بعد انطفاء الوهج المسرحي في الستينيات عقب هزيمة 1967 ، بدأت أعمال مسرحية لكتاب جدد تظهر في السبعينيات ، لكنها لم تستطع – في البداية – أن تقيم بناءا إبداعيا له ملامحه المحددة ، وأهدافه الواضحة ، ومن ثم رأيناها لم تشكل تيارا مسرحيا يطرح رؤية فكرية وإبداعية يستطيع أن يلتف من حولها كتاب تلك المرحلة ، قياسا علي مرحلة الستينيات ، كانت مجرد اجتهادات فردية ، حاول أصحابها أن يجدوا لأنفسهم مكانا علي ساحة التأليف المسرحي ، وجاءت أعمالهم متفاوتة من حيث الرؤية الفكرية والفنية تجاه الواقع ، ومتفاوتة شكلا ومضمونا وتوجها ، ومن هؤلاء الكتاب : يسري الجندي – أبو العلا السلاموني – محمد الفيل – رأفت الدويري – شوقي خميس – فتحي فضل – السيد حافظ ، بالإضافة إلى كتاب آخرين أطلق عليهم النقاد عبارة ( جيل الدكاترة ) وهم : فوزي فهمي – سمير سرحان – محمد عناني – عبد العزيز حمودة ، وكانوا يعملون في الجامعة ، ويمارسون النقد المسرحي الأكاديمي ، وكانت هناك مجموعة من الأسباب الني ساعدت هؤلاء في التوجه للكتابة في المسرح دون وجود دلائل أو إرهاصات تشير إلى وجود تلك الإمكانية ، بدليل أن معظمهم لم يعد يكتب شيئا الآن في مجال التأليف المسرحي !!
من هذه الأسباب : الفراغ المسرحي الذي أحدثته هزيمة 67 ، وخلو الساحة من الكتاب الجادين وسيادة المسرح التجاري وكتابه ، بالإضافة إلى انكماش الحركة النقدية وتوقف رموزها عن المتابعة والمواكبة .
وقد يتساءل البعض : لماذا جيل الدكاترة بالذات ؟؟ هؤلاء الذين تتحدث عنهم ؟ أقول : لأنهم اكتشفوا – فجأة – في أنفسهم القدرة علي الكتابة دون وجود إرهاصات أولية تشير إلى إمكانية ممارسة الكتابة في هذا المجال سواء في المستقبل البعيد أو المستقبل القريب !
وذلك علي عكس الكتاب الذين ظهرت أعمالهم في مسارح الدولة في نفس المرحلة ، واعني بهم : يسري الجندي – أبو العلا السلاموني - - رأفت الدويري – نبيل بدران .. وغيرهم ، هؤلاء كانت لهم كتابات مسرحية منذ بداية الستينيات ولم تتح لهم فرصة تقديمها في فترتها لسيطرة الكتاب الكبار علي مسرح الدولة وعدم إتاحة الفرصة أمام الأقلام الجديدة الناشئة فضلا عن أن الحركة النقدية في تلك المرحلة كانت منحازة لكتاب بعينهم وأعمال بعينها ..
أن اكتشاف القدرة علي الكتابة فجأة ، وتبعا لمعطيات السوق - خاصة الكتابة المسرحية - أمر لا يبرره ندرة الكاتب المسرحي ، بل يبرره النفوذ ، ومحاولة التواجد تحت أي مسمي .. إن مؤلفي المسرح العظام بدءوا الكتابة في سن متأخرة ، شكسبير قدم أعظم أعماله ( هاملت / عطيل ) وكان يناهز الأربعين من عمره ، وبرنا رد شو بدأ كتابة مسرحياته وهو في منتصف الأربعينيات وجاءت رائعته ( القديسة جوان ) وكان عمره ستين عاما ، وهنريك ابسن حين كتب مسرحيته الجميلة ( حين نستيقظ نحن الموتى ) كان قد تعدي السبعين عاما ..
نخلص من كل هذا إلى أنه لا يمكن أن تكون ندرة الكاتب المسرحي سببا في توجه كل من هب ودب للكتابة للمسرح .. لأن الأمر يحتاج أولا إلى الموهبة ، ويحتاج ثانيا : الخبرة التي تساعد الكاتب علي صقل هذه الموهبة .. والدربة التي تجعل قضية الكتابة قضية أساسية ، وليست قضية هامشية لمجرد البحث عن دور ، أو بحثا عن لقمة العيش في مجال ليس مجالك !
هذا باختصار شديد هو ما حدث في السبعينيات ..
