|
مذكرات يوم للوطن والحرية - حلقة 4
علي محمود العمر
الحوار المتمدن-العدد: 1335 - 2005 / 10 / 2 - 10:38
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
مذكرات يوم للوطن والحرية – حلقة4 (محاورات أبو القاسم الشابي في دمشق) بدأ أبو القاسم الشابي حديثه عن أسس التحول الديمقراطي، توطئة لعرض ملاحظاته عن شوائب المسيرة السورية: - أول ما يحضرني أن الديمقراطية تستمد وزنها وقيمتها من (أصل) أوسع وأرفع هو الحرية. لأنها أقدم عهداً وأوثق صلة بجوهر الوجود البشري. وهي (الأم) التي تحضن الحقوق وترعى القيم الأخرى جميعاً بما فيها العدالة. فهذه الأخيرة تستمد معينها من مبدأ اجتماعي لتحقيق النفع والخير والحق والمساواة، وهذا لا يضيرها أو ينتقص منها. في حين أن الحرية تستمد معينها من مصدر أعمق يردونه إلى أصل طبيعي .. أو إلهي. وهو يجعلها أساساً مستقراً في قرارة الوجود البشري. ونسبتها للعدالة هي نسبة الأكثر للأقل، والأصل إلى الفرع الذي تستدعيه الحرية لأنه أحد لزومياتها وليس العكس. لهذا السبب كانت العدالة مهددة على الدوام بالابتلاع من طرف الطغاة أو الارتداد عنها عند غياب الحرية التي تحميها وتشكل حارسها الأمين. وهذا المصير لا يستثني بقية القيم التي تحقق أبعاد الإنسان ومشتركاته الكبرى(كالغيرية والتعاطف والإيمان والثقافة والإبداع والجمال .. إلخ) لأن فقدان الحرية يعني اغتيال القيم جميعاً، بصفتها الرأسمال الأصلي لصون قيمة المخلوق البشري وتحقيق أبعاده وتنميته في الكون. وهو يؤدي في أفضل الفروض لإفساد فكرة العدالة نفسها والإساءة لها وجعلها تنكمش من قيمة نافعة إلى مجرد (هدف نفعي) ضيق يكسبه المظلومون اليوم ليتخلوا عنه غداً، أو ليظهر من صفوفهم الظلم والطغيان من جديد.. والمقام لا يتسع لمئات الأمثلة والتجارب الوخيمة التي تؤكد هذا، لأنها تسود المجلدات، مثلما سودت صفحات التاريخ!؟ ومن المؤسف أني لا أقول هذا عبثاً لأن الكثيرين اكتفوا بالتعويل على قيمة العدالة وثقافتها وإيديولوجياتها المختلفة، بمعزل عن قيمة الحرية وثقافتها وقواعد الديمقراطية التي هي جزء لا يتجزأ منها. وغالباً ما فعلوا هذا مدفوعين بحسن النية أوالإفراط الإيديولوجي في حمل الناس إلى الجنة بقوة السيف و تغيير أوضاعهم المذلة بمعزل عن (وضعهم الإنساني) بحد ذاته. وقد برهنت العواقب الوخيمة أن هذا جميعاً كان مجرد طريق خلفية لتسلل الطغاة الذين (شفطوا) العدالة ولم يحققوا الحرية. وإن فضائل الإخلاص للعدالة فقط لم تتعدى حدود أصحابها وحريتهم الأخلاقية. وربما جعلت بعضهم حكاماً راشدين وليس (حكماً راشداً) يصون العدالة من الاعتداء والانكفاء. ولهذا السبب جعلت منهم أنفسهم أول ضحايا هذا الاعتداء الذي طالهم بالسم أو الخنجر المعقوف، وغالباً ما ظهر من تحت عبائتهم نفسها.. ومن أهل البيت قبل الغرباء!؟ - إني وجدت هذا التقديم عن الحرية ضرورياً، من أجل تقديم الديمقراطية أيضاً لأنها تجسيد الحرية في مضمار الاجتماع البشري، وهي فرع من فروعها. أي أن الديمقراطية تنظيم مدني وعملية تاريخية اجتماعية ثقافية سياسية، شأنها كشأن الكفاح لتحسين طرائق العيش.. والصحة.. والأمن.. والغذاء..إلخ. لهذا لا أحد يلومن هذه الوسيلة لأنها أحدث عهداً من سواها. وربما ما زال بعض البشرية يتلمس الطريق إليها. بل إن البعض الذي ينعم بها فعلاً مازال أمامه كثير من الشوائب والعيوب التي يتعين جلوها لجعل الديمقراطية أنفع وأنجع للبشرية بما في هذا كشف أهداف جديدة أمام الديمقراطية ما تزال تحجبها أوهام ومآرب شتى. وفي هذا يتحقق أن الديمقراطية كي تصحح نفسها وتنزع عنها الشوائب وازدواجية المعايير، ينبغي المضي بها إلى آخر الشوط الذي يجعلها (ديمقراطية دولية) أي حقاً مشتركاً للشعوب جميعاً... وهذا يقتضي وضعها إذن على رأس الأولويات الوطنية!؟ عليه لا أحد يلومن الديمقراطية لأنها عملية تاريخية غير مكتملة بعد. أو لأنها ظهرت مخصوصة بالسادة فقط منذ ثلاثة آلاف عام. أو لأن الولايات المتحدة تجعلها بمعايير مزدوجة. أو لأن البعض ينشد من ورائها-فقط- إجازة حاجته للواطة، أو البعض الآخر للإلحاد.. أو الإجهاض.. أو المخدرات.. إلخ. فهذه المفاسد وغيرها التي لا يبدو درؤها وشيكاً، خصوصاً بالوسائل القسرية، ليست من طبيعة الديمقراطية ولا من صنعها، بل هي من أصل بشري يخص أوضاع عقلية وثقافية وسواها هنا وهناك. وهي لا تمنع الشعوب من درئها بالوسائل الديمقراطية في مجتمعاتها الأصلية، ومن باب أولى وسط مجتمعات وفضاءات ثقافية أخرى. في مطلق الأحوال فإن أصل هذه المفاسد يكشف مصنعها الحقيقي الذي يجعلها تتفشى دون ترخيص، بل حتى تصديرها للعالمين، وهو الظلم والجهل والاستبداد الذي يعطل الحياة عن مواجهة مشكلاتها، ويقمع الإرادة العامة والعقول الحية عن وضع الأسس والتدابير الصالحة لحلها. بهذا المعنى لا يحق لفاقد الشئ مساءلة الديمقراطية عن عيوبها، أو تسفيه الديمقراطية لأنها لا تجعل الناس ملائكة أو العالم فردوساً. لأن الديمقراطية هي مجرد طريقة ناجعة لتنمية الإنسان وجعله إنساناً.. وليس قرداً، والشعوب سيدة.. وليس قطعاناً. وممانعة الديمقراطية تحت هذه الذرائع وغيرها تشمل اختباء الطغاة وراء العقائد والخصوصيات القومية والدينية..إلخ بهدف ابتزاز قيمتها الرمزية والعاطفية لحرمان شعوبهم من حقها في الحياة الديمقراطية الكريمة، بينما يدوسون هذه الخصوصيات بنعالهم أو يحشرونها في دائرة الظلامية والتعصب الذي يحجب عنها الشمس ويعطل إسهامها في حياة البشرية!؟ - أريد التوضيح الآن أن تفنيد هذه المزاعم ليس موجهاً لإقناع الطغاة بفوائد الحرية والديمقراطية. بل أن جل هدفه موجه صوب المظلومين لتوضيح ماهية الحرية والديمقراطية التي يتعين عليهم تحقيقها بحيث تحوي (جديداً) يمضي بها للنهاية ويمنع العبث بها والارتداد عنها تحت عباءة الأفكار والعادات المألوفة داخل المظلومين.. ومن بين صفوفهم ! ذلك أن مناهضة الطغاة أو كسر شوكتهم بثقافة الخروج من الظلم والضعف، لا يؤدي ميكانيكاً لتحقيق الحرية والعدالة والديمقراطية. وربما يكون هذا جزءاً من متطلباتها لكن الجزء لا يغني عن الكل، وربما كان الإفراط فيه أو تحقيقه بأي ثمن سبباً لمضاعفات ونتائج تعيق الحرية أو تنقلب عليها أو تخرج عن سكتها. فالمظلومون والضعفاء لا يمثلون شيئاً مساوياً للحرية والعدالة حتى لو اجترحوا التضحية واكتسحوا الطغاة هنا وهناك. إذ لو كان الأمر كذلك لكان العالم يمتلأ خيراً وعدلاً منذ مئات السنين.. وهو الذي يمتلأ على جنباته الواسعة بالضعفاء والمظلومين، كما يفيض بغضبهم وثوراتهم التي اكتسحت آلاف الطغاة!؟ غاية القول أن تحقيق الحرية والعدالة والديمقراطية يتطلب عناصراً تستقل بهذه الغاية الكبيرة، وتكون من طبيعتها. وتوفير هذه المستلزمات يقع تحديداً على عاتق المقهورين وفئاتهم الحية التي يفترض أن تشكل رافعة لتحقيق عالم أفضل استناداً لعدالة القضية وقوة الصوابية.. وليس صوابية القوة الحاضرة التي تجسد الظلم والاستئثار والعبودية. وأذكرك أن البشرية أزاحت مئات الطغاة دون أن تكسب الحرية والعدالة. بل ربما أفضى بها هذا إلى حلقات جديدة من الظلم والطغيان التي جعلتها تأسف على كل قطرة دم أو عرق سفحتها. وأن تتحسر على (أجمل أيام الاستبداد والاستعمار والاقطاع الغابرة!) . وتاريخنا على الأقل يكشف مئات الثورات والانتفاضات وحروب التحرير والتغيير التي تبين أنها كانت موجهة ضد الظالم وليس الظلم، والأقوياء وليس القوة.. إلخ، لهذا سرعان ما أفضت إلى مسلسل النتائج الوخيمة والأنظمة الغاشمة التي لم تعوزها الشعارات والشرعيات الثورية على اختلافها: الوطنية والقومية والاشتركية والدينية.. إلخ . والأهم من هذا الآن الانتباه أن هذه النتائج لم تعد مجرد أحداث منعزلة يمكن أن تضلل الشعوب أو تجعلها تكرر التجربة معصوبة العينين، مدفوعة برغبة الخلاص من قهرها الوقتي فحسب. بل هي أصبحت سلسلة مترابطة ومنطقاً مقروءاً سلفاً على وجه يفسر هذا القدر الملفت من السلبية والانكفاء والتحفظ الذي تبديه الملايين تجاه الدعوات السياسية الحاضرة جميعاً، بما في ذلك التغيير الديمقراطي. وهذا يوضح أن هذه الدعوة الأخيرة برغم جدتها وجديتها ماتزال تعوزها الطرائق التي تشكل انعطافاً عميقاً لاقناع الملايين أنها تحمل (جديداً) يستحق الالتفاف حوله وجعله رافعة لمستقبل أفضل. وبالأحرى خروج الملايين من دائرة الإحباط والسلبية التي تدفعها للتعامل مع الدعوات السياسية من زاوية النتائج المجربة والمرفوضة، مفضلة تجرع الأوضاع الحاضرة على أكلاف المغامرة وعواقبها الوخيمة!؟ لكل هذا فإني دأبت على تقصي أوضاع الحرية وكيفية التجهيز لها وسط صفوف الضعفاء والمظلومين أولاً. لأن هذا أدعى للنزاهة التي تنفع الشعوب عوضاً عن تملقها وخداعها. وهذا يتطلب احترام حجم المشكلة الحقيقي الذي يتعين وضع الإصبع عليها وحلها منذ عهد بعيد. وأعني ضعف قيمة الحرية وثقافتها وتقاليدها (وهذا يشمل تفرعاتها الأخرى بطبيعة الحال كالمواطنة والديمقراطية والدولة المدنية..إلخ). وربما يرتد هذا الضعف أيضاً إلى تدني قيمة المخلوق البشري نفسه وإساءة فهم مكانته حيال عالمه.. ومعتقداته.. وآلة أوضاعه الفاسدة الجبارة!؟ .. بهذا فإن حجم المشكلة يتعدى الاستقطاب السهل بين المظلومين والظالمين، أو الضعفاء والأقوياء. لأن هذه الدائرة على أهميتها هي مجرد نتيجة لازمة عن مقدماتها. وهي نتيجة متحركة ومتبدلة جداً على وجه يتعذر معالجته خارج مقدماتها الأصلية التي تتطلب مزيجاً من الاصلاحات الثقافية، والدينية، والسياسية.. مجتمعةً. وأجرؤ على القول أن غاية هذه الإصلاحات هي إحداث تغيير يمس (وضع الإنسان) .. وليس أوضاعه فقط. وأرجو التأكد أنني لا أدعو لاستئخار المهمات العاجلة بل وضعها في السياق الصحيح الذي تليق به. وقد خلصت لكل هذا من وحي المظاهر التي عاينتها في سورية وأقطار أخرى التي تعيش جميعها إرهاص التغيير والإصلاح، وتواجه بنفس القدر صعوباته ومطباته. وأنا هنا لا أستثني المواطنين العاديين، ولا أهل النظام، ولا المعارضة التي تنشد الديمقراطية. وأرجو ألا يفهمني أحدهم من ذوي القربى خطأً لأنه يجعل أمرهم أكثر صعوبة، وحزني أكثر مرارة!؟ سألت أبو القاسم مغموماً ومحزوناً: - هل بلغ الأمر هذا الحد، وهل بالإمكان الإتيان بأمثلة محددة، وهل ثمة حل تقترحه! صمت أبو القاسم هنيهة ثم قال: - لتوافي أصحابك بهذه السطور ريثما نتابع الحديث من جديد. المحامي علي محمود العمر عضو جمعية حقوق الإنسان في سورية
#علي_محمود_العمر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مذكرات يوم للوطن والحرية – حلقة 3
-
مذكرات يوم للوطن والحرية - حلقة 1
-
مذكرات يوم للوطن والحرية في دمشق - حلقة 2
المزيد.....
-
الكرملين يكشف السبب وراء إطلاق الصاروخ الباليستي الجديد على
...
-
روسيا تقصف أوكرانيا بصاروخ MIRV لأول مرة.. تحذير -نووي- لأمر
...
-
هل تجاوز بوعلام صنصال الخطوط الحمر للجزائر؟
-
الشرطة البرازيلية توجه اتهاما من -العيار الثقيل- ضد جايير بو
...
-
دوار الحركة: ما هي أسبابه؟ وكيف يمكن علاجه؟
-
الناتو يبحث قصف روسيا لأوكرانيا بصاروخ فرط صوتي قادر على حمل
...
-
عرض جوي مذهل أثناء حفل افتتاح معرض للأسلحة في كوريا الشمالية
...
-
إخلاء مطار بريطاني بعد ساعات من العثور على -طرد مشبوه- خارج
...
-
ما مواصفات الأسلاف السوفيتية لصاروخ -أوريشنيك- الباليستي الر
...
-
خطأ شائع في محلات الحلاقة قد يصيب الرجال بعدوى فطرية
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|