أخبار الشرق - 1 كانون الثاني 2003
في ثلاثمائة كلمة تقريباً لخّص كاتب مقال "المعارضة السورية: ساعة متأخرة وأخرى خاطئة" الزميل ياسين الحاج صالح (انظر ملحق النهار بتاريخ 17 شباط 2002) قراءته للبرنامج السياسي للتجمع الوطني الديمقراطي وهي قراءة أوصلته إلى أحكام قطعية تمثلت في:
1 - أن البرنامج "يفقتر إلى العناصر التي تجعل من المطالب برنامجاً سياسياً".
2 - يؤخذ عليه أنه لم "يقدم أهدافاً عملية وأفاقاً ملموسة لحركة أو قوة اجتماعية آخذه بالتكوين".
3 - تغيب عنه "أهم العناصر البرنامجية القيّمة التي وردت في بيانات حركة المثقفين ..".
4 - يفتقر إلى الروح الحوارية افتقاراً شديداً.
5 - غير مرتبط بزمن محدد.
ويطلق بعد ذلك حكماً نهائياً حين يصفه بأنه "أقل من برنامج وأقل من سياسي" منفصل عن حامله الاجتماعي، كما عن لحظته الزمنية، قيمته أنه بادرة تحرك الحياة السياسية الراكدة أو المصادرة، لكنه سيخسر هذه القيمة إذا بقي خطوة معزولة ليس لها ما بعدها.
بداية: من المؤكد أن البرنامج السياسي للتجمع الوطني الديمقراطي في سورية، هو موضع للحوار، وعلى هذا الأساس أعلن عنه، وقدم لجمهور المواطنين، فهو يريد أن يؤسس لعقد اجتماعي جديد ينظم الحياة السياسية في سورية، ومن هنا فإن انتقاده والجدل حوله ظاهرة إيجابية تستحق التقدير، مهما كان حجم النقد والانتقاد، ومن الطبيعي أن يتم الحوار معه وحوله وحتى قراءته من خلفيات متعددة ولدوافع متباينة، والحديث عن الموضوعية هنا نسبي، والتجرد مستحيل حيث لا يمكن للفرد أو للمجموعة التجرد من مجمل الثقافات والمعارف والمصالح التي تنطلق منها وتشكّل مجموعة المعايير القيمية التي تحكم بها.
إلا أن الأحكام القيمية الناجمة عن قراءة هذا البرنامج، معرضة أيضاً للنقد، وتلك أهميتها، حيث يصبح النقد والرد جزءاً من حوار مطلوب بدل أن يكون النقد حكماً قطعياً مطلقاً ينطلق من تعصب مستور للحقيقة المطلقة الكامنة في أعماق الناقد.
وحتى يكون النقد والانتقاد والرد منتجاً وحواراً غنياً (لا حوار طرشان) يجب محاولة الإمساك بمعايير ومصطلحات مشتركة أو ذات مدلولات متفق عليها بين المتحاورين، ومن ثم الاحتكام لها بهدف التوصل إلى نتائج مشتركة، أو محاولة التوصل إلى مثل تلك النتائج على الأقل.
من هذا المنطلق أعود إلى الأحكام القطعية التي وصل إليها كاتب مقال "المعارضة السورية: ساعة متأخرة وأخرى خاطئة".
الحكم الأول: أن البرنامج السياسي يفتقر إلى العناصر التي تجعل من المطالب برنامجاً سياسياً وقد استند في حكمه على تحديد العناصر التي تجعل من المطالب برنامجاً سياسياً التي عددها وفق ما يلي:
1 - تحليل الملامح الأساسية للوضع الراهن.
2 - تحديد المستجد على لوحة القوى الاجتماعية.
3 - تحديد المستجد من وسائل العمل المتاحة.
4 - فرز المتغيرات الاجتماعية والوطنية والدولية التي تجعل من مطالب التغيير أو الإصلاح ضرورة حيوية.
5 - أن يكون وحدة عضوية متماسكة ذاتياً وموضوعية.
