه لهم رسالة أخرى بعنوان (رسالة إلى مدعى التصوف )، وطبيعي أن يعظم دور التصوف وتأثر العصر المملوكي به في النواحي السياسية والثقافية والفنية والمعمارية والاجتماعية . مكانة الصوفية لدى الحكام والمحكومين سبق أن ألمحنا في بحث انتشار التصوف في مصر المملوكية إلى إعجاب المماليك بالمتصوفة حتى أن بعضهم تصوف بصدق . ولأن التصوف في العصر المملوكي كان يعنى الاعتقاد في شخص الصوفي فقد تمتع الصوفية باعتقاد المماليك فيهم باعتبارهم ممثلين للدين وقادرين على النفع والضرر . وترجم بعض الصوفية تلك المكانة الدينية إلى نفوذ سياسي . فالظاهر بيبرس بما عرف عنه من سطوة ودهاء سمح بوجود نفوذ سياسي على حسابه لشيخه الصوفي خضر العدوى بل وتغاضى عن انحرافات خضر وتجاوزاته وذلك لأنه يعتقد فيه وفى معرفته للغيب . وشهد عصر لاجين نفوذاً لبعض الصوفية كالشيخ العزقي الذي كان لاجين (يعتقده ويعظمه ) وقيل في ابن عبود ( كان قد عظُم قدره في دولة المنصور لاجين وعمر زاويته بالقرافة ) إلا أن القشيري كان أكثر هؤلاء نفوذاً في دولة لاجين، و يوضح الأدفوي ذلك في قوله عن القشيري( .. لما عزل نفسه ثم طلب ليولى قام المنصور لاجين له واقفاً لما أقبل فصار يمشى قليلاً قليلاً وهم يقولون له السلطان واقف فيقول :أديني أمشى، وجلس معه على الجوخ حتى لا يجلس دونه ثم نزل فغسل ما عليه واغتسل وقبل السلطان يده فقال : تنتفع بهذا ، وقد حكى ذلك جماعة عن من حضر المجلس ) . وما كان للقشيري أن يتصرف هكذا مع لاجين ــ قاتل الأشرف خليل بطل عكا ومغتصب الملك من كتبغا ــ لولا ما يعرفه من اعتقاد لاجين فيه . وتزايد نفوذ الصوفية عند أمراء المماليك البحرية ، فالأمير حسام الدين لاجين ت662 عرف بحب الفقراء وخدمتهم . ورتب الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي ت664( صلة للفقراء في كل سنة تزيد على مائة ألف درهم وألوف أرادب غلة) . ومن الطبيعي أن يترجم اهتمام الأمراء بالصوفية إلى نفوذ يعبر عنه المقريزي في ترجمة الشيخ القلانسي الذي قدم مصر (وحصل له بها رياسة ، واعتقده الأمراء وأهل الدولة ، وترددوا على زاويته ) . وقال النويري عن الوزير الشهير ابن حنا إنه كان (حسن الظن بالفقراء والمشايخ كثير الإكرام لهم ولا يمل من حوائجهم ويتشفع الناس عنده بهم فلا يردهم ) وشهدت البرجية تطوراً في نفوذ الأشياخ ومكانتهم ازداد باطراد بازدياد التصوف .. وبرقوق مع صرامته كان يعتقد في المجاذيب الصوفية حتى أن أحدهم وهو الزهوري كان يبصق في وجهه ، وعندما افتتح برقوق مدرسته الجامعة أعطاه مجذوب (طوبة ) وأمره ـ أن يضعها في المدرسة فوضعها الظاهر برقوق في قنديل وعلقه في المحراب .. يقول ابن إياس عن تلك الطوبة فيما بعد : ( فهي باقية في القنديل حتى الآن ) . (واختص بالظاهر ططر الشيخ شمس الدين الحنفي ) وفصلت المراجع الصوفية الحديث عن ذلك وأشار بعض المؤرخين لعلاقة الحنفي بططر ومع ذلك فإن ططر لم يكن أسيراً للحنفي وحده في حكمه القصير إذ ذكرت المراجع غير الصوفية أن عبد الرحمن التفهني ـ أيضاً ـ كان معظماً عند الظاهر ططر (ولما تكلم الظاهر ططر في المملكة بعد المؤيد كان من أخص الناس به وسافر معه إلى الشام ) بيد أن كثرة ما كتبه الصوفية في المناقب عن نفوذ الأشياخ جعلهم معولاً لدى المؤرخين اللاحقين يأخذون عنهم مصدقين معتبرين ذلك حقا لا جدال فيه مهما حوى من مبالغات لأن الأصل التاريخي ـ وهو تقديس الأشياخ ـ لا خلاف حوله . وهكذا نجد ابن العماد الحنبلي يردد في شذرات الذهب قول الشعراني عن الدشطوطي وكيف أن السلطان قايتباي (كان إذا زاره يمرغ وجهه على أقدامه ).