|
لورنس الآخر
محمد الأزرقي
الحوار المتمدن-العدد: 4811 - 2015 / 5 / 19 - 23:21
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
لورنس الآخر حياة روبرت أيمز وموته اصدر الكاتب كاي بَيردالحائزعلى جائزة پوليتزر عددا من الكتب الهامة، آخرها كتاب يغطي حياة وموت ضابط مخابرات امريكي اسمه روبرت كليتن أيمز. قامت دار نشر كْراون في نيو يورك بطبع الكتاب ونشره في اواخر عام 2014. وهو يتكوّن من مقدمة وثلاثة عشر فصلا. استهواني الكتاب لأنّه يغطي فترة طويلة في متابعة السّياسة الأمريكيّة في العالم العربي، وبالذات موقفها من القضيّة الفلسطينيّة والحرب الأهليّة في لبنان، ودور هذا الضّابط المستعرب في کلّ ما جرى قبل أنْ يخرّ صريعا في الهجوم الإنتحاري الذي وقع ضدّ السّفارة الأمريكيّة في بيروت. وهو امر ملفت للنّظر لأنّه لعب دورا مماثلا لذلك الذي لعبه ضابط المخابرات البريطاني تومس لورنس في مطلع القرن العشرين. ولد تومَس إدوارد لورنس بتاريخ 16 اغسطس من عام 1888 في مقاطعة ويلز في المملكة المتّحدة. كان ابوه موسر الحال، هرب من زوجة صعبة الطباع ليتزوج خادمة الأسرة الإيرلنديّة، التي انجبت منه خمسة اولاد. نشأ الولد تومَس في ويلز واكمل دراسته الجامعيّة في اوكسفرد في قسم الآثار بدرجة شرف. إلتحق في قسم الدّراسات العليا، إلّا أنّه تركه بعد فترة وسافر إلى بيروت عام 1910 ليعمل في حملة للتّنقيب في شمال سوريا. دخل قبل أن يلتحق بالبعثة مدرسة في جبيل ليتعلم العربيّة. إلتحق بالعمل ومكث هناك سنة ثم انتقل إلى مصر ليقضي بعض الوقت عاد بعده إلى سوريا ثانية. وخلال وجوده هناك كان يقوم برحلات عديدة إلى البادية، فأحبّ العرب وثقافتهم وتعلم لغتهم والتزم بعاداتهم خلال فترة اربع سنوات. حين اندلعت الحرب العالميّة الأولى عام 1914، انضمّ لورنس إلى وحدة المخابرات البريطانيّة وامضى وقتا في سيناء وشبه الجزيرة العربيّة. حين قامت الثورة العربيّة في الحجاز ضد الحكم العثماني، اصبح صديقا للأمير فيصل واقنعه أنّ مصالح العرب والبريطانييّن لقتال الأتراك متطابقة. وضع الخطط العسكريّة وقاد المقاتلين العرب في حملاتهم لمهاجمة خط سكك الحجاز لقطع الإمدادات عن الحامية العثمانيّة هناك. ثمّ فتح العقبة وتوغّل في فلسطين دون أيّة مقاومة تذكر. توقف عند كنيسة القيامة ليصلي، ووقف مرافقوه من العرب البواسل عند بابها. وحين استكمل طقوسه واصل تقدّمه باتّجاه بحيرة طبريّة وهضبة الجولان ونزل صوب غوطة دمشق وحاصر حاميتها هناك، ثمّ حرّر المدينة من بقايا الجنود الأتراك. إستمرت حملته العسكريّة 16 شهرا منذ بدء القتال. كان لورنس قد وعد العرب نيابة عن حكومته بالإستقلال التّام في المنطقة، إثر هزيمة الدّولة العثمانيّة . ولذلك فإنّه اصيب بالإحباط عندما جلس البريطانيّون والفرنسيّون ليتقاسموا المنطقة فيما بينهم عندما وضعت الحرب اوزارها. شهد تنصيب فيصل ملكا لسوريا، كما أنّه شهد طرده من هناك أيضا بعد ايام من قبل الفرنسييّن ليصبح ملكا للعراق. غضب واحتجّ لدى حكومته، وعندما لم يسمع ردّا مقنعا، قدّم استقالته من منصبه كعقيد في المخابرات، وتفرّغ بعدها للتّدريس والكتابة عن تجربته وتعاطفه مع قضايا العرب وثقافتهم. كما أنّه ترجم إلياذة هومر. قُتل لورنس بتاريخ 18 مايو من عام 1935 حين صدمت سيارة حمل درّاجته النّاريّة التي كان يقودها وله من العمر 46 عاما فقط. رثاه تشرشل قائلا، "اعتبره واحدا من عظام عصرنا هذا، ولن نرى له مثيلا. سيبقى إسمه خالدا في التّاريخ، سيبقى خالدا في سجلّ المعارك والحروب. وبالتأكيد سيعيش في الأساطير العربيّة." إعتبره العرب فعلا اسطورة أو مفاجأة كشاب مثاليّ خرج من رحم مخابرات دولة استعماريّة لها تاريخ حافل في الإحتلال والنّهب والقسوة على امتداد قارات العالم. لم يرثِ احد روبرت كليتن أيمز ضابط وكالة المخابرات الأمريكيّة بمثل تلك الكلمات البليغة عندما قُتل في تفجير السّفارة الأمريكيّة في بيروت بتاريخ 18 إبريل عام 1983 وله من العمر 49 عاما، لكنّه يوجد تشابه بين الشّخصيّتين، وسنأتي على تفاصيل حياته في عرض هذا الكتاب. وضعت لترجمة الكتاب عنوانا مغايرا وهو "لورنس الآخر" وأنا اعي جيدا أنّ بوب أيمز لم يكن "لورنس العرب" بالمعنى الحرفي للعبارة، لأنّه لم يخطط أو يقد الفلسطينييّن في معاركهم ضد إسرائيل ولم يعدهم بالإستقلال نيابة عن حكومته، لكنّه دفع بقضيّتهم الى المكتب البيضوي في البيت الأبيض. اسمع صوتهم لواضعي السّياسة في هذه البلاد، ولكنْ للأسف لم يستطع إكمال مهمّته. هل كان ذلك بدافع انتصاره لقضيتهم وحبّه لثقافتهم وحضارة العرب اجمع؟ ربّما. لكنّه بالتّأكيد كان مدفوعا بمصلحة امريكا منهجا، والتزاما بالمبادئ السّامية التي قامت عليها بلاده ودستورها وفق رؤية الآباء المؤسّسين، تماما كما سبقه تومَس إدوارد لورنس في ذلك. وهوبرأيي اسطورة أو مفاجأة كشاب مثاليّ وُلد من رحم الوكالة، المعروفة بتاريخها المشين واعمالها التّخريبيّة التي امتدّت على رقعة الكون وعانت منها الشّعوب، في مختلف انحاء العالم وفي عالمنا العربيّ بالذات، ولا تزال الأمرّين حتّى يومنا هذا. ومع اختلاف الفترة الزّمنيّة والظروف السّياسيّة اظهر لورنس وبعده أيمز فهمهما لعادات العرب وتقاليدهم واعجبا بها. شعرا بالإرتياح عندما كانا بينهم ومعهم، وصارحاهم بالحقيقة دون مواراة أو خداع، فنالا ثقتهم وإعجابهم المتبادل. نظرا لتاريخهم بكل الإحترام والتّقدير، وفضّلا أن يستخدما لغتهم عندما كانا يتحدّثان معهم. احبّهما العرب واحسّا بالحزن والمرارة للمصير المؤلم الذي لقيه كلا هذين الرّجلين النّبيلين المثالييّن، لأنّهما فعلا كلّ ما يمكن فعله في حدود الممكن في مواجهة ماكنة سياسيّة رهيبة ومقيتة، تفكّر في مصالحها، وفي مصالحها فقط. شارك لورنس العرب فرحتهم بدخول دمشق المحرّرة بعد 400 عام من الحكم العثماني المقيت وخطط لذلك الفتح وقاده، وراقب أيمز بفرح جنود الإمبراطوريّة وهم يرحلون عن عدن بذلة بعد 132 عاما من الإحتلال الكريه لجنوب اليمن، وشعر بالغضب والعجب في آن واحد أنّ منتسبي السّفارة تصرّفوا وكأن الأمر لا يعنيهم في شيء. كان يريدهم أنّ يحتفلوا مع اليمنييّن في نيل الإستقلال من حكم الإمبراطوريّة العجوز. ألم يفعل اجدادهم ذلك في الأرض الأمريكيّة من قبل؟ ، كتب لزوجته معبّرا عن مشاعره في تلك اللحظات، فرحة لليمنييّن باستقلالهم وخيبة إزاء موقف زملائه في القنصليّة في عدن. وحين كان في بيروت وجاءت الأخبار عن وفاة عبد النّاصر المفاجئة، وقف في شرفة شقته يشاهد جموع الجماهير الغفيرة تخرج إلى الشّوارع تندبه وتبكيه وتطلق الرّصاص في الهواء تكريما له، جلس يكتب له بالعربيّة قصيدة رثاء قصيرة. الفرق الواضح أنّ لورنس شهد في دمشق وحدة العرب وميلاد نهضتهم أو يقظتهم، بينما شهد أيمز عكس ذلك في بيروت. شهد انفجار النّزعات الدّينيّة والعرقيّة والقوميّة، ورأى الدّولة تنهار لتحلّ محلّها القبائل والمناطق والمذاهب. ما بدأ حربا طائفيّة مُقنّعة في لبنان، تحوّل حروبا مذهبيّة فاقعة، ومناطق لها اسماء مُوحية بهوياتها الدّينيّة لا الوطنيّة، ولا القوميّة، ولا الحضاريّة، ولا المستقبليّة. وبعدما كان كلّ شيء منضويا تحت مظلّة الصّراع العربي - الإسرائيلي، اصبح كل شيء سنّيّاًّ وشيعيّا، وبينهما زوال الأثر المسيحي القائم منذ الفي عام، ما بين رباط المغرب وبغداد بني العبّاس. ما يسمونه الرّبيع العربي جاء ليحقق تقسيم المنطقة وفقا لحلم الصّهيوني المعروف برنارد لويس الذي اقترح منذ عام 1979 تقطيع العالم العربي إلى 41 كيانا طائفيا ودينيا وإثنيا ومناطقيا. وكان هنري كِسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة للفترة الممتدة من 1973 لغاية 1977 قبله قد قال بأنّه علينا خلق دويلة وراء كل بئر نفط في العالم العربي، وهو ما يلتقي مع مشروع إيگال ألون، عام 1982 بخصوص تقسيم العالم العربي، وخصوصا بعد غزو لبنان واحتلال العاصمة بيروت. اجدني متفقا مع الرأي القائل إنّ العنف الذي يلفّ المنطقة فيه مزيد من الموت وليس فيه خلاص. مثل البصلة التي كلما كشفت منها طبقة زادت حدّتها ودموعك. إطاحة النّموذج اللبناني فتحت باب الانهيار في الشّرق حيث عُدنا إلى غرائز ما قبل الدّول التي اقامها الانتداب والإستعمار، عرب وكرد وآشوريون وسريان وإيزيديّون ودروز وفرس وتُرك وامازيغ أيضا. تتألّف ليبيا من 1.8 مليون كيلومترا مربعا من النّفط والسّاحل والزّيتون، ولا تتّسع لأهلها. وبلاد ما بين النّهرين تتذابح منذ عشرين قرنا ولم تجد بعد الجواب إنْ كان عمر بن الخطاب قد دفع فعلا فاطمة الزّهراء. وثمّة من ينخر في عِظام مصر لكي تُصبح سيناء هي الوطن البديل، وداعية كويتي يخرج علينا ليطالب شرعا بتدمير آثارها وتماثيلها ومتاحفها ليُلغى التّاريخ والحضارة، كما حدث في ما كان يُسمّى عراق وسوريّا، وسلام من صبا بردى أرقّ ... ودمع لا يُكفكف يا دمشق! إنّي لأكاد اجزم بالقطع أنّ لورنس وأيمز لو كانا على قيد الحياة لشعرا بالمرارة والحزن ولامتلأ قلباهما النبيلان قيحا، وهما يراقبان تحرّك الپترودولارات الفاحشة، وهي تسبّح بحمد الله ولا تستغفره، ثمّ تدفع بقطعانها من المفجّرين والإنتحارييّن والذباحين افواجا افواجا. يرفعون الرّايات السّوداء القبيحة يوزّعون الموت ويرسمون خارطة الدّمار على الأرض ويزرعون الفزع في قلوب الأطفال والشّيوخ والنّساء اللواتي اصبحن سبايا في ارضهنّ وارض اجدادهنّ منذ القدم. خرّبوا البيوت والمعالم وهاجموا بحقد وغيض الحضارة والثقافة والرّقي والمتاحف وكلّ شيء جميل في ذلك المكان الجميل الذي لا يعرفونه ولم يخبروه، توحّش في ثوب القداسة. لا شيء سوى أنّ المكان الجميل يقع إلى الشّمال من مضارب خيامهم ومراتع إبلهم وماعزهم وجحور يرابيعهم. كلّ ذلك ليبقى "طويل العمر" الطاعن في السّنّ العابس دائما، وكلّهم طاعنون عابسون، وكذلك غيره من "طوال العمر" الصّغار المتوزّعين على رمال الخليج، في مأمن من الأفكار الخيّرة النّبيلة والمبادئ السّامية التي تعلمّها العرب من لورنس ولورنس الآخر. عبّر المؤلف في مقدمة كتابه عن امتعاض رجال الوكالة لأنّ احدا منهم لم يكن مدعوّا إلى الحفل الكبير المقام في حديقة البيت الأبيض لمراسيم توقيع اتّفاقيات اوسلو. كانت السّماء صافية الزّرقة في يوم صحو من ايام سبتمبر في العاصمة واشنطن. كان يوم امل للنّاس في الشّرق الأوسط بعد حقب من الحروب المتسلسلة والمذابح والأعمال الإرهابيّة الفضيعة. غير أنّ فرانك أندرسن، مسؤول العمليّات السّرّيّة للوكالة في العالم العربي كان بالغ الإستياء. إنّه يعلم يقينا أنّ شيئا جيّدا غير اعتياديّ على وشك الحدوث. كان في الحادية والخمسين من عمره، الذي قضى نصفه في الشّرق الأوسط. بعد أنْ انضمّ للوكالة عام 1968 تدرّج بسرعة إلى مناصب الخدمات السّرّيّة فيها. تعلم العربيّة في بيروت وتخصّص في موضوع الشّرق الأوسط. في عام 1993 اصبح مدير العمليّات في الشّرق الأدنى وجنوب غرب آسيا. كان في ذلك الصّباح على قناعة أنّ السّلام سيحلّ في المنطقة التي كرّس حياته المهنيّة كاملة من اجلها. كان عليه أنْ يكون بالغ السّرور، إلّا أنّه حافظ على صمته المطبق. كان رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين وياسر عرفات رئيس منظمة التّحرير الفلسطينيّة موجودين في البيت الأبيض يستعدّان للتّوقيع على اتّفاقية سلام بحضور الرّئيس الأمريكي بل كلنتن. لقد دعا الرّئيس الأمريكي 3000 شخصا لحضور تلك اللحظة التّاريخيّة في الحديقة الجنوبيّة للبيت الأبيض. شكّ أندرسن أنّه لم تتمّ دعوة أيّ احد من الوكالة لحضور مراسيم التّوقيع، واعتقد حينها أنّ في ذلك إجحافا لها، وأنّ أحدا ما في البيت الأبيض قد نسي أنّ عمليّة السّلام بدأت كعمليّة مخابرات سريّة. فهو يؤمن أنّ الوكالة من خلال نشاطاتها السّريّة ومصادرها،هي التي خلقت الفرصة لتحقيق اتّفاقيات اوسلو التي كان من المقرّر أنّ يتمّ التّصديق عليها من قبل الطرفين. كان يعرف أنّ العمليّة بدأت منذ عقود ماضية عندما قام ضابط شاب في الوكالة إسمه روبرت كليتن أيمز بأوّل اتّصالات سريّة عالية المستوى بين الولايات المتّحدة والفلسطينييّن. لقد عبّد الطريق لاتفاقيّات السّلام نتيجة تصميمه المهني وعمله في سلك المخابرات. قُتِل أيمز في بيروت بتاريخ 18 إبريل عام 1983 نتيجة تفجير شاحنة في هجوم انتحاري على السّفارة الأمريكيّة. كان موجودا في المكان الخطأ وفي الوقت الخطأ. لقي في ذلك الهجوم الإرهابي 16 امريكيّا حتفهم، بينهم 7 من افراد الوكالة، إضافة الى 64 من المدنييّن اللبنانييّن وإصيب 120 شخصا بجراح مختلفة. كان شعور أندرسن في ذلك اليوم الخاص، هو أنْ يتذكّر ويُذكّر الآخرين بما فعله أيمز من اجل عمليّة السّلام. حين وصل صباح ذلك اليوم إلى مكتبه في منطقة لانگلي حيث مقر الوكالة، عقد اجتماعه الی-;-ومي فی-;- السّاعة 9:00 مع مساعدی-;-ه الکبار. يتذكر چالس إنگهارت وهو ضابط عمليات خدم برفقة أيمز بأنّ أندرسن قال للحضور، "تعلمون إنّه يوم كبير لعمليّة السّلام. كنّا جميعا متفائلين في تلك الأيّام بأنّ الإسرائيلييّن والفلسطينييّن سيثوبون إلى رشدهم." سأل أحد الحاضرين إنْ كان رئيس الوكالة من ضمن المدعوّوين. وبعد التّدقيق في الموضوع إتّضح أنّه لم يكنْ هناك ممثل للوكالة في حفل مراسيم التّوقيع. بعد أن مرّت لحظة من الصّمت المربك، إلتفت أندرسن إلى مساعده بوب بوسارد وقال "حسنا، هيأ لنا حافلة لنذهب لزيارة موتانا." ثمّ اضاف، انّه يجب أنْ يُحضر معه عددا من الضّبّاط الجدد الذين انخرطوا حديثا في قسم العمليّات السّريّة وبعض المحللين ليذهبوا جميعا إلى المقبرة الوطنيّة في آرلنگتن. عند وصول الحافلة إلى المكان المنشود ترجّل الجميع وذهبوا إلى حيث يرقد أيمز. تجمّعوا حول قبره وقال بعضهم شيئا في ذكرى الفقيد الرّاحل. قال أندرسن بعد سنوات، "إنّني فخور أنّ تلك كانت فكرتي. كانت وليدة اللحظة." ثم يمضي لوصف ما حدث. "في السّاعة 10:30 صباحا كانت حافلة للوكالة في انتظارنا عند مدخل البناية. صعدنا إليها، وكنّا حوالي 30 أو 40 شخصا، اكثرهم من الضّبّاط الصّغار الجُدد. لقد اردنا أنْ تكون تلك الزّيارة فرصة لنقل القيم العالية،" حسب قوله. حين وصل الجميع إلى ضريح أيمز الواقع على تلة صغيرة تظللها اشجار البلوط الكبيرة، تطلع أندرسن ومرافقوه صوب نهر پوتومك نحو البيت الأبيض. كانوا يعلمون أنّه في تلك اللحظة وبالذات في الدّقيقة 43 بعد الحادية عشر سيوّقع الجّانبان الإسرائيلي والفلسطيني على إعلان مبادئ حول حكومة مستقلّة للفلسطينييّن في المناطق التي تحتلها إسرائيل في غزّة والضّفة الغربيّة. قال رابين في معرض تعليقه الرّسمي "إنّنا نحن الجنود العائدون من المعارك مخضّبين بالدّماء. نحن الذين حاربناكم، أنتم الفلسطينييّن، نقول لكم اليوم في صوت جلي مرتفع كفانا دماء ودموعا. كفانا!" يتذكّر إنگلهارت وهو أحد الحاضرين فيقول، "وقف الجمی-;-ع دقيقة صمت حدادا على ارواح رجالنا ونسائنا ونحن نصطف على الحشيش حول الضّريح. تذكّرت وقتها أنّني سألت نفسي، لماذا بعد كلّ الذي عملناه، لمْ يعترف الرّئيس كلنتن بجهودنا وتجاهل مساهمتنا. نحن نعرف أنّ ذلك ربما غير مناسب من النّاحية السّياسيّة. ومع ذلك فإنّ غيابنا كان امرا مؤلما." تحدّث أندرسن بإيجاز عن حياة الفقيد المهنيّة وكيف أنّ علاقته السّرّيّة مع رئيس مخابرات منظمة عرفات، علي حسن سلامه قد دفعت بقضية الفلسطينييّن إلى الواجهة. بعد دقائق تحرّك هو ومرافقوه نحو ضريح وليم بكلي مدير محطة الوكالة في بيروت، والذي اختطف في شهر مارس من عام 1984، واسيئت معاملته ومات بعد 15 شهرا من اختطافه، ربّما بسبب مرض ذات الرّئة. ومن ثمّ ذهب الجّميع لزيارة ضريحي جيمس ومونيك لويس، اللذين قتلا في ذات اليوم الذي قتل فيه أيمز، وكلاهما من موّظفي الوكالة. ثمّ انتقل الجميع إلى موقع ضريح كنيث هاس، الذي كان مدير محطة الوكالة في بيروت آنذاك، وقتل مع الآخرين في التّفجير الإنتحاري. واخيرا زار أندرسن ومرافقوه ضريح فرانك جونسن، وهو ضابط آخر لقي حتفه في ذلك التّفجير. دُفن الجميع في مقبرة آرلنگتن، وكانت تلك اكبر خسارة مُنيت بها الوكالة خلال تاريخها. كان أيمز ذكيّا وتمكّن بفضل ذلك أنْ يترقى في منصبه ليصل مرتبة من يرفع التّقارير الصّباحيّة اليوميّة إلى الرّئيس أو وزير الخارجيّة حول تعقيدات الوضع في الشّرق الأوسط وسياساته وتاريخه. كان نموذجا لضابط المخابرات. "يعترف الجّميع بدوره في بدء عمليّة السّلام،" حسب ما يتذكّر لندزي شِرون، المحلل في الوكالة. خصّص المؤلف الفصل الأول من كتابه للحديث عن نشأة أيمز وحياته في مدينة فيلادلفيا مستعينا بذكريات أمّه هلن واخته نانسي وعدد من اصدقائه وجيرانه. وُلد بوب أيمز بتاريخ 6 مارس من عام 1934 في مدينة فيلادلفيا، ونشأ في حارة روكسبورو التي تسكنها غالبيّة كبرى من البيض من الطبقة العاملة في الجزء الجّنوبي الغربي من المدينة، الذي توجد فيها عشر كنائس. امضى بوب كامل طفولته وشبابه في بيت من طابقين رقمه 4624 في شارع پيچن. عمل والده ألبرت كليتن أيمز في مصنع للفولاذ وامضى 32 عاما من حياته في خدمة شركة SKF السّويديّة. وهوعمل مملّ قليل الأجر. أمّا جدّه لأبيه ألبرت بورگارد أيمز فقد عمل شرطيّا في المدينة. امّه هلن فرانسس أموروسا كانت ربّة بيت تمثل الجيل الأول لعائلة مهاجرة من إيطاليا. كانت شديدة الشّغف بالقراءة بين كلّ افراد العائلة، والمسؤولة عن "النظام" داخل البيت. كان بوب هو الطفل الثاني للعائلة، فقد وُلدت اخته پاتريشا قبله بثلاث سنوات واخته الصّغرى نانسي بعده بسنتين. عاشت العائلة حياة اقتصاديّة متواضعة بالإعتماد على مرتّب والده من اسبوع لأسبوع. كان الوالد عضوا في إتحاد عمال الفولاذ الأمريكييّن. كانت الأمّ كاثوليكيّة غير متعصّبة، بدليل أنّها