نحن هنا لن ندخل في جدل عميق حول عناصر البرنامج السياسي. وما اعتادت القوى السياسية أن تقدمه من مطولات عقائدية أخذت زخمها في مجال المناظرات الثقافية، وهي مناظرات ومدبّجات أثبتت بالنتيجة أن معظمها مجرد فذلكات لا قيمة لها أو على الأقل بعيدة عن الترجمة العملية، إن هذا لا يعني أن البرنامج السياسي معزول عن قراءة الواقع ومستجداته، وعن متطلبات هذا الواقع واحتياجاته، ولا هو منعزل عن المبادئ التي يسعى أصحابه تحقيقها، ومن هذه الزاوية فإن برنامج التجمع الوطني الديمقراطي معرض نقد كاتب المقال لم يكن بعيداً عن كل ذلك، وإن جاء بصورة مختصرة أو غير مبوبة بالطريقة التي يرغب فيها الأستاذ ياسين، فهو:
أولاً - تضمن توصيفاً للتجمع الوطني الديمقراطي في سورية باعتباره القوة السياسية والاجتماعية التي تتبنى البرنامج المطروح، ولأهمية هذا التوصيف وللمبادئ التي يرفعها أنه يقوم على تحديد مبررات وجود قوة أو تيار سياسي جديد واعتبر التجمع صيغة جديدة للعمل السياسي تختلف عن الأنماط السائدة فلا هو حزب جديد ولا هو جبهة أحزاب وإنما هو إطار للعمل السياسي يضم أحزاباً وهيئات وأفراد ملتزمون جميعاً ببرنامج سياسي موحد.
ثانياً - تعرض لطبيعة الأزمة التي تعيشها سورية منذ عقد الثمانينات تحديداً وقال إنها مرحلة استبداد وقمع واستئصال ترتكز على مفهوم شمولي للسلطة التي تحتكر كل فعاليات المجتمع.
ثالثاً - وصّف المرحلة الحالية باعتبارها مرحلة انتقالية جديدة تتيح إمكانية الحوار والتواصل بين القوى الاجتماعية والتيارات الفكرية والسياسية وترسي المقدمات الضرورية لمصالحة وطنية هي الشرط الرئيس لتجاوز رواسب الماضي.
رابعاً - حدّد معالم مطلبه في المرحلة القادمة (المستقبلية) بقيام نظام ديمقراطي يرتكز على التعددية وإقامة دولة عصرية تؤدي مهامها الوطنية والاجتماعية بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني.
ورغم تلك الملاحظة على ما طرحه الأستاذ ياسين في شأن البرنامج ومضمونه وعناصره، فإني أتفق معه أن هذه العناصر جاءت غير مبوبة بشكل دقيق ومتداخلة وموزعة على معظم أبواب البرنامج وأجزائه مما يصعّب من قراءتها بشكل مدرسي، إلا أن هذا النقد لا يوصل إلى الحكم القطعي الأول الذي وصل إليه كاتب المقال عندما قال إن البرنامج يفتقر إلى العناصر التي تجعل من مجموعة المطالب برنامجاً سياسياً.
الحكم الثاني: أن البرنامج لم يقدم أهدافاً عملية وأفاقاً ملموسة أو قوة اجتماعية آخذة بالتكوين، وبالعودة إلى البرنامج نجد أنه قد طرح الأهداف التالية:
1 - بناء الدولة العصرية: ورأى أن بناء الدولة الحديثة يتطلب تصفية الآثار السلبية للمرحلة السابقة، وبناء العلاقات الاجتماعية على أساس حرية الفرد واحترام حقوق الإنسان، وتحويل الدولة إلى دولة مواطنين، ومنع التمييز على أساس اللون أو العرق أو الجنس أو الطائفة إلخ، وإقامة الدولة الديمقراطية وفق مبدأ فصل السلطات وإعادة الاعتبار لمبدأ الانتخاب الحر في جميع مستويات الدولة والهيئات والمؤسسات النقابية، وإطلاق الحريات العامة وفي مقدمتها حق تشكيل الأحزاب والجمعيات وحرية الإعلام وإنهاء الدولة الأمنية.
