|
من دفاتر نيتشه الفلسفية : مسألة الإغريق و علاقتهم بالفلسفة ( 3 )
محمد بقوح
الحوار المتمدن-العدد: 4811 - 2015 / 5 / 19 - 23:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
1- الوقت المناسب للتفلسف : لحظة البهجة و الامتلاء الفردي و الجماعي بدءا، هل للتفلسف وقت و شرط معينين، في عمر الإنسان، و في حياة المجتمع، دون وقت آخر، و دون أي شرط مغاير ؟ نشير إلى أن معنى التفلسف في سياق تساؤلنا، يقع خارج إطار المفهوم المؤسساتي للفلسفة و التفكير الفلسفي . و من تم بإمكاننا طرح سؤالنا بمعنى آخر : لماذا تزدهر الفلسفة، كفكر عقلاني نقدي في عصر، و تنحط في عصر آخر، إذا قبلنا تلقي و فهم و تحليل المعطى الفلسفي، وفق أطروحة منطق العصور ؟ هل وضع الفلسفة المزدهر أو المنحط، يرتبط هنا بأحوال الأفراد، المادية و المعيشية و المعنوية في الحياة، و كذلك بطبيعة علاقاتهم بالأشياء ذاتها في ذاتها، الحاضرة، بشكل من الأشكال، في نسق وجودهم، ارتباطا بصيرورة المجتمع المتغيرة باستمرار، حيث يحيون و يعيشون و يوجدون ؟ أم أن أمر الفلسفة و التفلسف أبعد و أعمق من كل ذلك : حين ترى الفلسفة فرحة مرحة ..، تنمو و تزهر ..، تلهو و تقهقه و ترقص ..، داخل حلبة صراع موج بحر الأشقاء الأعداء، الصراع الذي يعني هنا التنافس و التنازع، المؤدي فعليا و ضرورة، إلى تحقيق حياة النصر و الغلبة، و نيل تقدير الأهل و احترام الجار، كما هو واقع الحال عند فلاسفة الإغريق، فاعلم أن حالة الفلسفة الصّحية بخير، بل سليمة و قوية للغاية : إنّ وضعها هنا شروق حياة بهيجة أكثر من طبيعية، و في قمة العطاء الانساني دون شك، كما يشهد على ما نقول، تاريخُها القوي و صيتها المجيد، في العصر اليوناني القديم، خاصة مع فلاسفته الحكماء العظام، الذين نعتهم نيتشه ب"جمهورية العباقرة " ( من طاليس إلى سقراط ) . لكن، في المقابل، عندما تجد الفلسفة تشكي و تشتكي ..، بل تبكي و تنوح ..، تائهة و قلقة حينا ..، و مبتهلة مادحة أو مرثية حينا آخر ..، فاعلم أنها ساعة الحقيقة المرّة، قد دقت فيها و إليها الأفول يميل : غروب شمس الفلسفة و ضعفها، و مرض الفيلسوف و عجزه .. بل سقوطها قد لاح في الأفق .. لا محالة .. إلا أن حرارة إشكالية سؤالنا ما تزال مستمرة، نقرّبها أكثر بالطريقة المسائلة التالية : ألا يحق لنا تفسير نهضة الفلسفة، في حالتها الطبيعية الصّحية، بتفوّق قوة قوى قيم فكر التنوير و التعليم المستنير، لدى الفيلسوف كفرد، و غلبة العقل النقدي المركب، في المجتمع المنفتح و المثقف، خاصة عند النخبة المفكرة العادلة، مهما كانت الطبيعة التاريخية لهذا المجتمع قديمة أو حديثة أو معاصرة ؟ بمعنى، أننا نلاحظ أن انحطاط الفيلسوف و ليس الفلسفة، ناتج لا محالة، عن سياسة و تدبير منهجي في نفس يعقوب . خطأ في التفكير تحوّل، بقوة ثقافة التكرار، إلى تدبير سياسي ناجح، أدى إلى إفشال المشروع الفكري و الحياتي للفلسفة، المشروع الذي أسسه حكماء و فلاسفة الإغريق القدامى . هكذا يتحمل الفيلسوف، خاصة سقراط مع تلامذته الأخلاقيين، نصيبا مهما من مسؤوليته، في المصير المرضي المنحرف الذي اصطدمت به الفلسفة . كما أن الإرادة السياسية، للنخبة المفكرة الضعيفة، كان لها دور كبير في إبقاء حال الفلسفة كما هو : مريضا و ضعيفا و تابعا، بل أداة في خدمة و رهن إشارة الدين و السياسة و مجالات أخرى . نعرف و نسلّم بأن الطريقة المثلى لإضعاف الخصم، هي جعله أداة خاضعة لشؤونه و إشاراته المفروضة . إي استعباده و تدجينه . و هذا ما حصل فعليا مع الفيلسوف الميتافيزيقي، بعد اللحظة السقراطية، حيث تم تحويله مكرها، إلى أداة مستسلمة، في خدمة الفكر الديني حينا ( أفلاطون، كانط )، و في خدمة الدولة و السياسة المهيمنة حينا آخر ( هيغل ) . فيلسوف بعمق ديني أو سياسي، تتبرأ منه الفلسفة الحرة، بمعناها العقلاني النقدي، الذي يموقع نفسه دوما ضدّ التبعية و الهيمنة و الاستعباد و الاستبداد و الاستغلال، و بالمقابل، ينتصر العقل الفلسفي الفعلي، فكريا و عمليا، لقيم العدالة و التنوير و الحرية و الإنسان . يعني، أننا هنا بصدد مفهوم أولي و صافي و تأسيسي للفلسفة، ذلك الذي دشنه بدءا، و عمل به الفيلسوف الإغريقي القديم، قبل أن يعمل سقراط، و مدرسته الذاتية و الأخلاقية، على مسخه و تحريفه .. هكذا، نجد أنفسنا أمام مفارقة غريبة : الفلسفة و الفيلسوف . هذا ..، هو الذي قاد، تلك ..، إلى جحيم، و ليس جنة، الميتافيزيقا، حيث باتت، كذات .. إلى حد اليوم، تائهة غريبة عن وطنها .. موضوعها . لهذا، واصلت القوى المحافظة التاريخية، بمساعدة الفلاسفة المهادنين أنفسهم، رحلتهم المطاردة و الطويلة، لتضييق الخناق على الفلسفة و الفكر الفلسفي، بالمعنى النقدي الحرّ و التحريري، و العلمي، لكلمة "فلسفة" . و كل محاولة للانفلات، من أجل التأصيل، و الخروج، و التجاوز للطابع الديني المهيمن، و المؤسساتي الممجد، و الميتافيزيقي السائد، للفعل الفلسفي و الفكر الحر، يواجه و يقاوم صاحبه الفيلسوف المشاكس و المخترق، بالمال و الاعلام و الآلة، و بكل تجليات و أعوان السلطة الرمزية للمجتمع، للحد من يقظة الفلسفة، و نهضة الفكر الحرّ، و انطلاق الفيلسوف المفكر ( سبينوزا، نيتشه )، و ليس الفقيه أو قاضي المحكمة أو مُدرس السفسطة . لهذا فإذا كان " الفيلسوف يحمي و يدافع عن وطنه، في حين نرى منذ أفلاطون، أن الفيلسوف قد نفي و راح يتآمر ضد وطنه "1 . و بالتالي، فعصور التاريخ جميعها لم تعرف، حسب نيتشه، سوى ستّ فترات تاريخية هامة، حظيت فيها الفلسفة و الفيلسوف معا، و المعرفة و العلوم، في بعدهما الفكري النقدي الخالص و العميق، بما يلزم من رعاية اجتماعية و مجتمعية، و حظوة سياسية واضحتين، عند النخبة الحاكمة، و المفكرة المدبرة للشأن العام، نذكرها على التوالي : 1 – العصر العبري الأول، 2 – عصر الإغريق، 3 – عصر الرومان ، 4 – عصر الموريسكيين، 5 – عصر النهضة، 6 – عصر الأنوار ( قرن 17 – 18 في فرنسا ) . هكذا، يبدو لنا واضحا أن لحظة الفلسفة الإغريقية، الما قبل السّقراطية، هي أهمّ اللحظات الذهبية في تاريخ الفلسفة