|
الإيمان والتهويم والعدل
عماد صلاح الدين
الحوار المتمدن-العدد: 4827 - 2015 / 6 / 4 - 14:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لا شك أن الشرائع السماوية جاءت كلها لتؤكد على مسالة التوحيد ووحدانية الخالق. هذا الأمر، على رغم كل الطبقات الحلولية والوثنية والاثنية التي داخلت بعض ديانات التوحيد السماوي، خصوصا اليهودية ثم بدرجة اقل المسيحية، وحتى أيضا في الممارسة الإسلامية في عصور التخلف والتراجع، وعلى العموم في التجربة الإسلامية المعاصرة، رغم كثير من محاولات التطهير والتنوير في تجربة بعض الحركات الإسلامية الحديثة. ربما استطيع التجرؤ هنا بالقول أن حالات نظرية التوحيد وممارستها بشكل يصل إلى الانسجام والاتحاد السليم كليا، هي مسالة نادرة الحدوث في تاريخ الإنسان، وربما هي مسالة تقتصر على إيمان الرسل والأنبياء وسلوكياتهم الحياتية الخاصة على وجه التحديد، ذلك لان الوضوح والتثبيت مصدره الهي مكين. وهؤلاء هم منارات إلهية للبشر وعلى امتدادات زمانية ومكانية كانت قريبة في عصور الرسالات والنبوات القديمة ومتوسطة في عصور تالية، ثم هي خاتمة إلى يوم الدين(القيامة) كما هو الحال بخصوص الشريعة الخاتمة(الإسلام). هؤلاء الرسل والأنبياء منارات إلهية جلية واضحة، ليس بحكم اختصاص احد من البشر بامتياز أو تفوق أو اختيار محاباتي، وإنما هو تكليف ومسؤولية وحمل الأمانة، والله سبحانه وتعالى اعلم حيث يضع رسالاته. وعليه، فحتى حواريي الأنبياء والرسل واتباعم وأنصارهم وأصحابهم، بما فيهم أصحاب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، هؤلاء لم يصلوا ولن يصل احد غيرهم إلى خلوصية ونقاوة وطهارة الحالة التوحيدية الشاملة معنى ومضمونا، على رغم نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة حول مفهوم التوحيد وعناصره وخصائصه. وهذا ينطبق أيضا على الديانات التوحيدية الأخرى في جانبها أو طبقتها الدينية التوحيدية سواء في اليهودية أو المسيحية. وكذلك، على رغم كل استخلاص من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، ومن الديانات الأخرى كحالة ومسألة اجتهادية إنسانية بهذا الخصوص. لان المسألة هنا هي مسألة الإحساس والجوارح واليقين الإيماني، تناسبا تاما في الفهم والإدراك والاعتقاد في علاقة مفهوم التوحيد والممارسة الإيمانية الخالصة له. وهذه مسألة لا يمكن أن تتحقق بالكلية، وإنما بالنسبية لضعف الإنسان ونسبيته القدراتية والاحساسية والاعتقادية، وعلى العموم الإنساني في هذا المجال. اعتقد أن عدم القدرة الكلية لانسجام أو اتحاد التوافق والتلاقي بين مفهوم التوحيد وممارسته عند الإنسان، هي من باب الرحمة بالناس، ومراعاة حقيقة قدراتهم الكلية. إنها الرحمة التي تكفل الله سبحانه وتعالى بها للإنسان، حينما انزله واسكنه الأرض. والأرض التي ندب عليها منذ آماد بعيدة موغلة في القدم، طبيعتها تميل في الغالب الأعم إلى الماديات الصارخة، وتفاعلاتها الكلية المنسوقة بإحساسات الملموس والمشاهد. وعلى رغم أن الله سبحانه هو الخالق والمدبر والرازق للإنسان، إلا انه في عموم فكر ومنهج الديانات السماوية، نجد التفريق دائما ما بين التوكل والتواكل. ذلك لان الحياة الإنسانية تحكمها قوانين ناموسية إلهية عليا يتيسر ترجمتها وتطبيقاتها التفصيلية والعملية في عموم اتجاهات العلاقة الإنسانية نفسها، وهي مسألة تقع في