عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4825 - 2015 / 6 / 2 - 23:31
المحور:
المجتمع المدني
الدولة المدنية ..... الثابت والمتغير
تأسست الدولة العراقية عام 1921 ككيان مستقل له شخصية معنوية ويتمتع بدستور ونظام قانوني خاص على أنه دولة مدنية ناشئة من إرادة وضع دولي نشأ على أنقاض الدولة العثمانية القائمة على فكرة دولة الدين وتمثيله في الحياة العامة ,وبالتالي العراق الذي نعيشه اليوم لم ينشأ عن تطور الدولة الدينية ولا تحول نتيجة قرار حضاري بخيار حر فتكون الولادة هنا خاضعة للزمن التطوري مما يعني أن وجود رسوبات فكرية أو إرث ديني يتناغم مع كونية الدولة أمر ليس بالمستغرب ولا الطارئ, هنا نجزم أن التحول وإن كان جذريا وفوقيا بالنسبة للقاعدة القانونية الوصفية إلا أنه لم يتم تجذيرها واقعا والعمل على تمدين العلاقات الأجتماعية وفقا لها من خلال سلسلة من التدابير والقرارات والأجراءات المنظمة والضابطة ,لذا لا غرابة أن نشهد هذا التناقض الصريح بين القانون الرسمي الأجتماعي للدولة وبين العرف الأجتماعي العشائري الديني في صفته الغالبة والذي يشغل مساحة واسعة من تنظيم العلاقات الأجتماعية في المجتمع ويتسيد كل التفصيلات اليومية مستغلا عدم جدية العنصر المدني في دستور وقانون الدولة .
هذا التناقض واحدا من أعظم الأسباب الأساسية والمهمة التي تعرقل التحولات والتبدلات الفكرية والاجتماعية والحضارية في العراق ليس لأنها تتعلق فقط بالحفاظ على نوعية وشكل الروابط الأجتماعية فحسب بل أيضا لأنها تعمل على الحد من قدرة العنصر المدني الثقافي في العمل ومقاومة مشروع النهضة الأجتماعية بما يفرضه من تشتت في الولاء الوطني أولا وما يثيره من تنازع بين القاعدة الخاصة الفئوية وتقديمها على الصالح العام , لذا فالمثقف المدني والمشرع الأجتماعي يجد نفسه محاصرا بين مراعاة الواقع الأجتماعي والخضوع له وبين فكرة الدولة المدنية التي ينضوي تحت لوائها خاصة وأن بعض الحكومات السيادية قد لعبت على هذا الوتر الأجتماعي وسنت قوانين تؤكد على مبدأ عدم مدنية الدولة مستندة لقانون مدني مثل قانون فض المنازعات العشائرية قديما ولجنة العشائر البرلمانية وتشكيلات رسمية أخرى ترتبط بالمفهوم هذا وتعمل على تثبيت وتمتين العلاقات التجزئية والمناطقية وصولا للطائفية السياسية والدينية .
الصراع بين المدنية والعشائرية والطائفية في المجتمع العراقي سمة بارزه ومهمة في تاريخه ولم يخلوا من تقدم وتأخر في هذا الصراع أعتمادا على السياسة الأجتماعية التي تتبناها الدولة كمؤسسة حاكمة وأفصد بها الحكومة السياسية التي تقودها والخطأ يكمن في كيفية توصيف المهمة الأجتماعية للسلطة بين أن تكون إدارة مهمتها قيادة المجتمع نحو ترجمة الدستور وقواعده القانونية لصالح المجتمع وتطوره وخضوعها لفكرة أن مصدر الشرعية التي تتمتع بها يأت من كونها تمثل إرادة الأمة وأن مصلحة الأمة هي مصدر السلطات , وبين فكرة أن الحكومة تحكم الناس بتسخير القانون لتنفيذ رؤيتها الخاصة وإن تعارضت مع الدستور لأن الأخير بالنسبة لها جملة كلامية يمكن تغيره وإبدالها بما يتناسب مع رؤيتها لأنها تعتمد في المشروعية على حق السلطة في قيادة المجتمع لأنها الأعرف والأولى والأجدر بالكشف عن مصلحة الأمة كونها تمارس السلطة وهي تعرف حقيقة الأمور أكثر من غيرها وأهل مكة أدرى بشعابها .
وهذا التناقض الثاني بين فكرة الإدارة وفكرة الحكومة مع وجود التناقض الأول مكن من أن تفرض الحكومات المتعاقبة رؤيتها ببطش السلطة وقهرها على أن يبقى المشروع الحضاري العراقي المدني تحت رحمة التنظير والتدبير المزاجي الذي لا يحترم القانون ولا يخضع لإرادة الأمة , ومن خلال هذا الواقع لا يمكن أن نتلمس تطور أجتماعي حقيقي ممتد إلى ذاتية الفرد العراقي كمتصرف ولا الفرد العراقي كذاكرة مفكرة ,وهنا سجل علماء الأجتماع هذا التمزق الفكري في الشخصية العراقية على أنه ميزة أساسية وتركيبية في الشخصية العراقية وهو إنحياز أعمى وتوصيف غير دقيق للواقع شوه من الحقيقة وساهم هو الأخر في تضليل العلم الأجتماعي وأحبط من قدرة المشروع العراقي المدني على التغيير أيضا .
