مقدمة:أثار ظهور مقال إدوارد سعيد (معلومات مضللة عن العراق) حفيظة عدد كبير من الكتاب العراقيين, فخص المقال بقسط واسع من النقد الحاد والمحاججات الغاضبة. وقد شغل أسلوب الكاتب حيزا كبيرا من المناقشات, لما حواه من نقد شخصي جارح, غير معهود فيه, وهو أمر لا نؤيده. لذلك سنحاول هنا التوقف عند أفكار الكتاب المختلفين, من عرب وعراقيين, بغية النظر إلى هذه القضية الخطيرة بهدوء وروية, ودون تعصب.
الاحتلال هو الخيار الوحيد المؤكد
برغم تنوع الحجج والذرائع والمبررات, التي يملكها هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع, تظل الحقيقة المؤكدة الوحيدة في النزاع الحالي بين العراق وأمريكا, هي أن عملية اعادة توزيع الخارطة السياسية الدولية. التي هي نتاج طبيعي لسقوط قوة وانتصار أخرى, في سبيلها إلى الاقتراب من عمق الأراضي العراقية, بغية الاستيلاء على ممتلكات الرجل المريض. ومثل هدا الأمر ليس حدثا جديدا في تاريخ البشر. على العكس, انه الإجراء الطبيعي لسياسة اعادة تقسيم العالم, وفق منطق القوى الغالبة, مهما كانت تسمياتها.
وبصرف النظر عما إذا كانت مبررات النزاع الراهن سياسية تهدف إلى تحقيق الديمقراطية السياسية للعراقيين بوساطة القوات الأمريكية وبمعاونة الغرب وعدد كبير من الحلفاء المحليين و الإقليميين, أو كانت إنسانية تهدف إلى إنقاذ الشعب العراقي, الذي طال عذابه نتيجة لظلم حكومته الراهنة له, أو بسبب ذرائع أمنية دولية: الإرهاب, أسلحة الدمار الشامل, العدوانية السياسية ضد الغير, أو لأسباب اقتصادية: موارد النفط العراقي, أو لأسباب قومية: القضية الفلسطينية, العلاقات و المصالح العربية, إضافة إلى مبررات أخرى كاستكمال سياسة الإذلال القومي العربي والسير بها إلى مداها المرسوم, أو أسباب نفسية- تاريخية: الثأر والانتقام من عدو تسهل عملية ضربه والانتصار الباهر عليه (عكس ما حدث في أفغانستان). بصرف النظر عن هذا كله, تظل الحقيقية الوحيدة, الأساسية, القائمة الآن, تتمحور في جملة واحدة: الاستيلاء السياسي والعسكري على العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. وبمعنى شديد الدقة: الاحتلال المباشر, سواء تم بمعركة عسكرية, أو تم بتدفق القوات الأجنبية من دون قتال إلى أراضي العراق.
معارضة الاحتلال سقطة
إن طول معاناة الشعب العراقي, وتتابع وتواتر كوارثه السياسية والاجتماعية والعسكرية على مدى العقود الثلاثة الأخيرة, جعلت من قضية النظر في أسباب وخلفيات ودوافع ما يحدث أمرا على غاية التعقيد, عند العرب والعراقيين خاصة, وفي الوقت ذاته بدت هذه القضية مثل مسلمة شديدة الوضوح, إلى حد البداهة (لا تحتاج إلى نقاش أو تفكير), عند الطرف الأمريكي وحلفائه.
فبرغم وضوح مقاصد أمريكا, التي تعلن على الملأ نواياه كل يوم, إلا أن الاضطراب السياسي, والقلق الذي يسود القوى السياسية العربية والعراقية خاصة, يجعل من موضوع الغزو شديد الوضوح, أمرا في منتهى التعقيد والالتباس. سبب هذا التعقيد في الرؤية العراقية والعربية ناشئ بدرجة أساسية من عوامل موضوعية, أهمها كما أسلفنا: طول معاناة الشعب العراقي, والتمزق القومي العربي, وتخلف البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية وهشاشتها, مقارنة بحيوية وكفاءة التي الاقتصادية- الاجتماعية للقوى المعادية للعرب. ولهذا السبب يطفو على السطح بقوة, في الرؤية العراقية المعارضة, الإحساس الذاتي واليأس العميق وما يلازمهما من جنوح إلى الانطواء وتطمين الذات وإرضائها, الذي يترجم سياسيا بكلمات متعددة, ذات مدلول واحد: الحل الواقعي, الحل العملي الفوري, الحل النفعي.أما في الجانب القومي,فيبرز, بقوة معاكسة, اتجاه يرجح النظر إلى الموقف من زاويته الايديولوجية, التنظيرية, وفق معايير شمولية وتاريخية وعقلانية (ضد تجريبية), هي أقرب إلى الاسترخاء العقلي والنظرة الأخلاقية الخدرة المتعالية على الواقع.
إن هذه اللوحة تكشف لنا بجلاء تام أن التصادم بين الأفق القومي – الايديولوجي والحل الواقعي النفعي, أمر حتمي, لا يمكن تجنبه في المرحلة الراهنة. فهو صدام بين مسارين متعاديين شعوريا: بين اليأس و الإحساس بالخذلان والرغبة في تطمين الذات بالانكفاء, وبين الاسترخاء وتصغير الآني باسم التاريخي والهدوء الظاهري والرغبة في تأكيد الهوية التاريخية بالتعالي على الواقع. وقد انعكس هذا الخلاف نظريا وعقليا على وجهات نظر الذين تناولوا هذه القضية: ادوارد سعيد, جهاد الخازن, محمد الرميحي, كنعان مكية, عزيز الحاج, عبد الخالق حسين وغيرهم ممن سعوا, كل واحد وفق قناعاته, الى إبداء وجهات نظر في هذه القضية المصيرية الخطيرة. إن هذا التناقض الذي بدا حتميا في الواقع جعل الجدل حول الموضوع يصاب بآفة التعادي والآحادية, التي تعكس غياب الأفق الواضح عند كثيرين, وضياع البوصلة التاريخية, التي تربط مساري الحل الوطني والآمال القومية في وحدة منهجية, معللة تاريخيا, ومبررة عقليا, ومسايرة لجوهر حركة التاريخ في الواقع. فقد بدا هذا التناقض مثل فتق غير قابل للرتق, تم فيه تقسيم المتحاورين ومواقف الحوار الى فريقين متعاديين تماما. في الجانب الأول يقف أنصار الحل الأمريكي, الذين أطلقت عليهم تسمية (الواقعيون), وفي الجانب الثاني يقف أنصار الحل المعادي للحرب الأمريكية, والذين ينتسبون الى جماعة (السقطة)! (راجع مقال عزيز الحاج المعنون: سقطة مثقف عربي- إيلاف 12-12-2002), أما محمد الرميحي فيختتم مقاله المنشور في الاتجاه الآخر, العدد 95-14-12-2002 بالكلمات التالية (إن البحث عن الشعبوية, لعنها الله, المتبقية من ثقافة الشعبية الشرقية وعشق السير مع أفكار العوام, هي سقطة مع الأسف ليست الأولى).