وعن أبى السعود الجارحي قال الشعراني (كان له القبول التام عند الخاص والعام والملوك والوزراء وكانوا يحضرون بين يديه خاضعين و عملوا بأيديهم في عمارة زاويته في حمل الطوب والطين) وقال ابن العماد في ذلك ( كان له قبول تام عند الأكابر تقف الأمراء بين يديه فلا يأذن لهم بالقعود وحملوا في عمارة زاويته الحجر والتراب ) .. وهكذا تطابقت الرؤيتان التاريخيتان بين الصوفي (الشعراني ) والمؤرخ (ابن العماد الحنبلي) في التأريخ لنفوذ الأشياخ في أواخر العصر المملوكي..حتى إن ابن إياس وهو مؤرخ مخضرم (مملوكي عثماني) جمع في شخصيته الناحيتين الصوفية والتاريخية ـ قال عن الغوري أن من محاسنه (أنه كان له الاعتقاد الزائد في الصالحين والفقراء) والواقع أن ازدياد نفوذ التصوف في أواخر العصر خاصة ـ جعل الشعراني يفتخر بنفرته من كثرة اعتقاد الأمراء فيه ، ويبدو ذلك النفوذ واضحاً في مدى تسلط الصوفي المصري على الأمير المملوكي ـ الذي يعتقد في ذلك الشيخ الصوفي ـ حيث عومل الأمير معاملة المريد العادي وأقسى، ربما لمركب النقص الذي يحسه الصوفي كأحد المحكومين وقد أتيحت له فرصة التحكم في حاكم ظالم .. نفهم ذلك من دراسة أقوال الصوفية في تقعيد علاقة الشيخ بمريده الأمير .. يقول الشعراني (ومما من الله على أنى لا أحجب أحداً من الأمراء إلا أن غلب على الظن دخوله تحت طاعتي بطيبة نفس بحيث يرى خروجه عن طاعتي من جملة المعاصي التي تجب التوبة عليه منها فوراً) وقال الخواص( كل أمير لا ينشرح صدره ويفرح قلبه بالخروج عن جميع وظائفه وماله ونسائه ورقيقه ودوره وبساتينه إذا أمره شيخه بذلك فلا يصلح للفقير أن يصحبه ...) الخ ( ومن أدب الأمير مع الفقير أن يراه في غيبته أعظم حرمة من بعض ملوك الدنيا ) ... وفي مقابل هذا الخضوع الذليل من الأمير لشيخه كان الصوفي لا يلتزم بشيء تجاه الأمير يقول زكريا الأنصاري : (إياكم أن تتحملوا عن أميركم جميع الشدة التي نزلت به فتلحقوه بالنساء في العجز والكسل والنقص بل أؤمره بالتوجه إلى الله تعالى في دفع تلك الشدة .. وربما كان الأمير لا يستحق المساعدة لكونه مرتكب لكبيرة أو مصراً على صغيرة ) وعدًّ الخواص(من جهل الأمير رمى حملته على شيخه ) ومن أدب الأمير أن لا يطلب من شيخه أن يكون معه على خصمه بالقهر والغلبة وألا يطالب مساعدة شيخه في حصول ولاية وألا يرى الأمير فضلاً له على شيخه بما يرسله إلى زاويته من أصناف الأطعمة وإذا طرده الفقير عن صحبته ألا يبرح بابه ولا يجتمع بغيره من الفقراء وعلى الأمير الخضوع و الذلة لشيخه وأن يوالى من والاه ويعادى من عاداه فمن عادى الشيخ فقد عادى الله وألا يطلب من الفقير حاجة إلا وهو في غاية الذل والانكسار والفاقة، وأن يأمن شيخه على عياله وحرمه ولو اختلى بهم ولا يخطر بباله أن ينظر إلى إحداهن بشهوة وإلا فقد أساء الأدب على الشيخ ، وأن يمرض لمرض شيخه ويحزن لحزنه وأن النعم التي يعيش فيها من بركة شيخه ؟ .. وأن يرضى بحكم شيخه فيه كما يرضى العبد بحكم سيده ) ، وقال أفضل الدين الشعراني (الأمير مع الفقير كعبد السوء مع سيده الكريم الواسع الخلق ..) وعد من واجبات الأمير (أن يعرض على شيخه كل قليل أفخر ما عنده من النقود والملابس والمطاعم والمشارب إظهاراً لشدة محبته له وبياناً لكونه لا يدخر عنه شيئاً، وأن يخلص النية كلما أراد الخروج لزيارة شيخه فلا تكون لعلة دنيوية أو أخروية ) وهكذا ... أي إن أولئك الصوفية جعلوا من أنفسهم آلهة على مريديهم من الأمراء وجعلوا لأنفسهم الغنم كل الغنم ولمريدهم الأمير الغرم كله ،هذا في الوقت الذي تذللوا فيه للأمراء الآخرين غير المعتقدين فيهم من الظلمة الجبابرة وليس هذا عرفاً أخلاقياً أو إنسانياً فما أدراك بالإسلام ؟ ومن الصعب الفصل بين العوامل الخاصة للمماليك كحكام والعامة كمحكومين ـ في اعتقادهم في المتصوفة فتلك العوامل متداخلة ومترابطة إذ أن اعتقاد العامة في صوفي قد يكون مؤهلاً له لدى الحكام ، وشعبية الصوفي ترفع قيمته لدى أولى الأمر ، كما أن حظوة الصوفي عند الحاكم تزيد من جاهه لدى الناس ، وهكذا تفاعلت العوامل ليستفيد منها التصوف نفوذاً وانتشاراً... فالأولياء قصدهم الناس من سائر البلاد للتبرك والتوسل مهما كانت شخصياتهم ، فقد اشتهر (عبد) بالولاية توافد الناس عليه . بل إن (طفلة صغيرة) بقليوب اشتهرت بالولاية فاندفع الناس لرؤيتها أفواجاً ( بلغ كرى كل حمار من القاهرة إلى قليوب اشرفي. وتوجه إليها جماعة من الخاصكية والأمراء والأعيان) أي أن المماليك والكبار كانوا في مقدمة المتبركين ولولا ذلك ما نوهت به المراجع التي لا تهتم إلا بالحكام وتحركاتهم .. ولا نجد أبلغ من وصف أبى المحاسن في اعتقاد الناس في المجذوب يحيى الصنافيري الذي تحدثت عنه مراجع أخرى فيقول عنه( أنه ممن سلم الناس من الإنكار عليه وأجمع الناس على اعتقاده وهولا يفيق من سكرته وكان الناس يترددون إليه فوجاً فوجاً من بين عالم وقاضى وأمير ورئيس ولا يلتفت إليهم ولما زاد تردد الناس إليه صار يرجمهم بالحجارة فلم يردهم ذلك عنه رغبة في التماس بركته ففر منهم وساح في الجبال مدة طويلة) . وفي المراجع إشارة لاعتقاد الشعب في أشياخ الصوفية فذكر أن شمس الدين الحنفي كان إذا حلق رأسه تقاتل الناس على شعره يتبركون به ويجعلونه ذخيرة عندهم . واقتتل الناس على الدشطوطي يتبركون به ، وكان محمد الضيروطي لا يكاد يمشى وحده بل يتبعه الناس (ومن لم يصل إليه رمى إليه بردائه حتى يمس ثياب الشيخ ثم يرده إليه ويمسح به وجهه) . ورأى الشعراني ذلك وعلق بقوله ( كما يفعل الناس بكسوة الكعبة حين تمر عليهم ) هذا .... وارتباط التصوف بالسياسة ليس بعيدا فقد أشير إلى أن التشيع والتصوف كانا من الأسلحة التي حارب بها الفرس المغلوبين العرب الغالبين . وقد كان رؤوس التصوف الأوائل من صفوة الأعاجم وأبناء الأمراء مثل إبراهيم بن أدهم وابن المبارك وشقيق البلخي، ويقول إبراهيم بن أدهم يفضح نفسيتهم "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا عليه بالسيوف" . ووصف ابن المبارك الزهاد "بأنهم الملوك" وقيل لمحمد بن واسع "ألزم الزهد في الدنيا تكن ملكاً في الدنيا والآخرة" وعندما أصبح العرب قوة من الدرجة الثانية وتحكم فيهم الأعاجم تبدل الوضع فأصبح كبار المتصوفة من العرب أو المنتسبين لهم ويلاحظ أنهم رجعوا بأنسابهم للأشراف والخلفاء الأربعة أملاً في عودة النفوذ القديم ولو في دنيا الباطن والتصوف . * فالتصوف ـ والزهد ـ يكمل النقص لمن حرم من سلطان كان حقا له ـ أو اعتقد بأحقيته فيه ـ فهو يعلن زهده في دنيا غلبه عليها الآخرون ، أو يتطرف فيتصوف فيدعي إتحاده بالله السلطان الأكبر وبذلك فهو يتحكم عن طريقه في سلاطين الأرض . يقول الغزالي عن المعرفة الصوفية أو الإتحاد (لذة معرفة الله ومطالعة جمال حضرة الربوبية والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية ألذ من الرياسة التي هي أعلى اللذات الغالبة على الخلق.. ولا يعرف هذا إلا من ذاق اللذتين جميعا فإنه لا محالة يؤثر التبتل والتفرد والفكر والذكر وينغمس في بحار المعرفة ويترك الرياسة ويستحقر الخلق الذين يرأسهم لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته وكونه مشوباً بالكدرات التي لا يتصور الخلو عنها وكونه متطوعا بالموت الذي لابد من إتيانه) . * وتنضح كتب المناقب برغبة المتصوفة في التحكم السياسي في دنيا الباطن و الكرامات التي تشي بأحلامهم فيقول عبد القادر الجيلي لأصحابه (إني قد عهدت إليكم أني قد سلمت إلىَ العراق والآن فقد سلمت إلىّ الأرض شرقها وغربها وقفرها وعمرانها..