صباح راهي العبود
الحوار المتمدن-العدد: 4813 - 2015 / 5 / 21 - 19:29
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
نركيلة ثابت كبابي ودارميات فلك كشاش
من اللافتة المعلقة على بابها الرئيس يمكننا ان نستشف وبدون أدنى عناء أنها مدرسة متوسطة مسائية تابعة لفرع نقابة المعلمين في الكوفة . خريف عام 1967 دعاني نقيب المعلمين ( السيد أحمد المحنة ) للقيام بتدريس الفيزياء في المدرسة وكنت حينها شاباُ في عمر( 22 )عاماُ مملوءاً حيوية ونشاطاً تعتريني رغبة جامحة لإدراك النجاح ومسك طريقه والتباهي به . إستجبت للدعوة تلك وعلى الفور ,ولم لا ؟ ..... لم يمنعني علمي المسبق وقناعتي الأكيدة بحجم المصاعب التي تنتظرني في أثناء الأداء مع طلا ب مستواهم الدراسي منخفض ,وهم كبار سن عموماً مجهدون نهاراً ,وأغلبهم إضطر للتسجيل في مثل هذه المدارس بعد رسوبه سنتين متتاليتين في الصف نفسه بالدراسة النهارية وهو المسموح به . أو من توقفوا عن الدراسة لعدم وجود مدارس في مدنهم وقراهم ثم جاءوا متأخرين ليكملوا بعمرمتقدم.وبعضهم الآخر ممن إضطر للعمل نهاراً تحت مطرقة وضغوط الفاقة الإقتصادية لكن ذلك لم يوقف أو يُنه طموحهم في إكمال الدراسة,وفعلاً فقد نال الكثير من هؤلاء ما كانوا له يطمحون إذ أنهى قسم منهم الدراسة الجامعية حتى. وربما كانت أسباب أخرى ومبررات لهذا غير تلك التي أجهدت نفسي في سردها.
من خلال الممارسة والإستطلاع إتضح لي أن نسبة كبيرة من هؤلاء يستفيدون من الفرصة في مثل هذه المدارس لتأجيل وقت سوقهم للخدمة العسكرية الإلزامية وليكن بعدها لكل حادث حديث لاسيما وإن الطالب يمكنه البقاء مراوحاً في الصف نفسه لسنة رابعة بعد تقديم ما يؤكد رقوده في المستشفى لفترة طويلة إذ تعد سنة عدم رسوب , وهذه مسألة تبدو بعيدة الحدوث لكنها ممكنة بعد عمل الترتيبات مع هم في خدمة من يساعدهم في هذا المسعى ,لذا تراهم غير جادين في الدراسة ولا هدف واضح يدفعهم للجد والمواصلة فتلاحظ حضوراً في الصف بعدد كبيريزيد على الستين في يوم الإمتحان الشهري ,لكنه يكون خجولاً يقل الى حوالي الربع في الأيام الأخرى.
كان عليً الإستعداد لتدريس الفيزياء ومع نماذج لا تجد سهولة في متابعة موضوع يغرق حينذاك في العمليات الحسابية ورياضيات هي أصلاً تمثل معضلة لهم دون الإهتمام الكافي بالمفاهيم الفيزياوية البحتة وتطبيقاتها في مجالات الحياة المختلفة وهنا تكمن صعوبة المنهج بالنسبة لهم ناهيك عن إنشغال أعدادا منهم في أعمالهم العامة طيلة النهار وعدم توفر الوقت الكافي لمتابعة الدروس.
كان السيد محمد حسن الحلي مدير للمدرسة يعاونه السيد جواد الفحام الى جانب مجموعة جميلة رائعة من المدرسين الذين كانوا يؤدون العمل التربوي والتدريسي على أتم وجه ,وهي فرصة لي لجمع بعض من المال إستعداداً لزواج مفروض عليً إنجازه بطريقة ميكانيكية روتينية بعيد التخرج من الجامعة ,ولا فرصة لتأجيله أو الإعتراض على أمر ورغبة الوالدين .