إن هذا التناقض في حقيقة الأمر ظاهرة موجودة في الواقع المادي, جوهرها الأساسي يرتبط بتخلف وضعف بنية الكيانات العربية, وعدم مقدرتها على إنتاج هياكل اقتصادية وثقافية وسياسية واجتماعية قادرة على الوقوف بوجه القوى الغالبة في عصرنا, وعاجزة عن مواكبة وقراءة الأحداث المتسارعة المحيطة بها قراءة فاحصة ومنتجة, الأمر الذي جعل من إمكانية إيجاد توازن عقلي يوحد بين المشاريع الوطنية والمشروع القومي مستحيلا, في الظروف الراهنة. وهو الأمر عينه الذي بنت عليه القوى الكبرى مشروعها التوسعي الراهن, سواء بدعوتها إلى احتلال العراق أو غيره من دول المنطقة. حيث جرى منذ وقت طويل إعداد الكيانات العربية نفسيا وسياسيا وثقافيا لغرض القبول بسياسة الطلاق بين القومي والوطني, والذي جعل الممارسات الوطنية الانعزالية حلا (واقعيا ونفعيا وعمليا). فدولة صغيرة مثل قطر لا تستطيع حماية نفسها بدون قواعد عسكرية أمريكية. أما الكويت, فمما لاشك فيه فإنها لا تستطيع ذلك البتة! ولو سئلوا: لماذا قوات أمريكية وليس ألمانية؟ سيأتي الجواب خاليا من الغموض: طالما قبلنا بالأجنبي, فمن حقنا أن نختار الأقوى والأفضل. وهذا منطق لا يخلو من الحصافة! وهو المنطق نفسه, الذي استند عليه محمد الرميحي في مقاله السالف, فقد توصل الرميحي الى نتيجة عقلية عجيبة في شدة بساطتها ووضوحها, مأخوذة من منطق الاحتلال ذاته, خلاصتها: ان المرء يستطيع إدراك أهمية وتفوق (الاستعمار) من زيارة عابرة لسوق عدن ومقارنة الأسعار بأيام الاحتلال!
إن هذا الأمر: العزلة عن المحيط القومي والتاريخي, المفروضة باسم التعارض بين القومي والوطني, بين الواقعي والنظري, بين النفعي التجريبي والعقلاني الأخلاقي, بين الآني والتاريخي, هو الذي جعل إسرائيل, وفق سياسة مستمدة من ستراتيجية المشروع السياسي الأمريكي الدولي, تستفرد بالشعب الفلسطيني. وهو الأمر عينه الذي جعل المواطن العربي, ينظر الى الشهداء الفلسطينيين عند كل وجبة طعام, ويبتلع ما يشاهده (عاجزا أو غاضبا أو محبطا, لا يهم) كما يبتلع المقبلات. وهنا لابد أن نؤكد على حقيقة جوهرية تخص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي, وهي أن بعض القوى الفلسطينية, التي لا يشك في وطنيتها ونواياها الخيرة, سارت دون وعي في مشروع العزل الفلسطيني المفروض عليه عربيا ودوليا, لأسباب أكثر تعقيدا مما هي الحال عليه في العراق, لكنها تشبهها من حيث الجوهر: تحقيق مكاسب (واقعية), آنية, على الأرض. لقد أضحت هذه المكاسب (الأرضية) في النهاية هدفا قانونيا بالنسبة لإسرائيل لسلب الشعب الفلسطيني آخر حقوقه الواقعية: حقه في أن ينام تحت سقف. إن سياسة الفصل القومي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي, رغم نتائجها المدمرة والمأساوية, لم تصل إلى غاياتها كاملة, وذلك بسبب طبيعة الاحتلال الفظة والمباشرة المتعارضة مع مواثيق وحقوق البشر, والتي لا تهدف الى تحقيق انتصارات عسكرية على المواطن الأعزل حسب, بل تهدف الى إذلاله وامتهانه أيضا, حالها كحال السياسة الأمريكية تجاه الخصوم. لقد أدى ذلك الى تعزيز ظاهرة لها مساس بسياسة العزل القومي, ألا وهي ظاهرة الإصرار الفلسطيني على عدم الاستسلام, بالاعتماد على الذات _ وهي خصيصة قديمة يتمتع بها الفلسطيني- لكنها أضحت في ظروف العزل القوي هي القناة الوحيدة التي تمد الفلسطيني بمشاعر الإحساس بالبقاء, وتربطه – ولو نفسيا وأيديولوجيا- بالآمال القومية الغامضة, وتسهم من جانب آخر في الحفاظ على بقايا المشاعر القومية الآخذة بالتضاؤل عند العربي, من خلال النظر عبر شاشات التلفزيون بألم الى بطولات المقاومين والاستشهاديين والشهداء. إن ما يحث في فلسطين مؤهل تماما لأن يتكرر, وبنفس القسوة, في العراق أيضا, ولكن سيضاف اليه أمر آخر, هو خلو المشروع السياسي العراقي المعارض من تيار مواجهة الاحتلال, حتى هذه اللحظة. فالجميع الآن, وبدرجات متفاوتة, يعلنون استسلامهم أمام القدر الأمريكي, الذي لا مرد له, سائرين في تيار العزل القطري, متسلحين بالحل الآني (الواقعي) النفعي, الذي لا تغذيه فقط السياسة العدوانية الأمريكية والبريطانية وحلفائهما حسب, بل تغذيه أيضا مطامع إقليمية وعرقية ومذهبية موجودة أساسا في جسد المجتمع العربي, وفي كيان المجتمع العراقي بشكل خاص.
أربع اتجاهات والأفق ضائع
لقد انعكس هذا الواقع على مشاريع القوى السياسية العراقية المعارضة, التي سعت خلال الأشهر المنصرمة الى عرض نفسها وقواتها ومقدراتها في سوق التبادل الدولية, عارضين خدماتهم حتى على قادة السي أي أيه علنا. فقد تسارعت رحلات الجماعات العرقية المختلفة الى عواصم غربية عديدة, وطرح العسكريون قواهم في صورة مؤتمرات وكتل وزعامات جماعية وفردية, وصلت الى حد اقتراح أسماء حكومة المنفى, بالتزامن مع ظهور خطاب سياسي باسم القوات المسلحة, فحواه أن الجيش سيقوم بمساعدة الشعب على تعلم الديمقراطية! لكن تلك السماعي تبخرت بلمح البصر, فاختفت فجأة الأحلام العرقية والطائفية, وتساقطت أوراق ووجوه القادة العسكريين. إذ سرعان ما اكتشفت هذه القوى أن المشروع الأمريكي لا يقبل بالتفاوض أو المساومة. ولا يقبل قطعا بشيء اسمه الشراكة. لذلك عادت هذه القوى, جميعها, بدون استثناء, الى نظرية الأمر الواقع. وجرت اعادة سريعة لتجميع القوى والمواقف, وتم خلال الأسابيع المنصرمة التوصل الى إيجاد خطاب سياسي يسعى للتماشي مع تعقيدات الواقع وسرعة تقلبه.
لقد أدى التصلب الأمريكي والتهافت العراقي الى حدوث موجة متعجلة وشاملة من الاصطفافات والانشقاقات, جرت بتسارع شديد, عاكسة شدة القلق من اقتراب لحظة الغزو, في محاولة للتكييف مع احتمالات التغيير ممكنة الحدوث في أية لحظة, من أجل إيجاد موطئ قدم على الخارطة السياسية العراقية, قبل أن تتم عملية التقاسم فعليا على أرض العراق. وطبقا لذلك نستطيع تحديد أربعة تيارات متمايزة (بصرف النظر عن حجمها وفاعليتها) برزت على السطح في الأيام الأخيرة.