ما الذي حدث بعد ذلك ... في الثمانينيات وما بعدها ؟؟
رسخت الكتابات الصحفية أن هناك أزمة في النص المسرحي ، وان الخروج من تلك الأزمة يستدعي البحث عن الكاتب الجديد، وفي وسط هذه الدعوة وفي مناخ تحكمه الفوضى العارمة ، وتهتك القيم ، اختلط الحابل بالنابل ؛ وتغلبت الانطباعات الصحفية السطحية علي النقد العلمي الجاد الذي لم يجد له مكانا يستطيع أن يمارس دوره فيه فانكمش علي نفسه وانكفأ ليصبح المجال مناسبا تماما لظهور جراثيم وطفيليات التأليف المسرحي .. وكان لسيطرة بعض الصحفيين الذين يمارسون لعبة الكتابة الانطباعية حول النتاج المسرحي دورهم في إفساد حياتنا المسرحية بشكل مباشر وملموس ، خاصة حين توجه عدد كبير منهم إلى الكتابة للمسرح ، كتابات هزيلة تشهد عليها العروض المتعددة التي قدمها لهم مسرح الدولة أو غيره من المسارح .. استطاعوا تمرير هذه الكتابات بابتزازهم للمسئول سواء كان مديرا للمسرح ، أو رئيسا لهيئة المسرح أو رئيسا لأي هيئة أخري ، وربما ابتزاز وزير الثقافة نفسه .. المهم أن يستجيب كل هؤلاء أو بعضهم ، وإلا فالويل كل الويل للرافضين ، هنا تطفح الكتابات التي تتحدث عن الطهر والنقاء المفتقد ، تتحدث عن الفساد والإفساد ، تتحدث عن التسيب والانحلال .. تتحدث عن الوسائل التي يمكن بها الوصول إلى بر الأمان ، كتابات تتحدث عن السلبيات الكثيرة التي لا تجد من يقاومها .. ويتحول النقض إلى انتقاد في أحسن الأحوال ، والي شتائم في معظم الأحيان !! ولا يجد المسئول أمامه إلا الاستجابة وهو يعلم جيدا إن هذه الممارسات - التي تكون غالبا ليست علي حق – نوع من الابتزاز ، يستجيب له لأسباب كثيرة من أهمها : أنه يحب المنصب حبا جما ولا يستطيع العيش بدونه ويعتبر أن إرضاء الصحفي المبتز وسيلة من وسائل منع الشوشرة التي ربما تؤثر علي وجوده في منصبه . وربما تعود الاستجابة إلى إحساس المسئول بأنه ( عامل عملة ) ويخشي أن يكون الصحفي علي علم بها !! ( اللي علي راسه بطح يحسس عليه!!) وأحيانا يستخدم المسئول ابتزاز الصحفي للتخلص من موظف يعمل تحت رئاسته ويريد إلصاق أي شيء له حتى يكون القرار مبررا !! ولذلك نري المسئول يرضخ للابتزاز ويقوم بإرضاء الصحفي (الشتام )، ويعمل علي إرضائه بكافة السبل ومنها أن يضعه في لجان التحكيم والتقييم ، ولجان وضع الخطط ، وتنظيم اللوائح ، كل هذا يحدث في غيبة المهتمين الحقيقيين والمتخصصين في هذا المجال .. أليس هذا إفسادا يساهم فيه الصحفي من حيث يعلم ؟!
وقياسا علي ظهور( جيل الدكاترة ) - الذي تحدثنا عنه في عجالة - ظهر جيل آخر يمكن أن نطلق عليه ( جيل الصحفيين) هؤلاء الذين تحولوا بقدرة قادر إلى كتاب للمسرح ، تقدم أعمالهم في القطاعين العام والخاص ، ومسرح الأقاليم ، ومسرح العلب ، أي المسرح الذي تقوم بإنتاجه الشركات الخليجية بقصد الربح وليس بقصد الفن .... لا يهم أي شيء .. المهم أن أكون كاتبا مسرحيا فقط ، أليست هناك أزمة ، والأزمة تستدعي أن أشارك في حلها ؟ سأشارك بالكتابة .. ولن يحاسبني أحد .. النقد في غيبوبة .. والصفحات الفنية يعمل بها أصدقائي وسوف يروجون لأعمالي .. ويتحدثون عنها كثيرا ويقولون عنها ما لم يقله النقاد عن أعمال نعمان عاشور أو الفريد فرج ويوسف إدريس ، وحتى سعد الدين وهبة !! وأنا بما أملكه من مواهب متعددة أستطيع التأثير علي المخرجين ، بمجرد إطراء بسيط ، أو مدح في مقال أكتبه ولن أخسر شيئا ، سيصبحون جميعا في جيبي الذي سيمتلئ حتما بالنقود .. هذا - مع الأسف الشديد – هو المنطق الذي يحرك معظم هؤلاء ، الذين اكتشفوا فجأة أنهم قادرين علي الكتابة للمسرح .. منطق مغلوط في زمان رديء يتيح الفرصة لفاقدي الموهبة أن يسودوا وينتشروا ، ويقفون في طريق الموهبة الحقيقية التي لا يجيد أصحابها الأساليب اللولبية ، والطرق المتعرجة . عندما نتحدث عن ندرة الكاتب المسرحي ، فإننا نعني : ندرة الكاتب الحقيقي ، الموهوب ، الذي يملك رسالة يريد أن يوصلها لنا ، ويؤمن بأن الكتابة ضرورة لا تعادلها ضرورة ، وإذا كان جيل الصحفيين قد جاء بحجة الندرة ، فان الندرة ستظل موجودة بسببهم .. حين جاء ( جيل الدكاترة ) قالوا أنهم يقفون في وجه التيار الجارف للثقافة التجارية التي استفحل انتشارها في حقبة السبعينيات ، لكل فريق حجته ، لكنها حجج واهية تكشفها ممارستهم ، ولننظر إلى بعض ممارسات جيل الصحفيين . .