تزوّجت رجلا من اتباع الكنيسة المنهجيّة Methodist . ونظرا لأنّ الأطفال على دين ابيهم، فقد كانوا يذهبون ايّام الأحد إلى كنيسته. ورغم أنّ العائلة تُعتبر عائلة عمّاليّة إلا أنّ كلي الوالدين كانا عضوين مسجّلين في الحزب الجمهوري، حالهما حال جيرانهم الآخرين في الحارة. نشأ الولد شغوفا جدّا بالقراءة وعندما بلغ من العمر 10 سنوات اهداه خاله جون موسوعة الإنسايكلوپيديا البريطانيّة. وبعد عدّة اشهر وعندما كانت العائلة جالسة مساء نزل بوب من غرفته في الطابق الثاني ليخبر الجميع أنّه اكمل قراءة الموسوعة من الغلاف إلى الغلاف." كان بوب مهذبا في سلوكه ولطيفا في معاملة الآخرين. "لم يكن يحبّ المواجهات مهما كان نوعها،" كما تتذكّر اخته نانسي. كان هادئا يميل إلى العزلة وقليل الكلام. إنضمّ كما الأولاد الآخرون في المحلّة إلى فرقة الكشّافة. كان بوب ذكيّا وفطنا لدرجة أنّه عندما كان في الصّف السّادس اقترح احد معلميه أنْ ينتقل إلى مدرسة پن چارتر وهي مدرسة خاصّة افضل بکثی-;-ر من المدرسة الحکوميّة العامّة فی-;- محلته. "ولكن من يملك الأجور ليدفعها كي يذهب بوب إلى پن چارتر،" كما تقول اخته نانسي بأسف وألم. إضافة لولعه في القراءة كان بوب مفتونا بلعب كرة السّلة وقاد فريق المدرسة الثانوية، وهو ما اتاح له الفرصة أنْ يحصل على زمالة للدّراسة في جامعة لاسال. تفوّق في دراسته وتخصّص في علم الإجتماع إضافة إلى دراسة بعض المساقات في علم النّفس والفلسفة، وكانت لديه موهبة لتعلم اللغات فتفوّق في تعلم الفرنسيّة. كما علمّ نفسه بعض الإسپانيّة خلال وجوده صيفا في وايلدوود في بيت جدّيه لأمّه حيث عمل حارس سباحة في ساحل جرزي. كانت لديه فكرة من نوع ما أنّه سيلتحق في مكتب التّحقيقات الفدرالي في الوقت المناسب. علم أنّ المكتب قد عيّن عددا من المحامين، ولذلك فإنّه اخذ بعض المساقات الأوليّة في دراسة القانون وحصل على معدّل 3.06، علما بأنّه كان يمارس لعبة السّلة كلّ يوم. بعد تخرّجه من جامعة لاسال في شهر حزيران من عام 1956، ذهب مباشرة إلى مدينة أورنج في ولاية تكسس ليعمل في شركة كاتكيتن للإنشاءات. وكغيره من الشباب الأمريكييّن في فترة الخمسينات كان يتوقع أن يُساق للخدمة العسكريّة، لكنّه كان بحاجة لكسب بعض المال. دُعي بوب للخدمة العسكريّة بتاريخ 8 نوفمبر من عام 1956. وبعد 13 اسبوعا من التّدريب الأساسي، وشهرين في دورة خاصّة في جورجيا، تمّ تنسيبه إلى شعبة الإتّصالات العسكريّة في الشّرق الأوسط. إنتقل إلى افريقيا في بداية فصل الشّتاء من عام 1957. كان عليه أن يمضي اربعة ايّام في رحلة على ظهر طائرة من نوع دوگلاس سي 47 ليصل إلى موقعه. نقلته الطائرة ذات المحرّكين من برميودا إلى جزر الأوزور حيث تزوّدت بالوقود وتابعت إلى طرابلس عاصمة ليبيا، لتقضي ليلة في القاعدة الأمريكيّة هناك. ثمّ قضت ليلة اخرى في قاعدة الظهران السّعوديّة. اعطته المحطّتان الأخيرتان الفرصة لأوّل مرّة ليشاهد العالم العربي ويسمع النّاس من حوله يتكلمون العربيّة. وفي اليوم الرّابع نقلته طائرة اخرى من نفس النوع إلى مركزه في اريتريا. يقع مركز التّنصّت قرب خط الإستواء على ارتفاع 7300 قدما. وتعتبر تلك المحطة من أهمّ مواقع التّنصّت خلال فترة الحرب الباردة. تضّم القاعدة عدة آلاف من الجنود الأمريكييّن والفنييّن الذين يعملون لحساب القوّات المسلحة ووكالة المخابرات المركزيّة ووكالة الأمن القومي. كانوا يطلقون عليها إسم "جزيرتنا في السّماء" حيث تنتشر اعمدة التقاط الإشارات على مساحة تمتد نحو 2500 هكتارا يُطلق عليها "حقل اللاقطات"، وعملها هو التقاط الإشارات اللاسلكيّة واتّصالات الرّاديو من كافة مناطق افريقيا والشّرق الأوسط. وبسبب موقعها المرتفع كانت القاعدة محطّة نموذجيّة للتّنصت. كانت مهمتها التقاط الإتّصالات الدّبلوماسيّة والعسكريّة لمصر والحكومات العربيّة الأخرى. ومن النّاحية العمليّة فإنّ محطة كاگنيو كانت تعمل لمصلحة وكالة الأمن القومي وهي وكالة متخصّصة بالتّنصّت الإلكتروني. ولذلك فإنّ أيمز وكلّ من يعمل هناك قد اجتاز عمليّة تحقيق امني عن خلفيّته لكي يطلع على الشّفرات السّريّة الهامّة. كان اختيار أيمز للعمل في ميدان جمع الإشارات الأمنيّة بمحظ الصّدفة. غير أنّ هذا الإختيار فتح عينيه على عالم المخابرات الذي يعتمد على استخدام التّكنولوجيا الحديثة. كانت اعمدة كاگنيو تلتقط الإشارات وموجات الرّاديو وتقوم بتسجيلها على اشرطة خاصة، يستمع إليها بعد ذلك متخصّصون ويحللونها ليكشفوا عن أيّة شفرات سريّة بها. يقوم مترجمون للعربيّة والرّوسيّة ومتخصّصون بلغات اخرى بترجمة كافة المواد التي يتمّ التقاطها. كان ذلك يجري بسريّة تامّة. غير أنّ واجبات أيمز شخصيّا كانت من المهام الأدنى. كان واجبه بالإشتراك مع شخص آخر اسمه جون ولسن، وهو شابّ من اوكلاهوما، هو متابعة وتسجيل ادوات الإحتياط التي تحتاجها اجهزة الإستقبال والإرسال. كان بوب شابّا جادّا، بل اكثر جدّيّة من معظم الأفراد في القاعدة. لقد غيّرت قاعدة كاگنيو حياته بسبل كثيرة. إلتقى هناك بقس كاثوليكي اقنعه أن يتحوّل إلى الكاثوليكيّة. تتذكّر أخته نانسي بأنّ امّها اخبرتها ذات يوم أنّ اخاها قد اصبح كاثوليكيّا، وهو امر اصاب الأخت بالعجب. غير أنّ نانسي نفسها واختها پات قد تحوّلتا إلى الكاثوليكيّة أيضا فيما بعد. كان بوب يعرف أنّ امّه هلن قد نشأت على الكاثوليكيّة وأنّ جدّه لأمّه المولود في إيطاليا وجدّته المولودة في ايرلندا كانا من اتباع تلك الكنيسة. ولذلك فإنّ ذلك الإيمان كان يسري في دمه. خلال مرّات ذهابه القليلة إلى اسمره كان يذهب إلى كنيسة القدّيس جوزف، وهي كنيسة بناها الإيطاليّون عام 1922 على طراز البناء في بلادهم. كان على صديقه ولسن أنْ ينتظره لدقائق لكي يكمل مراسيم اعترافه في المحراب المخصّص لذلك، بينما كان زملائه من القاعدة يرتادون الحانات ومواخير الغرف الخلفيّة. إقترح قسّ القاعدة بعد حادثة إضراب في المحطة تنظيم رحلة إلى الأراضي المقدّسة لرفع معنويّات الأفراد. يقول ولسن "حاول بوب إقناعي للمشاركة ولا زلت مدينا له بالفضل الكبير. امضينا بعض الأيّام نتجوّل في مدينة القدس وكنائسها القديمة وازقّتها الملتوية المزدحمة. زرنا كنيسة القيامة وباحة المسجد الأقصى وقبّة الصّخرة وكنيسة المهد في بيت لحم. وفي طريق العودة توقفت الطائرة في القاهرة فذهبنا جميعا إلى اهرامات الجيزة حيث ركبنا أنا وبوب الجمال." لم تتجاوز الرّحلة اكثر من اسبوع لكنّها يبدو أنّها تركت اثرها على الشّاب أيمز. خلال اقتراب مدّة خدمته في القاعدة على نهايتها، اخذ بوب يتعلم العربيّة. كان ذلك اختيارا غريبا "قبل أن نترك افريقيا،" حسب ما يتذكّر ولسن. "بدأ بوب يتعلم العربيّة، ولا ادري إنْ كان احد ما يقوم بمساعدته. لكنني اتذكّره جيّدا وهو يجلس عند الطاولة يدرّب نفسه على كتابة الحروف العربيّة." لقد استمع للعربيّة خلال زيارته للظهران وطرابلس والقدس والقاهرة. وبالتّأكيد أنّه سمع العربيّة في شوارع اسمره، فقد كانت هي والتّگرينيّة هما اللغتين الرّسميتين في اريتريا بين الأعوام 1952 إلى 1956. ربّما كان ذلك حافزا له على تعلم العربيّة، وكان ذلك قرارا مصيريّا بالنّسبة له. طار أيمز عائدا إلى الولايات المتّحدة بعد أنْ امضى 13 شهرا وثلاثة ايام في قاعدة كاگنيو، فقد انتهت مدّة خدمته الإلزاميّة البالغة عامين. لم يفصح عن أيّة رغبة للإستمرار في الخدمة العسكريّة. وهو لم يعد ذلك الولد القادم من حارة عمّالية في فيلادلفيا. لقد زار جزء من العالم، وتركت الحياة التي عاشها هناك اثرها عليه، وربّما زرعت في ذهنه فكرة أنْ يبحث عن عمل في وزارة الخارجيّة. ترك أيمز الخدمة العسكريّة بتاريخ 7 نوفمبر من عام 1958، ونال على ميدالية في حسن السّلوك والتّصرّف. لدى عودته إلى فيلادلفيا، حصل بوب على عمل في شركة آل ستيت للتّأمين حيث التقى بإيفون فأحبّها وأحبّته. لكنّ احلامهما وُوجهت بمشكلتين عويصتين قد يستغرب القارئ من وجودهما في هذه البلاد. المهمّ أنّه تمّت الخطوبة بتاريخ 30 من شهر يوليو. "كان والداه سعيدان للغاية، إلّا أنّ والدي إيفون كانا متردّدين في البداية لأنّ بوب كاثوليكي، والبنت تربت وفق تعاليم كنيسة والديها اللوثريّة. في الحقيقة أنّه عندما تقاعد والدها من البحريّة دخل ابرشيّة الكنيسة المذكورة واصبح كاهنا. إذنْ، كانت عائلة بليكلي عائلة لوثريّة جادّة. ورغم أنّ امريكا قد وصلت الى درجة كبيرة من التّطور الإجتماعي، فإنّ موضوعا من هذا القبيل كان لا يزال مطروحا في ستّينات القرن الماضي. المشكلة الثانية، كانت تتمثل بوجود فارق طبقي شاسع بين الأسرتين. فوالد الشّابة هو روبرت گرام بليكلي المولود في منطقة سان بارندينو في كاليفورنيا ونشأ في اوهايو. ينحدر والداه من اصل ايرلندي وسكوتلاندي. عمل خلال الحرب العالميّة الثانية في البحريّة، في قسم الغوّاصات حيث امضى حياته المهنيّة وترقى إلى رتبة قائد بحريّة عام 1960. كان ذا مركز عال جدّا بالمقارنة بوالد بوب العامل من حارة روكسبورو، حيث لا مراكز ولا مناصب، سوى أنّ الشّاب كان لاعبا في فريق كرة السّلة في الجامعة. غير أنّ بوب كان فتى ساحرا احبّ إيفون حبّا شديدا. لم يستطع بوب حلّ مشكلة التّباين الطبقي اللعينة هذه، لكنّ الحبيبين تزوّجا بتاريخ 30 ابريل من عام 1960 في الكنيسة اللوثريّة "وهو ما ادى إلى استبعاده من الكنيسة الكاثوليكيّة،" كما افادت إيفون. لقد تقبّل الأمر الواقع ساعة كان عليه أنْ يختار بين الكنيسة الكاثوليكيّة أو الفتاة الأولى والوحيدة التي احبها في حياته، فاختارها. اخذ بوب بعد الزّواج امتحان وزارة الخارجيّة وعلم بسرعة أنّه لم ينجح فيه. لكنّه كان مصمّما على العمل في الشّرق الأوسط، فقرّر أنْ يقدّم طلبا للإنضمام إلى وكالة المخابرات المركزيّة. وفي اواخر شهر حزيران سافر هو وإيفون بالقطار إلى نيو يورك حيث جرت مقابلته الأولى. تطرّق المؤلف في الفصل الثاني لوصف التّدريب الذي خضع له بوب عند التحاقه بالوكالة، فقال إنّ المتدرّبين تلقوا اوّلا محاضرات من قبل رؤساء الأقسام، حيث حاول كلّ منهم أنْ يكون اشدّ حماسا ممن سبقه في امتداح فضائل قسمه وخبراته الضّروريّة التي لولاها لما تمكنت الوكالة من اداء واجباتها بشكل فعّال. قوبلت تلك الإدّعاءات بالسّخرية من قبل المتدرّبين، الذين اظهروا الكثير من الإهتمام باربعة أو خمسة من المحاضرين القادمين من مدرسة الوكالة حول الشّيوعيّة العالميّة. كان هؤلاء ممّن يدخنون السّيگار ومثقفين يشربون الخمر، وكلهم يحملون الدّكتوراه في العلوم السّياسيّة والتّاريخ. اخبروا المتدرّبين أنّ من واجبهم أنْ يثقفوا انفسهم حول تعقيدات الحركة الشّيوعيّة. تحدّثوا لهم عن الإختلافات الأيديولوجيّة والشّخصيّات التي تقود الإنقسامات في تلك الحركة. اصيب أيمز ورفاقه بالعجب حين علموا أنّ الشّيوعيّة ليست صورة واحدة. نُقل أيمز ورفاقه بعد ذلك إلى "حقل" ليقضي 22 اسبوعا في التّدريبات العمليّة. قضى القسم الأوّل منه في تدريبات عسكريّة على مختلف انواع الأسلحة وكذلك المتفجّرات. وفي ساحة العرضات، تدرّبوا على استعمال البنادق الرّوسيّة AK 47 ونموذج مبكر من M16 والمسدّسات وغيرها من الأسلحة. كانت التّدريبات تشمل إطلاق النّار من موقف ثابت وآخر من سيّارات متحرّكة في ساعات الليل والنّهار. شمل التّدريب كذلك على القتال باستعمال الزّوارق والإشتباك بالأيدي وبالسّلاح الأبيض. كان عليهم أنْ يجتازوا مناطق مغطاة بالأسلاك الشّائكة وعدد من الحواجز الطبيعيّة ويقوموا بحفر مواضع وتأمينها والدّفاع عنها. عند مغيب الشّمس في احد الأيّام اعطي كلّ من المتدرّبين مصباحا يدويّا وبوصلة وطلب منهم أن يجدوا طريقهم في غابة كثيفة لمسافة تمتدّ عدّة اميال. كانت تدريبات شاقة ومنهكة. كما تلقوا دروسا حول كيفيّة التّعامل مع المتفجّرات وصنعها باستعمال السّمادات الزّراعيّة. قد يبدو هذا التّدريب العسكري فائقا، لكنّ بوب اعتقد أنّه ليس بنافع له في اداء مهامّه في المستقبل. توجّه وزملاؤه صباح احد الأيام إلى "الحفرة" حيث تسلّموا نسخا من كتاب ضخم بعنوان "سيناريو مشاكل حيّة". طُلِب منهم أن يتخيّلوا أنّ كلّا منهم يعمل في مكتب للوكالة في بلد ما. اعطى الكتاب إسما مفترضا لذلك البلد ونبذة تاريخيّة ومعلومات جغرافيّة والعملة المستعملة ومعلومات ثقافيّة وعن الحكومة وكل شيء يمكن أن يواجهه ضابط الوكالة في ذلك البلد. تمّت تسمية اعضاء الحكومة واعضاء الأحزاب المعارضة.، وتمّ تزويد معلومات تفصيليّة شخصيّة عن كلّ هؤلاء. كما تمّت تسمية الضّبّاط الكبار ومسؤولي المخابرات أيضا. طلِب من المتدرّبين أن يحفظوا تلك المعلومات عن ظهر قلب. يقول احد المتدرّبين "إنّ سيناريو المشاكل الحيّة" اصبح حقيقة واضحة بالنّسبة لنا، وأنّ الدّرجة التي يستطيع كلّ منّا أن يغمر نفسه بها ذات علاقة كبيرة بأداءه في المعسكر "الحقل". كما تلقى الضّبّاط الجدد تدريبات ميدانيّة حول اختيارالمخبرين و تجنيدهم والتّعامل معهم. قيل للمتدرّبين إنّ اصعب مهمة في عملهم هي تجنيد المخبرين، وليس الكثير من منتسبي الوكالة يتمتّعون بتلك الموهبة. وسبب ذلك أنّ التّجنيد صعب جدّا، ويحدث احيانا بشكل غير متوقع. فهو يشبه عملية رقص بطيئة وتمرين على عزل ولاءات الأفراد وتحويلها من "قضيّة" إلى قضيّة اخرى. يحدث هذا بشكل نادر حين يستطيع الضّابط المتدرّب جعل القضيّة طبيعيّة وتتطابق مع ما يريد الشخص المستهدف أنْ يخبر من يجنّده بذلك. في بعض الحالات نجد أنّ المخبرين يريدون حقا أنْ يصبحوا مخبرين، واغلبهم يأتون طوعا، بمعنى أنّهم يعرضون خدماتهم على منتسبي الوكالة. وقد تحصل عمليّة التّجنيد عن طريق الإعجاب بثقافة ضابط الوكالة. بمعنى أنّ الضّابط يظهر تعاطفه ويحاول معرفة وجهات نظر الشّخص المستهدف. وقد يدعوه للعشاء، ويمنحه عادة بعض المحفّزات المشجّعة. وهكذا يقود شيء إلى شيء آخر. وفي النّهاية لا بُدّ من الحصول على توقيع الشّخص المُستهدف على اتّفاق مكتوب. وهذه رقصة سايكولوجية. ففي اللحظة التي يُعطي فيها المخبر المُستهدف آراء أو يدلي بمعلومات مقابل بعض المردود المالي أو غيره، تبدأ عندئذ اللعبة. غير أنّ الجانب الآخر من العمليّة، كما يقول احد المتدرّبين مع أيمز وعمل فيما بعد معه "هو ضمير الشّخص وإحساسه بما يفعل. قد يبوح بذلك احيانا وقد يخفيه في حالات اخرى. يحاول اغلب النّاس أنْ يبرّروا أيّ شيء يجعلهم لا يشعرون بالذنب مهما كانت الأدلة موضوعيّة. غير أنّ البعض الآخر قد يشعر بالذنب لأيّ سبب آخر. ويمكن معالجة الحالتين لصالحنا". إجتمع افراد JOT مع "مخبريهم" في لقاءات سريّة خارج حدود "الحقل"، عادة في المطاعم أو الحانات أو الأسواق القريبة من مدينتي وليمزبرگ ورچمند. كان يُخطط لكل لقاء تخطيطا كاملا. يجب أن يكون الضّابط المتدرّب متأكّدا أنّه ليس تحت المراقبة عندما يلتقي بالمخبر. تعلم أيمز كيف يعدّ للقاء في مكان آمن وأنّه والمخبر غير مُراقبَين. تعلم المتدرّبون كيف يتمّ الإتّصال بالمخبرين عن طريق ترك "تعليمات أو معلومات" في شقّ شجرة أو حفرة قريبة منها، أو تحت بلاطة في ارضيّة الغرفة. كما يتعلمون كيف يخططون لاجتماعات سرّيّة في بيوت آمنة. تعلم المتدرّبون أنّ عمليّة التّجنيد تتطلب الكثير من الوثائق المكتوبة عن كلّ مخبر. تتفاوت المكآفئات المالية التي يحصل عليها المخبرون من مئات الدّولارات في الشّهر إلى ستة ارقام في بعض القضايا الهامّة غير الإعتياديّة. ومن الطبيعي أن يُفتح للمخبر حساب في بنك، عادة في الولايات المتّحدة. وفي بعض الحالات يُمنح المُخبرون شهادة تأمين على الحياة. ويُطلب من المخبر أنْ يوقع على أنّ ما يتقاضاه لا يخضع لاستقطاعات ضرائب الدّخل أو الضّمان الإجتماعي طوال فترة عمله. تُحفظ نسخة من ذلك الإشعار في مركز الوكالة في لانگلي تحسّبا لوقوع شيء ما. وعكس ذلك المُخبرون من حاملي الجنسيّة الأمريكيّة أو البطاقة الخضراء، إذ تخضع مكافئآتهم لتلكما الضّريبتين. في فترة متأخّرة يقوم المتدرّبون الذي يلعبون دور المُخبرين مع الضّبّاط المتدرّبين JOT ويقومون بعملية تقييم لكلّ منهم. تعلم أيمز أنّه بعد كل لقاء مع مخبر اجنبي وجب عليه أنْ يكتب "تقريرا" عن كيفيّة ترتيب اللقاء وماذا قيل اثناءه وما هي المعلومات ذات القيمة الإستخباراتيّة التي حصل عليها. إنّ ترتيب تلك اللقاءات وتقييمها تتطلب تخطيطا ودقة كما وكأن الفرد يقوم بعمليّة مختبريّة، وإلا ستكون تلك عمليّة غير علميّة. إنّ اصعب قسم في تلك العلاقات الإنسانيّة هو التّعرّف على الشّخص. لقد تعلم أنّ العلاقة بينه وبين المُخبر يجب أن يسودها الغموض واحيانا الخديعة. وكقاعدة عامّة فإنّ المخبر يعرف فقط الإسم المستعار لضابط الوكالة حين يتّصل به. ومع ذلك فإنّ العلاقة بينهما هي علاقة حقيقيّة. يجب أن يشعر المخبر أنّ الضّابط المسؤول عنه يتعاطف مع ظروفه وقضيته وحياته. يجب أن يكون هناك مستوى من الثقة من الذي يجعل المخبر يعتمد اعتمادا كليّا على ضابط الإتّصال به من حيث سلامته وحسن احواله. حقق أيمز نجاحا كبيرا في تلك التّدريبات وحصل على المرتبة الأولى بين 46 متدرّبا كانوا مسجّلين في مساق العمليات رقم 11 JOTs ونال سمعة طيبة لهدوئه ورباطة جأشه وقدرته الحسّيّة على حلّ المشكلات. ينتقل مؤلف الكتاب في ختام هذا الفصل الى الحديث عن تأسيس الوكالة فيقول إنّه في عام 1947 كان ثلث منتسبيها من العاملين السّابقين في دائرة OSS، التي تمّ حلها بعد الحرب. كان اغلب رجال OSS من الطبقة العليا وخريجي افضل الجامعات من قبيل ييل وهارفرد وكان البعض منهم ذا خبرة في سوق المال في وول ستريت، أو أنّ آبائهم عملوا هناك. كان رئيس الدّائرة المذكورة وليم دونافان، الذي كان محاميا في وول ستريت، وجنّد البعض من زملائه للعمل في تلك الدّائرة خلال الحرب العالميّة