أولا: خيار الخارج, أو الاتجاه الواقعي
وهو اتجاه يؤيد ضرب العراق عسكريا ودخول القوات الأمريكية الى العراق, ولكن بصور متفاوتة, تتراوح بين تأييد القصف الصاروخي عن بعد (التيارات الدينية الشيعية, ممثلة بالمجلس الأعلى ومنشقين من حزب الدعوة), وصولا الى (الأفغنة) التامة, كما يبشر بها اتجاه جريدة المؤتمر, لسان حال المؤتمر الوطني العراقي والمحيطين بها. ويضم هذا التيار في حناياه قوى سياسية متنوعة, من ملكييين وجمهوريين وعلمانيين ومتدينين وقوى قومية عربية وكردية وتركمانية وآشورية (ألوان الطيف السياسي, كما يسمونها). ويشترك جزء كبير من منظري هذا الفريق في كونهم كانوا, وعلى درجات مختلفة, وفي أوقات متباينة, جزءا من كيان السلطة, بالعمل في مؤسساتها الحزبية والحكومية والعسكرية, أو بالتحالف معها سياسيا ككتل أو كأفراد. وتعد جريدة المؤتمر الصوت الناطق لهذا الاتجاه, وفق مبدأ وطني قديم,اختطه لها رئيس تحريرها حسن العلوي, مؤداه: كل شيء من أجل بقاء صدام, حتى لو أحرق الشعب العراقي بأجمعه, وقد جرى تعديل هذا المبدأ في زمن الغزو الأمريكي, ليصبح: كل شيء من أجل عدم بقاء صدام حتى لو أحرق الشعب العراقي! ومن هنا اكتسب هذا التيار صفة الواقعية والنفعية, وجرى تسميته بمشروع (الحل من الخارج), أي الحل السياسي- العسكري, الذي يزيح السلطة بوساطة قوات أجنبية, بغية تشكيل حكومة جديدة قوامها الأساسي القوى الموجودة خارج سيطرة السلطة الآن.
ويستند بعض وجوه هذا الاتجاه الى نظرية الاحتمالات, التي يلخصها د. عبد الخالق حسين بالقول: ( إن إصرار هؤلاء على بقاء النظام الصدامي بحجة الخوف من البديل الأسوأ اختراع يروج له النظام نفسه. فنحن العراقيين(لاحظوا العراقيات!) أدرى بشؤوننا ولا نعتقد أن هناك أسوأ من هدا النظام حتى لو تبنينا أسوأ الاحتمالات) (الاتجاه الآخر- العدد96-21 -12- 2002). إن نظرية (أسوأ الاحتمالات) تستند, كما أسلفت, الى الإحساس بالخيبة والإملاق والخذلان والجور العظيم الذي لحق بالمواطن العراقي, الذي اضطر الى بيع كل شيء في سبيل بقائه على قيد الحياة. ويبدو أن نهج أسوأ الاحتمالات هذا يحاول دغدغة مشاعر العراقيين بالكلمات, لكنه كمشروع سياسي (واقعي) قد لا تكون له صلة بمشاعر المواطن نفسه, فهو في الحقيقة مشروع سياسي تأسس على قاعدة القبول بالأمر الواقع, أي بالحل العسكري الأمريكي وما يلازمه. ولا نجد في هدا المجال رجلا أكثر أمانة واتزانا من القائد الكردي العراقي مسعود البارزاني, ليشرح لنا بدقة متناهية فحوى المشروع, يقول البارزاني: ( حاولنا إسقاط نظام الحكم طويلا, وحاول هو أن يكسرنا, ولم ينجح أي منا في إلغاء الآخر…. الى أن نشأت ظروف جديدة لعالم آخر, فالولايات المتحدة تندفع للعمل (العمل أم الاحتلال!؟) بقوة في العراق وما يحيط به, وهذه المنطقة هي مجرد مسرح للعمليات, ولا يستطيع أحد أن يثني الأمريكان عن تنفيذ برنامجهم, الذي نراه, لذلك فان أقل ما يمكن أن يفعله العراقيون في صفوف المعارضة هو أن يتوصلوا الى موقف موحد ورؤية متقاربة)
ولكن, هل سيحل هذا أزمة الواقع؟ هل سيكفل هذا الحل الواقعي للناس الخلاص من حالة التمزق والتشرد والاقتتال, أم أن المنتصر الأمريكي سيحكم بطريقة تأليب القوى على بعضها؟
عن هذه الأسئلة يجيبنا زلماي خليل زاده المندوب الأمريكي الى مؤتمر لندن للمعارضة العراقية 14-16 –12 2002 (الولايات المتحدة هي التي ستكون مسؤولة فعلا عن مصير العراق بعد سقوط صدام حسين, حتى لو تم وضع هذا البلد تحت الوصاية, لأن الأمريكيين هم الذين سيحررون هذا البلد) (الوطن, العدد 815 , 23-12-2002). بيد أن مؤيدي الاتجاه الواقعي في المعارضة العراقية, يصرون على اعتبار كل من يخالفهم في الرأي مدسوسا من قبل صدام, حتى لو كان زلماي خليل زاده نفسه. فردا على المخاطر المحتملة من جراء الغزو الأمريكي يقول د. عبد الخالق حسين بثقة مطلقة, بأن البعض –ادوارد سعيد- يسعى الى التشكيك في قرار المعارضة (خوفا من احتمالات افتراضية لا وجود لها إلا في خيال المدافعين عنه –أي صدام-) (الاتجاه الآخر 21-12-2002). ترى, من نصدق: زلماي أم مؤتمر لندن؟
ومادمنا في مجال الحديث عن الخيارات, فمن الواجب هنا التوقف عند بعض أفكار كنعان مكية, الذي يرى فيه البعض وفي إسهاماته العقلية والعملية وجها جديدا من وجوه العراق المقبل. ومكية,كفرد, يمثل بنفسه أحد تيارات الحل الأمريكي, من خلال تأكيده العلني على صلته الاستثنائية, المباشرة, بالبيت الأبيض! (راجع المؤتمر العدد 238 –29 –12-2002 ), التي خولته أن يمنح تأشيرة دخول لخمسين اسما الى قاعة المؤتمر( عدد المشاركين 350وعدد الصحفيين 600), دون أن يفصح أحد حتى الآن من أين يستقى مكية قوته الديمقراطية السحرية هذه, ولماذا يتمتع بها وحده من دون أبناء العراق, وهل ستكون نموذجا وفاتحة عهد للديمقراطية المقبلة؟
وربما بدت أفكار مكية ذات بريق قوي عند ربطها بكلمات مخيفة مثل (البيت الأبيض) و (جهات عليا في الإدارة), بيد أن هذه الأفكار سرعان ما تتضاءل الى حد مريع حينما تجرد من إسنادها الخارجي, وحينما تناقش في إطارها الحقيقي, كمشروع سياسي مترجم. وتسعى أفكار مكية الجوهرية, وفق اعتقاده, آلي تأكيد (الروح العراقية) و (تخضير) وتحديث المجتمع العراقي من خلال مطلب عراق (غير عربي, غير إسلامي), ومن خلال (إباحة الشذوذ الجنسي) كمطلب عاجل وملح من مطالب الدستور العراقي!ومثل هذه الأفكار تؤكد بقوة على أن بعض أطراف العارضة العراقية لا تربطهم صلة (واقعية) بجوع وإملاق وبؤس المواطن العراقي في الداخل وعذاب مهاجريه في الخارج. فهذا التيار لا يتعدى أن يكون سوى ترف ثقافي ملازم للغزو الأمريكي, لكنه ترف باهظ الثمن. فقد يتحول, فجأة, إلى ألغام مزروعة سلفا في مشروع الحرب الأهلية القادمة المحتملة. فهو صراع على هوية العراق التاريخية. وربما أدرك العض قادة مؤتمر لندن ذلك الخطر, فقرروا الاتفاق على رفض جوانب أساسية من ورقة عمل مكية, خاصة المتعلقة بالشذوذ الجنسي ونزع هوية العراق الإسلامية. وهي مساومة ارتضاها مكية, وعدها خطوة أولى حققت, على الأقل, نصرا مهما, ألا وهو ابتلاع هوية العراق العربية.