سياقية معادل التقديمات (المقدمات) وأسلوب أو منهج المعالجة، ثم هي (المخرجات). ولا شك أن قدرة الله تعالى وعلمه وإرادته حاضرة من قبل ومن بعد في عمومية المشهد، لكن بشكل عام فان المؤديات والمعطيات والنتائج لها حضورها المادي والحسابي المفرح أو الصادم بحسب الأحوال والمبذولات الإنسانية والمنهج وسلامته وغيرها. عليه، جاء النسق الخلقي للإنسان بكليته الجامعة تركيبيا، وليس أحاديا في اتجاه أو جانب واحد. وكذلك فان الجزاء في الدنيا والآخرة، قد روعي فيه هذه التركيبة الإنسانية، قال تعالى" فمن يعمل مثقال ذرة خيرا ير، ومن يعمل مثقال ذرة شرا ير" الايه رقم 7 من سورة الزلزلة. ولذلك، فإنني أرى أن مسألة التهويم الديني( اقصد هنا الابتداع الإنساني التوليدي) بخصوص ما يظن انه داخل في التوحيد والإيمانية بالله، من مثل شعب الله المختار، أو هذه القداسة المذهبية عند الشيعة ومسألة الاجتباء المقدس لهم ولائمتهم دون غيرهم، والإمام الغائب،والمهدي المنتظر، وكذلك الأمر بالنسبة لأهل السنة، وهكذا. فهي إذن مسألة لا مفر للناس منها أو عنها بحكم الممارسة والتطبيق الإنسانيين. ولكني في الآن ذاته أجد التهويمية الدينية(الابتداعية الإنسانية لما هو معتقد) وكذلك الحلولية بتفاوتاتها ونسبتها ونسبيتها باختلاف ظروف وأحوال المجتمعات الإنسانية، إما: 1- أن تكون قوية وحماسية جدا عند المجتمعات الضعيفة والمتخلفة والتي تريد أن تركن إلى التراخي وعدم العمل (التواكل)و(الإرجاء). 2- أن تكون قوية وحماسية جدا عند المجتمعات التي تبحث عن النهوض والتقدم، وتريد تفعيل حماستها العامة فتلجأ إلى استخدام التبريرات والديباجات وعموم الأفكار المشيحانية لأجل تجاوز مسائل الشرعية والأخلاقية المانعة أو العقبات والعراقيل المادية والواقعية كذلك. 3- ثم هي نجدها في نوادر الحالات الإنسانية عند الذين يسيطر عليهم نموذج الأمن المطلق (perfect security) كما هو الحال مع المشروع الصهيوني(إسرائيل)فهي تكثر من مسألة التهويمات والحلوليات الدينية والاثنية من قبيل شعب الله المختار وأبناء الله ورب إسرائيل وغيرها.
4- وهي تميل في غالب الأحوال وبحسب التجربة التاريخية إلى التوازنية والعقلانية الإنسانية القريبة من فكرة التوحيد، حين يستقر لمجتمع ما أوضاعه في عموم القوة والمقدرة في مختلف مجالات الحياة؛ انظر مثلا إلى أوروبا بعد العصور الوسطى، كيف كانت كثير من التهويمات والادعاءات الدينية يتم تقديمها، لبعث الحماسة والفاعلية في حراك ثورة وتوجه المجتمع نحو التقدم العسكري والصناعي والإنتاج، كما هي ادعاءات البروتستانتية في انجلترا والتي كانت وراء نبوءات الألفية وعودة المسيح(الماشيح)،وتبرير إنشاء المشروع الصهيوني وتطبيقه عمليا في فلسطين. 5- وهذه التهويمية والحلولية قد تنعكس إلى درجة مغايرة في تجربة تاريخ الممارسة الإنسانية وعلاقتها بالدين، إلى حد الإلحادية والعلمانية الشاملة، كما حصل في أمريكا تحديدا بعد أواخر ستينيات القرن العشرين الماضي، حينما وصلت إلى بداية التأسيس للإباحية والاستهلاكية (غرور المتعة والرفاه)، والتي أصبحت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1989، تريده نموذجا معولما على الإنسانية جمعاء. إن المجتمعات الإنسانية، وهي في سعيها المحموم لأجل الرقي والنهوض ودفع الظلم ورفعه وتحقيق كرامتها وإنسانيتها، قد تقع في دائرة من ظن التشبث بمساحات