الثانية. اقنع دونافان وغيره من رجال السّياسة الخارجيّة لفترة ما بعد الحرب مثل محامي عائلة روكفلر جون مكّلوي، الرّئيس هاري ترومن بتأسيس وكالة مدنيّة للمخابرات المركزيّة. كان في ذهنهم أنّ الوكالة ستعيّن شبابا لهم خلفيّات شبيهة بخلفيّات من كانوا في دائرة OSS. ولذلك فإنّ الجيل الأوّل ضمّ اشخاصا مثل ألن دالاس ووليم بندي وجون بروس وكرمت روزفلت ودزموند فيتزجيرالد وتريس بارنز وفرانك وايزنر ورچرد بيسيل ومايك بيورك. وهم جميعا من الذين وجّهوا انتباههم كليّا أو شبه كليّ نحو ما هو خارج عن ذواتهم، ومن المؤمنين "باللعبة الكبرى" للمخابرات بحماس لا يشوبه الخوف. كان اكثرهم خريجي مدرسة گروتن الإعدادية للمتميّزين الذين واصلوا دراستهم في الجامعات الكبرى من قبيل ييل وهارفرد وپرنستن. ومن التحق منهم في ييل إنضمّ دون شكّ إلى الجمعيّة الماسونيّة التي مركزها هناك. كان رجال الوكالة في الشّرق الأوسط خلال فترة الخمسينات والسّتّينات شخصيّات كبيرة ومتميّزة. ومع أنّه كان مفروضا بهم أنْ يكونوا ضباطا سرييّن، فإنّ العديد منهم قد خلق لنفسه شخصيّة تشبه الشّخصيّات المسرحيّة. فمثلا آرچي روزفلت وابن عمّه كرمِت روزفلت، الذي خطط للإنقلاب على الدّكتور مصدّق وعودة شاه إيران إلى الحكم، وميالز كوپلاند ولبور گرين إيفلاند وجيمس رسل باراك قد امضوا سنوات عدّة يجوبون الأزقة الخلفيّة لبيروت ودمشق وبغداد والقاهرة وطهران، وكانوا معروفين من قبل العاملين في الميدان الصّحافي. وفي احد المرّات ذكر ولتن وين مراسل مجلة تايمز ساخرا أنّ كوپلاند "هو الشّخص الوحيد الذي يستعمل الوكالة كغطاء." في الحقيقة أنّ كوپلاند هذا اعتبر قضيّة المخابرات كلعبة رياضيّة والف كتابا بعنوان لعبة الأمم: اخلاقيّة القوّة السّياسيّة. وحدث نفس الشيء بالنّسبة إلى إيفلاند الذي ذكر هو الآخر عن تاريخه الإستخباراتي والف كتابا بعنوان حبال من الرّمل، تحدّث فيه عن دوره في دفع الجنرالات السّورييّن للقيام بسلسلة من الإنقلابات العسكريّة في مطلع الخمسينات. لم يمتلك أيّ من هؤلاء معرفة عميقة بتاريخ العالم العربي وثقافته وامضوا حياتهم المهنيّة يمدّون ايادي العون للملوك والعسكرييّن المحافظين لإبقاء الوضع على حاله. واكثر من ذلك، فإنّ هؤلاء "المتخصّصين" في الشّرق الأوسط لم يكلفوا انفسهم عناء تعلم اللغة العربيّة، وأنّ القليل الذي إدّعى ذلك مثل ري كلوز واخيه آرثر كلوز ووليم أدي فكانوا ابناء عمل آباؤهم في البعثات التّبشيريّة الأمريكيّة، وأنّهم تعلموا العربيّة وهم اطفال، واقتصر تعلمهم على فترة قصيرة. نُسّب أيمز الذي يعتبر من الجيل التالي وممن يفتقر إلى تلك الخلفيّة، للعمل في قسم الشّرق الأدنى الذي كان يرأسه ضابط اسطوري في الوكالة إسمه جيمس كرچفيلد (1917- 2003) الذي يُعرف أنّه واحد من "بارونات" الوكالة. وصف كرچفيلد عملی-;-ّات الوکالة في المنطقة خلال فترة الخمسينات بأنّها "فترة رعاة البقر." كان مصمّما أنْ يُحدث درجة عالية من المعرفة والتّعقيد على عمليّات الوكالة في المنطقة. وجدير بالذكر أنّ كرچفيلد هذا قد قام بتوفير المساعدة والدّعم للقيام بانقلاب ضدّ الزّعيم العراقي عبد الكريم قاسم وقتله والمجيء بحزب البعث إلى السّلطة. وهو الأمر الذي مهّد لبروز صدّام حسين واستيلائه عليها بعد خمس سنوات. كان غزو خليج الخنازير الفاشل هو النّقطة الفاصلة. فأولويّات المدير الجديد رچرد هلمز اصبحت اولويّات الوكالة، على الأقّل خلال العشرين سنة القادمة. ثمّ عاد رقاص السّاعة يتحرّك نحو المسار الآخر، أيْ "تقليل الإعتماد على العنصر البشري في عمليّة الإستخبارات" والإعتماد بدلا من ذلك على التّكنولوجيا والعمليّات العسكريّة السّرّيّة في فترة رئاسة رونلد ريگن ومدير الوكالة وليم كيسي. على كلّ حال، في الوقت الذي التحق فيه أيمز بقسم الشرق الأدنى عام 1961، كان يُعتقد أنّه "جناح النّخبة" في الوكالة. السّبب في ذلك أنّ تعلم العربيّة ليس سهلا وأنّ القليل من الضّبّاط الذين يستمرون في تعلمها هم من النّوع الذي كرّس حياته لمهنته. وعليه إنكبّ أيمز يدرس اللغة العربيّة لمدة ستة اشهر. في مطلع صيف عام 1962 تمّ تعيينه في الظهران. يمكن القول أنّه موقع صعب، لكنّ أيمز كان بالغ السّعادة. كان عمره وقتئذ 28 عاما، حسب قول المؤلف. يتحدّث المؤلف في الفصل الثالث عن عمل بوب في محطة الظهران التي تعتبر اشدّ عزلة من محطة كاگنيو في اريتريا. لكنّ بوبکان محظوظا من النّاحية المهنيّة إذ كان سيعمل بإمرة ضابط آخر. وهنا كان تحت إشراف رئيس محترف بشكل دائم وتعرّض لكافّة متطلبات المهنة واشكالها فتعلمها جميعا. ولو كان ارسِل إلى محطة كبيرة، لكان عليه أنْ يتخصّص في جانب معيّن، وتكون فرصته لتعلم الإشياء مباشرة اقلّ. يضع مركز الوكالة احيانا عينه على ضابط جديد يتوسّم فيه الذكاء والمثابرة فيبعثه إلى قاعدة صغيرة. وهذا ما حدث فعلا للضّابط الجديد أيمز الذي وصل إلى الظهران وبقي فيها مدة اربع سنوات متتالية. سكن بوب واسرته في البيت رقم 8، وهو بيت صغير فيه ثلاث غرف نوم مبنيّ من الحجر وله شرفة اماميّة زجاجيّة. يقول المؤلف، "كنت حدثا اسكن في البيت المقابل، فقد كان والدي موظفا في الخارجيّة الأمريكيّة وتمّ نقله إلى الظهران بعد سنة من وصول بوب. ولذلك فإنّه وإيفون كانا جارينا لمدّة ثلاث سنوات حيث امضيت سنوات عمري 11 و12 و13 سنة هناك. اتذكّره جيّدا، رجلا وسيما طويل القامة له زوجة جميلة جدّا وطفلة صغيرة، ولم تكن عندي فكرة أنّه ضابط في الوكالة." احبّ بوب الحياة في شبه الجزيرة العربيّة. ففي رحلة له بصحبة نائب القنصل الجديد رالف أومان عبّر أيمز عن افتتانه بحياة القبائل البدويّة. يتذكّر أومان أنّ بوب قد ذكر أنّه اختط لحياته طريقا بين البدو ومعهم، وأنّه قد يبقى في شبه الجزيرة العربيّة لثلاثين عاما حتّى يُحال على التّقاعد. كان يأمل العمل في جدّة والكويت ومسقط واليمن. في إحدى المرّات امضى هو وأومان يومهما يتأملان بقايا الفخار المكسور في موقع اثري اسمه قرّه الذي يعود تاريخه إلى 650 قبل الميلاد إلى 300 بعد الميلاد، قرب خليج دوهات وسلوى ويبعد حوالي 50 ميلا من واحة الهفوف. لم يجدا شيئا جديرا بأن يأخذاه معهما، لكنّ أومان يتذكّر بوضوح المحاضرة المرتجلة التي سمعها منه حول تاريخ المنطقة. اشار إليه بأنهّما يقفان في نفس المكان الذي وقع فيه مؤسس المملكة، إبن سعود، پروتوكول عقير مع البری-;-طانی-;-ی-;-ّن. اوضح له أنّ معاهدة 1922 قد ارست الحدود بين السّعوديّة وجيرانها إلى الشّمال. يتذكّر أومان أنّه ذهِل لمعرفة أيمز الواسعة بالمنطقة. من الواضح أنّ ضابط الوكالة الشّاب قد قرأ الكثير. "لقد احبّه السّعوديّون لأنّه شخص رائع في محادثاته مع الآخرين. كان طويلا وسيما محترما يتكلم بصوت هادئ مع ابتسامة ساحرة وعينين متألقتين تأسران من يتحدّث إليه. كان عريض المنكبين بشكل يجعلانه كأنّه يطوف حول الرّجال السّعودييّن الذين حوله، وليس معروفا عنهم أنّهم قصار القامة. كان دائما يبادرهم الحديث بالقول "يا شيخ فلان ..." كانوا يشعرون أنّه شخص بالغ الرّقة. خلال الأشهر الأولى من وجوده في الظهران، طلب من احد السّعودييّن العاملين في أرامكو أنْ يعلمه كيف يتتبّع اثر الجمال في الصّحراء. دفعته رحلات من هذا القبيل إلى قلب الصّحراء الى تحمّل المشاق، غير أنّه وجد فيها إثراء لمعرفته بحياة البدو. كتب احد زملائه من الوكالة قائلا، "العرب الذين لم يكونوا يعرفونه اظهروا له الإحترام لكبر حجمه. وعندما يعرفونه اكثر فإنّهم احبّوه لطبعه المرح ومعرفته بطرق حياتهم ولطيبة قلبه." خلال شهر رمضان، كان موظفو القنصليّة الثّمانية يدعَون إلى وجبة عشاء كبيرة مساء كلّ يوم خميس في قصر امير المنطقة الشّرقيّة الأمير إبن جلوي، الذي قاتل والده جنبا إلى جنب مع مؤسس المملكة، عبد العزيز بن سعود، في معركة قلعة مسمك في الرّياض. حكم هذا الأمير المنطقة الشّرقيّة بلغة السّيف وكان يُسمّى "جلوي قاطع الرّؤوس". غير أنّه في تلك الأمسيات كان حريصا على تقديم القهوة العربيّة للدّبلوماسييّن الأمريكييّن في ديوانيّته الخاصّة قبل أنْ ينظمّوا لبقيّة الضّيوف. "كنّا ندخل الدّيوانيّة حسب الرّتبة،" كما يتذكر أومان. "وعليه، كنت وأيمز آخر من يدخل، هو قبلي وأنا بعده. كنت دائما احاول أنْ اعدّ نفسي لمصافحة الأمير لأنّه يصافح بقوّة. وعندما يأتي دور أيمز كان الأمير يمسكه بكلتي يديه، ويتحدّث معه بشكل شخصي حديثا يبدو أنّ كليهما كان يستمتع به، خاصّة حين يتحدّثان عن موسم ولادة الجمال وحصاد التّمر في منطقة الإحساء." ينتقل الضّيوف الأمريكيّون بعد أن يشربوا القهوة، إلى خيمة لينظمّوا إلى حوالي مائة شخص آخر ضيوفا لدى الأمير. كان الأمريكيّون يتوزّعون للجلوس حول موائد دائريّة ذات قوائم قصيرة يجلس حول كلّ منها 12 شخصا. يتوسط كلّ مائدة صحن يبلغ قطره 4 اقدام مملوء بكميّة هائلة من الرّزّ المخلوط بالتّمر أو الزّبيب وفوقه خروف أو معزى مشويّة محمّصة. "كان السّعوديّون يتزاحمون على الطاولة التي يجلس عندها أيمز، لأنّه كان يتكلم العربيّة معهم بطلاقة. كان يروي لهم النّكات ويستمتع بأكل الطعام معهم ومثلهم، مستعملا يديه، ويضحك ويمرح ويظهر سروره أنّه معهم مستمتعا بصحبتهم." يتذكّر أومان قائلا،"كان حضوره طاغيا، ولكن بطريقة ودّيّة جدّا. كان نفسه مضيفا رائعا، رحّب بنا دائما إلى بيته. والآن تعود بي الذكرى بعد مرور هذه السّنوات كيف كان يتصرّف وكأنّه بدوي كريم يرحب بالضّيوف إلى خيمته ويعاملهم بطريقة الكرم العربي التّقليديّة بحيث يجعلهم يشعرون بالرّاحة والأمن في خيمته. ولا عجب، فقد كان فائقا في كلّ ما عمله." لم يمض أيمز وقتا كثيرا مع الأمريكييّن، خاصّة اولئك العاملين في شركة أرامكو. كان ضابطا في الوكالة وكانت مهمّته إقامة العلاقات مع السّعودييّن. الإستثناء من تلك القاعدة هي علاقته بأحد العاملين في الشّركة في قسم العلاقات الحكوميّة رونلد أروين متز، الذي عمل سابقا في دائرة OSS والوكالة فيما بعد. كان هو الآخر طويل القامة اجتماعيا ذا ضحكة صادرة من القلب وله خلفيّة مثيرة. قفز بالمظلة خلال الحرب العالميّة خلف خطوط الأعداء في الصّين. بعد أن وضعت الحرب اوزارها، وجد نفسه أنّه يتحدّث اللغة الصّينيّة الماندرين بطلاقة. وحاله كحال منتسبي OSS سارع للإلتحاق بالوكالة التي بعثته إلى بيروت ليتعلم اللغة العربيّة في الجامعة الأمريكيّة. بعد تخرّجه وحصوله على شهادة الماجستير متخصّصا في شؤون الشّرق الأوسط عام 1954، عيّنته شركة أرامكو وبعثته إلى الرّياض ليكون موظف الإرتباط بالملك سعود الأبن الأكبر لمؤسس المملكة، الذي توفي في العام السّابق. فُسح له المجال أن يتّصل بالملك متى شاء. في منتصف الخمسينات اصبح متز احد ندمان الملك في جلساته المسائيّة الخاصّة ومقرّبا ربّما اكثر ممّن يثق به من الأجانب. عندما كان رون يذهب لزيارة الملك كان الأخير يستقبله في ديوانه الخاصّ. يجلب الخدم اقداح الشاي الأسود المحلاة جدّا بالسّكّر، وبعد لحظات يُصرفون ويُنحّى الشّاي جانبا، ويمد الملك ذراعه فيسحب زجاجة ويسكي من درج إحدى الطاولات القريبة منه. إنّ علاقة متز بالملك كانت نافعة جدّا من حيث الحصول على المعلومات السّرّيّة حول ما يجري داخل القصر الملكي والمملكة بشكل عام. ومما لا شكّ فيه أنّ الملك اطلع متز على تعقيدات العلاقات القبليّة، وساعده على تحسين كفاءته في اللغة العربيّة. كانت العلاقة بينهما وديّة ومثمرة. وخلال وجوده مع متز، اصبح بإمكان أيمز أنْ يطلع على تعقيدات سياسة القصر، خاصّة الصّراع القائم بين الملك واخيه لأبيه الأمير فيصل بن عبد العزيز. امضى أيمز الكثير من وقته يجوب في سيّارته الصّحارى. كان يحبّ أن يتوقف عند مخيّمات البدوّ الرّحّل ليتحدّث معهم. اخبر فيما بعد ضابط آخر إسمه هنري ملر جونز أنّه كان يُدعى احيانا إلى مآدب عشاء تشريفيّة في خيام البدو السّوداء، حيث يجلسون على السّجّاد الفارسي يتناولون الخراف المحمّصة على النّار المفتوحة. كانوا يكرمونه كعادتهم في منحه أن يأكل عيني الخروف المحمّص، وهو شيء لم يكن بوب يحبّه لكنّه داوم على فعله تعبيرا عن فهمه للموقف. لم يكنْ اهتمام بوب بشخصيّة البدو مردّه اعجابه بهم وبثقافتهم وعاداتهم ونمط حياتهم فقط، بل هدف أيضا إلى تأمين علاقات معهم والحصول على ثقتهم لكي يطلعوه على المعلومات التي تخصّ نمو حركة القوميّة العربيّة والحركات المتمرّدة الأخرى في المنطقة. "لقد ثقفني عن التّهديد الذي تشعره الحكومة السّعوديّة من الخطر الذي يشكله الشّيعة في منطقة المحافظة الشّرقيّة وعن علاقتهم بإيران. كان يعتقد أنّها قضيّة صغيرة لكنّها بالغة الأهميّة باعتبارها جزء من الصّراع السّنّي – الشّيعي. كان اهتمامه في حينها ينصبّ اكثر على حركة القوميين العرب وتسلل السّوفيت المتنامي الذي يؤثر في فكر الطبقة المثقفة في شبه الجزيرة العربيّة. يخبرنا المؤلف في فصله الرّابع أنّ أيمز شهد مولد جمهورية اليمن الجنوبي الدّيمقراطيّة، وربّما مضغ القات مع عبد الفتاح اسماعيل وغيره من الزّعماء الجُدد. اخبر إسماعيل أيمز أنّه ينوي أنْ يغير كلّ شيء. اظهر الأخير تعاطفه العلني مع جهودهم لبناء وطن جديد عقب الإحتلال البريطاني البغيض رغم اختلافه العقائدي معهم. كتب يقول، "كان اكثرهم بمثل سنّي. يجب أنْ اعترف بأنّني مأخوذ بإخلاصهم ورغبتهم في وضع بلدهم على طريق التّقدّم، ولربّما يكون هذا اكثر من أيّ عامل آخر، قد اعطاني الثّقة بالدّولة الجديدة." ورغم أنّه كان رقيقا يظهر الإحترام، فإنّ أيمز لم يحبّ البريطانييّن، خاصّة سلوك الجنود الهنود في الجيش البريطاني. كانوا يمثلون اسوأ ما في القوّة الكولونياليّة، وبرأيه فإنّهم عديمي الحسّاسيّة اتّجاه عادات العرب وتقاليدهم وتنقصهم المعلومات حول سياسات اليمن وتاريخه. خلال زيارته للسّوق كان يلاحظ رشّاشاتهم وقد نُصبت خلف حواجز الأكياس التّرابيّة عند كلّ تقاطع. كانوا يسيّرون دوريّات في الأزقة. "الجنود البريطانيّون متغطرسون ويضايقون السّكّان العرب باستمرار،" كما كتب في إحدى المرّات. "لا عجب أنّ الجميع هنا يكرههم." راقب أيمز انسحاب القوّات البريطانيّة على ظهر حاملة الطائرات HMS Albion . كان سعيدا أن يراها ترحل عن عدن. اعلِن الإستقلال الرّسمي للبلد بتاريخ 29 نوفمبر، فاندفعت الجماهير نحو الشّوارع تحتفل واقيمت اقواس النّصر المغطاة بسعف النّخيل واعلام جبهة التّحرير الوطني بألوانها الأحمر والأبيض والأسود. كانت شاحنات النقل المفتوحة تحمل الثّوار وهم يلوّحون ببنادقهم ويردّدون شعارات معادية للبريطانييّن. حضر المراسيم حوالي 50 ألف مواطنا ليستمعوا إلى خطاب الرّئيس الجديد قحطان الشّعبي وغيره من قادة الجبهة وهم يلقون الخطب الحماسيّة. كتب أيمز "يبدو أنّ الحكومة الجديدة يساريّة الإتّجاه." ثم اضاف، "وأنّ الرّئيس الجديد مخلص ومثابر على العمل." وقف أيمز السّاعات الطويلة تحت الشّمس الحارقة وهو يدوّن ملاحظاته عن خطب الرّئيس واعضاء الحكومة. ومن المدهش أنّه الوحيد بين منتسبي القنصليّة الذي يعرف اللغة العربيّة، إلى الحدّ الذي مكّنه أن يستمع للخطباء ويدوّن ما يقولون. كتب لإيفون "إنّني خلال الأيّام الثلاثة الماضية كنت اعيش على العربيّة واتنفسها." كان القنصل العام إيگلتن وغيره من اعضاء السّلك الخارجي يعتمدون عليه اعتمادا كليّا. كتب ثانية يشكو، "بعد ستّين يوما من العمل المتواصل اشعر أنّني متعب وقلق قليلا. هناك القليل من الكفاءة والتّنظيم بين منتسبي الخارجيّة هنا. وإنّني لقيت منهم ما فيه الكفاية." كان منزعجا بشكل خاصّ من زملائه الذين يسألونه عمّا قيل في العربيّة ويركضون مسرعين إلى مكتب القنصل العام "لينقلوا إليه اخبارهم،" دون ذكر اسمه. إعتقد أيمز أن ذلك السّلوك "محزن حقا ... وإنني كمواطن امريكي يدفع الضّرائب اشعر أنّ ما يُنفق على هؤلاء من الرّواتب والمخصّصات المالية شيء لا يستحقونه." كما اعتقد أيمز أنّ موظفي القنصليّة ليس عندهم تعاطف ومشاركة مشاعر لما يحدث في عدن. كتب يقول "اعتقد أنّ قضيّة الإستقلال شيء مفرح وأنت ترى حماس الشّعب وانشراحه بعد 138 عاما من التّسلط البريطاني. هذا امر يجب أن ينتقل كالعدوى ... ولكن عندما رجعت إلى القنصليّة شعرت بالإنكفاء هنا." مشاعر الحريّة والإستقلال التي تعمّ الشّارع قد ضاعت بين الإفراد المتذللين الذين يشكلون جهاز القنصليّة. لم يتوان عن نقد العاملين معه في القنصليّة على شعور اللامبالاة الذي اظهروه إزاء تلك التّطوّرات الهامّة، وحمل لهم شعور الإزدراء. يتذكّر هنري ملر جونزقائلا، "نصحني أنْ ابتعد عن تجمّعات الغربييّن والأمريكييّن وحثّني على الإختلاط بالنّاس المحلييّن والعرب الآخرين على امل الحصول على معلومات نافعة أو قيّمة. تلك كانت نصيحة مهنيّة جيّدة. لكنّني اعتقد أنّ بوب يعتبر الحياة الإجتماعية في التّجمّعات الغربيّة لا تتفق مع ذوقه. يعتقد أنّ معاشرتهم مملة يسودها النّفاق وربّما إجتماعيّة اكثر من حدود المعقول." كتب لإيفون يقول، "إنّه شيء جيّد أنّني لا اميل إلى الشّرب، لأنّه يبدو أنّ ذلك هو هواية الآخرين لقتل الوقت." خلال زيارة خاصة برفقة إيگلتن، اظهر تعاطفه مع الأمير الشّاب إبن سلطان عُمان، الذي تخرّج في اكاديميّة ساندهرست العسكريّة البريطانيّة وكان رهين الإقامة الجبريّة في قصر والده. كان على حقّ عندما اعتقد أنّ حكم السّلطان لن يدوم. فبعد ثلاث سنوات، قام قابوس بن سعيد بانقلاب داخل القصر واستولى على السّلطة خلفا لوالده. في الحقيقة أنّه وضع السّلطنة على اعتاب التّحديث، فقد بنى المدارس وعبّد الطرق وغيرها من سبل بناء الدّولة الحديثة. ومع ذلك فإنّه احتفظ لنفسه بالحكم المطلق. لقد جذبت الحياة والعمل في شبه الجزيرة العربيّة أيمزمثلما جذبت الرّحّالة فيليپس، وهي دليل على تأثره برومانسيّة من نوع ما. إلّا أنّها لم تكن رومانسيّة سطحيّة من النّوع الذي انتقده أدورد سعيد ."