ويبدو أن التيار الواقعي أو تيار أسوأ الاحتمالات أخذ يجذب إليه شرائح جديدة من البعثيين ورجال النظام السابقين أو المحسوبين عليه, من عسكريين ورجال مخابرات ودبلوماسيين وإعلاميين ومتعهدي معارك, الذين سعوا في الأسابيع المنصرمة إلى التكتل ضمن إطار مؤتمر المعارضة. وأبرز هذه الوجوه: سعد البزاز, ومشعان الجبوري, و وفيق السامرائي, الذي اختير بصفته (سنيا). إن شدة الضغوط الأمريكية وضيق يد المعارضة العراقية, جعلت أطرافا كثيرة تنخرط في هذه الاتجاه, باعتباره الحل الواقعي الوحيد والممكن – بنظر المؤمنين به- في حال وفاء الطرف الأمريكي بتعهداته الديمقراطية.
لقد حاول مؤتمر المعارضة أن يضع أسسا مقبولة إلى حد ما في شكلها النظري من خلال وثيقته الختامية, وربما هي التي اسماها القائد الكردي مسعود البارزاني ب (رؤية متقاربة). ولكن, لا أحد يستطيع التكهن بمقدار جدية هذه الكلمات, خاصة ما يتعلق بالسيادة الوطنية والموقف من المحتل رغم قرار المؤتمر برفض الاحتلال, وموضوع الفدرالية, والموقف من جهاز النظام القديم ورموزه, والعلاقات الإقليمية خاصة مع الجارة إيران والعلاقة مع حليف الناتو الثابت تركيا, المستبيح الدائم للجزء المحرر من العراق, ومشاكل الحدود, ومشاكل سداد الديون, والعقوبات, والكوارث البيئية, وخراب البنية التحتية, وملايين المهاجرين,والمخلفات الاجتماعية للحرب والإرهاب المتواصل؟ تلك أمور مؤجلة, أجلها من قبل رجل اسمه زلماي خليل زاده أيضا, عند إعداده لتحالف قوات الشمال أيضا, لكنه لم يثبت نجاح ذلك التدبير في جلب الأمان الى أفغانستان حتى هذه اللحظة. وسبب إخفاق زلماي في كابول يعود الى أن الخيار, في الحالة الأفغانية والعراقية أيضا, تم وفق نظرية أسوأ الاحتمالات, التي تشير, في نظر البعض, الى واحد من أمرين محتملين: شدة الفقر السياسي للآخذين بهذا الخيار, أو شدة تعجلهم وتوقهم الى حلب البقرة الميتة.
ثانيا: خيار الداخل
وهذا التيار يحاول متعجلا إعادة ترتيب أوراقه, سامحا لنفسه بالتقلب والمناورة المفاجئة: من رفض اللقاء بالمشروع الأمريكي جملة وتفصيلا, الى اللقاء الخفي به والسعي الى الاندماج فيه, ولكن بصورة مغايرة للاتجاه الأول. ويمثل هذا الاتجاه بعض القوى القومية, البعثية تحديدا, والعناصر التي لها صلة بالموقف السوري. وتمثل جريدة (الوفاق) أحد منابر هذا الخط السياسي.
وقد استعر الخلاف مؤخرا بين بعض رموز (المؤتمر) وبعض كتاب الوفاق حول موضوع العمالة للنظام وما يعرف بالدخلاء و الغرباء والأجلاف وغير معروفي الأصل, ويقصد بهم أهل تكريت. ولكن, لم يتمكن الطرفان من حسم الأمر لصالحه, نتيجة لاشتباك المواقع و إشتراك الفريقين في وصمة خدمة النظام. وقد ظل هذا الفريق يعارض الضربة العسكرية الأمريكية, وناشد من أجل إقامة حكومة تبنى على أساس الصلة بين عناصر السلطة والقوات المسلحة (الشرفاء) في الداخل وأشباههم من (الشرفاء) في الخارج, دون الحاجة الى تغيير بنيوي جذري, ودون إغفال موضوع الديمقراطية والتعددية كمطلب. إن اقتراب هذا الفريق من المائدة الأمريكية سرا وعلنا , ولو بوجل من قبل الطرفين, يعكس حاجة الأمريكان الفعلية الى بعض عناصر الجهاز القديم في عملية التغيير القادمة, خاصة أجهزة الأمن والمخابرات والجيش والسلك الدبلوماسي, وحتى الجهاز الحزبي والتنظيمي البعثي. كما يؤكد هذا التقارب على أن إمكانية احتلال العراق بدون قتال عسكري, احتمال فعلي وممكن في المخطط الأمريكي, وليس مجرد وهم.
ويؤكد انضمام مشعان, البزاز, وفيق السريع الى قيادة المعارضة ( قاطعو تذكرة السفر الأخيرة في قطار الخارج), الذين سبقتهم من قبل كتلة (الوفاق) بقيادة أياد علاوي, على أن الأمريكان لا يحبذون التعامل مع طرف واحد في الوقت الراهن. كما أنهم مرغمون, رغم تشددهم, على اللجوء الى بقايا الجهاز الحكومي, العسكري والأمني والقبلي العشائري بشكل خاص, لغرض إحكام السيطرة على المجتمع العراقي في حال انتهاء حكم صدام. فأمريكا لا ترغب في إعطاء دور عسكري للمقاتلين الأكراد, لأنهم حلفاء غير مؤتمنين, وأنهم مشروع محتمل لصدامات عرقية قادمة محتملة, أما الشيعة, وهم غير مؤتمنين أصلا, فلا يملكون قواعد في قيادة الجهاز الأمني والعسكري.