القديمة، تلك التي تميز فيها القول الفلسفي بالكثير من الحرية النظرية، و نقد السائد، و الصراع الفعّال، و القوي، و المتفوّق، ضدّ الأفكار المتعَبة و الخاضعة و المدجّنة، و ليس ضد من يفكر، يعني تقدير الفرد المفكر . فلماذا تفلسف الإغريق إذن، في الزمن التاريخي التراجيدي، باصطلاح نيتشه ( القرون الستة الأولى قبل الميلاد )، و لم يتفلسفوا مثلا في زمن ما قبل هذا التاريخ، أو ما بعده، بنفس الكيفية النقدية و التراجيدية الجريئة ؟ لماذا تفلسف الحكماء "الأغارقة" في اليونان القديمة، في نفس الظرف التاريخي و الاجتماعي و الحضاري، الذي انشغل فيه العرب بحكي الأيام، و سرد الأنساب، و قول الشعر، و انشغل الرومان بالهندسة، و المصريين ببناء المعابد و الأهرامات، و البحث المستمر عن قبلة مناسبة للآلهة ؟ لماذا اشتعل العقل الفلسفي في الإغريق .. هناك نورا ساطعا، و اشتعل العقل الديني في الشرق .. هنا ابتهالات و صلوات مرفوعة للآلهة ؟ على اعتبار أن " وظيفة الدين لم تكن تساعد على ممارسة المغامرة العقلية "2 ، التي كانت من السمات الأساسية للحضارة اليونانية القديمة . لعلنا، نجد أنفسنا من جديد نتحدث هنا، عن بداية محتملة لأصل التفلسف و الفلسفة، و ليس عن مؤشر التفكير الفلسفي المبكّر، الذي من المفروض أن يكون مرحلة تأسيسية، للتفكير البشري النوعي، و ليس تفكيرا نمطيا، و لا كميا منفعلا و مريضا، كما أراده فكر السلطة الرمزي الحاكم، و اختارته أنظمة العقل السياسي المهيمن !! إن هذا واقع الأمر، الذي تحقق بالفعل عند حكماء الإغريق، لمّا أبدعوا في القول و التفكير الفلسفيين، و لم يتحقق عند باقي شعوب الأرض و حضاراتها . تلك التي انشغلت - ربما - بأشياء أخرى، و بأفكار و أوهام و معتقدات، من نوع ذاتي مختلف، غير التفكير الفلسفي الخالص، الذي وجدناه ناضجا عند الإغريق، و بدأوا من خلاله بطرح سؤال وجودهم، كطبيعة .. و كنوع بشري، و أيضا سؤال وجود تلك الأشياء، و الموجودات الهائلة، كمّا و كيفا، المحيطة بهم، و لماذا وجدت هذه الأفكار، و تلك الأسئلة الوجودية الطبيعية، في ذهن الفرد و الجماعة، في أصل الأشياء، باعتبار الإنسان هنا، ككل الكائنات الحيّة، رهينٌ وجودُه بوجود كائنات طبيعيّة، تحيا في جواره، قبل أن يحوّل هذا السؤال الأم المستفز للفكر لاحقا، إلى أسئلة كبيرة ذات طبيعة علائقية، لا تقل أهمّية عن السؤال الوجودي البديهي المبكّر الأسبق، حرارة و عمقا و احتراقا ..! نعني به السؤال المعرفي، منطوقه : أريدُ أن أعرف، لماذا أنا موجود، هنا و الآن، في هذه الحياة، و على هذه الأرض، و بمعية هذه الطبيعة الجميلة و المُدهشة، و المُرعبة، التي أنا جزء منها، باعتباري كائن طبيعي منها، و هي جزء مني، باعتبارها كائنة طبيعية فيّ .. و كلانا موجودات تحيا بالطبيعة، يتعلق الواحد منا بالآخر .. غير أنّني كإنسان يفكر، أسعى لمعرفة مَن أكون، و لماذا أنا هنا، الشيء الذي لا تقدر على معرفته، و لا حتى السعي إليه، هذه الطبيعة الصديقة و العدوة، في الوقت عينه ؟ إنه السؤال الكبير الذي فجّر، عند الفيلسوف الإغريقي القديم، ينبوع قضايا فلسفية، ذات طابع فكري تأملي وجودي عميق، أطرته إرادتُه المعرفية، و الغرائزية، لاكتشاف ما وراء عالم الأشياء المحسوسة، و المجردة : كالفكر و المادة و الأحاسيس، و الانفعال و الفعل و الحروب، و الجمال و القبح و الجسد، و كذا الشعر و السحر و الاندهاش، و الموسيقى و المسرح و الاحتفال، ... إلخ . إنه الإكراه في الطبيعة، و هباتُها – كنوزها الخيّرة اللامحدودة، و المتناقضة، بمفارقاتها التي لا تحصى، و لا تقدر بثمن : الحُبّ و الخوف . المتعة و الألم . السلطة و العجز . الحياة، و الموت المحدق بالأحياء . الطبيعة، و ما وراء الطبيعة . وضع سيوّلد تراجيديا جدلية الإنسان و الآلهة، ستليه إجابات الأسطورة، الباحثة عن الحقيقة .. حقيقة مخاوف هذا الانسان، الذي تمّ القذف به إلى حياة لم تكن موجودة قبل أن يراها .. وجد فيها دون استشارته، بعدها ستتوّج أسئلته المقلقة، في وضعه التراجيدي القائم، و في أرض الانسان، سعيا لقمع و تحصين و احتواء شرارة تلك الأسئلة، و تدجين الطبيعة الغريزية للفرد البشري، في كون الطبيعة الهائل، بظهور الأديان و المعتقدات، الحسية و المجردة، تلك التي هدّأت مؤقتا من روع النوع البشري، و فتحت له بوّابة الأمل الكبير، في حياة المفارق في المستقبل . هكذا " أفسح السحر و الخرافات و الطقوس الدينية طريقا للعلم، و بدأت الفلسفة . لقد كانت هذه الفلسفة في البداية فلسفة طبيعية مادية "3، تعبر عن واقع مجتمع كله حيوي، ينمو و يتطور، و يتفاعل إيجابا مع كل ما هو طبيعي و قوي، اجتماعيا و سياسيا و اقتصاديا و عسكريا و ثقافيا و فنيا و جماليا . فلسفة حيّة طبيعية صحّية، متعايشة مع ما هو علمي و حسي، في مجتمع إغريقي قوي و طموح، يعيش نوعا من الاكتمال، و يحيا قوة الذات المبتكرة، في صلتها بالآخر المرتبك إلى حد ما . غير أن الأفكار الفلسفية، في خضمّ كل هذه التحوّلات، و التفاعلات الجدلية، بين النوع البشري، و محيطه الطبيعي، ثم الثقافي فيما بعد، كانت تزهر بأضوائها المشعّة، بين الفينة و الأخرى، في ليل غابة الإنسان العنيفة و الحائرة . لعل الفلسفة الإغريقية، خاصة مع الفلاسفة الطبيعيين، و الذريين، و الفيتاغوريين ( لحظة ما قبل السقراطية )، ستعرف نهضة مهمة و قفزة نوعية، على مستوى طرحها السؤال الفلسفي، موازاة مع ما هو نقدي و علمي . أي تقديم الإجابة العقلية للسؤال الميتافيزيقي، حول مبحث مسألة الوجود، منطوقه : ليس المهمّ من أكون، و لا من أين جئت، و لا لماذا أنا موجود .. هنا، و لا إلى أين أصير .. في الهناك ؟ ، بل المهمّ، أن أحيا وجودي، كما أنا، كما لو كنت شجرة، أو طائرا يحلق، أنا الموجود بالضرورة، كجميع الكائنات الطبيعية مثلي، من حولي، فلأترك إذن، صُداع الأصل و البداية، و المصير و النهاية، للفلاسفة الميتافيزيقيين، ممن يسمّيهم نيتشه نفسه، ب "قاتلي" الفلسفة المحضة، في ميدان مهدها الصافي، الذي لم تتخطاه حروفها المزهرة الأولى، نتيجة تورّطها – أو توريطها، في عرس غير مشروع، مع سلطة الفلسفة الزائفة، فلسفة المحاكم بتعبير كانط، و فلسفة الفقهاء بتعبير ابن رشد، و عُمّال الفلسفة حسب نيتشه ؟ غير أن الوقت الذهبي للتفلسف الحق فعليا، كما يراه نيتشه، لم يبدأ إلا في لحظة مجتمع الامتلاء، و اكتمال النضج الفكري الفردي، الذي يجب أن يتحقق ضرورة، كما يقول " حين نكون سعداء، في مكتمل العمر، مُسلّحين بالابتهاج الغامر، الذي يسببه النضجُ الرجولي المتين و المنتصر . إن كون هذه اللحظة بالذات، هي التي بدأ معها الإغريق بالتفلسف، يعلّمنا ما هي الفلسفة، و ما يجب أن تكون، بقدر ما يعلمنا حول الاغريق أنفسهم "4 . يمكننا مناقشة دواعي التفكير الفلسفي و التفلسف، كما طرحها، و صاغها نيتشه في النص أعلاه، باعتبارها دواعي ترتبط أساسا بالاستعداد الذاتي للفرد الفيلسوف، كشخص حرّ، يحب الحياة .. أولا و أساسا، و كمواطن بهيج و قوي، مولع بالسؤال الفكري حتى الثمالة .. ثانيا، على غرار وضع الإنسان الإغريقي هنا، المحتفى به بالطريقة الشعرية، في النص النيتشوي، سواء على مستوى علاقته بذاته الفردية، كطاقة فكرية و جسدية قوية، أو علاقته الوطيدة بمجتمعه الأم "اليونان"، أو علاقته بالمجتمعات البشرية الأخرى المحيطة به، و أيضا طريقة تعامله مع مسألة المعرفة، و كيفية تحصيلها، و تعلّمها، و تعليمها لآخرين المختلفين عنه .
2 - الفلسفة و الحضارة الإغريقية، و حوار الحضارات إن الفيلسوف اليوناني الحكيم، يشكل جزءا لا يتجزأ، من كلية حضارة الشعب الإغريقي، هذا الذي تشبّع جسديا بحياة المرح و اللعب ( الأولمب )، و امتلأ فكريا بقوة الأسطورة، و بحسن جمالها المفترض ( المعتقد )، و بالانفتاح الشمولي على الحضارات المجاورة، إيجابا و سلبا، عطاءا و أخذا، احتفالا و حروبا . لهذا جاء تفكيرهم الفلسفي القديم مبتكرا و أصيلا، حرّا و مختلفا . لأنّهم شعب ذكي " هضموا الثقافة الحية لشعوب أخرى "5، بطريقة مكنتهم روافد هذه الثقافة الحضارية المتنوعة، من تنويع تجربتهم و معارفهم، في الحياة الخاصة و العامة، في سياق المثاقفة و الحوار الحضاري بين الشعوب . هكذا، شكلت الحضارة الإغريقية، بطابعها الغني بالتجربة، و القوي بالبحث و الإبداع، حافزا مهما لإكساب الفلسفة الإغريقية القدرة على نيل شرعيتها المشروعة و المستحقة6 . بالإضافة إلى هذا التفاعل الحضاري و الثقافي، و انفتاح الشعب الإغريقي على خصوصيات شعوب محيطه الحضاري، و حواره الفعّال، مع باقي الثقافات و الحضارات المجاورة، تفوّق الأغارقة أيضا في جعل معرفتهم الفكرية و الفلسفية، رهن إشارة كل أشكال و مظاهر الحياة الإنسانية . و بالتالي، كانت حفلاتهم و احتفالاتهم، و فنونهم، و حتى حروبهم بمثابة تجليات " آلهة اليونان الثلاثة – استقواء على النفس و الغير، و تجميل للواقع تنبيل، و طلب للكمال و التحسين، فصارت بهذا بلاد اليونان، بلاد الاقتدار و الجمال و الكمال، كانت وسائل للاحتفاء بالذات و استزادة إرادة القوة "7 . يقول نيتشه متحدثا عن فلاسفة الإغريق القدامى، معبرا عن إعجابه الشديد بتجربتهم الفلسفية الراقية، " إنهم