تمنح المدرسة (400) فلساً أجراً للمحاضرة الواحدة ,وهذا يعني لي مدخولاً شهرياً إضافياً بحدود السبعة دنانير يكون أثره واضحاً على حالتي الإقتصادية.
* في اليوم الأول لبدء الدراسة كنت قد وضعت كل الحسابات بما فيها الصعبة لمواجهة طلاب كان أكثرهم زملاء لي في المرحلة الإبتدائية وحتى منهم من هو صديق خاص نقضي الأوقات سوية في رواحنا ومجيئنا ,لكنني أخيراً تركت الأمر معوماً دون التفكير به,وإتخذت قراري وذهبت الى الدرس الأول . وما أن تخطت قدماي عتبة باب الصف حتى فوجئت بنهوض الجميع إجلالاً وإحتراماً محيين مقدمي ووجوههم تطفح بالفرح والمسرة , ولم يجسر أحدا على الجلوس قبل أن أطلب ذلك منهم , بعدها شكرتهم , جلسوا بهدوء غير طبيعي وهم أصلاً لا يعرفون الهدوء ولا الصمت البتة. لا بل أن أكثرهم لا يكترث حتى بعد دخول المدرس الى الصف ,فما الأمر إذن؟؟ لقد إتضح لي أخيراً أنه إتفاق و قرار إتخذه الطلاب تقديراً لصديقهم مدرس الفيزياء وقد إلتزموا به إلتزاماً حديدياً فيما بينهم وإلى نهاية العام الدراسي .وهنا تتجسد وتتجلى واضحة أخلاق الناس في مدينتي الجميلة .وبلمحات سريعة طافت خلالها عيناي في وجوه الحضور وشفتاي تؤديان الإبتسام ,وعيناي تسمران عند الوجوه التي أألفها كل يوم ( شاكر, رؤوف, محمد ناصرالشهيد, كاظم النقش, عبد الحسين عمران, ثابت كبابي, حريجه, فلك كشاش, .....وآخرون أعزة على القلب) .بدأ الدرس تبعتها عشرات دروس أخرى كنت خلالها وفياً مخلصاً لهم.
** يوماً وأنا غارق في شرح موضوع الضغط والضغط الجوي إنبرى ثابت ليسألني :-
- أستاذ هل لك أن تشرح لنا متفضلاً عمل الناركيلة (الشيشة) . وكان ثابت هذا من المدمنين على إستعمالها ليل نهار.
- نعم ثابت , هي عبارة عن خزان ماء زجاجي في الغالب يوضع فيه ماء الى ثلثيه أو حوالي ذلك , يُغمس في خزان الماء أحد طرفي أنبوب (مفتوح الطرفين) ,و طرفه الآخر يعلوه مقمع خزفي مفتوح من أسفله يوضع فيه التنباك وفوقه الجمر,وهذا الأنبوب يكون محاطاً بأنبوب آخر مغلق من الأعلى عند القمع لكنه مفتوح على الفضاء الذي يعلو سطح الماء وهو ذو فتحة جانبية يتصل بها أنبوب سحب الدخان الى فم المدخن. فعندما يسحب المدخن الهواء الموجود أعلى الماء فإن الضغط سيقل في هذه المنطقة فسيندفع الهواء بفعل فرق الضغط من خلال الجمر والتنباك ليحمل معه الدخان ماراً في الماء ثم ليطفو فوق سطحه محدثاً (بقبقة) ,وبتكرار عملية السحب يمكن حصول المدخن على مرامه.
لم يقتنع ثابت بكل ما قلته من تفسير قائلاً :-
- أستاذ لا أعتقد بوجود ممرين داخل خشبة الناركيلة.