ثالثا: الاتجاه المعادي للاحتلال
ويمثله بشكل رئيس حزبا الدعوة والحزب الشيوعي العراقي. والأول منهما عرف بمواقفه الثابتة المناهضة للنظام ميدانيا, والثاني بعراقة تاريخه وبصوته السياسي المسموع في فترة وجود المنظومة الاشتراكية, إضافة الى معاداته الدائمة للمشاريع الاستعمارية والهيمنة الأجنبية. وهذان الحزبان يعارضان الضربة العسكرية والاحتلال والتواجد الأمريكي, ويطالبان بدعم نضال الشعب العراقي وقواه الديمقراطية من أجل إسقاط النظام. وبغض النظر عن موقفهما هذا, فهما حزبان لا يتمتعان بثقة الأمريكان, لأسباب سياسية وأيديولوجية, سواء أيدا الاحتلال أم عارضاه, عدا بعض القيادات الشيوعية الكردية وفريق صغير منشق عن الدعوة. أما نقطة الضعف الأساسية في موقف هذا الفريق فتكمن في المسعى التوفيقي بين المصالح الوطنية والإقليمية والدولية, من دون وجود أساس واقعي يحقق هذا المسعى, نتيجة للضربات القوية التي تعرض لها حزب الدعوة على يد النظام, وبتأثير خلافاته الداخلية, ولضعف عمل الشيوعيين في الداخل.
إن اعتقاد هذا التيار بنزاهة واستقلالية موقفه السياسي, المعادي للغزو والدكتاتورية, لا يمنحه, إلا نظريا, حق التأثير الفعلي على الواقع السياسي القائم. ويعتقد كثيرون, أن هذا الاتجاه, قد يخسر أوراقه النظرية, ما لم يقم بخطوات عاجلة وعملية, تجعله قادرا على حشد إمكانية واقعية للتأثير على مجريات الصراع على الأرض في حال قيام الغزو العسكري, وعدم ترك المواطن المنهك موضوعا بين مطرقتين : نظرية أسوأ الاحتمالات والشعارات الأيديولوجية النظرية, أو بين خيار الغزو الأمريكي و خيار بقاء النظام الدكتاتوري.
رابعا : تيار المصالحة
وهو تيار محدود وصغير جدا, يدعو للتصالح مع النظام وفق صيغة جبهوية ودستور جديد, يكفل حرية العمل السياسي. ويحاول هذا الفريق الإفادة من العواطف الوطنية, متجاهلا الطبيعة الوحشية للنظام وشدة بؤس وإملاق الشعب, مغلبا عامل السيادة الوطنية على كل شيء, في الوقت الذي يعتقد الجميع أنه لم يعد للوطن أدنى مقومات السيادة الوطنية الفعلية, أمنيا وعسكريا وجغرافيا. وقد سمي هذا التيار بتيار (تذكرة السفر الأخيرة في قطار الداخل) تندرا.
ويمثل هذا الاتجاه خمسة عناصر, ثلاثة منهم من القوميين, واثنان من الشيوعيين, ويعتقد أن لهذا التيار أعوانا في مختلف المهاجر جاهزين للانخراط في العمل تحت لواء هذا الاتجاه.
والى جوار هذه القوى, هناك أعداد غفيرة من المثقفين خاصة, تبحث بحيرة عن حل ما يخرج الوطن من النفق, ولكن دون أن تعثر على بصيص ضوء.
أي شيء في الإمكان أفضل مما كان
إذا كان الخصام بين القومي والوطني, بين الواقعي والأيديولوجي حقيقة واقعية, فلا بد من الاعتراف بأنها حقيقة مجيرة- بسبب تردي الوضع القومي- لصالح المشاريع (أجنبية ومحلية) المعادية لحقوق المواطن الأساسية, القومية والوطنية. إن التعارضات بين أطراف الحركة الوطنية العراقية هي انعكاس لعملية التشظي القومي عربيا, وانعكاس لضيق أفق وتذبذب الفئات القومية والطائفية المتنوعة داخل العراق, مضافا اليها طغيان التأثير الأجنبي على القرار الوطني, وهامشية الإرادة السياسية للقوي السياسية العراقيين بدون استثناء.
وفي هذا المناخ يبدو تيار ما يعرف بالواقعية النفعية أكثر قربا من غيره الى مزاج الناس في الداخل والخارج, الذين لم يعودوا قادرين على احتمال أعباء الحياة القاسية والغرة الطويلة والحروب المتواصلة. لكن هذا الاتجاه يستثمر إحساس المواطن بالخيبة والانكسار لمصلحة قوى غريبة عن الشعب العراقي, وفق شعار (كل شيء أفضل من صدام). وهو شعار صحيح مئة بالمئة. فأية حكومة جديدة, مهما كانت, ستكون مفيدة للناس في حال أنها لن تقطع عنهم الكهرباء, في بلد الطاقة, في عز الصيف, وتسمح لأطفالهم بالعودة الى مدارسهم بشكل طبيعي, والتوقف عن استجداء أقلام الرصاص من معدمي المخيمات الفلسطينية, المحرومين من أبسط مقومات الحياة! إن (إعادة العراق الى (العصر الحجري), كما يؤكد الأمريكيون, هي المقدمة المنطقية لديمقراطية الاتجاه الواقعي, الذي يعتقد أن أية خطوة سيتخذها, في حال استلامه لمقاليد السلطة, ستجعله محبوبا وكريما أكثر من صدام و (عصره الحجري). إن سياسة إذلال الشعوب المغلوبة هي خصيصة أساسية وجوهرية ملازمة للسياسة الأمريكية. فقد ألقت أمريكا قنابلها الذرية على هيروشيما وناغازاكي, بعد أن تم كسر مقاومة ألمانيا واليابان. ومن المعرف أنه لم يكن لذلك الفعل من أثر عسكري محدد, وخاص. فقد كان مجرد نقطة دموية كبيرة أراد الأمريكان كتابتها في نهاية السطر الأخير للحرب, وربما كانت نقطة على الغلاف الأخير للحرب. مع ذلك كانت نقطة مأساوية في تاريخ البشرية, لا تدل إلا على الشر وحده, الشر المقرون بإذلال الآخر. إن نزعة إذلال وامتهان الآخرين جزء جدي من خصائص الحروب الأمريكية, ومتمم لسياستها, وملمح أصيل من تراثها الثقافي القائم على العنف والاستصغار في التعامل مع الثقافات المغايرة. لذلك لم يكن غريبا وشاذا ورود عبارة (لا نريد إذلال الشعب العراقي) في خطاب تحرير الكويت, الذي ألقاه بوش الأب. وقد جرى تداول هذا التعبير كثيرا, في غير مناسبة, بقصد واضح, من قبل جماعات وقيادات غربية عديدة, خاصة في حملة شارون على مقر عرفات. لقد جرى بخفر شديد استنكار (هذا الإذلال), وكان الغرض الحقيقي منه هو تأكيد معنى ومحتوى الإذلال في وعي وأحاسيس الناس. إن الامتهان