|
الثورة التونسية : الصراع بين المركز و الهامش
محمد قرقوري
الحوار المتمدن-العدد: 4818 - 2015 / 5 / 26 - 07:02
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كثيرا ما دارت التكهنات حول ما إذا كان بالإمكان تجنب الثورة لو جرى فعل هذا أو ذاك لو كان بن علي أكثر عزما في سحق المعارضة أو محاولة التصالح معها لو أنه لم يكن يعاني سطوة زوجته و أصهاره فضلا عن المرض لو أن منظمات حقوق الإنسان لم تثقل عليه لو أن وكالة المخابرات المركزية استمرت في مراقبة البلد من قرب بعد التسعينات لو أن البيت الأبيض تجاهل الأصوات المثمّنة لأداء النظام التونسي و أولى اهتماما أكبر لتحذيرات الأكادميين المشككين في المعجزة الإقتصادية التي تروّج لها الحكومة التونسية في أوساط المجتمع الدولي و لو أن واشنطون في المراحل الأخيرة كانت أكثر اتساقا إما في الدعم الكامل له أو في محاولة التواصل مع قادة المعارضة بعد الإنهيار مباشرة إحتار المجتمع الدولي مع السؤال "من أضاع تونس ؟" لام البعض الرئيس أوباما و لام البعض المخابرات الفرنسية و البعض الآخر بن علي نفسه غير أن هذه التخمينات لا معنى لها تماما حيث أن الثورة لم تقم بسبب هذا أو ذاك من الأخطاء السياسية التي حدثت في اللحظات الأخيرة بل نشبت مثل بركان بسبب ظغوط سحيقة كانت تتراكم على مدى عقود بشكل متزايد في عمق أحشاء المجتمع التونسي و بحلول عام 2011 كان الرئيس المخلوع يجلس على هذا البركان بعد أن انسلخ عن كل قطاع من قطاعات المجتمع فقد بدأ حكمه الفردي إثر انقلاب أبيض أعلن نهاية الحرب المستعرة التي أثارتها مسألة خلافة الرئيس العجوز في حكم البلاد و مع بداية العهد الجديد شرعت أبواق دعاية النظام في الترويج لوعود التنمية و الإصلاح على شاكلة مختلف النظم الديكتاتورية التي عرفها التاريخ بيد أنه مع تنكره لوعوده في بداية التسعينات من القرن المنصرم فقد ارتفعت أصوات من الإنتلجنتسيا و الطبقة العاملة الحضرية بمعارضة متشددة تقبلها بالقمع و التنكيل الذان ساهما في تشكيل هوة عميقة بينه و بين النسيج الإجتماعي بمختلف أطيافه و طبقاته و لعلّ النسق التصاعدي لوتيرة الأحداث أثناء الثورة دليل كاف على حالة الإحتقان الشديد الذي سمت مختلف القوى الإجتماعية للبلاد لا سيما في المناطق المهمشة التي لا زالت تتلقى الوعود بالتنمية منذ فجر الإستقلال مما يكسب الحديث عن صراع بين المركز و الهامش شرعية أخلاقية و اجتماعية كانت الثورة التونسية من نتائجها أو لعلّها شرارة تمهّد لتحولات أشد جسامة تطال النسيج الإجتماعي فقد كان هذا النظام عنوانا للمركز بكافة تجلياته و صوره مدافعا عن رؤاه و أطروحاته تكثفت معارضة الهامش على مر الأعوام لا سيما مع تعدد هفوات النظام فعلى المستوى السياسي نصّب نفسه في زمن الحياد شرطيا للولايات المتحدة في المغرب العربي داعما سياساتها الإمبريالية في السر و العلن و في عصر الديمقراطية شدد ببلاغة على مناقب النظام و الإنظباط و التوجيه بيد أن أداء النظام في المستوى الإقتصادي و إن استأثر بنصيب الأسد في أسباب انهياره فإنه قد أرسى أو بالأحرى رسخ أحد جذور الصدام بين المركز و الهامش في إطار منظومة صراع اجتماعي ترتكز على أرسى دعائمها النظام القائم غداة الإستقلال من خلال إساءة توزيع الثروة الوطنية على مختلف جهات البلاد ولد هذا النظام حالة من الفوضى حيث أثر على المفاهيم و المعضلات الإقتصادية على غرار البطالة و الفقر و جعلها حكرا على جهات معينة من البلاد مقابل تمتع مناطق أخرى بتركز الثروة و الإستثمارات و بالتالي فقد استحال الوضع الإقتصادي للبلاد مسألة اجتماعية بامتياز قوامها التمييز الجغرافي الذي يلقي بظلاله على التقسيم الطبقي للمجتمع فتكون الجغرافيا بذلك أهم عنصر بل لعله العنصر الوحيد المؤثر على التركيبة الطبقية للمجتمع فالنظام و إن لم يقصر في سحق الطبقة الوسطى و السفلى من المجتمع فقد جعلها ترتكز جغرافيا في مناطق معينة من البلاد و قد أدى هذا الأمر إلى تقسيم النسيج الإجتماعي إلى مركز