من الروحانية والتأملية المتبصرة، وهي تهوم بخيالها وأحلامها وترنو إلى مستقبل مشرق، ويختلط عليها المعقول وغير المعقول من إيمانية التوحيد والتسليم لخالق واحد احد، ليظل الإيمان موصولا بالأمل في الدنيا و الآخرة، هذه تهويمية جزئية، وحلولية جزئية تقع في إطار من التركيبية الإنسانية ومن مسموح الرحمة الإلهية فيها. ذلك أعلاه أمر يشبه في وجه من الوجوه فسحة ومسموح العلمانية الجزئية ومن باب(انتم اعلم أو أدرى بشؤون دنياكم) كما هي قصة تأبير النخل في سؤال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بخصوصها. وفرق واضح بين علمانية جزئية(إنسانية هيومانية مجتهدة) وما بين علمانية شاملة أحادية الحادية. كما هو الفرق بين حلولية كاملة وثنية أو قومية، يحل فيها الإله في الإنسان أو الشعب أو الشيء أو الطبيعة وقوانينها، أو في العلم، وتستخدم لأجلها ديباجات واعتذاريات شكلها اثني ديني، لكنها في جوهرها منكرة لفكرة الإله المتجاوز والمفارق للطبيعة والإنسان والأشياء، وما بين تهويمية أو حلولية جزئية يكون منبعها إحساس إنساني جواني، يحاول مجسرا من خلالها تركيبية الإنسان المبنية على ضعف وقوة وقنوط وأمل مع فكرة التوحيد وممارستها واقعا، فتختصر المسافات الجوانية الكلية بارتباطها مع خالقها وموجدها مع مساحة السعي نحو تخطي المعضلات ومكابدات الحياة وكونها طبقا عن طبق، لتتحقق في النهاية رسالة الإنسان من خلقه في الدارين.
#عماد_صلاح_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل الثورات العربية بخير؟
-
أوجه الشبه والخلاف في المسألتين الفلسطينية والعربية
-
فلسطين: في منطق الحق والواجب
-
غزة تنتحر لأجل عموم النضال الفلسطيني
-
غياب الموجه نحو تقرير المصير
-
العالم العربي: لماذا لا يحسن حكامه حتى خداع شعوبهم؟
-
غزة في خطر
-
إجرائية في ظلال أوسلو
-
الحلولية الجزئية
-
هل هي حتمية الصراعات الدموية في المجتمعات المتخلفة؟
-
المصالحة الفلسطينية المتعثرة
-
كلية الحق الفلسطيني
-
في العام ال67 للتطهير العرقي في فلسطين
-
الانتخابات والاحتلال
-
الإسلاميون والانتخابات
-
الاستهلاكية تحت الاحتلال ستؤدي إلى الانفجار
-
إلى متى معاناة اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات
-
فلسطين في زمن الانكفاء
-
لماذا الوحدة الوطنية الفلسطينية ؟
-
كامب ديفيد وأوسلو والحرب على الشعب الفلسطيني
المزيد.....
-
ليبيا.. وزارة الداخلية بحكومة حماد تشدد الرقابة على أغاني ال
...
-
الجهاد الاسلامي: ننعى قادة القسام الشهداء ونؤكد ثباتنا معا ب
...
-
المغرب: إحباط مخطط إرهابي لتنظيم -الدولة الإسلامية- استهدف -
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: استشهاد القادة في الميدان اعطى دفعا قو
...
-
الجهاد الاسلامي: استشهاد القادة بالميدان اجبر العدو على التر
...
-
أختري للعالم: هدف الصهاينة والأميركان إقصاء المقاومة الإسلام
...
-
اسعدي أطفالك بكل جديد.. ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي 2025 ع
...
-
شاهد: لحظة إطلاق سراح الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود وتسليمه
...
-
تسليم الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يو
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي النايل سات وال
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|