والإذلال الجماعي, كما حدث في أفغانستان و يحدث يوميا في فلسطين, هو الوسيلة الفضلى التي يمارسها المنتصر الأمريكي على الآخر, المغلوب, كثمن للحرية الموعودة, التي سترفع شأن المواطن المحتل من عتبة العصر الحجري المذلة الى ذرى الديمقراطية الأمريكية الحرة. ولنتأمل كيف ينظر الإعلام الحر الى عمليات رفع الإذلال عن كاهل الشعوب المغلوبة. فهذه السويد, أكثر دول العلم تباهيا بديمقراطيتها, تقدم للمواطن الحر في بلدها صورا حية لمجموعة بائسة من الفتيات الأفغانيات, يتلقين درسا في اللغة في غرفة تشبه الزريبة , مرفقة بتعليق يقول: بعد ظلام طالبان الدامس يعود الأمل يتلألأ على شفاه فتيات أفغانستان! متناسين أن كابول كانت, قبل مجيء طالبان, عاصمة كغيرها من العواصم. وفي فيلم عن الشيشان, ومن بين حطام مباني غروزني, يتحدث صبية شيشانيون جائعون عن رغبتهم في الانخراط في صفوف القوات الروسية (مرشدين), من أجل إطعام أهاليهم الموشكين على الموت بردا وجوعا! ومن المؤكد أن الشبكات الأمريكية المرئية قد هيأت لنا, مسبقا, وبجهود عراقية من أنصار (أسوأ الاحتمالات) صورا (واقعية) سيراها الناس أجمع , تصور عراقيين وعراقيات لا يكتفون برفع صور بوش مصحوبة بعلامة النصر فقط, بل سنراهم يقبلون أحذية لجنود الأمريكيين المحررين! فكل شيء أفضل من صدام. هذا صحيح تماما. ولكن لماذا كل شيء أفضل من صدام؟
عن هذا يجيبنا بيسر وعلى عجل أنصار الاتجاه الواقعي: لأن صدام خرب كل شيء. ومما لا شك فيه أنه فعل ذلك, وشمل التخريب تبديد طاقات الوطن لعقود, وتشتيت الشعب وتجويعه, وتأزيم المنطقة بأسرها لأكثر من عقدين. ولكن, كيف استطاع أن يفعل ذلك؟ بهذا السؤال سيصاب ا الاتجاه الواقعي بالتلعثم. وحينما يصبح السؤال أكثر تحديدا: من أين أتى بالسلاح الكيمياوي والجرثومي وترسانة الأسلحة الجبارة وأموال الحرب الخيالية؟ من جهزه, من منحه رخصة تصدير قواته الى الخارج, من مكنه؟ إن صدام حسين حتى في عرف الاتجاه الواقعي, ليس مسؤولا لوحده عن تخريب وطننا, فقد سانده وموله وساعده في ذلك من يراد الآن منهم وبوساطتهم تحرير العراق من خراب صدام. والسؤال الواقعي الآن: إذا كان صدام سيخرج من السلطة بسبب جريمة تخريب الوطن, فهل ستكافأ أمريكا على قسطها من العبث بأمن واستقرار وحياة المواطن منذ قيام الحرب العراقية الإيرانية, مرورا بالانتفاضة, وصولا الى مناطق التقسيم الطائفي العرقي الجوية, وحصار وتجويع الأبرياء؟
الحل العراقي الواقعي
هل هناك حل ما, غير القدر الأمريكي أو البقاء تحت رحمة نظام صدام حسين؟
إن أصحاب نظرية أسوأ الاحتمالات, أو أصحاب الحل الواقعي, هم أنفسهم أصحاب الحل الواقعي( الأمريكي), أو بمعنى أدق أصحاب القبول بالشروط الأمريكية لاحتلال العراق عسكريا. بيد أن بعض قوى المعارضة المنضوية تحت لواء مؤتمر لندن, لا يجدون رضا تاما فيما يتعلق بتسلم الأمريكان أعنة العراقيين كاملة. فهناك من يعتقد بإمكانية تحقيق قدر من الاستقلال السياسي والعسكري في التعامل مع الأمريكان. وبهذا الصدد يقول عبد العزيز الحكيم ممثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية, وهو أحد الأطراف المؤثرة, المشاركة في مؤتمر لندن: ( إن حركته ترفض أي تدريب أو تسليح أمريكيين للمعارضة العراقية… إن الإدارة الأمريكية عرضت علينا خلال زيارة أخيرة الى واشنطن مساعدات مالية وتدريبية, كما عرضت علينا أموالا, ولكننا كمجلس أعلى قلنا أننا لسنا بحاجة الى مال ولا سلاح وتدريب…. إن لدى المعارضة العراقية المعسكرات والضباط القادرين على تدريب عناصر المعارضة العراقية, كما ان لديها الأسلحة ومن الممكن في المستقبل أن نستفيد من الأسلحة التي توجد حاليا في يد النظام العراقي) ( الوطن- العدد 810-18-12-2002).
إن تصريح عبد العزيز الحكيم يميط اللثام عن شدة الأزمة الأخلاقية الممسكة بخناق جماعة الحل الواقعي الأمريكي, وهو تأكيد جدي على أن حلا واقعيا, ولكن (عراقيا) ما زال ممكنا, لو جرى تطويره في الاتجاه الصحيح, ولو جرى تحريره من نوازع (النفعية الواقعية), وجعله مشروعا وطنيا خالصا. إن خيار العمل الوطني العراقي المستقل, في نظر كثيرين, ما زال يملك حظا واقعيا للتحقق, لو جرى استخدامه. فمن المعروف أن القوات الكردية يصل تعداد أفرادها الى أكثر من ثمانين ألفا, وادعى المؤتمر الوطني غير مرة بأنه قادر على تعبئة قوات تصل الى عشرات الآلاف, وتعد الأحزاب الشيعية أن قواتها تفوق هذا العدد, إضافة الى أنصار الحزب الشيوعي والأحزاب الأخرى. إنه من المحير أن يعرف المرء بوجود قوات ضاربة بهذا الحجم, لا تستخدم من أجل تغيير نظام يتفق الجميع على أنه ظالم. قوات ضاربة يجري الاحتفاظ بها خارج المعركة الدائرة بين الشعب والسلطة! والاستعاضة عنها بمشروع أسوأ الاحتمالات بالتوكل على الأمريكان في العمل العسكري المباشر. إن هذا الأمر يلقي ظلالا عميقة من الشك على النوايا الحقيقية للقوى السياسية العراقية مجتمعة, والمؤثرة منها بشكل خاص, وأصحاب المليشيات بشكل أكثر خصوصية.
طول الأزمة
إن ما أريد الوصول اليه هو أن مناقشة الأزمة وإيجاد حلول لها, ليست بالبساطة واليسر, الذي يراه البعض. إن الواقع أكثر استعصاء مما نظن, فقد يتطلب قدرا من الحكمة والمسؤولية في اتخاذ القرارات والأحكام. ففي زمن الانهيارات الاجتماعية الكبيرة يكون باب استجداء الحلول أوسع الأبواب وباب العقل أضيقها.