2 - إصلاح اقتصادي شامل يرتكز على توازن بين دور الدولة الاجتماعي وبين آليات السوق وحرية النشاط الاقتصادي, من خلال المحافظة على قطاع الدولة الاقتصادي وعلى دورها الاحتكاري في مجال محدود هو قطاعات الإنتاج الأساسية (الثروات الطبيعية، البنى التحتية، الخدمات العامة ..) وعلى إطلاق الحرية للقطاع الخاص فيما عدا ذلك من مجالات الاستثمار، واستخدام الضريبة التصاعدية كعامل اقتصادي واجتماعي واعتماد الضمان الاجتماعي كوسيلة لتصحيح الخلل في العلاقة بين الطبقات والشرائح الاجتماعية.
3 - إصلاح اجتماعي يأخذ بعين الاعتبار المسائل الروحية والمشكلات الاجتماعية.
4 - ربط القضية الداخلية بالقضية القومية, فرأى أن الوحدة العربي لا تزال المطلب الأساسي من أجل تحقيق التطور، وأكد على مخاطر العدوان الصهيوني وتزايدها في ظل العولمة وطرح رؤيته لإدارة الصراع وللموقف من العولمة.
يبقى بعد ذلك هل هذه الأهداف تشكل آفاقاً ملموسة لحركة اجتماعية أو قوة سياسية آخذه بالتكون؟
أجد هنا أنه من حق الكاتب أو أي قارئ لبرنامج التجمع أن يحدد موقعه من هذا البرنامج على ضوء خلفيته الفكرية ومصالحه الشخصية والفئوية، إلا أن هذه الأهداف كانت محل اتفاق في خطوطها العريضة مع كثير من طروحات القوى والتيارات السياسية والثقافية في سورية، وأعتقد أن الخلاف هنا هو الذي يبرر الدعوة لإطلاق التعددية والاحتكام إلى صندوق الاقتراع للانحياز إلى أي من البرامج المختلفة، ولكن ومع ذلك يبقى السؤال هل هذه الأهداف عملية؟ يعتقد التجمع كما هو واضح أنها أهداف ممكنة التحقيق أولاً, وأنه لا مخرج آخر من الأزمة الراهنة غيرها ثانياً، ومع ذلك لم يقل التجمع إن هذا البرنامج هو برنامج فوري، وإنما طرح التدرج في تطبيق الإصلاح وحدد أهداف وأولويات التدرج مؤكداً على أولوية الإصلاح السياسي الذي يبدأ من تصفية آثار المرحلة السابقة (إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإعادة المبعدين، وتسوية أوضاعهم، وإلغاء إعلان حالة الطوارئ .. إلخ)، وفي الإصلاح الاقتصادي ركز على محاربة الفساد انطلاقاً من ضرورة الاتفاق على توصيفه واعتماد إصلاح القضاء، وسيادته مدخلاً لمحاربة الفساد، وعلى رفع مستوى الحدود الدنيا للأجور لتتوازى مع الحد الأدنى للمعيشة بشكل متدرج، كما أكد على ضرورة توفير المناخات النفسية لتشجيع الاستثمار. وعلى طريق الوحدة العربية دعا إلى تعزيز مؤسسات الجامعة العربية والمؤسسات الشعبية العربية كمدخل. وفي إدارة الصراع مع العدو الصهيوني قال إن العمل السياسي مطلوب مثله مثل المقاومة وإنهما يهدفان معاً إلى تحقيق الهدف الاستراتيجي للصراع على شكل متمرحل ومتدرج واعتقد هنا أن ما طرحه البرنامج عملي وممكن التحقيق.
3 - الحكم الثالث: تغيب عنه أهم العناصر البرنامجية القيمة التي وردت في بيانات حركة المثقفين والمحاضرات التي ألقيت .. إلخ.
ومن الواضح في هذا الحكم أنه جاء غامضاً فهو لم يحدد العناصر البرنامجية الغائبة التي وردت في بيانات حركة المثقفين والمحاضرات، ولا أسس بتحديد قيمة كلٍ منها وهنا أحب أن أتوقف عند مسألتين:
الأولى: أن هذا البرنامج جاء في إطاره العام منسجماً مع جوهر ما ورد في بيانات المثقفين والمحاضرات التي ألقاها بعضهم، بل إن هناك في كثير من الأحيان مساهمات متداخلة، فحركة المثقفين لم تكن معزولة عن حركة التجمع حيث ساهم مثقفو التجمع بصياغة تلك البيانات والمحاضرات، كما أن بعض المثقفين ساهموا في صياغة برنامج التجمع بشكل أو بآخر.