وأيضا من العوامل الي ساهمت إلى مدى بعيد في تشتيت الجهد التنويري والحضاري وتعطيل الفكر المدني العراقي الأهتمام الذي يوليه المشرع الأجتماعي لدور المؤسسة الدينية وتركها تتصرف خارج القانون والدستور وكأنها تعيش عالمها الخاص وتتصرف ككيان منفرد ومستقل عن المجتمع ,وبالرغم من حساسية الموضوع من الناحية الأجتماعية والشعبية فكان على المجتمع العراقي الممثل بالدولة وسلطاته أن تجعل للمؤسسة الدينية شخصية أعتبارية تنتظم بقوانين وتعمل وفق شروط أساسية تلائم بين كونيتها ودورها الأساسي والفكري الأجتماعي والديني وبين كونها منظمة أجتماعية هي جزء من مجموعة منظمات تهدف أولا وأخير للعمل على أستقرار وتنمية وتحضير المجتمع ,إن ترك المؤسسة الدينية تعمل خارج القانون وبدون رقابة دستورية وقانونية وبلا محاسبة ولد منها تنظيمات تشبه المافيات في عملها وسلوكها الأجتماعي ومنحها العصمة التي تتنافى من كونية الدولة العراقية مدنية بالأصل .
إن معالجة الموضوع العشائري والقبلي وإخضاعه أيضا للحد القانوني كوسيط أجتماعي له القدرة على التأثير لا تتم عبر منحه سلطة قضائية تفصل بالمنازعات بين أفرادها ولا منحه السمه الأعتبارية القيادية لأن ذلك يتناقض أولا مع وحدة الفلسفة القانونية والرؤية القضائية وتتناقضأيضا مع وحدة المجتمع وأسس المواطنة التي تنص على أن المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات ومنها الخضوع لنظام قانوني وقضائي موحد وعادل ومدون وثانيا تتناقض مع وحدة السلطة القضائية والتشريعية , فلا يمكن أن يكون المواطن العراقي خاضعا لسلطتين تشريعيتين وقضائين منفصلين أحدهما عام مجرد والأخر كيفي شفاهي غير مدون ومتبدل ومتغير معتمدا على المزاج والتاثيرات الأجتماعية , إن تنظيم الواقع العشائري لا بد أن يرتكز على تجريد السلطة العشائرية من حق الفصل بالمنازعات وتسنين القواعد وجعلها قانون مواز لقانون الدولة ,ومن ثم تصحيح فكرة العشيرة على أنها تنظيم أجتماعي تضامني يشبه التنظيم النقابي أو قريب منه يهدف إلى مراعاة والحفاظ على الروابط الأجتماعية ضمن مؤسسات الدولة وأطارها ويساعد في تثبيت السلم والتكافل الأجتماعي في تطور يؤدي بالنهاية إلى الذوبان الكامل بالمجتمع المدني الواحد في الشخصية الفردية والشخصية الكلية .
الثوابت المدنية التي لا يمكن تجاوزها والأعتداء عليها هي فكرة سلطة القانون ووحدة المجتمع وخضوع الأمة لقانون الزمن بأستحقاقاته دون أن ينافس هذه المبادئ الثلاث أي منافس لا فكري ولا أجتماعي ولا تشريعي خاص أو عام ينتقص من قوة هذه الثوابت الأساسية أو يقلل من قاعليتها ,الفرد الأجتماعي يكون فرد إيجابي ومنتج ومدني حقيقي عندما يؤمن بأن المجتمع الذي ينتمي له لديه مقدسات يعمل من أجلها وقد سن ما لا يمكن معه الأنتقاص من هذه القواعد المفدسة , فهو ضامن أنه والجيل الذي يليه وما بعده سوف لا يتعرض مرة أخرى لسلطة غاشمة ولا إرادة حكومات تجعل من نفسها فوق قداسة القانون وسلطته وأن الزمن الذي يعيش فيه سيكون متبدلا نحو الأحسن طالما أن المجتمع ومؤسساته وقواعده القانونية تضمن ذلك ,وبالأخير شعوره المقنن والمؤكد أنه فرد محترم متساوي بالحقوق والواجبات مع أي فرد أخر في المجتمع له ما له وعليه ما عليه دون تفريق أو محاباة أو وجود أمتيازات فردية يقننها القانون أو تمنح خلافا له .
في المتغير هناك مساحة واسعة جدا يمكن أستغلالها للمناورة والتكيف مع المتغيرات الحولية أو التي تفرضها العوامل الخارجية والداخلية أو التي هي من طبيعة النظام الأجتماعي العالمي خاصة وأن المتغيرات الدولية هي الغالبة في فرض مستحقاتها الأدائية , ومن طبيعة السياسة البراغماتية العقلية التي تحاول مسايرة ما ينشأ من تبدلات وتحولات خضوعا لمنطق العصر ومنطق السياسة على أن لا تصل هذه البرغماتية العملية لحدود التأثير على الثوابت الأجتماعية ,إن فكرة التكيف والموائمة مع الواقع الحولي لا يبرر أيضا تأخير في المشروع التمدني العراقي خضوعا للأملاءات الخارجية وتأثيرات التدخل بالشأن الداخلي ,ومن هنا علينا أيضا أن نحصن المجتمع من تلك التأثيرات خاصة إذا تسربلت بمظاهر تتناقض مع المدنية وأسسها كما يحدث الآن من ظهور التنظيمات الإسلامية المتطرفة بجميع توجهاتها والمناداة بالعودة القسرية للمجتمع إلى الماضي السحيق وإلباس المجتمع الزي والفكر الديني بما يقتل من روح المعاصرة والرجوع إلى سلطة الدين والقبيلة والقرية .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