لجديرون بالإعجاب من حيث فنهم في التعلم بشكل مفيد، و علينا أن نحذو حذوهم في التعلم من جيراننا، واضعين المعرفة المكتسبة كدعامة في خدمة الحياة، و ليس في خدمة المعرفة الموسوعية، التي ننطلق منها دائما لكي نتعالى عن الجار"8 . بل ذهب نيتشه في أكثر من كتاباته، إلى حد اعتبار العبقرية الفلسفية الإغريقية مُبدعة أصيلة، بل سبّاقة إلى ابتكار النسق الفلسفي المكتمل، الذي لم يعمل الفلاسفة اللاحقون عليه، سوى على تكراره و اجتراره، بالتأويل و التفصيل، و الشرح، و إعادة طرحه في حلل جديدة، لا غير . يقول " لقد ابتكروا في الواقع الأنساق الكبرى للفكر الفلسفي، و لم يبق لمجمل الأجيال اللاحقة، أن تبتكر شيئا جوهريا يمكن أن يضاف إليها "9 . باعتبار أن الحضارة اليونانية، في أصلها و أساسها، كانت " تمجيدا للحياة "10 المتغيرة و المتحولة باستمرار، و ليست تقديسا لما هو ثابت و جامد و مكرور .. هكذا جاءت فلسفتهم قوية، شبيهة لقوة حياتهم الاجتماعية العامة .
3 - الفلسفة و الفن الإغريقي التراجيدي لابد هنا من تقديم المفهوم الفلسفي، كما يتصوره نيتشه، لمسألة الفن، و هو في غاية الأهمية، من حيث أنه يجعلنا نكتشف هذه العلاقة القوية، بين ما هو فلسفي، و ما هو فني جمالي، في فكر نيتشه الفلسفي . يقول في نص جميل و عميق : " لكي يكون هناك فن، لكي يكون هناك عمل جمالي ما، و نظرة جمالية، لابد من توفر شرط فيزيولوجي لا محيد عنه : النشوة . لابد أن تكون النشوة قد رفعت من استثارة الآلة بكليتها، من دون ذلك لا يمكن إنجاز أي فن "11. هكذا يحق لنا القول، مع نيتشه، أن معنى الفن و قيمته، مرهونان بتوفر الشرط النفسي، الذي يسميه نيتشه ب "النشوة ". هل الجمال الفني يتوقف على حضور النشوة لدى الفنان ؟ بمعنى أن العمل الفني الذي يفتقر صاحبه ( الفنان ) إلى عامل النشوة، حتما لن يكون جميلا، و بالتالي، لن يؤثر إيجابا على المتلقي . إن مفهوم الجمال هنا، يطرحه نيتشه بالمعنى الفلسفي، الذي يرتبط بدلالة استحواذ المنجز الفني، على كلية الاستعداد الذاتي و النفسي لمتلقيه، كما سبق أن استحوذ على صاحبه المنتج له . يضيف قائلا : "حين يستحوذ الفن بقوة على شخص ما، فإنه يعود به إلى تصورات العصر الذي كان فيه الفن يزدهر بحيوية كبيرة، إنه إذن يمارس عملية نكوصية"12. هكذا يتضح، أن مفهوم النشوة هنا، هو مفهوم متعلق بمعنى المتعة، التي من خلالها، ينتج الفنان أو الفيلسوف أو الشاعر منجزه الابداعي، الذي يتحوّل بنفس المتعة ( الاحساس ) إلى قارئه و متلقيه . لعلّ جوهر التفلسف النيتشوي هنا، ممزوج بعمق الممارسة الفنية، باعتبارها عملية شعورية فائقة الجمالية، كما يتصورها نيتشه نفسه . فلنواصل الانصات لنص نيتشه : " و كل أنواع النشوة، مهما اختلفت أشكال المثيرات، تمتلك القدرة على ذلك، و بصفة أخص النشوة الناجمة عن الإثارة الجنسية، الشكل الأكثر قدما و بدائية من بينها جميعا . و لا تختلف عنها في ذلك أيضا النشوة المتأتية عن كل الرغبات الكبرى، و كل الأحاسيس القوية، نشوة الاحتفال، و نشوة