كان على وعي تماما باللاعقلانيّة والعقم والتّظاهر بالشّجاعة واللغة المنمّقة السّائدة في المنطقة،" كما لاحظ صديقه هنري ملر جونز. إلّا أنّه كان مستعربا ذا فضول حقيقي ومشاعر وديّة اتّجاه الحضارة العربيّة، خاصّة الثّقافة السّائدة في شبه الجزيرة العربيّة. تغيّر الوضع في بيروت عمّا كان عليه في عدن، فهو سعيد بمديره وزملائه. كما أنّ إيفون كانت سعيدة هي الأخرى في شقتها القريبة من منطقة فنار رأس بيروت، والبنات الآن طالبات في مدرسة الجالية الأمريكيّة. كانت بيروت عام 1970-1971 مدينة صاخبة تعجّ بالحياة ويأتي إليها النّاس من كل انحاء العالم. كانت مسرحا لنشاط العديد من وكالات المخابرات الدّوليّة. كتب احد ضباط الوكالة يقول "كانت بيروت في تلك الأيام مدينة رائعة وجوّ العمل فيها ممتاز. كنتُ وكأنّني مشارك في البرنامج التلفزيوني گلبرت وسوليفن. بإمكانك أنْ تفعل ما تشاء، ولا يمكن أنْ تعمل شيئا يقود بك إلى مشكلة من نوع ما. وفوق ذلك، كان فريقنا يضم اشخاصا موهوبين." كانت افضل فرصة مهنيّة لأيمز هي تعرفه على شاب لبناني يُدعى مصطفى زين . قد يكون هذا اكثر اهميّة من تعرّفه على العراقي باسل رائد الكبيسي الذي التقاه في عدن. تمثل هذه الظاهرة في رأيي تحولا بين المثقفين العرب الذين لا يجدون الآن ضيرا في التّحدّث إلى وكلاء المخابرات الأجنبيّة لعرض القضايا العربيّة ما داموا لا يتلقون اجرا، أو يوصمون بالعمالة. بحكم كونه شيعيّا، فقد تعاطف زين مع اللاجئين الفلسطينييّن. فقد كانوا هم أيضا لا يمتلكون ارضا مثل الشّيعة في لبنان، وليس لهم صوت في قضاياهم بين القوى السّياسيّة. تمّ في عام 1964 انتخابه نائبا لرئيس منظمة الطلبة العرب في الولايات المتّحدة وكندا. جعله مركزه في المنظمة المذكورة يتعرّف بشكل طبيعي على المنظمات المماثلة الأخرى مثل الإتّحاد الوطني لطلبة الولايات المتّحدة، الذي رعت وكالة المخابرات المركزيّة برنامجه منذ تأسيسه حتّى الوقت الذي كشفت فيه مجلة رامپارت تلك العلاقة عام 1967. لقد اسّست الوكالة المذكورة منظمة الطلبة الأمريكييّن لتكون طريقها للتّغلغل في اوساط الطلبة الأجانب. "كان زين لاعبا مهمّا في الوسط الطلابي العربي،" حسب ما صرّح به وكيل آخر تعرّف عليه فيما بعد. "قام بتأسيس شبكة من خلال اتّصالاته بالطلبة العرب. كان ذكيّا جدّا ومثقفا للغاية ومؤيّدا للأمريكييّن بحقّ، وله ذوق جميل في الأعمال الفنيّة." عند لقاء أيمز بالشّاب اللبناني، شعر أنّ زين يريد أن يعمل لصالح امريكا لأنّه اعتقد بأنّ من مصلحة شعبه أنْ يوطد علاقات قويّة وصداقة مع الولايات المتّحدة. غير أنّه رفض أنْ يستلم اجورا لقاء جهوده، كما رفض أنْ يوقّع أيّ عقد مع الوكالة لهذا الغرض. كان بوب يدعوه احيانا "المحفّز" وهو اصطلاح صوفي. ولكي يكون محفّزا "يتعيّن على الفرد أنْ يكون في هذا العالم، وفي نفس الوقت ليس جزء منه." وبدون هذا "المحفّز" ما كان للأمريكييّن والفلسطينييّن أنْ يلتقوا معا. يكرّس المؤلف الفصل الخامس من كتابه للحديث عن الفلسطيني علي حسن سلامه وعلاقته بضابط المخابرات الأمريكي بوب أيمز. يقول إنّ شخصيّتيهما كانتا على النّقيض تماما، ومع ذلك فإنّه عندما التقيا بدأت بينهما علاقة صداقة حقيقيّة. ومن النّاحية المهنيّة، اصبح كلّ منهما يمثل الجانب المهمّ في حياة الآخر. وكما اشرنا اعلاه فإنّ من رتّب للقاء الأثنين هو الشّابّ اللبناني مصطفى زين. عارض أيمز فكرة تجنيد سلامه اصلا لأنّه عرف أنّه مناضل وطني همّه دفع القضيّة الفلسطينيّة، وليس اموال الوكالة. انيطت المهمة بضابط آخر إسمه كاسن. ربّما يكون البعض من انصار إسرائيل والصّهيونيّة خلف تلك المحاولة لإيقاع ضربة معنويّة شديدة في نفس عرفات وغيره من اعضاء المقاومة الفلسطينيّة بأنّ احد قيادييهم يعمل وكيلا للمخابرات. المهمّ أنّ كاسن عرض على سلامه مبلغ 300 ألف دولارا شهريّا، فاستمع بهدوء وترك مكان الإجتماع في روما. إلتقى الرّجال الثلاثة في اليوم التّالي لتناول الغداء معا. حين اعتذر سلامه وذهب لقضاء حاجته، إلتفت زين إلى كاسن وقال له، "اخبرني علي بكل شيء. قال لي أنّكم مستعدّون أنْ تدفعوا للمنظمة 35 مليون دولارا سنويّا وستعترفون بها. لقد ارسل رسالة مشفّرة إلى عرفات ينقل إليه العرض، وأنّ رئيس المنظمة ممتنّ جدّا." شعر كاسن بالذهول وغادر المطعم على عجل. ادرك أنّ علي سلامه وصديقه زين كانا "يلعبان" عليه. فاته أنّ عرفات هو من اعطى الموافقة لسلامه بفتح قنوات الإتّصال الخلفيّة مع الإدارة الأمريكيّة عن طريق الوكالة، بعد أن اقنعه سلامه بجدوى تلك الخطة. كما انكر زين هو الآخر انضمامه للوكالة وشرح أنّ سبب تعاونه مع أيمز وغيره ومساهمته في بدأ علاقة الأخير بسلامههو رغبته في بناء علاقات إيجابيّة بين الشّعبين الأمريكي والعربي، لأنّ ذلك يصبّ في مصلحة الطرفين ويخدم القضيّة الفلسطينيّة. تمّت في شهر حزيران من عام 1970 مهاجمة الموكب الملكي في شوارع عمّان، وأنّ الملك نفسه قد ساهم في التّصدي للمهاجمين وردّهم. في اليوم الأوّل من سبتمبر من عام 1970 نجا الملك بأعجوبة من محاولة اغتيال. اخبر رئيس محطة الوكالة جاك أوكونل الملك بصراحة أنّ الوقت قد حان لتقويض نفوذ مليشيات الفلسطينييّن واستعادة السّيطرة على الشّوارع من ايدي الفدائييّن. وصل أوكونل إلى عمّان لأوّل مرّة في عام 1958 عندما بُعث ليحذر الملك أنّ جيشه يخطط للإنقلاب عليه. لعب دورا كبيرا في إفشال ذلك المخطط، فحصل عل شكر الملك وامتنانه. في عام 1963، عاد ثانية إلى عمّان ليكون مدير محطة الوكالة فيها، واصبح بسرعة اقرب من يثق به الملك من الأجانب. كان أوكونل على ثقة "بالملك القصير المقدام" واعتقد أنّ قوّات البدو في جيشه ستقف إلى جانبه لكي يبقى في العرش، بغض النّظر عن رغبات اكثر سكّان البلاد. من ناحية اخرى صدّق أيمزما قاله سلامه عن قدرة المنظمة على منازلة القوّات الهاشميّة. واكثر من ذلك، اعتقد أيمز أنّ الفلسطينييّن سيكسبون المعركة لأنّ المنظمة تحظى بالتّأييد الشّعبي وقوّة الشّارع. "كان بوب ضدّ الحكم الهاشمي بشكل علني، ومتردّدا إزاء إسرائيل،" على حدّ قول ديوي كلارج، الذي شغل فيما بعد منصبا عاليا في عمليّات الوكالة في العالم العربي. كان لأيمز وأوكونل آراء متعارضة تماما طرحاها بشكل شفوي أو من خلال برقيّاتهما إلى مركز الوكالة في لانگلي. إعتقد أوكونل أنّ أيمز "يسحب خطأ تفسيراته وتجربته الشّخصيّة في حرب المدن إعتمادا على ما عاشه في عدن عام 1969." اشار إلى أنّ البريطانييّن كانوا اجانب في عدن، في حين أنّ الجيش الأردني يقاتل على ارضه. إختلف أيمز مع ذلك التّفسير اعتمادا على حقائق تاريخيّة فحواها أنّ الملك حسين والأسرة الهاشميّة وقوات البدو الموالية لها هم اجانب، وموطنهم الأصلي هو الحجاز. ذكّر أيمز زميله أوكونل أنّ المستعمرين البريطانييّن قد فرضوا الحكم الهاشمي على الشّعب الفلسطيني. إنّ الفلسطينييّن هم اصحاب الأرض ويتمتعون بذكاء وشرعية سياسيّتين. ردّ أوكونل ساخرا أنّ تلك نقطة هامّة وهي حصيلة تحليلات أيمز الفكريّة. اضاف أنّ القوّة هي ما سيحسم الموقف. إنّ الملك يمتلك 150 دبابة والكثير من المدافع. يقول گراهام فولر، وهو ضابط آخر في العمليّات السّريّة، "إنّ بوب ذو بصيرة. وكغيره من الضّبّاط ذوي البصيرة على صواب فيما يتعلق بالمنظور البعيد، وعلى خطأ على المدى القريب." تسارعت الأحداث بشكل مفاجئ فتمّ اختطاف الطائرات المدنيّة واحتُجز المئات من المسافرين في داخلها لأيّام. ثمّ جرت المنازلة الدّمويّة المتوقعة بين النّظام الهاشمي والفدائييّن. هُزمت المنظمة بعد أن خسرت العديد من آلاف المقاتلين والمدنييّن القتلى والجرحى في مخيّمات اللآجئين الثلاثة المكتضّة جدّا في عمّان. وفي النّهاية انتقلت ذليلة إلى بيروت. لم يكن بوب مناصرا للقضيّة الفلسطينيّة فقط، لكنّه قد يكون أيضا قد حمل بعض مشاعر الودّ نحو عبد الناصر، كشف عنها في قصيدة رثاء له كتبها يوم موته المفاجئ إثر مفاوضات مضنية بين ممثلي ياسر عرفات والملك حسين. كما يكشف المؤلف أنّه في يوم ما كان هناك نقاش في الدّوائر السّياسيّة الأمريكيّة والإسرائيليّة إنْ كان من مصلحة الجميع أنّ يُسمح للفلسطينييّن الإطاحة بالملك وتسلم الأردن دولة لهم. ومن الطبيعي كان هناك انشقاق في الرأي. اصرّ كِسنجر في حديث له مع المفكّر البريطاني نيگل أشتن بعد سنوات "أنّ أيّة محاولة من جانب الإسرائيلييّن لإضعاف موقف حسين كانت ستخلق لهم ازمة مع واشنطن." في الغالب، أنّه ادرك بحسّه الفطري أنّ متطلبات الحرب الباردة بالنّسبة لأمريكا في الشّرق الأوسط تعني مساندة الأنظمة الموالية المعاديّة للشّيوعيّة وللنّاصريّة. إنّ مساندة الملك افضل سياسيّا من حلّ المشكلة الفلسطينيّة، رغم كونها احد العناصر الرّئيسيّة لخلق المشاكل لأمريكا. إعتقد أيمز أنّ تلك سياسة قصيرة النّظر، وخالفه أوكونل قائلا إنّ أيمز واقع تحت تأثير "الأمير الأحمر". إعتقد البعض أنّ أيمز يجاهر بشكل متحيّز عن تأييده للفلسطينييّن، غير أنّ الحقيقة تشير إلى أنّ اغلبيّة ضبّاط الوكالة الذين امضوا وقتا طويلا في المنطقة يتعاطفون مع الواقع المزري الذي يعيشه اللآجئون الفلسطينيّون. بعد فشل محاولة روما تعكّر الوضع واثيرت التّساؤلات عن علاقة الإثنين ومَنْ جنّد مَنْ. في بيروت حاول أيمز وزين أنْ يعيدا المياه إلى مجاريها، علما بأنّ أيمز قد شعر بخيبة امل كبيرة نتيجة إخفاق روما الذي ترتّب على عدم الإستماع إلى نصائحه. كتب له يقول، " أنت وأنا ربّما حاولنا أنْ نستبق الوقت لتحقيق هذا الإنجاز." كما أنّه كان منزعجا جدّا من "سوء الفهم والأكاذيب،" التي جاء بها كاسن عن سلامه. "منذ قرأت ملفّات هذه القضيّة بإمكاني القول أنّه لسوء الحظ أنّ اكاذيب قد قيلت." كما يبدو أنّه خشي على سلامة صديقه سلامه. يقول زين، "اخبرنا بوب أنْ نلتزم جانب الحذر خاصّة من وصول طرود مفخّخة." إستلم سلامه بعد زيارة روما طردا بريديّا مُرسلا له شخصيّا على عنوان بيته، وكان بالتأكيد محاولة الموساد الأولى لاغتياله. نُقل أيمز إلى واشنطن وكان على علم بأنّ نجم صديقه قد خبا نتيجة علاقته بالوكالة. كتب إلى زين فقال، "أنا على علم بأنّه عانى تلك الإنتكاسة بسبب اتصالاته معي. إنّه رجل سابق لأوانه. لقد بدأنا حقّا شيئا جيّدا. اعتقد أنّ التّاريخ سينصفه ويثبت أنّه لو كان النّاس اكثر تعقلا واكثر امانة مع انفسهم، لكان بالإمكان تجاوز الكثير من المآسي." بعد اسبوعين كتب إلى زين ثانية. كانت لهجة الرّسالة تظهر بوضوح أنّه يريد أنْ يبقي علاقته معه محاولا اقناعه بأنّهما لم يخسرا كلّ شيء. لم تكن رسالة من ضابط في الوكالة يُملي فيها تعليماته على وكيل يعمل معه. كانت رسالة إقناع من صديق لصديقه. "اسعدني جدا أنّني سمعت منك وعرفت أنّك ما زلت وسط دوّامة الأشياء." ثمّ اضاف، "الحياة هنا في واشنطن مملّة بالمقارنة مع الحياة في بيروت، واعني هنا السّياسة والبيروقراطيّة. بصراحة، لكم افتقد نشاطاتنا، ولكم اودّ أنْ تعود الأيّام ثانية." اضاف أيمز يقول لصديقه زين أنّه يشعر أنّه مدين له بالكثير ويودّ مساعدته بكلّ ما يمكنه. "مهما اخترت من مهنة، فإنّي آمل أنْ يستمرّ التواصل فيما بيننا. وإذا كنت بحاجة إلى مساعدة منّي، فأرجو أنْ تخبرني بذلك. أنا لا احبّ أنّ اكون مدينا، وإنّي مدين لك بالكثير." كما يتّضح من نصوص الرّسائل، لم يكنْ زين وكيلا للمخابرات، رغم أنّ أيمز يعرف أنّه هو من يعتمد عليه. اضف إلى ذلك أنّ زين هو قناة التّواصل التي لا يُستغنى عنها مع علي سلامه. "بقدر تعلّق الأمر بصديقنا، ارجو أنْ تُخبره حين تلتقي به أنّنا هنا نحاول أنْ نوازن الأشياء، وأنّنا حققنا بعض النّجاح. لديّ بعض الأخبار التي اودّ منك أنْ توصلها إليه، وهي تتعلق بكيفيّة ردّ اعتباره الذي فقده بسبب علاقته معنا. أنا مدين له أيضا، وبلا شكّ ارغب أنْ اوفي ذلك الدّين." بعد حوالي ثلاثة اسابيع، وبتاريخ 14 سبتمبر من عام 1971 كتب للمرة الثالثة حول امكانيّة ترتيب لقاء مع سلامه. كان متحمّسا لاستئناف محادثاته معه. لكنّه يعرف أنّه لو تسرّبت الأخبار سيؤدي ذلك إلى إلحاق مزيد من الضّرر بسمعة سلامه في المنظمة. كتب يقول، "بالنّسبة لصديقنا، أنا شخصيّا اشعر بأنّ اجتماعا كهذا سيكون نافعا للغاية، لأنّنا نرغب في إزالة سوء الفهم الذي حصل والذي سبّب لكلّ الأطراف، وخاصّة أنت، مشاكل كثيرة. الآن نحن لا نريد تكرار اخطاء الماضي." عانت مكانة سلامه انتكاسة حقيقيّة في المنظمة في ربيع عام 1971 وصيفه. كان له بعض الخصوم وفي مقدّمتهم أبو إياد (صلاح خلف)، الرّجل الثاني. بعد كارثة الحرب الأهليّة في الأردن، وجّه البعض النّقد لسوء المعلومات المخابراتيّة عن نوايا الملك وقدراته. إلّا أنّ سلامه اصبح ظلّا لعرفات. لم يعجب أبو إياد ذلك النّفوذ المتصاعد وسهولة وصوله لرئيس المنظمة. في ربيع 1971 كان يبحث عن أيّ عذر لتوجيه اللوم له، فواتته الفرصة واستغلّ حادث إطلاق نار في اوروپا بتاريخ 6 فبراير من عام 1972 إشترك فيه رجال سلامه من القوّة17 وادّى لمقتل خمسة فلسطينييّن. ذهب أبو إياد إلى عرفات وشكا له أنّ سلامه خرج عن الطّوق، فأعطى عرفات سلامهإجازة لمدّة ثلاثة اشهر لحين استكمال التّحقيق الدّاخلي للمنظمة في ذلك الحادث. استكملت اللجنة تحقيقاتها وتوصّلت إلى تبرئته، لأنّ الرّجال الخمسة الذين تمّت تصفيتهم كانوا فعلا عملاء ومخبرين للموساد. فأعيد إلى قيادة القوّة17 في خريف عام 1971. اصبحت تلك القضية جزء مهما منْ سجلّ حياته المهنيّة، لأنّ أبو إياد، خلال فترة إجازة سلامه قد اسّس حركة داخل المنظمة اطلق عليها إسم ايلول الأسود. ولذلك فإنّ لسلامه العذر بأنّه لم يكن موجودا، وليس ممّن فكّر بتأسيسها أو اخرجها للوجود. في ختام الفصل الخامس يتحدّث المؤلف عن زيارة أيمز للقدس عام 1971، حيث لاحظ أنّ الإسرائيلييّن قد فرضوا على المدينة القديمة بعض المظاهر الحديثة. كانت كافة اسماء الشّوارع مكتوبة باللغة العبريّة، وكانت النّفايات تُجمع كلّ يوم، واصبحت المدينة اكثر انتظاما ممّا كانت عليه. لكنّ صاحبنا الرّومانسي "شعر بالحسرة على ضياع الجوّ الشّرقي الأصيل السّاحر الذي كانت عليه المدينة." كتب لإيفون يقول "احبّ الفوضى العفويّة التي كانت عليها المدينة من قبل، شيء يذكّر بزمن المسيح." كما استنكر أيمز ما تقوم به إسرائيل لتغيير هويّة المدينة ببناء مشاريع سكنيّة لإحاطة القدس الشّرقيّة بالأحياء اليهوديّة الحديثة الطّراز. "استطيع النّظر من شبّاك غرفتي في فندق الجالية الأمريكيّة حيث اقيم فأشاهد العمارات السّكنيّة والشّقق التي يشيّدها الإسرائيليّون على التّلال المحيطة بالقدس. وهذا في رأيي ليس صوابا ... بالتأكيد يريدون أنْ يخلقوا الإنطباع بأنّهم هنا، وأنّهم باقون." من مفارقات القدر أن أيمز الذي ربّما مضغ القات في جلسة أو جلسات مع عبد الفتاح اسماعيل في عدن في اواخر السّتّينات وكان شاهدا ومدافعا، على الأقلّ، عن مقاومة اليمنييّن وتخلّصهم من الإستعمار البريطاني، قد عاد بعد سنوات إلى العاصمة صنعاء ليكون شاهدا على محاولات الإطاحة بأركان ذلك النظام. لكنّ ذلك النظام صمد غير أنّه انتهى بنهاية الإتحاد السّوفياتي. إستهلت ايلول الأسود نشاطاتها باغتيال وصفي التّل ومحاولة اغتيال زيد الرفاعي انتقاما من الأردن. ثمّ قامت بعمليّات استهدفت بعض المسؤولين والمؤسّسات الإسرائيليّة. كان اكثرعمليّاتها وقعا هو عملية ميونخ خلال دورة الألعاب الأولمبية الصّيفيّة التي نقلت لأول مرّة على شاشات التلفزيون. تمّ احتجاز اعضاء الفريق الإسرائيلي في القرية الأولمپية كرهائن، وحصلت مفاوضات واتّفاق مع السّلطات الألمانية على تأمين نقل الفدائييّن والرّهائن بطائرة إلى القاهرة، حيث كان من المؤمل بدء مفاوضات لإطلاق سراح حوالي 200 مقاتلا فلسطينيّا في سجون إسرائيل مقابل إطلاق الرّهائن. يعتمد المؤلف على مصدر إسرائيلي للزّعم بأنّ السّلطات الألمانية اعدّت كمينا في المطار نجم عنه مقتل كافة الإسرائيلييّن وخمسة من الفلسطينييّن من اصل ثمانية واعتقِل الثلاثة الآخرون. واستنادا لما جاء في تقرير أرون كلاين مراسل مجلة تايم في القدس، وكان نفسه ضابط مخابرات في الجيش الإسرائيلي، أنّ العمري هو من اخذ مفاتيح الشّقة وجلب الأسلحة من مكان خزنها. يُعتبر كتابه برأي المؤلف، من اوثق ما كُتب عن العمليّة وما حدث بعدها. يقدّر كلاين أنّ حوالي 100 شخصا ساهموا في العمليّة، اغلبهم من الطلبة الفلسطينييّن واللاجئين الذين يعيشون في اوروپا، ممّن ساعدوا ايلول الأسود لتنفيذعمليّتها ذلك الصّيف. كانت تقديرات من هذا الصّنف إجازة قتل بيد الموساد لتبدأ حملة إغتيالات وتصفية دموية لأناس كان بعضهم بريئا لا علاقة له بالموضوع بتاتا. أمّا أبو أياد فيقول أنّ هدف العمليّة كان تبادل الأسرى، وأنا اصدّق تلك الرّواية، بأنّ وحدة من الكوماندو الإسرائيلييّن هي التي اعدّت الكمين في المطار، فحدث اطلاق الرّصاص وتفجير القنابل الذي ادّى لتلك الكارثة. يقول المؤلف أنّ العمليّة اصبحت عارا لطّخ وجوه كافّة الفلسطينييّن وشرفهم، واصبحوا في اعين العالم إرهابييّن متعطشين لسفك دماء النّاس الأبرياء. كانت ميونخ مسرحيّة فاشلة بكلّ معنى الكلمة، اتت على الفلسطينييّن بشهرة سيئة ونجم عنها مقتل ابرياء كثيرين. واعطت إسرائيل عذرا لكي تقوم بعمليّات ثأريّة. فبعد ثلاثة ايّام من وقوع العمليّة ضربت الطائرات الإسرائيليّة مخيّمات الفلسطينييّن في لبنان فقتلت ما يقرب من 200 شخصا، اغلبهم من المدنييّن غير المسلّحين. كما قتل 45 فلسطينيّا آخرون على يد القوّات البّريّة الإسرائيليّة في جنوب لبنان. بتاريخ 15 سبتمبر 1972 اقرّت گولدا مائير برنامجا للإغتيالات اطلق عليه عمليّة