الثانية: أن برنامج التجمع هو حصيلة توافقية بين أطرافه، يحمل كل ما في التوافق من معانٍ سواء في الصياغة أو في تحديد الأهداف والمطالب، ولعل هذا هو مكمن القوة فيه، وهو حدث جديد غير مألوف في الحياة السياسية السورية خلال نصف القرن الأخير، ولعل هذا التوافق هو ما ساهم بدور كبير في إعلاء البعد البرنامجي السياسي وتغليبه على البعد العقائدي الأيدلوجي المعتاد.
الحكم الرابع: أن البرنامج يفتقد إلى الروح الحوارية افتقاراً شديداً، فهو مكتف بذاته ولذاته وهنا أرى أن هذه النتيجة القطعية لا ترتكز على أي أساس خارج ذهن كاتب المقال فعند إعلان البرنامج قدمه الناطق الرسمي للتجمع باعتباره مدخلاً لحوار، وأكد على أهمية إغنائه بالحوار مع جميع المهتمين بالشأن العام، وهو اصلاً جاء نتيجة حوار مطول بين قوى وأحزاب وأفراد تنتمي لتيارات سياسية متعددة، والأهم من ذلك كله انطلق البرنامج من ضرورة التركيز على الحوار، وجاء في مقدمته إن البرنامج جاء "اسهاماً في الحوار الوطني حول أوضاع بلادنا ومستقبلها؟" وعاد في الختام ليقول إن التجمع "يرى في الحوار مع جميع القوى بلا استثناء مدخلاً ضرورياً لإعادة إنتاج السياسة في المجتمع. كما أن قاعدة الحوار حكمت الساحة الشاملة لمتنه، من خلال الحديث عن الديمقراطية، وعن مجتمع المواطنية، وعن الحرية الإعلامية .. إلخ.
الحكم الخامس: أن البرنامج غير مرتبط بزمن محدد ..
هنا يجب التوقف عند مفهوم الزمن فهل هو مجرد وقت محصور بين تاريخين أم هو مرحلة سياسية معينة؟
التجمع الوطني طرح برنامجه للمرحلة الانتقالية الراهنة, وللمرحلة المستقبلية التي تليها من خلال إعادة قراءة متغيراتها وطرح الحلول التي يراها مناسبة, ومن هنا فإن البرنامج بوضعه الحالي لم يكن من الممكن طرحه قبل سنوات, وقد لا يصلح لمرحلة قادمة لها سمات متغيرة، ولكنه يصلح لأي زمن يحمل معطيات الواقع الراهن من وجهة نظر أصحابه، وهو ما يتناقض مع الحكم النهائي الذي أطلقه السيد الأستاذ ياسين.
ويبقى بعد ذلك الحكم النهائي الذي أطلقه كاتب المقال بأن البرنامج السياسي للتجمع أقل من برنامج، وأقل من سياسي ملكاً لصاحبه نحترم رأيه وإن كنا نختلف معه منطلقين من أن هذا البرنامج إنما هو فعل إيجابي من بين الأفعال الإيجابية التي تمارسها المعارضة الوطنية الديمقراطية، وهو فعل لم يأت من فراغ ولا هو منقطع عما تلاه من أفعال. فقد قام التجمع بالتبشير بأفكاره عندما كان التبشير بالديمقراطية ونقد الدكتاتورية جريمة تؤدي بصاحبها إلى أعماق السجون، وعندما كان للكلمة الحرة ثمن باهظ يدفع من الجهد والحرية ومن متطلبات الحياة الهانئة، وكانت أدبياته ومنشوراته هي الأساس التي أقيمت عليه "ديباجات ربيع دمشق" وكان جزءاً أساسياً من فعاليات ذلك الربيع. وقبل البرنامج أثار التجمع حواراً مجتمعياً لم ينقطع واستمر بعده، وما كان إغلاق ملف المتوارين وترسيخ بعض مؤسسات المجتمع المدني سوى استكمال للبرنامج وتطبيق له، وهو خطوة وعد التجمع أنها جزء من مسيرته العملية لممارسة دوره في تنفيذ مضمون برنامجه.
__________
* كاتب سوري، قيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي - حلب