المبارزة، و الأعمال البطولية، و الانتصار، و كل الأفعال القصووية، نشوة الشناعة، نشوة التدمير، النشوة التي تثيرها تبدلات الطقس، مثل نشوة الربيع، أو تلك الناجمة عن مفعول المخدرات، و أخيرا نشوة الإرادة، نشوة إرادة عرفت طول تراكم و تضخم . إن الأمر الأساسي في النشوة هو ذلك الشعور بتفاقم الطاقة و زخم الامتلاء "13. لعل نيتشه، في متم النص أعلاه، يجعل "نشوة الإرادة"، ضمن أنواع النشوة التي سردها ( النشوة الجنسية، النشوة المتأتية، نشوة الاحتفال، نشوة المبارزة، نشوة الشناعة، نشوة التدمير، نشوة الربيع، نشوة التخدير، نشوة الإرادة ) كتتويج هام لكل النشوات العديدة و المختلفة، كيفما كان نوعها . لأن "نشوة الإرادة"، يراهن على قدراتها الكبيرة، التي تفوق قوة كل ما عداها، من قدرات الفرد الفنان . بالإضافة إلى موقعته "النشوة الجنسية"، في درجة أسفل قاعدة كل النشوات البشرية المذكورة، بترتيبها ضمن صياغتها الفلسفية النصية أعلاه، باعتبارها نشوة جسدية و حيوانية مشتركة، لا تدل على فردانية الانسان ككائن طبيعي و يفكر .. غير أن حافز النشوة، في نهاية الأمر، هو طاقة و امتلاء نفس الفرد، و كذلك الجماعة التي ينتمي إليها، في حالة الاتفاق و التواصل الملتحم، كالإغريق مثلا، بالقوة و إرادة القوة، التي هي أساس كل عمل إبداعي خلاق و ناجح، سواء كان فنا أو فلسفة .. بل أساس كل نجاح و انتصار في الحياة عامة . لهذا، لم يكن الفنّ بالنسبة للشعب الإغريقي، كما كان عند " خلفهم الرومان في ما بعد، زينة و زخرفا و بدعة و صنعة، و إنما كان، إن جاز التعبير، "طبيعة" و "غريزة" تغيّت حمل الناس على تحقيق "الصحّة" و "العافية"، أي أنه كان علامة سلامة "14، و هو نفس الدور الهام و الرئيسي، الذي لعبته الفلسفة في العصر الاغريقي التراجيدي المتحدث عنه، من منظور نيتشه الفلسفي النقدي . بمعنى أن الفلسفة هنا، تؤدي مهمّة علاجية طبية، سماها نيتشه نفسه بالمهمة "التطهيرية"، متسائلا عن معناها، و الخلط الدلالي و التصنيفي المحتمل، الذي طرحته هذه التسمية، بالنسبة للمفكرين و الباحثين المهتمين بالموضوع . هل يدخل مفهوم "التطهير" بتعبير أرسطو، أو "التنفيس" حسب نيتشه، في إطار ما يمكن تسميته بالظاهرة النفسية الطبية، أم هو مفهوم قيمي له علاقة بالمجال الأخلاقي ؟؟ مستندا في كل ذلك، إلى المرجعية الفلسفية الأرسطية المهيمنة، باعتبار أن أرسطو كان هو صاحب مفهوم التطهير . يقول " إن فكرة التنفيس كطريقة علاجية، أي التطهير بالمصطلح الأرسطي، هو التعبير الذي يحار علماء اللغة أين يصنفونه، - هل يصنفونه كظاهرة طبية أم كظاهرة أخلاقية "15 . إن الفن القوي، هو الوجه الآخر للفلسفة القوية . كلاهما ينفرد بتلك اللمسة الطبية العلاجية، حسب نيتشه، في حالة ما وجودهما، في بيئة فنية أو فلسفية مريضة، كالبيئة الرومانية، التي تحوّل عندها الفن إلى طلاسم مزينة، أو البيئة الفلسفية الحديثة، في عصر نيتشه نفسه، لمّا أغرقت الميتافيزيقا بعض الفلاسفة ( شوبنهاور ) في يمّ التفكير الفلسفي العدمي .