غضب الرّبّ، فكان ذلك رخصة قتل بيد الموساد، واستهدف فلسطينييّن لم تكن لهم علاقة بايلول الأسود ولا عمليّة ميونخ. لقد استعملت إسرائيل اسلوب الإغتيالات في الماضي كسياسة للردّ على العمليّات الإرهابيّة، ولكن خلال السّنة التالية فإنّ 10 اشخاص عرب قيل أنّ لهم علاقة بعمليّة ميونخ تمّت تصفيتهم تدريجيّا في پَريس ونيقوسيا وبيروت واثينا والنّرويج. لقد بدأت ايلول الأسود حربا شخصيّة جدّا. كما شمل ردّ إسرائيل عملية اغتيالات في بيروت اودت بحياة ثلاثة من كبار قادة منظمة التّحرير وهم ممدوح عدوان ومحمود يوسف النّجار وكمال ناصر. في مساء 9 ابريل 1973 نزل 17 من الكوماندو الإسرائيلييّن على السّاحل اللبناني مستخدمين زوارق مطاطيّة سوداء من نوع Mark7 نقلتهم من سفينة حربيّة راسية على بعد ميلين من السّاحل. كانت المجموعة بقيادة عقيد اصبح فيما بعد رئيس وزراء إسرائيل هو إيهود بَراك. سُمّيت العمليّة ربيع الشّباب. نزلت المجموعة عند ساحل احد الفنادق وانتقلت بسيّارات كانت معدّة سلفا مسافة خمسة اميال للوصول إلى قلب بيروت واغتالت اولئك القادة وهم في شققهم في شارع فردون. نجا علي سلامه من اغتيالات تلك الليلة بفعل معلومات بعثها أيمز إلى مصطفى زين لتحذير صديقه من خطط اسرائيليّة لتصفيته، واقترح فيها أن ينقل سلامه عائلته وسكنه في بيروت من شارع فردون إلى مكان آمن آخر. كما تمّ في الأشهر التّالية اغتيال ثلاثة من المسؤولين الفلسطينييّن في پَريس وروما ونيقوسيا. إنقلب الرأي العالمي العام على الفلسطينييّن وقضيتهم، كما اعتقد بعض منتسبي الوكالة ممّن كانت لهم علاقة بسلامه بصحة رواية الموساد. يقول سام وايمن الذي حلّ محل أيمز في علاقته مع سلامه، أنّ الأخير بالتأكيد كان مساهما. ثمّ اضاف، "إنّه مخطط تكتيكي. لقد ذهب إلى ميونخ ودرس القرية الأولمپية. أبو داود كان مخططا ستراتيجيّا. كانت الفكرة فكرته، لكنّ سلامه وضعها موضع التّنفيذ. إنّ بوب أيمز يعلم أنّ علي سلامه له علاقة بما جرى في ميونخ، وأنّ سلامه نفسه يعلم أنّني اعرف بمساهمته في العمليّة. لكنّنا لم نتطرق للموضوع في احاديثنا معا." كما لا يتذكّر انّه أثار الموضوع مع أيمز أيضا. من الطبيعي أنّ أيمز على اطلاع بالمعلومات التي تتناول منظمة التّحرير الفلسطينيّة، وأنّه خشي أنّ سلامه ورفاقه سينقلون "ثورتهم" إلى ابعد من اوروپا وصولا إلى المناطق الأمريكيّة. كتب في ربيع عام 1972 رسالة طويلة وصريحة إلى زين عبّر فيها عن مخاوفه فقال، "أنا على اطلاع تامّ بنشاطات صاحبنا. وبالرّغم من أنّني لا اقبلها جميعا، فإنّي اتعاطف مع مشاعر منظمته بأنّهم يجب أنْ يقوموا بها. بغضّ النّظر عمّا يعتقده فإنّنا لا نهدف إلى القضاء على منظمته. وخلافا لما يعتقد إنّنا لا نقوم بعمليّات مثلما تعمل جماعته. إنّه بسبب سوء تفاهم من هذا القبيل، فإنّي اعطي قيمة كبيرة لكلامي معه. لقد كنّا دائما صريحين مع بعضنا البعض، وأنّ تلك المحادثات قد افادت الطرفين، بالرّغم من أنّها لم تصل إلى المستوى الذي اردناه لها. لا اعتقد أنّه أو أنا بمساعدة منك لم نحاول. العلّة تكمن في رؤسائنا الذين لا يلينون." لم يتخلّ أيمز عن استعادة صداقته مع سلامهإلى سابق عهدها، لكنّه علم جيّدا أنّ المحاولة الفضّة بمنحه شيكا مفتوحا قد عقّدت المحاولات لفتح قنوات الإتصال معه. كان رؤساءه اغبياء، لأنّ محاولات شراء سلامه بدولارات الوكالة قد اغضبت الشّاب الفلسطيني. اضف إلى ذلك أنّ أيمز فهم أيضا أنّ الوكالة بذلك العمل قد عرّضت حياة سلامه للخطر. في الأسبوع الثّاني من شهر مارس 1973، إستطاع أيمز استئناف الإتّصال بسلامه.إلتقيا في بيروت بعد فترة قصيرة من استيلاء خمسة مقاتلين من ايلول الأسود على مبنى السّفارة السّعوديّة في الخرطوم اثناء حفل توديع للملحق الأمريكي جورج كورتس مور. اصيب السّفير الأمريكي كليو نويل بجراح عندما اجتاح الفدائيّون قاعة الإحتفال. اخذوا الجميع رهائن، وطالبوا بإطلاق سراح أبو داود من السّجن الأردني. كان قد وقع منذ فترة في يد المخابرات الأردنيّة وقاموا بتعذيبه بشكل وحشي. طلب ياسر عرفات من الأردنييّن إطلاق سراح رفيقه، لكنّ الطلب رُفض. قام اعضاء الجماعة بتاريخ 2 مارس 1973 باقتياد السّفير نويل والملحق كورتس مور ودبلوماسي بلجيكي إلى قبو السّفارة وقاموا بإعدامهم رميا بالرّصاص. حظي هذا القتل بإدانة عالميّة. لكنّنا لم نسمع بمثل تلك الإدانة عندما عمدت الموساد استهداف عدد من المثقفين والأكاديمييّن فتمّ اغتيال العراقي وائل الكبيسي والجزائري محمد بوضيا ومحمود همشري في پَريس والفلسطيني غسان كنفاني في بيروت ووائل زعيتر في روما و حسين البشير في نيقوسيا. وردّا على تلك الإغتيالات، قتلت ايلول الأسود العقيد يوسف آلون معاون الملحق العسكري الجوّي الإسرائيلي في واشنطن. ذكر ديوي كليرج أنّ اغتيال الكبيسي كان خسارة للوكالة. وممّا لفت انتباهي هو قول گراهام فولر، "اعرف أنّ الكثير من ضبّاط الوكالة قد غضبوا لأّنّ إسرائيل استهدفت بشكل مقصود اغتيال احد مصادرنا، الذي كان يزوّدنا بمعلومات هامّة عن الشّرق الأوسط، غير تلك التي نحصل عليها من قنوات الموساد." ثمّ كشف سرّا قائلا، "لم يكنْ اغلب العاملين في الوكالة لشؤون الشّرق الأوسط ينظرون للموساد نظرة صداقة، أو أنّها تعمل لنفس اهدافنا إطلاقا. كان يُنظر إليها بأنّها منافسة أو غير متعاطفة مع عمل ضبّاط الوكالة وتقاريرهم. والسّبب في ذلك أنّ ضبّاط الوكالة ينظرون للقضيّة الفلسطينيّة نظرة تقوم على الحقائق التي نعرفها، ونعرف أنْ لا احد يستمع إليها في الدّوائر السّياسيّة في واشنطن. وهذا يعود إلى هيمنة مناصري إسرائيل على كافة المعلومات التي تُقدّم لصانعي السّياسة الأمريكيّة." يبدو أنّ أيمز اقنع سلامه بأنّه إذا ارادت المنظمة أنْ تُعامل كدولة فعليها أن تتصرّف كدولة. وذلك يعني التّخلي عن الكفاح المسلح وتحويله إلى كفاح دبلوماسي، القبول بوجود إسرائيل، القبول بقرار الأمم المتحدة رقم 242، القبول بتأسيس "كيان" فلسطيني في الضّفة الغربيّة يعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل، التّفاوض المباشر مع إسرائيل . جمع عرفات المجلس الفلسطيني الذي اقرّ تلك التّغيرات، فتمّت دعوته لإلقاء خطاب امام الجمعية العامة للأمم المتحدة. إعترف أيمز قائلا، "لقد نقلت الكثير عن علي وأنأ متأكّد أنّه فعل نفس الشيء عنّي وقدّمه لمنظمته. ما كتبته كان وديّا وتفصيليّا لأنّني اردت من زملائي هنا أنْ يفهموه ويفهموا دوافعه ومنظمته. إنّ ما كُتب كان قد كُتب في وقت كانت لنا فيه آمال كبار. ولسوء الحظّ لم نرَ تحقيق تلك الآمال، وهكذا افترقنا ونحن نشعر بالمرارة. ولكنْ على أيّة حال، لم اتخلّ تماما عن آمالي، ما زلت محتفظا بها حتّى اليوم." يبدأ الفصل السّابع بنقل أيمز للعمل في مركزالوكالة مصحوبا بمشاعر التّضييق. بعد أنْ ترك دك هلمز إدارة الوكالة في مطلع عام 1973، عيّن الرّئيس نكسن محله جيمس شلزنجر ليقوم "بتطهيرها". قال له نكسن "خلّصنا من هؤلاء المهرّجين. أيّة فائدة تُرجى منهم؟ لديهم 40 ألف مستخدما يقضون الوقت في قراءة الصّحف." شغل شلزنجر المنصب لمدة 17 اسبوعا فقط، وحين تركه، كان قد فصل اكثر من 500 محللا وحوالي 1000 ضابطا من المتمرّسين في العمليّات السّرّيّة. حلّ محله وليم كولبي، وكانت مشاعر الإحباط على اشدّها. يقول المؤلف إنّ هنري كِسنجر، وزير الخارجيّة في السّبعينات، كان يعمل من اجل الإسرائيلييّن، وكان الهدف الحقيقي الذي يقصده هو أن يبعد عن الشرق الأوسط عناصر المستعربين الذين ليسوا على هوى الإسرائيلييّن، ولم يكن هنري ممعنا في التّستّر بالسّرّية، بل كان صهيونيا بغير مداراة. ويؤكد المؤلف أنّ كِسنجر اتخذ قراره باستئصال شأفة هذه العناصر، من الدبلوماسييّن المستعربين المتعاطفين مع العرب، مهما قام هذا التّعاطف أو التّفهّم على اسس موضوعية، باعتبار أن هذا الموقف المتعاطف أو المتفهّم للموقف العربي، إنما يصبّ في غير مصلحة إسرائيل، ومشروع الاستيطان الصّهيوني في التّحليل الأخير!
ويشير كذلك إلى أنّ الرّئيس الأميركي نيكسون وكِسنجر كان من رأيهما "توصيل الأمور إلى حافة المجابهة في عام 1973، إنّما ينطوي على سلسلة من الفرص، التي تتيح إعادة ترتيب اجزاء اللغز المسمّى بالصّراع العربي الإسرائيلي، بما يروق اكثر للولايات المتحدة ويستهويها. وكما يقول احد محللي الشّرق الأوسط، "إنّ كِسنجر كان يكره مجرد فكرة مساعدة الأطراف على الخروج من الورطة"!
في اواخر عام 1976، إثر فشل الرّئيس فورد في انتخابات الرّئاسة، اقنع أيمز مدير وكالة المخابرات المركزيّة جورج بُش أنْ يوجّه دعوة إلى سلامه لزيارة واشنطن. شعرت منظمة التّحرير بفخر عظيم، واعتبرها الفلسطينيّون "دعوة رسميّة". قام چالز وافرلي، مدير محطة الوكالة في بيروت بتقديم الدّعوة شخصيّا. كما وُجّهت دعوة مماثلة إلى مصطفى زين لكنّه رفضها قائلا، "إنّني ارغب في إثبات أنْ لا حاجة إليّ بعد لأمسك بالعلاقة السّرّيّة بين الولايات المتّحدة ومنظمة التّحرير أو احميها، وأنّ علي يعرف تماما الطريق إلى الولايات المتّحدة بدون مساعدة مصطفى زين ولا مرافقته." اظهر هنري كِسنجر وزير خارجية فورد امتعاضه الشّديد واعتراضه على زيارة سلامه، رغم علمه التّام بأنّ الرّجل هو من كان يقود القنوات الخلفيّة للمنظمة مع الوكالة خلال السّنوات السّبع الماضية. غير أنّ بُش إستطاع اقناع الرّئيس المُنتخَب جمي كارتر ووزير خارجيّته المُرتقب سيرس فانس بأنّ زيارة سلامه تصبّ في خدمة المصالح الوطنيّة الأمريكيّة. لاحظ دوان كلارج، "أنّ بُش قد ايّد زيارة سلامه اعترافا منه بدوره في إخراج الأمريكييّن بسلام من بيروت. "وهكذا وافق فانس على السّماح بتلك الزّيارة." تنقّل أيمز خلال الحرب الأهليّة بشكل متكرّر بين شرق بيروت المسيحي وغربها المسلم، وتحدّث إلى اشخاص كثيرين من كلي الجانبين. كتب يقول، "اشعر أنّ المسلمين اكثر ميلا للوصول إلى حلّ من المسيحييّن... إنّ المسيحييّن متعصّبون، بينما المسلمون شديدو القلق، وهذا هو لبّ المشكلة اللبنانيّة. إنّني حقا، لا ارى حلّا للمسألة على المدى البعيد. يريد المسيحيّون قيام دولة خاصّة بهم تحت حماية امريكا وإسرائيل ونحن لا نريد إسرائيل اخرى في المنطقة." تحدّث المؤلف عن اغتيال الزّعيم الدّرزي كمال جنبلاط وكيف استغلت مليشيا الفلانج بقيادة بشير الجميّل الفراغ السّياسي لزيادة تسليح نفسها. تلقى الفلانج اسلحة من إسرائيل، وفي ربيع 1977 ساعدت رجال الجميّل بتأمين الزّوارق لنقلهم إلى جنوب لبنان عن طريق البحر، حيث قاموا بمهاجمة قرى شيعيّة ومواقع منظمة التّحرير الفلسطينيّة. كان هدف إسرائيل خلق منطقة خالية من الفلسطينييّن في جنوب لبنان. كان الجميّل يقوم بالعمل القذر نيابة عن إسرائيل التي كانت تزوّده بالأسلحة والأموال. توصّل أيمز إلى قناعة بأنّه، "حتّى لو قادتنا إسرائيل إلى الحرب العالميّة الثالثة، فإنّ حكومتنا لن تضغط عليها. كما أنّ غالبيّة المسيحييّن يرغبون فعلا بقيام دولة منفصلة ويعتقدون أنّنا سنساعدها كما نساعد إسرائيل." لعل ابشع مشهد في جرائم الحرب الأهليّة في لبنان، وهي كثيرة، هو تصفية توني فرنجيّه وزوجته وطفلته البالغة من العمر ثلاث سنوات فقط. و توني هو إبن رئيس الجمهوريّة الأسبق سليمان فرنجيّه. هاجم 600 مقاتلا مارونيّا من الفلانج بأمر من بشير الجميّل منطقة مليشيا فرنجيّه المسيحي الماروني لأنّه اعترض على تعاون الجميّل المكشوف مع إسرائيل. حاصروا البيت وقتلوا 30 من الحرس ثمّ دخلوه وزرعوا في جسم الطفلة الغضّ 24 إطلاقة امام ناظري والديها، ثم اعدموا امّها واخيرا اجهزوا على توني نفسه. في اليوم التالي اخذ فرنجيّهحفيده البالغ من العمر 11 عاما ليرى بأمّ عينيه جثامين والده ووالدته واخته الصّغيرة وقد مزّقها الرّصاص وغطّتها الدّماء، لكي "يتذكّر الولد واجبه في المستقبل،" حسب قول الجدّ. والواجب المطلوب منه هو الثأر. صُدم أيمز عندما قرأ الخبر في الصّحف وعلق قائلا، "يا إلهي، في لبنان حقد يكفي العالم بأجمعه." اغتيل بشير الجميّل فيما بعد عندما انفجرت المنصّة التي كان يقف عليها وهو يلقي خطابا في جمع من انصاره. ربّما كان نظام الأسد وراء ذلك. لعب الفلسطينييّون دورا رئيسيّا في حماية الأمريكييّن في بيروت خلال الحرب الأهليّة، وكان سلامه هو من استعاد جثماني السّفير والقنصل اللذين اغتيلا من قبل مليشيا لبنانيّة، كما امّن نقلهما إلى الولايات المتّحدة عن طريق دمشق. توّجت تلك العلاقة بلقاء ثلاثي بين عرفات وسلامه وأيمز تمّ فيه تبادل صريح للآراء، دون علم المسؤولين الأمريكييّن في بيروت وواشنطن. عبّر أيمز عن ضيقه لتسلط النّفوذ الصّهيوني على السّياسة الأمريكيّة واصبح على يقين بأنّه لا يستطيع أنْ يعمل شيئا كبيرا يمكن أنْ يغيّر السّياسة الأمريكيّة في المنطقة. "لقد كانت لحظات مملة، فلا تأخذوا الإنطباع أنّني استمتعت بها. لربّما كنت كذلك لو اعتقدت أنّها عنت أيّ شيء. لكنها لم تعنِ أيّ شيء، وهذا امر مثبط. المشكلة أنّنا لا نتعلم." ثمّ عرّج المؤلف على قضية إضطرار الرّئيس كارتر مرغما لقبول استقالة أندرو يانگ، مندوب الولايات المتّحدة للأمم المتّحدة. إلتقى يانگفي شقته في نيويورك بزهدي طرزي رئيس مكتب منظمة التّحرير في الأمم المتحدة. كتب الرّئيس في مذكّراته يقول، "كان قرارا منافيا للعقل أنْ لا تفاوض مع المنظمة، لأنّ المنظمة هي المفتاح لأيّة تسوية سلميّة شاملة." غير أنّ كِسنجر قد تعهّد في مذكّرة اتفاق مع الإسرائلييّن بتاريخ 1 سبتمبر 1975 بذلك. حين اخبر يانگ مندوب إسرائيل بأنّه قابل مندوب منظمة التّحرير لمناقشة قضيّة تخصّ مجلس الأمن، سرّب المندوب الإسرائيلي تلك المعلومات لأجهزة الإعلام، فانقلب الكون واضطرّ يانگ لتقديم استقالته. عرف أيمز أنّه كان يمكن أنْ يلقى نفس المصير. شارك أيمز في ضيقه گرام فولر، وهو ضابط العمليّات السّريّة الذي تعكس حياته حياة زميله أيمز. ذكر فولر "إنّ فقدان البراءة يتمّ على عدّة مراحل. في البداية تشعر بالفخر أنّك تطلع على المعلومات السّرّيّة وتنال الخبرة المباشرة في ميدان عملك. ثمّ يتولد لديك شعور بأنّ كلّ ما تحتاجه هو أنْ تقدّم تلك الحقائق إلى صانعي السّياسة، وأنّ الأمور ستتغيّر. تعتقد أنّ بإمكانك أنْ تحدث تغييرا. ولكن تدريجيّا تدرك بأنّ صانعي السّياسة، لا يعيرون تقاريرك وحقائقك وآرائك أيّ اعتبار. ثمّ تتجلى لك الأمور بأنّ السّياسة الخارجيّة ليست مرهونة أو مدفوعة بالحقائق." في وقت ما، اخبر سلامه صديقه أيمز بأنّه يرغب في اصطحاب عشيقته جورجينا رزق إلى الولايات المتّحدة لأنّها تحبّ زيارة دزني لاند في كاليفورنيا، وأنّهما يخططان لإجازة في هوائي. قال إنّه بحاجة لأخذ إجازة استراحة، وسأل أيمز إنْ كان يستطيع مساعدته لتحقيق ذلك، وكان الرّدّ إيجابيّا. وضمن الخطّة، فإنّ سلامه وجورجينا حضرا تحت رعاية الوكالة، وكانت زيارة سرّيّة. اعدّ أيمز كافة المستمسكات من الوثائق وتأشيرات الدّخول بأسماء مستعارة. وتحمّلت الوكالة نفقات السّفر والإقامه داخل الولايات المتّحدة. يؤكّد المؤلف أنّ القول بأنّ بوب أيمز كان متعاطفا مع القضيّة الفلسطينيّة تصريح مقصود به أن يصوّر الفكرة على نحو اضعف أو اقلّ مما تقتضيه الحقيقة. لقد تعاطف معهم بشكل عميق، وكان معجبا بسلامه لدرجة يصعب توضيحها، وهو الذي عرف أنّه قد ارتكب اعمالا فضيعة. كتب لإيفون يقول، "من الصّعب الإعتقاد بأنّ صديقنا هو حقيقة ما يُظهره. لكنّ ذلك مبعثه الإحباط. لو حصل الفلسطينيّون على وطن لهم، لكان ذلك في صالح العالم اجمع. عندما انظر إلى ما تُسمّى شعوبا ودولا في افريقيا، مثل يوغندا وعيدي أمين، فلا اعتقد أنّ ذلك عدالة. وهنا شعب مثقف جدّا محروم من الوطن، في حين يأكل الأوغنديّون بعضهم البعض. ومع ذلك لهم صوت ممثل في الأمم المتّحدة! هناك شيء خطأ في مكان ما." ليس من الغريب أنّ القتال تصاعد في ذلك الرّبيع. وطبعا، كلما شنّ الفلسطينيّون هجوما عبر الحدود، ردّ الإسرائيليّون بهجمات جوّيّة تسببت في إيقاع خسائر بشريّة باهضة في صفوف الشّيعة والفلسطينييّن. كتب السّفير پاركر في مذكّراته فيما بعد، "عندما حدث ذلك، وجد الشّيعة المرعوبون انفسهم في الوسط، فبدأوا بالفرار والهجرة شمالا نحو بيروت، ووجدوا ملجأ في مخيّمات الفلسطينييّن. ادّت تلك الهجرة إلى تفاقم حدّة الأوضاع الإقتصاديّة والإجتماعيّة والأمنيّة، ومهّد الطريق لسيطرة الشّيعة على غرب بيروت." افرزت هذه الظاهرة خلال السّنوات القادمة قوّة سياسيّة جديدة إسمها حزب الله. إختتم المؤلف فصله السّابع بالحديث عن تصفية الإمام الشّيعي اللبناني موسى الصّدروإثنين من مرافقيه ودفنهم في مكان مجهول بعد استدراجهم إلى ليبيا. تلقى القذافي مكالمة هاتفيّة من بهشتي بأنّ الصّدر عميل للغرب ويشكل خطرا على حياة الخميني، الذي كان قد عاد منتصرا إلى إيران لتأسيس الدّولة الإسلاميّة والقضاء على النظام الپهلوي. ارادت الموساد أن تعرف إنْ كان سلامهخارج الحدود، وبالتالي هل يمكن اغتياله؟ أم هو يعمل لصالح الأمريكييّن؟ ذكر كلير جورج، "أنّ الإسرائيلييّن يعرفون جيّدا أنّ سلامه مصدر لمعلوماتنا. وهو مصدر حيويّ وضروريّ. ولكن إذا قلنا لهم إنّه عميل مدفوع الأجر، فإنّهم سيطلبون حينئذ أن نطلعهم على المعلومات التي نحصل عليها منه. وطبعا لا يمكننا فعل ذلك. كان موقفا عصيبا." لاحظوا أنّ الوكالة ملزمة بإطلاع إسرائيل على معلوماتها السّرّيّة. هل يمكن أن يحدث هذا في أيّ بلد في العالم؟ جرى داخل الوكالة نقاش حادّ، وفي النّهاية تقرّر عدم الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها الإسرائيليّون. إعتقد المسؤولون أنّ ذلك هو افضل من الإجابة بنعم أو لا. وفي رأي العديد من ضبّاط الوكالة، أنّ تلك كانت غلطة فضيعة. ذكر چالس وافرلي، "أنّ عدم إعطاء جواب، هو جواب بحدّ ذاته. بمعنى أنّه ليس عميلا لنا، ولكن لنا معه علاقة هامّة." إنّ معالجة الوكالة للموضوع بهذه الطريقة كان متوقعا لها أن تكونْ على تلك الشّاكلة. ذكر بروس ردِل، المحلل ذو المرکز العالي، "نحن لا نجيب عن اسئلة من هذا القبيل، وهو موقف معروف للوكالة إزاء كلّ سؤال صعب. لقد اعتقدوا أنّ إجابتهم عن السؤال سيجعل القضية اسوأ. لربّما كانوا يأملون أنّ تجاهل المشكلة سيؤدّي إلى نسيانها أو اختفائها. لكنّني تعاملت مع الإسرائيلييّن، واعرف أنّهم يعتبرون سلامه تهديدا ذا وجهين. اولّهما أنّه إرهابي، وثانيهما أنّه على علاقة سرّيّة بالأمريكييّن. إعتقدوا أنّ تلك العلاقة هي التي ستجلب عرفات لزيارة البيت الأبيض. ولذلك فإنّهم ارادوا أن يقضوا عليه لذلك السّبب وحده." غير أنّ ديوي كلارج، الذي كان انتقد أيمز لعدم تجنيد سلامه بشكل رسمي، اعتقد أنّ الوكالة قد ارتكبت خطأ فادحا. قال، "أنا متأكّد أنّه كان هناك نقاش، ومن الواضح أنّهم قرّروا أن يتصرّفوا بشكل غير مشرّف. وتلك حماقة. كان يجب أنْ يحموه من الإسرائيلييّن." كان أيمز على علم بأسئلة الإسرائيلييّن وموقف الوكالة بعدم الرّدّ عليها. وعليه فإنّه عرف بأنّ حياة سلامه في خطر، وهو حذره بشكل واضح دون التباس. ووفقا لما ذكره فرانك أندرسن، مدير محطة بيروت، أنّ أيمز كان قد حثّ ألن وولف أنْ يبعث للإسرائيلييّن بإشارة واضحة بعدم المسّ بسلامه. ويُقال أنّ وولف رفض أنْ يفعل ذلك. يذكر سام وايمن، ضابط الوكالة في بيروت، بأنّه "كان هناك حديث متداول لشحن سيّارة محصّنة ضدّ المتفجّرات لكي يستعملها سلامه في تنقلاته، غير أنّنا اكتفينا بدلا من ذلك بتزويده ببعض الإجهزة لسرعة الإتّصال بنا واقترحنا عليه أنْ يزيد من مستوى حمايته. حذرته بالحرف الواحد بأنّهم سيغتالونه إذا استمر يقطع شوارع بيروت في ذلك الموكب، وأنّ القضيّة قضيّة وقت لا غير." في اجواء اتّفاقيّات كامپ ديفد في شهر سبتمبر 1978، كان لا يزال هناك المزيد من القضايا التي تتطلب الحلول بين الجانبين. وفي الوقت الذي عبّدت فيه تلك الإتّفاقيّات الطّريق لمعاهدة سلام بين مصر وإسرائيل، فإنّها اشارت إلى وضع خطة لمنح الفلسطينييّن "حكما ذاتيّا" في المناطق المحتلة في الضّفة الغربيّة وغزّة. اقنع أيمز مسؤولي إدارة كارتر أنّه من المفيد دعوة سلامه إلى واشنطن لمقابلة المسؤولين الأمريكييّن. كان مفترضا أن تجري تلك المباحثات مع رئيس مخابرات منظمة التّحرير بسريّة تامّة، فواشنطن لم تكن مستعدّة بعد للتّفاوض علنا مع المنظمة. ومن جانبه كان سلامه شديد الإنتقاد لاتّفاقيّات كامپ ديفد. فبرأيّه، لم يكن هدف المنظمة مجرّد "الحكم الذاتي" لأنهّا تسعى إلى "السّيادة التّامّة" أيضا. غير أنّ أيمز كان ينوي تليين موقف سلامه ليقبل بتلك الإتّفاقيّات، كخطوة مرحليّة فقط. وهذا ما يفتح الباب امام المنظمة لتحقيق اهدافها الأخرى بالطّرق السّلميّة. وإذا صحّ القول بأنّ إسرائيل سمعت إشاعات عن تلك القمّة السّريّة في واشنطن، فإنّ ذلك بالتّاكيد جعلها تسارع لتنفيذ خططها لتصفية سلامه. عصر يوم 22 يناير 1979، وقفت البريطانيّة أريكا ماري چمبرز في شرفة شقتها في الطابق الثامن في مبنى يقع على الشّارع الذي يسلكه موكب سلامه يوميّا. راقبت عميلة الموساد قدوم الموكب وانتظرت لحظة تجانب سيّارته مع سيّارة فولكس واگن زرقاء كانت مرصوفة إلى جانب الشّارع، ثم ضغطت بهدوء على زرّ، فدوى عاليا صوت الإنفجارات المتتالية من تلك السّيارة. فتح سلامه باب سيّارته ووقف لحظة ثمّ تهاوى على ارضيّة الشّارع. نقلوه إلى مستشفى الجامعة الأمريكيّة حيث حاول عدد من الجراحين إزالة شظيّة كانت قد شقّت وجهه واحدثت فيه جرحا عميقا ثمّ استقرّت في دماغه. توقف قلبه عن النّبض وهو على طاولة العمليّات في الساعة 4:03 تماما من عصر ذاك اليوم. قُتِل في ذلك الإنفجار المريع ثمانية اشخاص آخرين بينهم مرافقين له وسائقه وامرأة بريطانيّة وراهبة المانية وثلاثة لبنانيين. كما اصيب 16شخصا آخرين ممن كانوا يتواجدون قرب موقع الإنفجار بإصابات مختلفة. خلال مراسيم جنازة سلامه، تقدّم عرفات نحو زين وقال له بألم مرير، "لم يستطع اصحابك حماية ولدي. لقد اعطيتهم كلّ ما يعزّ عليّ. اعطيتهم ذراعي اليمنى. كيف حدث هذا؟" اثير نفس السؤال في مركز الوكالة. إعتقد العديد من ضبّاط العمليّات السّرّيّة في لانگلي أنّ اغتيال سلامه كان خطأ فضيعا. قال لندزي شِرون، "إنّي اعجب لماذا لم يحاول كلير جورج والآخرون ما بوسعهم للمحافظة على حياة سلامه." قال آخرون إنّها مأساة، وذكر سام وايمن، "لو كان سلامه بقي حيّا لاتّخذت الأمور مسارا مختلفا. لم يكن ممكنا تجنيده، ولو جرت الأمور بشكل صحيح لأصبح وسيطا سياسيّا ذا تأثير قويّ فعّال. إنّ ما حدث ضربة لنفوذنا وضربة لكلّ طموحات السّلام." وفي بيروت إتّفق مدير محطة الوكالة أندرسن مع ما ذهب إليه وايمن، حين قال "لقد فقدنا قناة دبلوماسيّة بالغة الأهميّة. لقد فقدنا القدرة على دفع عمليّة السّلام." إعتقد العديد من منتسبي الوكالة أنّ سلامه كان يجب أن يحظى بالحماية. ومهما كان حجم المخاطرة السّياسيّة، ظنّ البعض أنّه كان يجب إخبار الإسرائيلييّن بعدم المساس به. وذهب چارلي ألن إلى القول، "إنّ اغتيال سلامه قد اضرّ بالمصالح الوطنيّة الإسرائيليّة. حين قتلت الموساد علي سلامه كانت كمن يقطع انفه لكي يغيض وجهه." شخصيّا، لا اعتقد أنّه حتى لو ادّعت الوكالة أنّ سلامه عميل مأجور لها، فإنّ الموساد كانت ستتوقف عن ملاحقته. لقد فتح كوّة فلسطينيّة صغيرة على حديقة السّياسة الأمريكيّة الواسعة، وكانت إسرائيل تصرّ على إغلاقها بسرعة وبأيّ ثمن. ثمّ أنّ الإسرائيلييّن لا يتردّدون في الإقدام على قتل أيّ احد، بما فيه الأمريكييّن، نتيجة خوفهم وشكّهم اللامحدود. والدّليل على ذلك ما حصل للسّفينة الأمريكيّة ليبرتي خلال حرب حزيران عام 1967 حين هاجمتها الطائرات الإسرائيليّة والبحرية التي اطلقت صوبها قذائف التورپيدو في محاولة لإغراقها، فقتل 38 من بحّارة السّفينة وجُرح عدد آخر، وهي في المياه الدّوليّة. كان هدفهم أن يلقوا باللائمة على مصر كي تضربها امريكا بسلاح نووي. غير أنّ السّفينة بعثت رسائل غوث وقالت إنّها تتعرض للقصف من قبل الطائرات والسّفن الإسرائيليّة. إستلمت سفن الأسطول الأمريكي في البحر الأبيض المتوسط رسائل طلب الإغائة، إلا أنّها لم تصل إلى موقع السّفينة المنكوبة حتى ضحى اليوم التّالي. اجلى الأمريكيّون قتلاهم وجرحاهم وسحبوا سفينتهم إلى إحدى قواعد بريطانيا البحريّة في مالطا. لم تعتذر إسرائيل أو تعترف بجريمتها، واعتبر الهجوم خطأ لا يتحمل احد المسؤوليّة عنه. فهل يمكن أن يكون خوفهم أو ربّما غضبهم من الوكالة وشكّهم أنّ سلامه يعمل لدفع القضيّة الفلسطينيّة إلى واجهة السّياسة الأمريكيّة هو ما دفعهم لتصفيته؟ بالتّأكيد. كرّس المؤلف الفصل التّاسع للحديث عن سقوط نظام الشّاه وتولي الخميني وانصاره مقاليد الحكم في إيران. كان معظم الإيرانييّن شديدي الشّكّ بالنّوايا الأمريكيّة. فهم يعرفون جيّدا أنّ وكالة المخابرات المركزيّة هي التي خططت للإنقلاب الذي اعاد الشّاه إلى الحكم عام 1953. وكما يعلمون جيّدا أنّها عملت بشكل وثيق مع شرطة الشّاه الأمنيّة السّافاك التي زرعت الرّعب في قلوب المواطنين. وافترض غالبيّة الإيرانييّن أنّ الأمريكييّن سيعملون كلّ ما في وسعهم للقيام بثورة مضادّة في بلدهم. في ربيع عام 1979 وبعد قيام الثورة مباشرة سحبت إدارة كارتر سفيرها وليم سوليفَن من طهران لأنّه كان مقرّبا جدّا من الشّاه. واقتصر التمثيل الدّبلوماسي على وجود قائم بأعمال في السّفارة هناك. وخلال الأشهر التّالية تقلص حجم العاملين فيها من عدّة مئات إلى اقل من 80 شخصا. لم يكن لضبّاط الوكالة هناك أيّة خبرة في شؤون إيران، ولا احد منهم تكلم الفارسيّة، وهذا امر لا يُصدّق. ومن المثير للسّخرية أنّه كان للموساد معلومات افضل، لأنّها كانت تقوم بتدريب السّافاك وأنّ بعض هؤلاء قد خلع بزّته الرّسميّة واطلق لحيته وانظمّ للحرس الثّوري. حاولت وزارة الخارجيّة الأمريكيّة والوكالة خلال صيف ذلك العام فتح قنوات اتّصال خلفيّة مع النّظام الجديد. عيّن رئيس الوزراء بزرگان مساعده الخاصّ عباس أمير إنتظام ليكون حلقة اتّصال بالسّفارة الأمريكيّة. كان يبغي علاقات افضل مع الأمريكييّن، وعليه وبناء على تخويل بزرگان الرّسمي بدأ إنتظام يجتمع بشكل منتظم مع مسؤولي السّفارة الأمريكيّة. وهو مهندس ورجل اعمال درس في الولايات المتّحدة وعمل فيها. عندما كان شابّا، قام مرّة بتسليم رسالة احتجاج للسّفارة خلال فترة انقلاب عام 1953. بحلول عام 1978، اصبح من اشدّ مؤيّدي الخُميني باعتباره قائدا للثورة. وبمحض الصّدفة، فإنّ إنتظام كان قد قابل جورج كيف، الذي كان ضابطا للوكالة في طهران في اواخر خمسينات القرن الماضي. لكنّ كيفقد عرفه واستطلع آرائه حول النّظام الپهلوي، كما اكّد ذلك بنفسه. وبدون علم إنتظام، اعطته الوكالة إسما سرّيّا هو SDPLOD/1. في ربيع 1979، دفعت تلك العلاقة القديمة الرّجلين كي يعملا معا. حدث أنْ تقابلا في ستوكهولم يومي 5 و 6 من شهر اغسطس. تذكّر إنتظام علاقته القديمة بضابط الوكالة منذ سنوات سابقة. شرح كيف له أنّ واشنطن ترغب أنْ تعيد علاقات صداقة وعمل مع طهران. ولتحقيق ذلك، إقترح عقد لقاءات مع الإيرانييّن لإطلاعهم على المعلومات المخابراتيّة التي تهمّ النّظام الثوري. وافق إنتظام على المقترح وتقرر أن يجري الإجتماع الأوّل في اواخر شهر اغسطس في طهران. اختير أيمز ليقدمّ تقريره في اللقاء الأوّل، وكانت تعليماته أن يشجّع الإيرانييّن على جعل تلك اللقاءات دوريّة منتظمة. نجح في ذلك، لأنّ الإجتماع الذي كان مُقررا له أن يكون لساعة استمرّ ساعتين كاملتين. لم يكشف في هذا اللقاء عن معلومات مخابراتيّة حسّاسة، بل اعطاهم ملخّصا لوجهة نظر واشنطن حول التّطورات العامّة في الشّرق الأوسط. كان إنتظام قد طلب في وقت مسبق معلومات عن المخاطر الخارجيّة التي تحيق بالنّظام الجديد وتهدّده. لكنّ أيمز تحدّث عن التّطورات في العراق وافغانستان والإتّحاد السّوفياتي. ذكر بروس رِدل، المحلل الذي عمل مع أيمز في واشنطن، أنّه حاول أنْ يزيل شكوك الإيرانييّن القائمة منذ وقت طويل. "في الأساس، كان بوب يعمل على إقناع الإيرانييّن بأنّ الشّيطان الكبير في الحقيقة متمثل بجاريهما في المنطقة، وهما العراق والإتّحاد السّوفياتّي." وفي نهاية لقاء السّاعتين قال إنتظام، "نأمل أنْ تحسّن مؤسستكم علاقاتها معنا بنفس الطريقة التي تتحسّن فيها العلاقات بين بلدينا من خلال جهود القائم بأعمال السّفارة لينگن والدكتور يازدي." قال ذلك وهو يجلس جنب رئيس الوزراء بزرگان. لم "يكشف" أيمز عن علاقته بالوكالة. غير أنّ الجميع كان يعرف أنّه قادم منها. اختُتِم الإجتماع بقول بزرگان الموجز، "إنّنا نأمل أن يتمّ مثل هذا اللقاء مرّة كلّ شهرين." ذكر إنتظام لكيف فيما بعد بأنّ "الجميع اعتبروا اللقاء مع ضابط NIO بداية حسنة." بعد أن فتح أيمز قناة للإتّصال، مكث في طهران عدّة ايّام اخرى محاولا رصد مزاج النّظام الثّوري، وتمكّن من الحصول على مقابلة مع آية الله الدكتور محمّد بهشتي، الذي يبلغ من العمر 51 عاما. وهو عالم دين معروف لعب دورا اساسيّا في كتابة الدّستور الجديد. وهو نفس الشّخص الذي يعرف أيمز عنه أنّه لعب دورا في اختفاء الإمام اللبناني موسى الصّدر عندما كان يزور ليبيا. لقد إطّلع على تقرير الوكالة حول اختفاء الصّدر، وكذلك تقارير اخرى ورّطت جميعها بهشتي في اختفاء الإمام المذكور ومرافقين له. وعليه فإنّه بموجب كلّ المعايير، كان لاعبا عنيدا مرعبا في الثّورة الإيرانيّة. كان في طليعة مناصري قيام الجمهوريّة الإسلاميّة وحليفا موثوقا لآية الله الخُميني. عاش بهشتي في الغرب وقاد المركز الإسلامي في مدينة هامبورگ في المانيا لمدّة خمس سنوات في حقبة السّتّينات. وعليه كان يُعتبر اكثر تفتّحا وتحرّرا ومعرفة بالمقارنة مع غالبية الملالي الذين احكموا قبضتهم على البلاد في ظلّ النّظام الجديد. اضف إلى ذلك، أنّ الخُميني وثق به واحترمه. لم تكن لدى بهشتي أيّة فكرة أنّه يقابل ضابطا في الوكالة. تقابلا في مطلع شهر سبتمبر، طار بعدها أيمز راجعا إلى واشنطن. ومن الجدير بالذكر أنّ بهشتي قُتِل بتاريخ 28 يونيو 1981 مع حوالي 60 عضوا من اعضاء حزب الثورة الإسلاميّة عندما انفجرت المنصّة التي كان يقف عليها وهو يخاطب جمهور المحتشدين. بعد مرور ستة اسابيع، أي في اكتوبر 1979، حضر جورج كيف إلى طهران للتّباحث مع وزير الخارجيّة يازدي وإنتظام حول معلومات عسكريّة موثقة. توصّل بعض محللي الوكالة إلى استنتاج في الصّيف الماضي أنّ الجّار العراقي يعدّ العدّة لغزو إيران. تمّ تخويل أيمز لنقل تلك المعلومات للإيرانييّن في شهر اغسطس، ولكنّ كيف حضر بنفسه ليقدّم لهم ادلة دامغة أنّ صدام حسين ينشر بهدوء قوّاته ذات الإستعداد العسكري الممتاز بغية القيام بغزو واسع النّطاق. كان للأمريكييّن هدف ابعد من التحذير. من المؤكّد أنّهم يرغبون في عودة العلاقات الطبيعيّة مع المسؤولين الجدد الذين يديرون البلد الآن. غير أنّ الوكالة استهدفت أيضا إقناع الحكومة المؤقتة في طهران لاستئناف نشاطات نظامين للمراقبة الإلكترونية كانت تديرهما في ايّام الشّاه. الأول هو IBEX الذي يعتمد على قواعد ارضيّة للتنصّت ويستلم معلومات من طائرات C-130 التي تغطّي منطقة الحدود العراقيّة الإيرانيّة وتراقبها. تستطيع تلك الطائرات التقاط صور فوتغرافية حول تحرّكات القوّات العراقيّة على عمق 7 اميال داخل العراق وترسلها إلى المحطة الأرضيّة. توقف نظام IBEX عن العمل بسبب الفوضى التي اعقبت قيام الثّورة. ولم يكن بزرگان ولا يازدي ولا إنتظام على علم بوجود مثل هذا النّظام، دعك من المعلومات المخابراتيّة التي يمكن أن يوفّرها. أمّا نظام المراقبة الآخر فاسمه Taksman الذي كان مركز اهتمام خاصّ بالنّسبة للأمريكييّن لأنّه يراقب عمليّات اختبار الصّواريخ السّوفياتيّة. امِلت الوكالة أنّه اذا استطاعت إثبات قيمة نظام المراقبة IBEX وجدواه لتزويد إيران بالمعلومات المخابراتيّة الهامّة حول نوايا العراق، فإنّ ذلك قد يشجّع الحكومة الجديدة لبعث الحياة مجدّدا في نظام Taksman أيضا. في عام 1979 وخلال الحرب الباردة القائمة، كانت مراقبة الإتّحاد السّوفياتّي في طليعة مهام وكالة المخابرات المركزيّة. غير أنّ جهود أيمزوكيفومن خلفهما الوكالة ذهبت ادراج الرّياح، واتّخذت الأمور منحى سيئا بشكل متسارع عندما قرّر الرّئيس الأمريكي جمي كارتر على مضض بتاريخ 20 اكتوبر، السّماح للشاه المنفي أن يحضر إلى نيويورك لتلقي العلاج من مرض السّرطان الذي يعاني منه. هبّ الملايين من الإيرانييّن إلى الشّوارع احتجاجا، وقامت مجموعة من الطلبة وخلافا للأعراف الدّولية باقتحام السّفارة الأمريكيّة واخذ ما فيها من العاملين كرهائن. بعد سبع سنوات، وتحديدا بتاريخ 25 مايو 1986إستقلّ جورج كيفطائرة من تل أبيب متوجّهة إلى طهران لإنجاز مهمّة سريّة. كان معه على متن تلك الطائرة مستشار الرّئيس ريگن لشؤون الأمن القومي روبرت مكفارلند واللفتنانت كولونيل أوليفر نورث، وضابط المخابرات الإسرائيليّة أميران نير. كانت تلك الزّيارة محاولة لبعث الرّوح في قنوات الإتّصال الخلفيّة مع الجناح المعتدل في النّظام الثوري. حمل كيف كعكة شوكولاته على شكل مفتاح قصِد منه رغبة الجميع لفتح باب العلاقات الموصد واستئناف العلاقات الأمريكيّة الإيرانيّة. كان الرّئيس ريگن قد صادق على مهمّة تلك البعثة، وكانت مبادرة الكعكة المفتاح من بنات افكار كيف نفسه. فشلت المهمة فشلا ذريعا، ولكنّها والمفتاح الذي جاءت به اصبحا موضوع ما سُمّي فضيحة إيران – كونترا. كانت المهمة تقوم على تزويد إيران بالسّلاح الأمريكي الذي يمكّنها من مقاومة غزو صدّام، لقاء إطلاق سراح الأمريكييّن المختطفين في بيروت. كما أنّ ريع الأسلحة المباعة قد حوّل لتمويل عصابات الكونترا المناوئة لحكومة مناگوا اليساريّة. هذا وقام ملك السّعودية فهد بإضافة مبلغ 80 مليون دولارا اخرى، لنفس الغرض. تزايدت افضال الفلسطينييّن على الأمريكييّن التي اشرنا اليها في الفصل الثامن عند الحديث عن الحرب الأهليّة في لبنان. لقد تولوا تأمين الحراسة لمنتسبي السّفارة وساعدوا في استعادة جثماني السّفير والملحق التجاري بعد اغتيالهما من قبل ميليشيا ثانوية الأهميّة في المدينة، ثم أمّنوا نقل الجثمانين إلى دمشق لأنّ مطار بيروت كان مغلقا. واخيرا قاموا بمساعدة إجلاء الأمريكييّن من بيروت عندما ساء الوضع. في الفصل العاشر يأتي المؤلف على مزيد من الأفضال. ففي بداية الأزمة ساعد عرفات على اطلاق 13 من الرّهائن الأمريكييّن في السّفارة شملت النّساء وجنود المارينز من اصل افريقي. وبعد فشل عمليّة الإنقاذ، عاد عرفات إلى طهران وساعد في إقناع الإيرانييّن لتسليم جثامين العسكرييّن الثمانية الذين قتلوا اثناء تلك العمليّة. ويكشف مصطفى زين عن جهود عرفات الحثيثة لإطلاق سراح الرّهائن المتبقين خلال السّنة الأخيرة من إدارة كارتر، وكيف تدخل مسؤولو الحملة الإنتخابيّة لريگن بهدف ايقاف تلك الجهود لضمان فشل كارتر في الإنتخابات، والحيلولة دون وقوع ما اطلق عليه مفاجأة أكتوبر. في احد الأيّام في مطلع ربيع عام 1980، دخل روبرت أرل، وهو احد نائبي بوبإلى مكتب رئيسه ليخبره أنّه سمع إشاعات عن خطة محتملة لإنقاذ الرّهائن. لم تكن اكثر من "ضوضاء"، لكنّ أرل اعتقد أنّه يجري الإعداد لشيء ما. عرف أيمز أنّه لم يُخوّل لإخبار نائبه بأيّ شيء عن مهمّة الإنقاذ. ادرك أرل فيما بعد أنّه فعل ذلك "كي يحافظ على سرّيّة العمليّة. تجاهل أيمز تعليقي، وغيّر مسرى الحديث نحو موضوع آخر. علمت فيما بعد أنّ أيمز قد ساعد في وضع خطة مهمة الصّحراء رقم 