وإذا أردنا أن نبتعد قليلا عن التبسيط بالعودة مجددا الى السؤال حول طول الأزمة العراقية, وهو أحد أبرز مفاتيح فهم اللغز الأمريكي المتعلق بانتفاضة 1991, وبما يعرف بخطوط حظر الطيران, وبالمناطق الآمنة, وببرنامج النفط مقابل الغذاء. هل كان طول عمر الأزمة مجرد سوء حظ, أم مصادفة محض, أم مجرد أخطاء في التوقيت, أم ماذا؟
وفي تقديري, لا يمكن الحديث عن طول الأزمة العراقية, من غير الإشارة الى معاهدة صفوان, الخاصة باستسلام الجيش العراقي. فقد حددت هذه المعاهدة جدولا زمنيا تفصيليا عمليا مدته ستة أشهر فقط, لإنهاء الأعمال المتعلقة بالتسليح العراقي, وهو جدول زمني على درجة عالية من الدقة, الى حد أن دقته المفرطة جعلت الجميع, من معارضة الى سلطة الى أمم متحدة ينسونه تماما, بما في ذلك الدولة المنتصرة : أمريكا و إعلامها الذكي! لماذا أهمل ذلك الجدول الزمني؟ ولماذا أخذت الأزمة مسارها الذي أخذته؟ عن هذا السؤال يجيبنا أبرز المعنيين الدوليين بقضية تسليح العراق,وأكثر العارفين بخفايا المشكلة العراقية, رولف ايكيوس, المسؤول السابق عن ملف الأسلحة العراقية والسفير في واشنطن: (حينما يحل علينا الشتاء البارد - يقصد أبناء أوروبا- يتوجب علينا أن لا ننسى تقديم آيات الشكر الى أمريكا) ويضيف موضحا : ( إن حماية منابع النفط قضية مهمة لنا, سواء في السويد أو حتى في اليابان, ربما أكثر من أمريكا, لأن ارتفاع أسعار النفط الى 30 دولارا للبرميل يعني حدوث اختلال في ميزان المدفوعات, وبمستوى سعر الفائدة المنخفض حاليا). ومن دون شك ليس النفط هو السبب الوحيد للأزمة, وإذا كانت أسعاره مصدر قلق بالنسبة للدول الصناعية, فان اهتمام أمريكا منصب على جانب آخر من قضية النفط. كما يفهم من حديث ايكيوس.
إن السيطرة على احتياطات النفط, لا أسعار النفط, هي الأساس المادي للمشروع الأمريكي. هذا الجواب لم يقدمه ايكيوس الى قارئ عربي أو معارض عراقي من جماعة الحل الواقعي, بل قدمه الى أحد القادة المحليين من حزب المحافظين السويديين, الذي كتب مقالا مليئا بالدهشة, يقول فيه: كل شيء أستطيع فهمه عدا طول الأزمة العراقية. وفي اتصال هاتفي مباشر قدم ايكيوس ذلك الجواب. ( اكسبرسن 16-فبراير2001). ولهذا فان نعت عزيز الحاج لأفكار ادوارد سعيد بالسقطة بسبب ربطه بلين غزو العراق والنفط وإسرائيل, لم يكن سوى خدعة بصر, كتلك التي حدثت للحاج خلال ربع القرن الذي قضاه في خدمة جهاز صدام, ليكتشف بعدئذ أن صداما كان ظالما.
وإذا كان عبد الخالق حسين يصف الأخطار المحدقة بالعراق بأنها (أوهام), وإذا كان الرميحي يصف رفض الاحتلال ب (أفكار العوام) , فان عزيز الحاج يصف الحجج المتعلقة بالنفط بأنها (اسطوانة نفطية) و (أسطورة الطمع النفطي) (إيلاف-12-12-2002). وليس الحاج وحده من يستهزئ بأصحاب (الأسطوانة النفطية) فقد أخذت تظهر مقالات مؤيدة لهذا الرأي هنا وهناك في صحافة المعارضة, تختص جميعها بمهمة تبرئة الغزو المحتمل من تهمة (الطمع النفطي). ومن هذه المقالات المقال المعنون: ( هل تبذل الدماء من أجل النفط؟) لدافيد ايزبي, المترجم عن واشنطن تايمز في صحيفة الاتجاه الآخر, العدد 96-21-12-2002), والجواب الذي قدمه دافيد ايزبي هو : لا, لن تبذل الدماء من أجل النفط. والسبب في ذلك أن أسعار النفط لا ترتبط بمشروع غزو العراق. والجواب, من دون شك, كان صحيحا. فلا صلة مباشرة لنهب الثروات النفطية بالغزو, وعلى حد تعبير عزيز الحاج فالأمريكيون لا يحتاجون الى غزو العراق لكي ينهبوا نفطه المنهوب أصلا, إضافة الى أن السلطة لا تعلن للشعب عن مبيعات النفط وعائداته, فلماذا البكاء على النفط؟
والجواب على ذلك: لو كان الصراع من أجل النفط مجرد اسطوانة, فلماذا تصاعد الخلاف بين روسيا والصين مع بغداد في الأيام الماضية حول عقود النفط؟ ولماذا اشتد نشاط قيادات المعارضة للتحدث في مشاريع عقود النفط القادمة؟ إن هذا يجيبنا بوضوح تام بأن عقود وأسعار النفط ترتبط أساسا بسياسة العرض والطلب وسياسة الدول المرتبطة بهذه التكتلات فعلا, بيد أنها لا تقع خارج دائرة الصراع على مناطق النفوذ البتة. ولكن , كما أبطأ عزيز الحاج كثيرا في إدراك طبيعة السلطة الحاكمة في العراق, فسيبطئ أكثر في فهم قضية معقدة اسمها النفط والاحتلال.
إن من يتابع خطوات سير الستراتيجية العسكرية الأمريكية يجد أنها تقوم على أساس ثابت, أخذ يتعزز ويتضح بجلاء بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. وقوام هذه الستراتيجية هو سياسة (طول الأزمة). ومبعث هذه السياسة داخلي يخص مكونات التجربة الأمريكية الذاتية, التي تتلذذ بالمسلسلات الطويلة والمحاكمات الطويلة وأساليب الحصار الطويلة, وسبب ستراتيجي أساسي يتمثل في كون الهيمنة الأمريكية, التي توسعت بشكل انفجاري في آسيا وأفريقيا والمحيطات, بعد سقوط المنافس الشيوعي, لم تستكمل بعد عدتها الخارجية: الإدارية والسياسية والعسكرية. ومثل هذه المهمة تحتاج الى وقت طويل كي تتحقق. فإذا كان الخطاب الإعلامي يسهل نشره عبر وسائل الإعلام, فان منظومة الحق والتشريعات, إضافة الى البنى السياسية والعسكرية للإمبراطوريات العاملة خارج أراضيها تحتاج الى وقت أطول كي تبدأ بالاستقرار وبإعطاء الثمار المرجوة منها. لذلك فان الإدارة الأمريكية تحاول على مهل, وببطء يتناسب مع طاقاتها الداخلية و مقدرتها على تنفيذ مخططات انتشار قواتها على أكمل وجه ( بصرف النظر عن إرادة المواطن العراقي), ومثل هذا ينطبق على القضية الفلسطينية أيضا, التي تبدأ في كل مرة مرحلة جديدة عقب كل نهاية لاتفاق سابق. وكوبا مثال جدي على طول عملية الحصار والتطويق. أما يوغسلافيا, فهي المثال النموذجي لعملية التقطيع والتشريح وصولا الى القلب, التي مارستها أمريكا وحلفاؤها, مبتدئين من أبعد التكوينات الاتحادية (الفدرالية) اليوغسلافية: سلوفينيا, كرواتيا, البوسنة, كوسفو, ثم مكدونيا. ومن المعروف سياسيا وعسكريا أن الحكومة المركزية في بلغراد لم تكن قادرة على مواجهة خمس جبهات في وقت واحد. بيد أن الإدارة الأمريكية اختارت الحل الأطول, مصحوبا بعقوبات وحصار اقتصادي, على طريقة ملاعبة القط للفأر. وفي مثال فلسطين ويوغسلافيا وأفغانستان, وإيران وكوريا الشمالية كمرشحين محتملين, فان سياسة الأمركة لا تتم بإسقاط الحكومات القائمة فورا, بل تتعداها إلى إذلال وتجويع وتحقير الشعوب الى حد مريع, كي تجعلها في النهاية مستعدة للقبول حتى بالشيطان. إن نظرية (طحن العظام) الأمريكية تلتقي مع سياسة الاتجاه الواقعي للمعارضة العراقية في أمر جوهري, هو أن الشعب العراقي قد وصل حدا من الامتهان والإجهاد أضحى فيه مستعدا للقبول بأي شيء.