المراجع
1 – نيتشه ، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي ، ترجمة محمد الناجي ، ص 44 2 برتراند رسل ، حكمة الغرب ، ترجمة فؤاد زكريا ، سلسلة عالم المعرفة ، عدد 364 ، ص 28 3 - ول ديورانت ، قصة الفلسفة ، ترجمة فتح الله محمد المشعشع ، ص 8 4 – نيتشه ، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي ، ترجمة محمد الناجي ، ص 39 5 – نيتشه ، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي ، ص 40 6 – نفسه ، ص 43 7 – محمد الشيخ ، نقد الحداثة في فكر نيتشه ، ص 150 8 – نيتشه ، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي ، ص 40 9 – نيتشه ، نفسه ، ص 41 10 – محمد الشيخ ، نقد الحداثة في فكر نيتشه ، ص 153 11 – نيتشه ، غسق الأوثان ، ترجمة علي مصباح ، ص 106 – 107 12 – نيتشه ، إنسان مفرط في إنسانيته ، ترجمة محمد الناجي ، ص 100 13 – نيتشه ، غسق الأوثان ، نفسه 14 – محمد الشيخ ، نقد الحداثة في فكر نيتشه ، ص 153 15 – نيتشه ، مولد التراجيديا ، ترجمة شاهر حسن عبيد ، ص 245
#محمد_بقوح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد مفهوم الحرية في فلسفة سبينوزا
-
من دفاتر نيتشه الفلسفية : مسألة الفلسفة و التفلسف و الفيلسوف
...
-
من دفاتر نيتشه الفلسفية : الفلسفة و الفيلسوف .. المفهوم و أي
...
-
الفلسفة .. ضد سياسة التجميع
-
محمد ابزيكا .. المثقف العضوي . أو صراع الأنساق : بين الحداثي
...
-
الفلسفة و سياسة التكرار
-
التقدم ضدّ خرافة الوصول .. في سبيل الصداقة الفلسفية
-
المرتزقة الجدد ، وجهة نظر فلسفية
-
أعشاش لاحمة
-
مفهوم الدولة في مادة الفلسفة المقررة بالبرنامج الدراسي للباك
...
-
وقفة احتجاجية شعبية ضد تواطؤ لوبي العقار مع الإدارة في أكادا
...
-
عودة إلى علاقة السلطة بالحقل التعليمي
-
مسألة المثقف في تصور بيير بورديو
-
الأصول الفلسفية لمفهوم الهابتوس عند بيير بورديو
-
عنف المؤسسة التربوية ضد التلميذ
-
السؤال الملتحي ربيعا
-
نص إبداعي : الوزير المغربي المحترم و عودة الفيلسوف نيتشه
-
حدث إبداعي شعري عالمي بصوت طفولي بمدرسة البساتين أيت ملول (
...
-
أمكنة ناطقة ( 7 ) : راس الما.. عبر الأبواب الزرقاء المعلقة -
...
-
أمكنة ناطقة ( 6 ) : مقبرة الأندلس أو شتائل -لاغلاغ- الشجرية
المزيد.....
-
الكرملين يكشف السبب وراء إطلاق الصاروخ الباليستي الجديد على
...
-
روسيا تقصف أوكرانيا بصاروخ MIRV لأول مرة.. تحذير -نووي- لأمر
...
-
هل تجاوز بوعلام صنصال الخطوط الحمر للجزائر؟
-
الشرطة البرازيلية توجه اتهاما من -العيار الثقيل- ضد جايير بو
...
-
دوار الحركة: ما هي أسبابه؟ وكيف يمكن علاجه؟
-
الناتو يبحث قصف روسيا لأوكرانيا بصاروخ فرط صوتي قادر على حمل
...
-
عرض جوي مذهل أثناء حفل افتتاح معرض للأسلحة في كوريا الشمالية
...
-
إخلاء مطار بريطاني بعد ساعات من العثور على -طرد مشبوه- خارج
...
-
ما مواصفات الأسلاف السوفيتية لصاروخ -أوريشنيك- الباليستي الر
...
-
خطأ شائع في محلات الحلاقة قد يصيب الرجال بعدوى فطرية
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|