طمأنته على دقة التفسير ومع ذلك إستمرفي إعتراضه غير مقتنع فيما قلته. ثم أردف :-
- أستاذي لقد قضيت سنتين في الصف الثالث بمعية أستاذ الفيزياء فلان لم يستطع إقناعي خلالها بالكيفية التي تعمل فيها الناركيلة وهذه السنة الثالثة ....وقبل أن يكمل حديثه طلبت منه جلب ناركيلته الى الصف لتكون خير عون لنا في دعم موضوع الضغط ولإثبات ما أوردته من تفسير. وافق ثابت على الفور ووعدني بتنفيذ طلبي.
في يوم آخر تلى ذلك إقترب مني ثابت ليستلم ناركيلته ثم أدار ظهره بإتجاه رحلته بعد أن شكرني لمساعدته في حل المعضلة التي كانت تؤرقه وتشغل باله وهي( أنك عندما تمتص ماء الناركيلة يأتيك الدخان بدل الماء؟!!). شكرته على ثقته بنفسه وصراحته ,وشجعته على ممارسة النقاش العلمي وقتما يشاء.
*** عصر يوم ممطر وقبيل بدء الدوام في المدرسة دخل علينا في غرفة الإدارة الطالب فلك كشاش وهو شاعر شعبي جميل و متمكن من قول الشعر إرتجالاً وطلب من السيد المدير منحه إجازة لهذا اليوم قبل إنقطاع سبل الوصول الى منطقة سكناه في الريف. رفض المدير طلبه إذ أن الطالب كان قد إستنفذ كل الأيام المسموح له فيها بالغياب عن الدوام وفشلت كل توسلات فلك من أجل الحصول على إجازة ولا حتى لساعة واحدة. وبنظرة توسل خاطفة خجولة وجهها نحوي وأنا جالس على يسار المدير شعرت معها بما كان عليه من حرج وإضطرار لاسيما وأنه سيواجه مشاكل الطين والظلام إذا لم يسارع للوصول الى بيته, تدخلت لإسعاف الموقف بعد أن لاحظت بوادر موافقة بدت جلية على محيا المدير فطلبت منه مساعدة فلك وبشرط إرتجاله لبيت من الشعرالمسمى ( دارمي ) غير مسموع من قبل.وإلا سأزعل عليه ولا أتوسط له لدى المدير. فأجاب على الفور:-
سهله إستاد ( بالدال وليس الذال) .............. شنهو ال جنيته وياك تزعل عليً......أفديلك ال بالبيت بس أم تقيه.
وأم تقيه هي زوجة مفترضة إذ أن أصدقاءه يكنونه بأبي تقيه محبة وهو مازال أعزباً .
قبيل منحه الإجازة بدأ السيد الحلي (المدير) بتوجيه النصح والإرشاد لفلك حاثاً إياه على مواصلة الدوام عله ينول النجاح يوماً ويحصل على مبتغاه من وظيفة تؤهله لحياة مستقبلية أفضل وهو الطالب المحبوب من الجميع لما يملكه من خلق دمث وسمعة حسنة. فشكره فلك ثم خاطبه ببيت من الدارمي وهو يشير بسبابته بإتجاه صدره قائلاً :-
آنه الظلمت الروح إبلا يه تمييز ...... عود أنجح امن الليل واكعد وره الميز.
( أي إني لم أميز بين الدراستين النهارية والمسائية عندما قررت الإنتقال الى المسائي فظلمت نفسي . فلا أمل لي بالنجاح من المسائي والحصول على وظيفة التي رمز لها بالميز أي المنضدة, فلا فائدة للنصح ) .....وهذا هو الدارمي قصة طويلة تُحكى ببيت شعر واحد فقط.
تحية لطلبتي الذين كانوا يواصلون الليل بالنهار لأمل يناضلون من أجل تحقيقه.... إنها ذكريات لأوقات جمعني فيها الدهر مع أطيب الناس الأوفياء فأسعدوني زمنا ولأيام لا تُنسى.................
#صباح_راهي_العبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