أحدهم أراد أن يكون له دورا في الكتابة للمسرح ، ولأنه لا يملك موهبة الكتابة في هذا المجال قام بالسطو علي عمل مسرحي لكاتب آخر ، وتم عرضه باسمه ، وحين علم الكاتب الأصلي ، قام بطرق الأبواب جميعها لكي يثبت حقه الضائع ، فلمس تقاعسا من المسئولين ، ومساندتهم للسارق وعندما لجأ إلى القضاء استجابوا لطلبه ، وقاموا بتشكيل اللجان التي أقرت بأن النص – بالفعل - مسروق ، وعلي السارق إعطاء الحق لأصحابه .. وحتى هذه اللحظة لا يريد الاعتراف بفعلته. والآخر يعمل في صحيفة قومية ، عرضت له مسارح الدولة عددا من أعماله المسرحية ، وكان واحد من هذه الأعمال سببا للهجوم علي مسرح عتيق قام بعرض هذا العمل علي الرغم من أن توجهات هذا المسرح وطبيعته لا يسمحان بتقديم مثل هذه النوعية من الكتابة ، ويحاول نفس الكاتب تقديم أعماله من خلال مسرح الأقاليم وله أكثر من نص هناك ، لم يتحمس لها أي مخرج هذا الكاتب يقول عن نفسه : ( كنت متهيبا من أن أقترب من المسرح ، لأنني اعتبره صرحا يحتاج تشييده أن تكون متمكنا ، وعليه كتبت (....) تناولت من خلاله : كيف يكون الإنسان في موقف الخصم والحكم ، وما دمت خصما فلن تكون عادلا وأنت حكم ، وفي عام 82 كتبت مسرحية (....) عبرت فيها عن الفساد في مرحلة السبعينيات ، أردت أن أقول : إن هناك سلسلة من مظاهر الخلل ساعدت من أدخل الفراخ الفاسدة إلى مصر علي أن يفعل فعلته ، وفي عام 83 كتبت مسرحية (....) وقدمت علي مسرح(....) ولأنها كانت المرة الأولي بالنسبة لي في تقديم مسرحية ، فلقد قرأها خمسة أعضاء بدلا من ثلاثة وتحمس لها ( عبد الرحيم الزرقاني ) ، هم يتصورون أن من يكتب في السياسة لا يمكن أن يكتب في المسرح .. هذا الكاتب حين تقرأ أعماله لاتجد شيئا مما ذكره وقاله .. وفي الجملة الأخيرة ما يكشف زيف الادعاء ! ، وكمثال تري فتحي رضوان ولطفي الخولي قد كتبا مسرحا ، لكن أعمالهما ظلت قيمتها – إذا كان لها قيمة – مرتبطة بالفترة التي كتبت فيها .
وكاتب آخر يعمل في مؤسسة قومية - في الصفحة الفنية فيها- قدمت له مسارح الدولة عددا من الأعمال ، بالإضافة إلى كتابته لمسرح الطفل ، حاول أن يكتشف موهبته في الإخراج المسرحي ، وأخرج بالفعل عدة أعمال فشلت فشلا ذريعا ، وما زال حتى الآن يتفاوض حول عدد آخر من الأعمال !!
وكاتب يعمل في صحيفة قومية كتب كثيرا عن المسرح ينتقده ، ويحاكمه وهو في الوقت نفسه يكتب مسرحيات معلبة مما تقوم بإنتاجه شركات الخليج ، وقام بإخراج بعض أعماله أحد المخرجين الذي كان وقت قيامه بإخراجها رئيسا للبيت الفني للمسرح .
وكاتب آخر ينشر عمله المسرحي في الصحيفة التي يعمل بها علي حلقات ، وبعدها بفترة وجيزة يعرضه له مسرح من مسارح الدولة ، ويحشد له نجوم المسرح الذين يتهربون من أعمال كتاب آخرين !
هذه مجرد أمثلة ، ولا نريد أن نستطرد في الحديث عن الفضائح التي يعلمها أصغر فرد علي علاقة بكواليس المسارح .. فضائح فنية وفضائح أخلاقية .. يمارسها بعض أفراد هذا الجيل ( جيل الصحفيين ) إن خطورة هؤلاء كبيرة جدا ، لأنهم بما يقدمون عليه من ممارسات إنما يساهمون في رداءة الواقع والمناخ الإبداعي والفني ، ويصبغون الواقع الفني بصبغة غير مشروعة هي أقرب إلى الهزال منها إلى القوة والعنفوان .. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..