الخ) ووصف شمس الدين الحنفي بأنه(السلطان أبو عبد الله محمد وأنه سيد الملوك بأسرها وخضعت سيطرته ملوك الإنس والجان) وقيل إن تاج الدين النخال (تصرف في مخلوقات الله فقضى وعزل وولى ونصب وحكم) . * وفي الكرامات كان الشيخ يهدد السلطان بسلطته الدنيوية فيصيبه الشيخ في جسده وتنتهي الأسطورة بخضوع السلطان للشيخ فالشاذلي ـ حسب زعمهم ـ أصاب سلطان مصر بالشلل والحنفي أصاب الناصر فرج بورم في محاشمه . ولم يستطع سلطان أن ينال من ولي إلا حين استعان عليه بولي آخر وقيل (إن لبعض الأولياء مقام التولية والعزل وأن الله تعالى قال لهما :إذا أردتما أن تفعلا شيئاً فافعلا ولا تسألاني فإني أكره أن أرى ذل السؤال في وجوهكما.) . وبغض النظر عن دلالة هذه الأساطير على عقيدة الصوفية فإن ما يهمنا هو أن العصر المملوكي أتاح الفرصة للصوفية في تجسيد أطماعهم السياسية إلى واقع عملي بعد أن كان مجرد أحلام يقظة ترددها الكرامات. و أخيرا فالتصوف في العصر المملوكي كان يعنى الاعتقاد في الشيخ الصوفي حياً أو ميتاً . حتى أن الصوفي كان يوصف بالمعتقد( بفتح القاف) أي الذي يعتقد فيه الآخرون النفع والضرر ومن يقرأ كتب المناقب والطبقات والحوليات التاريخية يجدها تفيض بمثل ذلك .. وإلى جانب صفة ..(المعتقد) وصف الصوفي بالفقير أو بالأعجمي أو بأرباب الخوانق.. وبهذه الصفات وغيرها يُحَدد الصوفي في كتب الحوليات التاريخية – غير الصوفية- هذا عدا ما يرد في سيرة المترجم له من قرائن صوفية كدراسته في خانقاه أو صحبته لشيخ صوفي ، أما مشاهير الصوفية فلهم بالطبع تراجمهم الخاصة ..
#أحمد_صبحى_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخازوق الذى يجلس عليه المحمديون : حديث ( إنما الأعمال بالني
...
-
كتاب (أثر التصوف السياسي في الدولة المملوكية ) فكرة عن الكتا
...
-
( ولا تُمسكوا بعصم الكوافر )
-
مصادر كتاب ( اثر التصوف فى الحياة الدينية فى مصر المملوكية )
-
خاتمة كتاب ( اثر التصوف فى الحياة الدينية فى مصر المملوكية )
-
ج3 / ف 6:التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية :الغيبة والنميمة..وا
...
-
التصوف ونشر البذاءة فى مصر المملوكية
-
ج3 / ف 6 : التصوف ونشر القذارة فى مصر المملوكية
-
ج3 / ف 6 : قذارة الصوفية فى التطهر بالبول ومعايشة الذباب وال
...
-
ج3 / ف 6 : القذارة أصل فى دين التصوف
-
ج3 / ف 6 : بين طهارة الاسلام ورجس الشرك : ( فى الحج وعقوبة ا
...
-
ج3 / ف6 :القذارة دين التصوف :بين طهارة الاسلام ورجس الشرك (
...
-
ج3 / ف 6 : الصوفية وتشريع ونشر الكذب
-
ج3 / ف 6 : التصوف والتطرف فى الكذب
-
ج3 / ف 5 : الصوفية وأكل أموال الناس بالباطل: تشريع الرشوة
-
ج3 / ف 5 :الصوفية وأكل أموال الناس بالباطل:التحايل بالمطالب
-
ج3 / ف 5 :الصوفية وأكل أموال الناس بالباطل: التحايل بعلم الح
...
-
ج3 / ف 5: الصوفية وأكل أموال الناس بالباطل: التحايل بالشعوذة
...
-
ج3 / ف 5 : الصوفية وأكل أموال الناس بالباطل: التحايل بالكيمي
...
-
ج3 / ف 5 :التصوف والكيمياء ( ادعاء قلب الأشياء ذهبا):
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|