1 الفاشلة. كان من بين عدد صغير من مسؤولي الوكالة الذين احيطوا علما بها." طبعا كانت العمليّة فشلا ذريعا، وادّت لمقتل 8 افراد من القوّات المسلحة عندما ارتطمت إحدى الطائرات المروحيّة الثمانية بطائرة C -130 الجاثمة في الصّحراء الإيرانيّة وانفجرت. القى تحقيق رسميّ باللائمة على غياب التّنسيق والتّعاون بين مختلف صنوف القوّات المسلحة المشاركة في العمليّة. غير أنّ تعقد الخطة كان حقيقة في جوهر فشلها. صرّح احد مسؤولي وزارة الخارجيّة بأنّ "الجهود اعتمدت كثيرا على الوكالة." ومن الطبيعي أنّ أيمز اصيب بخيبة امل كبيرة. ومن خلال التّعاون مع مصطفى زين تمكّن من إقناع عرفات لكي يستعمل نفوذه في طهران لاستعادة جثامين الضّحايا الأمريكييّن الذين لقوا حتفهم خلال تلك العمليّة الفاشلة. كانت مبادرة صغيرة لإظهار المواساة. إعتقد الرّئيس كارتر أنّ الفشل الذريع لعمليّة الإنقاذ قد ساهم بشكل كبير في خسارته في إنتخابات الرّئاسة في شهر نوفمبر 1980. من الطبيعي أنّ أيمز فضّل فوز ريگن ونائبه بُش في انتخابات ذلك الخريف. وفي نفس الوقت، كان يعمل خلال سنة الإنتخابات تلك على تأمين إطلاق سراح الرّهائن في طهران، عن طريق مشاركته في وضع خطة الإنقاذ الفاشلة في ربيع ذلك العام وفي المفاوضات التي تلت ذلك لإطلاق سراحهم. في صيف 1980 كان الإعتقاد السّائد في واشنطن بأنّ امل كارتر للفوز في الإنتخابات معلق على إيجاد حلّ ناجح في آخر دقيقة لتلك الأزمة. أمّا مخططو حملة ريگن الإنتخابية فقد كانوا يخشون من احتمال إجهاض نصيبه في الفوز، إذا ما حدث ما سُمّي "مفاجأة اكتوبر" التي عنت إطلاق سراح الرّهائن بشكل مفاجئ. كان أيمز يعرف أنّ ياسر عرفات والمنظمة لهم قنوات اتّصال مع النّظام الثوري في طهران. لقد ارسل عرفات السّلاح والرّجال لمساعدة الثّورة وطار لمقابلة الخُميني بعد وصول آية الله إلى طهران بوقت قصير. كما أنّه توسّط عند بدء الأزمة بنجاح لإطلاق سراح 13 من الرّهائن، الذي ضمّ كافة النّساء والأمريكييّن الأفريقييّن اواخر شهر نوفمبر 1979. وفي ربيع عام 1980 ساعد أيضا في استعادة جثامين الجنود الذين قتلوا خلال عمليّة الإنقاذ الفاشلة. من الواضح انّ المنظمة شكّلت قناة خلفيّة للتّفاوض مع الإيرانييّن. اضف إلى ذلك، أنّ عرفات كانت لديه كلّ الأسباب كي يعتقد أنّه إذا نجح بلعب دور لإطلاق سراح الرّهائن المتبقين، فإنّ تدخّلا من هذا القبيل سيفتح الباب لواشنطن كي تعترف بالمنظمة. عرف أيمز من خلال لقائاته ذلك الصّيف مع مصطفى زين أنّ عرفات يحاول فعلا استخدام نفوذه في إيران للتّوصّل إلى حلّ لأزمة الرّهائن. قام أيمز وزميله في مجلس الأمن القومي روبرت هنتر بإخبار مصطفى أنْ يعمل كلّ ما في وسعه لدفع عرفات لعمل ذلك. إجتمعا معه اكثر من مرّة في المبنى القديم المجاور للبيت الأبيض، وقدّما له خلاصة جهود إدارة كارتر الدّبلوماسيّة. ولكن في مطلع ذلك الصّيف، عرف زين عن طريق الصّدفة ما يبدو أنّه محاولة يقودها مسؤولو حملة ريگن الإنتخابيّة لإبطاء الجهود الدّبلوماسيّة لإطلاق سراح الرّهائن. تناول زين عندما حضر إلى واشنطن الغداء مع جاك شو الذي يعمل لصالح حملة ريگن الإنتخابيّة وعلى اتّصال بمديرها وليم كَيسي. وحين تبرّع زين بالإفصاح عن أنّ الفلسطينييّن يعملون ما في وسعهم لحلّ الأزمة، قال شو بأنّه من الأفضل للفلسطينييّن أن يتولى ريگن رئاسة البلاد محلّ كارتر. في نهاية الغداء دعا شو زين كي يزوره في بيته في اليوم التّالي لتناول الغداء ومواصلة الحديث. تناول الرّجلان وجبة من الدّجاج والخضروات اعدّتها طبّاخة شو الأسپانية. قال شو إنّه يعرف كيسي جيّدا، ثمّ سأل زين عن معرفته بأيمز. لم يكن لدى زين ما يخفيه فأخبره أنّه يعرفه لأكثر من عشرسنوات. يتذكّر أنّ جاك شو اخبره مؤكّدا، "أنّ كيسي عرف أنّ زين وأيمز كانا حلقة الإتّصال الخلفيّة مع عرفات." ثمّ حوّل الحديث إلى علاقة المنظمة وياسر عرفات مع النّظام الثوري في إيران. اوضح شو بشكل لا يقبل الإلتباس بأنّه على علم بدور عرفات لإطلاق سراح الرّهائن الثلاثة عشر في الخريف الماضي. ووفقا لما ذكره زين، سأله شو إنْ كان عرفات لا زال يعمل على تأمين حريّة الرّهائن المتبقين. حين ردّ زين بالإيجاب، إقترح شو إنْ كان من الممكن إقناع عرفات بتأخير جهوده لحين الفروغ من الإنتخابات. برّر ذلك بالقول، "إنّ مصلحة الفلسطينييّن هي بيد رئيس قويّ مثل ريگنالذي سيدفع إلى سلام عادل ودائم في الشّرق الأوسط." سأل زين إنْ كان يريد منه أنْ ينقل تلك الرّسالة إلى عرفات لكي يؤجّل جهوده حتى نهاية الإنتخابات، ردّ شو بالقول "نعم". وعد زين الذي فهم بأنّ شو يفاوض نيابة عن كيسي، بأنّه سيقوم بذلك على الفور. ذكر زين أنّه سجّل بشكل سرّي تلك المناقشة التي جرت بينهما كاملة واسمعها لعرفات. وبعد وقت قصير اطلع عرفات زين على سرّ فحواه أنّ الإيرانييّن قد عقدوا صفقة مباشرة حول القضيّة مع كيسي خلال لقاء جرى في اسپانيا في اواخر يوليو. يختتم المؤلف فصله العاشر برواية قصة لقاء عُقد في غزّة بين كارتر وعرفات بحضور المؤرّخ الأمريكي المعروف دگلاس برنكلي، الذي قال إنّه كان حاضرا بتاريخ 22 يناير 1996 في اجتماع جرى في مدينة غزّة بين كارتر مع عرفات. إنبرى عرفات ليقول، "السّيّد الرّئيس هناك امرٌ بودّي أنْ ابوح به لسيادتكم. يجب أنْ تعرف أنّه في عام 1980إتّصل الجمهوريون بي وعرضوا عليّ صفقة سلاح، إذا ما عملت على تأخير إطلاق سراح الرّهائن في إيران لما بعد الإنتخابات. بودّي أنْ تعرف أنّني رفضت عرضهم." قبيل موعد تنصيب ريگن رسميّا، اصدرت الوكالة مذكّرة عن الفلسطينييّن في محاولة منها لدفع الرّئيس المّرتقب للإسراع بإيجاد حل لمعضلتهم. حاولت المذكّرة أنْ توضح مختلف المجموعات داخل الحركة الفلسطينيّة، التي تسعى للإستقلال، والتي تضمّ الرّاديكالييّن الرّافضين والإتّجاه الذي برز حديثا وينادي بحلّ الدّولتين، وكذلك المتطرفين المصابين بالسّعار من اتباع (أبو نضال)، الذين كانوا يقومون من حين لآخر باغتيال أيّ فلسطيني يظهر رغبة للتّفاهم مع الإسرائيلييّن. قرأ ريگن تلك المذكّرة، وبحسب قول دكسن ديفز، "امضى عشر دقائق وهو يقرأها، وفي النّهاية تساءل ما الجديد في الأمر؟ كلهم إرهابيّون، أليس كذلك؟ شعرت وكأنّ قلبي قد هبط ما بين جوانحي." في بداية الفصل الحادي عشر يطالعنا المؤلف برواية حول تأثير إسرائيل وقوّتها في السّيطرة على مقاليد الأمور في قضايا السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة. إلتقى وفد امريكي في تل أبيب مع رئيس الموساد الميجر جنرال إسحق هوفي في بيته وشرح له كيسي، بحضور وزير الخارجيّة ألكزندر هيگ وجفري كمپ، مسؤول الشّرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، نوايا إدارة ريگن لبيع طائرات أيواكس AWACS للمراقبة بمبلغ 8.5 بليون دولارا للسّعوديّة. وكما كان متوقعا لم يكن الإسرائيليّون سعداء لحصول السّعودييّن على هذه التّكنولوجيا المتقدّمة. سأل كيسي هوفي صراحة عمّا، "تريدنا إسرائيلُ أنْ نفعل مقابل منع اللوبي الإسرائيلي من إيقاف الصّفقة عند عرضها على الكونگرس الأمريكي." ردّ هوفي قائلا، "سيكون من المفيد لنا إلتقاط صور جوّيّة لموقع مشروع الطاقة الذريّة في العراق." عُقدت صفقة حول ذلك الموضوع. وبعد شهرين من هذا الإتّفاق وبتاريخ 7 يونيو 1981 اغارت المقاتلات الإسرائيليّة على المفاعل النّووي العراقي الذي لم يكتمل بعد ودمّرته بالکامل. كانت إسرائيل لعدّة سنوات مضت تبحث عن مبرّر لتصفية وجود المنظمة في لبنان. إنّ وزارة الليكود اليمينيّة برئاسة بيگن قد توصّلت إلى استنتاج بأنّ اتّفاقيات كامپ ديفد لعام 1979 قد الغت احتمال تصاعد هجوم عسكري على المنظمة في لبنان إلى حرب شاملة. لقد خرجت مصر من حلبة الصّراع، وهو ما اعطى بيگن الحريّة للتّحرّك ضدّ المنظمة. في شهر ديسمبر من عام 1981 ناقش بيگن مع وزير دفاعه شَرون خلال اجتماع وزاري خطة غزو اطلِق عليها إسم اشجار الأرز الكبيرة. لم يتمّ إقرار الخطة حينها، غير أنّ شَرون كان مصمّما على استخدام أيّ استفزاز من قبل المنظمة كعذر لإنزال ضربة قاضية بها. كتب فيما بعد في مذكّراته، "إنّ محاولة اغتيال السّفير أرگوف كانت فقط الشّرارة التي اشعلت الفتيل." تحرّكت بتاريخ 6 يونيو 1982 قوّة إسرائيليّة كبيرة اشتملت 1500 دبابة وغزت لبنان. اخبر بيگن وشَرون مجلس الوزراء الإسرائيلي أنّ القوّة الضّاربة ستتقدم إلى مسافة 40 كيلومترا داخل الحدود اللبنانيّة بقصد تدمير مواقع المليشيات الفلسطينيّة وتحصيناتها. غير أنّه بعد ثلاثة ايّام وصلت قوّات شَرون إلى مشارف بيروت. ظهر فيما بعد أنّ شَرون قد حصل على الضّوء الأخضر من قبل وزير الخارجيّة ألكزندر هيگ عندما التقيا في واشنطن بتاريخ 19 و20 مايو. يقول المؤلف، "إحتقر أيمز وزير الخارجيّة هيگ، لأنّه اعتقد أنّ إعطاء شّرون مثل ذلك السّماح اللامحدود لغزو لبنان عمل غير مسؤول إطلاقا." عُيّن جورج شولتز ليحلّ محلّ هيگ المُنحاز جدّا لإسرائيل. كان الوزير الجديد يعمل رئيسا لشركة بكتل التی-;- لها مشاری-;-ع عدّة وهامّة في السّعوديّة والخليج. اعلن أنّه مفكّر عملي مستعدّ لسماع افكار جديدة عن الشّرق الأوسط، لكنّه احاط نفسه بشلة من المحافظين الجّدد في طليعتهم صهيونيّان معروفان هما پول وولفوتز ودوگلاس فايث،اللذان اقنعاه بأنّ مصالح الولايات المتّحدة الإستراتيجيّة تتطابق تماما مع المصالح الإسرائيليّة. ولذلك فإنّ "عمليّته" التي اعلنها لم تدم طويلا. نقل إليه أيمز استعداد منظمة التّحرير الفلسطينيّة للإعتراف بقرار الأمم المتّحدة رقم 242 وحقّ إسرائيل في الوجود وانسحاب القوّات الإسرائيليّة إلى الحدود القائمة قبل حرب 1967. إشترط عرفات إعلانا من الولايات المتحدة يعترف بحق الفلسطينييّن لتقرير مصيرهم. إعتقد شولتز أنّ الإعلان المطلوب يعني دولة مستقلة للفلسطينييّن. وهذه برأيه خطوة جبّارة لم يكنْ مستعدّا للقيام بها. اضف إلى ذلك أنّه منع أيمز من الإتّصال بأيّ منهم في المستقبل. خلال محادثات إجلاء المنظمة من بيروت، اقترح المندوب الأمريكي حبيب ماسماه "محادثات متقاربة". سيقوم جون عبدو مسؤول الأمن في لبنان بتوفير مكان، حيث يمكن لعرفات وحبيب أنْ يجلسا في طابقين مختلفين، ويقوم عبدو بدور ناقل للرّسائل بينهما. اكّد حبيب لبيگن، "أنّهم سيكونون في الطابق الأوّل وسنكون أنا وفريقي في الطابق الثاني. لن نشاهدهم ولن تكون هناك مصافحات." غير أنّ بيگن ردّ بحدّة أنّه لا يوافق على مثل تلك التّرتيبات. من الغريب أنّ بيگن نفسه الذي اتّهِم بأنّه إرهابي فجّر في عام 1946 فندق الملك داود في القدس وقتل 91 شخصا، يفهم أنّ "المحادثات المتقاربة" تعطي نوعا من الشّرعيّة للإرهابي عرفات! كان موقفا تمثيليّا وجدت الولايات المتّحدة نفسها فيه أنْ تستمرّ في المحادثات رغم معارضة بيگن. دعا شولتز السّفير الإسرائيلي موشه أرنز إلى مكتبه. ودون أنْ يكشف له خطته السّرّيّة، إقترح أنّ مغادرة عرفات للبنان على وشك أنّ تتمّ، وأنّه قد حان الأوان للبدء بعمليّة سلام. إعترض أرنز بنبرة حادّة فقال، "إسمعْ. لقد دمّرنا المنظمة وازلناها من المشهد. وها أنتم الأمريكيّون تلتقطونها من الأرض وتزيلون عنها الغبار وتنفخون فيها روحا مصطنعة." طمأن أيمز الوزير أنّ ردّ أرنز خطأ. اخبره أنّ عرفات يجمع صفوفه ويقوّي مركزه السّياسي بعد الهزيمة. اصرّ أيمز أنّ، "للمنظمة نفس طويل وستنبض بالحياة." تنبّا بأنّ عرفات سيطوف العواصم العربيّة يجمع من حوله التّأييد والعون السّياسي والمالي، وأنّ موقع المنظمة في تونس سيحرّر عرفات من الإعتماد على دكتاتوريّة الأسد ويخلصه منها. اضاف قائلا، إنّ هزيمة المنظمة قد قوّت من ساعد الجناح المعتدل، وأنّ هؤلاء القادة المعتدلين الواقعييّن سيغيّرون عرفات ويحوّلونه إلى قائد اكثر فاعليّة على المسرح العالمي. واكثر من ذلك، اعتقد أنّه شعر من خلال لقائاته في تل أبيب أنّ محللي الموساد اتّفقوا أنّ عرفات يحكم قبضته الآن على المنظمة، وأنّه لن يختفي من المشهد، ولن تختفي المشكلة أيضا. إستجمع شولتز شجاعته اخيرا واعدّ بمساعدة معاونيه وفي مقدّمتهم أيمز مبادرة سلام سرّب الأخير موجز نصّها من خلال زين إلى عرفاتليطلع عليها قبل ريگن نفسه. جاء فيها ما يلي: 1. قيام حكومة استقلال ذاتي في الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة لأكثر من مليون مواطن فلسطيني. 2. إلغاء الحكم العسكري والإداري الإسرائيلي، لتحلّ محله حكومة فلسطينيّة ينتخبها الفلسطينيّون في الضّفة والقطاع. 3. تعتبر الولايات المتّحدة القدس وضواحيها منطقة محتلة، مثلها مثل المناطق المختلفة الأخرى التي سيطرت عليها إسرائيل في عام 1967، وتعتبر كلّ التّغييرات التي اجريت على وضعها غير قانونيّة. 4. لا تعترف الولايات المتّحدة بمنظمة التّحرير الفلسطينيّة لأنّها ترفض قبول قرار الأمم المتّحدة المرقم 242. بتاريخ 30 اغسطس إستقلّ عرفات سفينة من بيروت ابحرت به إلى تونس، وغادر معه حوالي 8500 مقاتلا فلسطينيّا، تحت مراقبة عيون القنّاصة الإسرائيلييّن. ثمّ تسارعت الحوادث. انتخب بشير الجميّل تحت الإحتلال الإسرائيلي رئيسا واغتيل بعد ايام. طوّق الإسرائيليّون حسب خطة شّرون مخيّمات الفلسطينييّن وسمحوا لكتائب الفلانج بقيادة إيلي حبيقة من دخولها وارتكاب مذابح فضيعة على مدى ثلاثة ايّام، كان ضحيّتها الآلاف من النّساء والأطفال والشّيوخ الفلسطينييّن، بما سمّي مجزرة صبرا وشاتيلا التي هزّت وجدان العالم. وضع العالم اللوم على عاتق شَرون والولايات المتّحدة. حين عُرض شريط فديو لعرفات ليشاهده، اخبر المراسلين بغضب، "إنّ فل حبيب قد وقّع شخصيّا على تعهّد بحماية المدنييّن الفلسطينييّن الذين يعيشون في المخيّمات." ما قاله هو عين الحقيقة، كما اكّد ذلك حبيب نفسه. "وقّعتُ على ورقة تضمن أنّ اولئك النّاس في بيروت الغربيّة سوف لن يلحق بهم الأذى. لقد تلقيت هذه التّأكيدات من بشير ومن الإسرائيلييّن، من شَرون." إتّفق وزير الخارجيّة شولتز مع ما صرّح به حبيب فقال، "الحقيقة المرّة هي أنّنا مسؤولون جزئيا عن المذبحة." كان مذهولا وغاضبا صباح ذلك اليوم الذي نقل فيه إلى ريگن ما جرى. سأله إنْ كان تسرّع في سحب المارينز. لم يعرف الرّجلان ماذا يمكنهما أنْ يفعلا، غير أنّ الرّئيس اضاف، "إذا اظهرنا انفسنا بأنّنا لا نستطيع عمل شيء ما في هذا الموقف، فماذا تتوقع الأطراف في الشّرق الأوسط منّا في عمليّة السّلام العربي الإسرائيلي.؟" المسألة هي أنّ ريگن وشولتز و حبيبوكافة المسؤولين الأمريكييّن بغض النّظر عن الإدارة الحاكمة، يعرفون جيّدا كيف تقوم إسرائيل بأعمالها العدوانيّة الشّرّيرة وتخلق العداوات للولايات المتّحدة وتورّطها، ثم تعود لتطالب بوقاحة بمزيد من المال والسّلاح وكذلك الفيتو الأمريكي في المحافل الدّوليّة. والويل كلّ الويل لمن يتوانى أو يتقاعس، فتهمة "معاداة السّاميّة" جاهزة وجوقة "المحرقة" تستعد لتعزف صراخها ببراءة شعب مسالم يريد العرب والمسلمون والعالم اجمعْ أن يقضوا عليه! لقد وصل الوضع إلى حدّ أنْ طلب الرّئيس نفسه إمكانيّة ملاطفة الإسرائيلييّن وحتّى التّملق لهم لكي ينسحبوا من لبنان، وكذلك أيضا ليتّوقفوا عن بناء المستوطنات في الضّفة الغربيّة. كان ريگن على وشك أن يقابل وزير الخارجيّة الإسرائيلي إسحق شَمير، وقال أنّه لا يريده "أنْ تغادر دون أنْ تسمع منّي مرّة اخرى عن قلقنا المتزايد حول سياسة إسرائيل الإستيطانيّة، وعن تصميمنا لتحقيق مبادرتنا التي اعلنّاها بتاريخ 1 سبتمبر." إستمع شَمير لما قاله ريگن إلا أنّ حكومة الليكود لم تفعل شيئا، فأصبح هذا الموقف خلاصة العلاقة الثنائيّة بين البلدين ولسان حالها يقول، "بإمكانكم أن تهذوا قدر ما تستطيعون، لكنّنا مصابون بالصّمم!" في الفصل الثاني عشر يتعرض المؤلف للمآسي التي تعرّضت لها السّفارة الأمريكيّة وثكنة المارينز وثكنة الجنود الفرنسييّن. بيروت تحترق والمئات بل الآلاف من الأمريكييّن والفرنسييّن، إضافة إلى اللبنانييّن والفلسطينييّن قد دفعوا حياتهم ثمنا للمغامرات العنصريّة الحاقدة والعنجهيّة التي تصل حدّ المرض والعصاب النّفسي، ومن الصّنف الذي يمكن أنْ يُطلق عليه نازيّة جديدة. تغيّب أيمز عن بيروت لمدة خمس سنوات فقرّر أن يعود لها يبحث عن حلّ لحزنها ومأساتها فلقي قدره فيها. عبّر قبل سفره عن موقف متشائم لزميله بروس رِدل، الذي قال، "اخبرني انّه حذّر بأنّنا والإسرائيلييّن لا نستطيع فرض دولة مارونيّة على الشّيعة. شعر بأنّه يجب أنْ يذهب إلى بيروت لعله يجد فكرة يمكن أنْ تغيّر واقع الحال." اضحت بيروت حقيقة قطعة من جهنّم، ولم يكن ذلك الشّعور مقصورا على اللبنانييّن فقط. في صيف عام 1982 تمّ اختطاف ديفد دوج رئيس الجامعة الأمريكيّة من قبل حركة امل الإسلاميّة التي احتفظت به لمدّة عام. بحلول خريف ذلك العام كان هناك المزيد من التّفجيرات كلّ اسبوع تقريبا. كان الإسرائيليّون يقومون بتسيير دوريّات عسكريّة في بعض احياء المدينة. كان التّوتّر قائما بين الإسرائيلييّن وقوّات حفظ السّلام الدّوليّة. في إحدى الحوادث اوقف ضابط مشاة البحريّة الأمريكي چالز جونز رتلا من ثلاث دبّابات اسرائيليّة. سحب مسدّسه وصوّبه نحو الدّبابة الأولى وامر قائدها أن يعود ادراجه. قال الضّابط جونز، "لن تمرّوا!" وفي اليوم التّالي اصبحت تلك الصّيحة عنوان الصّحف ومنها نيويورك تايمز وغيرها من صحف العالم، كدليل على تزايد العداوة بين الحليفين. ثمّ كان قدر السّفارة. قاد شاب لبناني شيعي انتحاري سيارة حمل مفخّخة وعليها حوالي 2000 رطلا من المتفجّرات. صدم الواجهة الزّجاجيّة لمدخل السّفارة فاستقرت السّيّارة في البهو لحظة ثم انفجرت في السّاعة 1:04 من يوم 18 ابريل من عام 1983، وكان ذلك اكبر هجوم على سفارة امريكيّة في العالم. دُمّر