إن الاستراتيجية الأمريكية, وفق تقرير نشرته صحيفة داغسنيهيتر السويدية, ترتبط ارتباطا محكما بالنفط, وعلى وجه التحديد بالاحتياطي النفطي العالمي. فالولايات المتحدة الأمريكية, بناء على جداول وإحصائيات مأخوذة من ملفات السي أي أيه, لا تبني خططها لأيام وأشهر أو حتى سنين. إن إمبراطورية جبارة منتصرة, تقود العالم سياسيا وصناعيا وعسكريا, تضع في حساباتها مؤشرات التطور والنمو على لأقل تقدير لنصف قرن قادم. لقد كشف محللو نتائج الحرب العالمية الثانية لأحد الأسرار الكبيرة المتعلقة بهزيمة هتلر, وأكدوا على أن مصادر الطاقة, والنفط على وجه التحديد, كانت عاملا من عوامل تشتيت عمل القوات الألمانية وتبذير طاقاتها الجبارة. فقد سيطر الألمان على مناجم فحم النرويج بالاحتلال المباشر, ووضعوا لأياديهم على مناجم حديد السويد بتواطؤ من الحكومة السويدية, أما النفط فقد ظل معضلة كبرى واجهت الرايخ الثالث, ولم تفلح قوات رومل من بسط سيطرتها على نفوط شمال أفريقيا, ولم تتمكن القوات المندفعة في عمق الأراضي السوفيتية من وضع يدها على مصادر النفط هناك. وكلما امتدت رقعة العمليات العسكرية ازدادت الحاجة الى وضع اليد على مصادر جديدة للطاقة, حتى أضحى البحث عن الطاقة مشروعا خاصا يقود خطوات المشروع العسكري الألماني ويشعب اتجاهاته. إن أصحاب المشروع الواقعي, لا يودون النظر لأبعد من أرنبات أنوفهم, فكيف سينظرون الى مصالح طويلة الأمد تمتد لعقود! إن القوات الأمريكية جاءت لتبقى, لتبقى أطول فترة ممكنة, تقررها مصالح أمريكا العليا. هذه الحقيقة ليست ذات أهمية في نظر البعض, لأنها (أسطورة نفطية) بالضبط كما كان صدام نفسه في نظر أقسام واسعة من قادة المعارضة (أسطورة وطنية).
هل للاحتلال قلب وضمير؟
إن الواقع أعقد بكثير من الأحلام, سواء أحلاما أمريكية أو عراقية أو قومية. فحتى على المستوى الإجرائي التنظيمي, الذي يرافق عملية التغيير المحتملة لنظام الحكم في العراق, لا بد من إدراك أن المصالح الأمريكية لا تقيم للإنسان ومشاعره وزنا, لأنها مصالح ترتبط بحسابات أساسية قوامها أن العراق منطقة ظلت طوال التاريخ الحديث خارج منطقة النفوذ الأمريكي. لذلك ليس يسيرا أن تستبدل حكومة بحكومة أخرى, كيفما اتفق, حتى لو كان أعضاء هذه الحكومة من أخلص المخلصين للمشروع الأمريكي. فالعراق منطقة ستراتيجية تتمتع بحدود مضطربة, وتكوين عرقي, متعدد وقلق, وتباينات اجتماعية حادة, كما تتميز عن دول الجوار, خاصة في الخليج, بأنها تملك تاريخا وخبرة كبيرة في مجال التنظيم الحربي والعمل السياسي, فما يصلح لقطر لا يصلح للعراق.
إن الصراع الأساسي الراهن لا يتعلق فقط بما نعرفه عن المشكلة. إنه صراع حول ما لا نعرفه من المشكلة أيضا. حول ما لا نعرفه نحن, الذين ننظر الى المشكلة من زاويتها التحليلية المنطقية النظرية. فهو صراع يستخدم كل ما يتوافر من الذرائع والحجج والأسباب والوسائل, لكنه في الأخير صراع لا على النظريات, بل صراع على أوراق (فعلية) يملكها الطرفان: صدام والإدارة الأمريكية. ملفات وصفقات تم تكوينها على مدى ثلاثة عقود, شملت جوانب أمنية وسياسية وتنظيمية وصناعية وعسكرية ودينية وعرقية, غطت مساحتها منظمات ودولا وقارات وأحزابا, لفترة توالت فيها ست إدارات أمريكية مختلفة, لكل واحدة منها رؤيتها وسياساتها الإجرائية الخاصة وطابعها المميز. إنه صراع على ما لا نعلمه, على ما لا يعلمه سوى الإدارات الأمريكية المتعاقبة وصدام وحده. حسابات الأوراق والملفات هذه هي العنصر الحاسم الذي يقرر توقيت الغزو وساعته وشكله ومداه, أما الذرائع فهي في مجملها جزء من ستراتيجية الغزو المعدة سلفا. وما عدا ذلك لا يعدو أن يكون مجرد كلام, كلام مفيد أو غير مفيد.
خلاصة: طول الأزمة مرد أخرى
إذا كانت الستراتيجية الأمريكية في معاقبة الشعوب تتم من خلال التقطيع المتأني, طويل الأمد لأوصال المجتمع المستهدف, حتى يتم تفسخه تماما. فإن طول بقاء السلطة العراقية على مدى العقود الثلاثة المنصرمة, يرتبط بخطة منظمة, ومدروسة, استهدفت تدمير مقومات المجتمع العراقي تدميرا تاما, وصولا الى لحظة تأسيس جديدة تتم على يد المنقذ الأمريكي. لذلك, فإننا قد نباغت, بعد سنوات من رحيل صدام, بمن سيكشف لنا ما خلاصته: أن الحصارين, الخارجي الأمريكي, والحصار الداخلي البعثي, لم يكونا سوى عملية واحدة, وإن اختلف وتعدد منفذوها.
القادمون من العراق مؤخرا, يتحدثون عن هاجس واحد يعيشه العراقيون, هاجس بسيط وواضح في فحواه ومأساويته, يقول: من يريد أن يفعل شيئا, حتى لو يريد أن يلقى قنبلة نووية على رؤوسنا, فليفعل ذلك فورا, اليوم, بل الساعة.
إن طول زمن الكارثة, لا الكارثة نفسها فقط, هو علة وجود نظام صدام حسين لأكثر من ثلاثة عقود, وهو علة قبول المعارضة بخيار (أسوأ الاحتمالات), وهو العلة التي تقف وراء الثقة الأمريكية بإمكانية غزو العراق واحتلاله دون عواقب. وهي العلة الجوهرية لعملية تمزيق الهوية التاريخية للعراقة منفذة لصالح قوى دولية, بوساطة مقاولي أنفار, سبق لهم |أن مزقوا نسيج الشعب العراقي لصالح الدكتاتور.
ولكن, هل تجري الرياح بما تشتهي السفن دائما؟