للتنمية و الإستثمارات و هامش يعيش حالة من الإحتقان مفرزة صدامات متفرقة مع السلطة توجت بانفجار أدى إلى انهيار النظام بيد أنه لم يستطع حل الإشكال حيث أن هذا التقسيم الإجتماعي لم يكن بدعة ابتدعها نظام القمع النوفمبري بل هي كما أسلفنا عقلية اجتماعية سمت مؤسسة الحكم منذ فجر الإستقلال مغذّية ذهنية الصراع بين المركز و الهامش منذ ذلك التاريخ و لثلاثة عقود قبل أن يتبناها عهد الإنقلاب الأبيض لا سيما و أن عهده إتسم أيضا بتغلغل العائلة المالكة في النسيج الإقتصادي الوطني و إحكام قبضته على ثروات البلاد و مؤسسات الدولة فكانت سمة عدم العدل في توزيع الثروات و إساءة استغلال الموارد المتاحة هي أهم ما يميز السياسة الإقتصادية التي انتهجها النظام و ثمّنها المجتمع الدولي بأسره بوصفها أداة فعالة لتخريب الوعي الإجتماعي و إحكام السيطرة على الطبقة الوسطى بما يحول بينها و بين التقدم و النهوض بالبلاد و مع انهيار النظام عاد الصراع الإجتماعي ليطفو علنا على واجهة الأحداث مع غياب الأرضية السياسية التي كانت تتبناه مما لا يجعل مجالا للشك أن الإشكالية تتجاوز خيارات هذا النظام السياسي أو ذاك لتشمل عقلية ترسخت في النسيج السوسيولوجي للبلاد و طغت على ذهنية الصراع فما نراه اليوم من صدام بين مختلف القوى السياسية بسبب محسوبيتها على هذه الرقعة الجغرافية أو تلك و خصوصا ارتباط جهة الساحل و العاصمة بالطبقة السياسية الجاكمة في ذهن الشعب فقد بدا هذا الأمر جليا مع حجم المعارضة السياسية الهائل الذي لقيته الكتلة الحاكمة التي أفرزتها الإستحقاقات الالإنتخابية غداة الثورة لا سيما من أجهزة الإعلام التي استكانت و عادت للهدوء بعد اعتلاء مرشحها سدة الحكم و هو الذي يمثل الإمتداد الطبيعي للنظام السياسي القائم في البلاد منذ نصف قرن قبل أن يعصف به المد الثوري و هذا الأمر ليس بغريب على أجهزة لطالما مثلت أبواق الدعاية و البروباغاندا التي يراهن عليها النظام للترويج لمنظومة الفشل التي يحاول تصديرها للمجتمع مقابل إحكام السيطرة على ثروات البلاد الثورة و إن نجحت في القضاء على مظاهر الفساد بيد أن رموزه قائمة الذات فذهنية الصراع هنا ليست مجرد ثنائية سلطة و شعب بل يبدو أن الأمر أشد تعقيدا مما يبدو عليه ليصل إلى إشكالات متجذرة في عمق النسيج الإجتماعي حول مركز يروم الحفاظ على امتيازاته التي اكتسبها طيلة عقود خلت بسبب توجهات سياسية ذات بعد اجتماعي عنصري و هامش ينشد النظر في مفهوم العدل الإجتماعي للبلاد بعد الثورة من خلال مراجعة المسلمات الإجتماعية المترسخة التي تلقي بظلالها على الخيارات الإقتصادية و السياسية للدولة و ما أحداث الفوار و سليانة و بن قردان و تطاوين و غيرها إلا خير دليل على ذلك
#محمد_قرقوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القاعدة القانونية و التأويل
-
من تبرّأ من القضيّة الفلسطينية ؟
-
نقطة قانونية حول الإنتخابات التشريعية التونسية
-
الواقع العربي بين الأنظمة السياسية و العسكريتاريا
-
الإتجاه المعاكس و ثقافة الحوار
-
وهم الحضارة
-
العجز العربي
-
قراءة في المنظومة الأخلاقية العربية
-
خطأ إستراتيجي في الثقافة العربية
-
نظريّة المؤامرة
-
القمة العربية لنصرة شعبنا في سوريا
-
أي معنى لسباق التسلح العربي ؟
المزيد.....
-
دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك
...
-
مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
-
بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن
...
-
ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
-
بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
-
لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
-
المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة
...
-
بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
-
مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن
...
-
إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|