القسم الأوسط من المبني وتهاوت طوابقة الثمانية بعضها فوق بعض. قُتل في هذا الهجوم 63 شخصا بينهم 17من اعضاء السّلك الدّبلوماسي والعسكرييّن و8 ضبّاط من منتسبي مكتب الوكالة و32 من اللبنانييّن العاملين في السّفارة، إضافة إلى 14 زائرا ممّن كانوا هناك للحصول على تأشيرات دخول للولايات المتّحدة. واصيب 120 شخصا امريكيّا ولبنانيّا آخرين بجراح مختلفة، بينهم بعض المارّة في الشّارع. اعطى المؤلف تفاصيل موت كلّ من الضّحايا الأمريكييّن وكيف عثروا عليه/عليها. وبصدد مقتل بوب أيمز، فهناك روايتان. واحدة تقول أنّه قتِل وهو داخل المصعد واخرى تقول إنّهم عثروا عليه وقد سقط على وجهه فوق درجات السّلم ولوحظ وجود جرح طفيف في رقبته. أمّا شهادة الوفاة فتقول أنّه فارق الحياة بسبب "كسور وحروق وجروح ونزيف داخلي نتيجة للإنفجار." تعرّفت زميلته سوزن مورگنعلى رفاته واخذت محفظة نقوده وجواز سفره وخاتم زواجه وقلادة كان يلبسها وقدّمتها جميعا لأرملته، إيفون. يصف المؤلف لنا وصول جثامين الضّحايا، التي نقلتها طائرة خاصّة واستقبلتها العائلات المنكوبة والرّئيس ريگن وزوجته وغيرهم من كبار المسؤولين، إلى قاعدة اندروز الجويّة. أيمز هو القتيل الوحيد من بين الضّحايا الذي يعرفه الرّئيس شخصيّا. كانت التّوابيت ملفوفة بالأعلام الأمريكيّة ولم تعرف العائلات أيّ تابوت يحتوي على رفات فقيدها. لم يُسمح لأحد بفتح التّوابيت لتلقى عليه النّظرة الأخيرة. في الحقيقة لم يُسمح لكرن إبنة أيمز، التي كان يبدو أنّها قريبة جدّا اليه، أن تلمس تابوته أو تضع وردة عليه قبل دفنه. وهو الأمرالذي جعل الجميع يشعر بأنّ الخاتمة مجهولة وأنّ الفقيد ربّما حيّ يُرزق في مكان ما. لا شيء اكثر من تعلق مؤلم بالأمل. إنّ تفجير السّفارة في بيروت في شهر ابريل 1983 قد ضاع تقريبا في ذاكرة تاريخ الولايات المتّحدة في الشّرق الأوسط، إلّا أنّه من ناحية اخرى شكّل بداية تحدّ دمويّ مع الحركة السّياسيّة الإسلاميّة، كما أنّه شهد مولد كيان شيعي نسمّيه الآن حزب الله. تقول إحدى وثائق الوكالة التي رُفعت السّرّيّة عنها، "إنّ الثورة الأيرانيّة عام 1979 ... والغزو الإسرائيلي للجنوب اللبناني الذي تسكنه غالبيّة شيعيّة قد شحذا همم الشّيعة واعدّ المسرح لظهور جماعات متطرّفة لا تتردّد في ارتكاب الأعمال الإرهابيّة. إنّ شباب الشّيعة في الجنوب اللبناني الذين اصابهم الأذى نتيجة للغزو الإسرائيلي، بدأوا ينظرون للأمريكييّن على أنّهم شركاء في ذلك الغزو،" حسب ما جاء في شهادة السّفير روبرت دِلِن عام 2003. ثمّ اضاف قائلا، "كان هناك المزيد من الكره والإحتقار للإسرائيلييّن، خاصّة في جنوب لبنان." غير أنّ ملاحظات السّفير وتحذيراته قد ذهبت ادراج الرّياح. امعنت اسرائيل في سلوكها الإجرامي واستمرت الإدارات الأمريكيّة في توفير الغطاء السّياسي لها في المحافل الدّولية وامدادها بالسّلاح والمال، إلى الحدّ الذي يجعل أيّ مراقب يرى أنّ سياسة الولايات المتّحدة في الشّرق الأوسط خاصة تُعدّ في المطبخ الإسرائيلي. حدث غزو آخر وسال المزيد من الدّماء وتكدّست اكوام الكره والإحتقار للمعتدين الأشرار ومن يساعدهم مع مرور الأيام ولا تزال. يبرّأ المؤلف في مطلع الفصل الثالث عشر والأخير ساحة عماد مغنيّه، من الإتّهامات التي اثارتها ضدّه جوقة الإعلام الصّهيونيّة في تل أبيب وفي الغرب، خاصّة في الولايات المتّحدة قصد تصفيته على يد الموساد. وهي نفس الجوقة التي حمّلت علي حسن سلامه مسؤولية تخطيط حادثة ميونيخ وتنفيذها لكي تتمّ بعد ذلك تصفيته، رغم أنّ المسؤولية كانت تقع حقا على عاتق أبو جهاد وأبو داود. اعدّت الموساد قائمة طويلة من عمليّات التّفجير والإختطاف القت فيها باللآئمة على مغنيّه، وتكرّرت تلك الإتّهامات على مدى 25 سنة في الإعلام الغربي لتصبح حقيقة في اذهان الغربييّن. كانت حصيلتها مقتل 279 امريكيّا و72 لبنانيّا و58 فرنسيّا و99 إسرائيليّا و86 ارجنتينيّا وسعودي واحد، ناهيك عن مئات الجرحى والمشوّهين من ضحايا تلك العمليّات. ونتيجة عملية حساب بسيطة يتبيّن أنّ عدد الضّحايا الأمريكييّن يفوق أيّة خسارة في الفترة التي سبقت جرائم الپترودولارات الوهابيّة حين بعثت ابنائها من عناصر القاعدة لتنفيذ جريمة الإرهاب الكبرى في 11 سبتمبر عام 2001. وهكذا تحوّل مغنيّه كما قبله سلامه إلى شيطان ورمز للشّرّ في اعين الغربييّن، يجب تصفيته. وكما صرح عضو لبناني معروف في حركة فتح وهو بلال شراره للصّحفي نيكولاس بلانفرد أنّ "مغنيّه مبدع." اتّصل به في خريف عام 1982 ليخبره عن خطة جريئة "وأنّه يحتاج لبعض المتفجّرات. وتساءل إنْ كان بحوزتي شيء منها. ثمّ شرح مغنيّه أنّه يوجد شخص مستعدّ لتنفيذ عمليّة انتحاريّة ضدّ الإسرائيلييّن مستخدما تلك المتفجّرات." هناك نقطتان، كيف تحوّل الهجوم على الموقع الإسرائيلي في صور بقدرة قادر إلى هجوم مزدوج على السّفارة وثكنة المارينز في بيروت؟ والنقطة الأخرى، لماذا ذهب مغنيّه الى شراره يطلب متفجّرات في الوقت الذي تتوفر له، حسب رأي المحققين الأمريكييّن مصادر اخرى؟ اظهرت التّحليلات الكيمياويّة للمتفجّرات المستخدَمة التي بلغ وزنها الفي رطل أنّها من نوع PETN ، وهذه متفجّرات عسكريّة. وهذا النّوع غير متوفر للبيع في الأسواق في لبنان، وأنّ تلك الكميّة منه تُصنع في إيران للأغراض العسكريّة، وأنّ القنبلة التي تمّ اعدادها لم تكن سهلة التّركيب وأنّ المواد كافة قد جاءت من مصنع عسكري إيراني. ينتمي مغنيّه إلى اسرة شيعيّة فقيرة تعتاش على بستان صغير فيه اشجار زيتون وليمون. نشأ وترعرع في احياء جنوب بيروت الفقيرة المجاورة لمخيّمات اللآجئين الفلسطينييّن في صبرا وشاتيلا. سكنت عائلته في بيت صغير يفتقر إلى خدمات الماء، ووصفه اصحابه بأنّه "ذكيّ جدّا وحذر للغاية." في سنّ 14 انضمّ هو وعدد من اقرانه إلى معسكر فتح لتدريب الشّباب قرب الدّامور على السّاحل الجنوبي للبنان. قد يكون مغنيّه درس إدارة الأعمال في الجامعة الأمريكيّة في بيروت، غير أنّه وسط الحرب الأهليّة ربّما في اواخر 1978 حين غزا الإسرائيليّون لبنان للمرّة الأولى، قام علي حسن سلامه بضمّه للقوة17. وفي وقت ما، ربّما يكون قد استفاد من التّدريب الذي وفرته وكالة المخابرات المركزيّة لجعل الحرس الشّخصي لعرفات "اكثر مهنيّة." عمل ضمن وحدة حماية عرفات وقاتل كقنّاص عند الخطّ الأخضر الفاصل بين شرق بيروت وغربها. يورد البعض أنّه ذهب لإداء فريضة الحجّ في مكّة عام 1980 برفقة آية الله محمد حسين فضل الله، القائد الشّيعي. وكغيره من شباب الشّيعة اصبح عماد مغنيّه اكثر راديكاليّة حين اختفى الإمام الشّيعي المعروف موسى الصّدر في ظروف غامضة وهو يزور ليبيا عام 1978. ثمّ ازداد ثوريّة إثر حصار اسرائيل لبيروت صيف 1982. كان شاهدا على الموقف العاطفي لجانت لي ستيفنز وهي تتوّسل بعرفات باكية ألّا يغادر بيروت. وطبعا كان شاهدا على مجازر صبرا وشاتيلا في سبتمبر ذلك العام، والتي اثرت عليه تأثيرا بالغا. كان لتنامي قوّة ثوريّته اسباب عدة. كاد مصطفى زين يفقد حياته حين كان يتفاوض في بيروت نيابة عن الوكالة مع زعماء الشّيعة، وبينهم مغنيّه، لإطلاق سراح وليم بكلي مدير المحطة وغيره من المختطفين الأمريكييّن. في ربيع 1985 عاد زين إلى بيروت. اعتقد أنّه كان قريبا جدّا من عقد صفقة لإطلاق سراحهم. ولكن بتاريخ 8 مارس، نجا بأعجوبة من موت محقق حين جرت محاولة لاغتيال آية الله محمد حسين فضل الله، الزّعيم الرّوحي لحزب الله. كان الإثنان على وشك أنْ يستقلا سيّارة الشّيخ حين اوقفهما حارس مرافق في آخر لحظة. تحرّكت السّيّارة إلى المكان المقرّر لها. وعلى بعد حوالي 40 ياردة فقط من منزل فضل الله انفجرت سيّارة مفخّخة كانت مركونة إلى جانب الشّارع وفيها 440 رطلا من المواد المتفجّرة. تسبّب الإنفجار في انهيار بناية من سبعة طوابق وأدى لمقتل 80 شخصا، كان بينهم اخو مغنيّه الذي عمل مرافقا للشّيخ، كما قُتل عدد من اصدقائه. اطلِق على التّفجير قنبلة بئر العبد. وبناء على ما ذكره الصّحفي المعروف بوب وودورد فإنّ محاولة الإعتداء على حياة فضل الله كانت من تدبير بل كيسي والسّعودييّن. افاد بأنّ اجتماعا جرى في واشنطن بين كيسي و بندر بن سلطان سفير السّعوديّة ، واتّفق الإثنان على عمليّة مشتركة رُصدت لها ميزانيّة قدرها 3 ملايين دولارا. يعتقد مصطفى زين أنّ كيسي قد امر فعلا بتنفيذ تلك المحاولة، ومصدره هو عماد مغنيّه، الذي اخبره فيما بعد أنّهم القوا القبض على الرّجال الذين ساهموا في التّفجير الذي قتل اخاه، واعترفوا أنّ العمليّة كانت من تدبير وكالة المخابرات المركزيّة. يذكر زين أنّه حين اوشك أن يُقتل في محاولة اغتيال آية الله فضل الله المذكورة، أنّ مغنيّه اخبره أنّه ليست له علاقة بالهجوم على السّفارة. إدّعى أنّ سيّارة الشّحن الصّغيرة المفخّخة كانت اصلا متّجهة لتستهدف ثكنة المارينز، ولكن في اللحظة الأخيرة تمّ اشعار السّائق الإنتحاري بتنفيذ التّفجير في مبنى السّفارة. لم يكن يعرف لماذا. يقول زين أنّ مغنيّه اخبره أنّ العمليّة كانت "عمليّة علي رضا عسكري،" إشارة إلى قائد الحرس الثوري الذي جنّده عام 1982. ثمّ اضافوا اتّهاما آخر. علمت الوكالة بتاريخ 7 ابريل 1995 أنّ مغنيّهكان على ظهر طائرة الشّرق الأوسط اللبنانيّة القادمة من الخرطوم إلى بيروت، مع توقف في الرّياض. طلب الأمريكيّون من السّعودييّن أنْ يحتجزوا الطائرة على المدرج لحين وصولهم. ونظرا لخوفهم من ردّ فعل سياسي من قبل المؤسّسة الوهابيّة إذا تمّ القاء القبض على مغنيّه في الأراضي السّعوديّة، إتّصل احدهم ببرج المراقبة في مطار الرّياض ليخبر الطائرة أنّها ممنوعة من الهبوط هناك. يبدو في رأي المؤلف أنّ هناك ادلّة جيّدة أنّ مغنيّه قد سافر إلى الخرطوم للقاء أسامة بن لادن، ليخبره عن التأثير الكبير الذي تركته الهجمات الإنتحاريّة على الأمريكييّن والفرنسييّن في مطلع الثمانينات في لبنان. هذا نموذج آخر من الهوس واللغو الإسرائيلي، وكأنّ إبن لادن لا يعلم بالأمر شيئا حتّى حضر مغنيّه ليخبره بذلك! يستند الصّحفي الإسرائيلي برگمن في زعمه هذا بناء على اعترافات علي عبد السّعود محمد، وهو امريكي المولد مصري الأصل كان قد اعتقل فيما بعد لمشاركته في تفجير سفارتي امريكا في تنزانيا وكينيا، وهما اوّل هجومين للقاعدة. إدّعى محمد أنّه سلم تفاصيل الهجوم خلال اجتماع إبن لادن ومغنيّهفي الخرطوم. يؤكّد لورنس رايت في كتابه البرج الذي يلوح في الأفق: القاعدة والطريق إلى 9/11، أنّ مغنيّه اجتمع مع إبن لادن وهو الذي اقنعه بأنّ "الهجمات الإنتحاريّة قد يكون لها تأثير فعّال." وبعد ذلك بعث إبن لادن وكيله علي محمّد إلى بيروت، ليتلقى تدريبا في فنون المتفجّرات على يد حزب الله. بتاريخ 12 فبراير عام 2008 كان مغنيّه يبلغ من العمر 45 عاما. حضر إلى دمشق ليشارك في احتفال مرور 29 عاما على قيام الثورة الإيرانيّة. ترك الحفل حوالي السّاعة 10:15 ومشى إلى سيّارته. وحين فتح الباب وجلس في مقعده انفجرت وسادة الرّأس. قال احد الشّهود أنّ جسم مغنيّه قد رُمي بفعل الإنفجار خارج السّيّارة وقد انفصلت اطرافه عن جسمه فمات في الحال. صرّح فنسنت كانيسترارو احد ضبّاط الوكالة، "تمّ اغتيال مغنيّه على يد الإسرائيلييّن ونحن الذين وفرنا لهم المعلومات عن تحرّكاته واماكن تواجده." غير أنّ ضابطا آخر في الوكالة اصرّ على أنّ العمليّة كانت بتدبير الوكالة وتمّت إدارتها من لانگلي. ذكر هذا الضّابط الذي لم يُكشف عن اسمه بأنّ مغنيّه قد اغتيل بفعل متفجّرة وُضعت في العجلة الإحتياطية في سيّارته. قام الإسرائيليّون بتوفير المعلومات عن مكانه، إلّا أنّ فريقا سرّيّا من الوكالة هو الذی-;- نفذ عمليّة الإغتيال. إلتزم الإسرائيليّون كعادتهم بالصّمت، وما زال حزب الله يطالب بالثأر. تمّت تصفية مغنيّه لكنّ ضباط الحرس الثوري الإيراني المتورّطين في الهجوم على السّفارة ما زالوا احياء طلقاء. احمد كنعاني الذي كان قائدا للحرس الثوري في بعلبك وقت تفجير السّفارة اصبح فيما بعد سفيرا لبلاده في مدغشقر، وسفير إيران السّابق في دمشق محتشمآپور اصبح وزيرا للدّاخليّة وهو اليوم قائد احد الأحزاب السّياسيّة في إيران. أمّا علي رضا عسكري، فيعتقد زين أنّه هو الذي جنّد عماد مغنيّه واعدّه اصلا لمحاربة الأمريكييّن. لقد اخبر مغنيّه صديقه زين أنّ الهجوم على السّفارة كان "عمليّة عسكري". وتبقى قضيّة عسكري هذا مسألة غير طبيعيّة، فقد انشقّ على سلطة إيران ومنحته إدارة بُش لجوء سياسيّا، ويقيم الآن في مكان ما في ولاية تكسس تحت حماية الوكالة. في المراسيم التي اجريت داخل مركز الوكالة لتأبين ضحايا السّفارة، وصف كيسي الفقيد أيمز بأنّه، "كان اقرب شيء إلى رجل لا يمكن تعويضه." لقد تربّى أيمز في اجواء العمليّات السّرّيّة، لكنّه في نفس الوقت كان خارجها، وهو امر شائع. فهو لم تبدر منه شكوى عن ظروف العمل في العالم الثالث، بل على العكس كان يفضّلها. لم يكن يرغب العمل في لندن أو پَريس، وحتّى إيفون فضّلت السّكن في عدن على بيروت والكويت على طهران. ولذلك فإنّه لم يشعر بالإحتقار للحياة هناك، كما يشعر به بعض ضبّاط العمليّات، ممّن اعتبروا أنّ العمل هناك يُعتبر تضحية من جانبهم. بالنّسبة له، لم يعتبر العمل المخابراتي تضحية بل واجبا. لا بُدّ أنّ البعض من زملائه قد خبروا مشاعره تلك ولم يقابلوا موقفه بالإرتياح. ليس الأمر أنّ أيمز كان مثقفا، بل أنّ مشكلته أنّه احبّ اولئك العرب الملاعين حبّا كثيرا، وتعاطف معهم إلى اقصى الحدود. لقد خلق لنفسه شخصيّة اسطوريّة. "تمتّع بوب بسمعة في قسم العمليّات، بأنّه ذكي جدّا ومثقف،" حسب ما يتذكّر لندزي شِرون،الذي عمل معه في الفترة الأخيرة. احبّ أيمز العمليّات واعتقد أنّه كان جيّدا فيها. لكنّه اعتقد أنّ العمل السّرّي يجب أنْ يكون له غرض اكبر من مجرّد "لعبة كبيرة". والنّقطة هنا، هي أنّ مثل هذا العمل يجب أنْ يؤثر في مسرى التّاريخ من اجل خلق عالم افضل. لقد آمن أيمز بذلك حقا. كان يريد أنْ يكون لعمليّاته السّرّيّة قدرة على اقناع واضعي السّياسة لاتّخاذ قرارات صائبة. لقد شعر أنّه في نهاية عام 1978 وصلت السّياسة الأمريكيّة في الشّرق الأوسط إلى طريق مسدود. شعر أنّ هناك قوى خفيّة تمنع القيادة السّياسيّة العليا أن تعمل وفق ما يتوفر لديها من المعلومات لاتّخاذ قرارات لصالح الولايات المتّحدة. في اعتقادي أنّه يقصد النّفوذ الصّهيوني المتحكّم بسياسة البلد، وخاصّة الدّور الذي لعبه هنري كِسنجر. عمل كِسنجر من اجل الإسرائيلييّن، وكان يهدف لإبعاد عناصر المستعربين الذين ليسوا على هوى الإسرائيلييّن عن قسم الشّرق الأوسط، ولم يكن ممعنا في التّستر بالسّريّة، بل كان ولا يزال صهيونيا بغير مداراة. نحن الذين دفعنا وندفع ثمن اكاذيبه وممارساته، ونحن الذين تدَمّر اوطانهم، ونحن الذين نعاني ردود فعل داعش والقاعدة والنّصرة وتفرعاتها. نحن من وقع في فخّ الرّبيع العربي الذي روّجته ودعمته وحمت القائمين به وعليه استخبارات ومثقفون ممن حوّلوا اهدافه، وقادوه إلى الكارثة، فبرنارد هنري ليفي ما زال حيّا يسعى. نحن محاصرون بين ابشع ما في تاريخنا، ممثلاً بداعش والظلامييّن، واحدث ما انتجته الحداثة الغربيّة من مؤسّسات ممثلة بالوكالة واخواتها، بين فكر بدائي متجذر وفكر إستعماري متجدّد. أمّا دولنا فتتفكّك الواحدة تلو الأخرى. تفصل بين شعوبها ومكوّناتها انهار من الدّماء والدّموع. العروبة لا تعني للإسلامييّن شيئاً. بلْ هم اعداؤها، في الحكم كانوا أو خارج الحكم. وبلادنا ضحية غزو مرتزقة قادمين من ظلمات التّاريخ وعصور العبوديّة، ومرتزقة قادمين من دولة اقيمت على جماجم اهلها الأصلييّن. لقد زحف هذا المدّ العدمي على سكينة العرب وآمال العروبة واكترى لذلك الحاقدين وجوعى السّلطة، وسهلي الارتزاق، فأصبح المشهد لا يُطاق. قلبي يتمزّق الما. وإذا كانت إيران حقا مسؤولة عن تفجير السّفارة الأمريكيّة فإنّها ارتكبت من حيث لا تدري جريمة كبرى بحقّ الفلسطينييّن، لأنّها قتلت افضل صديق لهم قريب من البيت الأبيض. سيبقى سلامه وأيمز ومغنيّه وحتّى لورنس شهداء احياء في ضمير كلّ من اطلع على سيرتهم، كلّ لقضيته. إلّا أنّهم وقفوا جميعا مع حريّة النّاس وإنسانيّة البشر وقاتلوا من اجل كرامتهم البشريّة.
د. محمد جياد الأزرقي استاذ متمرس- كلية ماونت هوليوك قرية مونتگيو- ماساچوست، الولايات المتّحدة The Good Spy: The Life & Death of Robert Ames By Kai Bird, Pulitzer Prize-Winning Crown Publishers, New York, 2014 ISBN 978-0-307-88975-1
#محمد_الأزرقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لورنس الآخر: حياة روبرت أيمز وموته
-
ألسباق للفوز بما تبقي من المصادر الطبيعيّة
-
دور حكايا الساحرات الخيالية في النمو النفسي والعقلي للأطفال
-
قراءة في كتاب ألمسألة ألأخلاقيّة وأسلحة الدّمار الشّامل مقار
...
-
غرباء مألوفون
-
التملص من جرائم التعذيب في السجون الأمريكية
-
الأمل الوهم - أوباما والصراع العربي الصهيوني (الحلقة الثالثة
...
-
الأمل الوهم - أوباما والصراع العربي الصهيوني (الحلقة الثانية
...
-
الأمل الوهم - أوباما والصراع العربي الأسرائيلي (الحلقة الأول
...
-
الأمبراطورية الصهيونية الأمريکية- الحلقة الرابعة
-
الأمبراطورية الصهيونية الأمريکية - الحلقة الثالثة
-
المرأة في الدخيل الجائر من التراث - الحلقة الأولی
-
الأمبراطورية الصهيونية الأمريکية
-
ألأمبراطورية الصهيونية الأمريکية
-
المرأة في الدخيل الجائر من التراث -الحلقة الرابعة
-
3-ألمرأة في الدخيل الجائر من التراث
-
المرأة في الدخيل الجائر من التراث - الحلقة الثانية
-
المرأة في الدخيل الجائر من التراث-الحلقة الثانية
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|