الاحزاب العربية امام ازمة هوية: القائمة العربية الموحدة لجأت للانغلاق على صبغتها الطائفية الانعزالية، بعد ان قدمت نفسها في السابق على انها جبهة اسلامية وطنية. اما الجبهة فتأتي لهذه الانتخابات وهي تعاني من انشقاق غير معلن، بعد نجاح بركة في الانقلاب على امينه العام. اما بشارة فيترشح في هذه الانتخابات وحيدا بعد ان احرق كافة الجسور التي اوصلته في السابق للكنيست.
اسماء اغبارية
بيننا وبين الانتخابات العامة للكنسيت اقل من شهرين، والشارع العربي يحكمه الارتباك، الاحباط واللامبالاة. كيف ستصوّت الجماهير العربية في البلاد في 28 تشرين ثان (يناير) القريب؟ لا احد يعرف، ولا احد يمكنه التكهن بالنتائج. الاصوات المنادية للمقاطعة الفعالة ارتفعت، ولكن خوف الاحزاب الاكبر هو من المقاطعة السلبية، اللامبالاة، فهذه كما يبدو بدأت ترسخ جذورها في نفسية المصوّت العربي. كيف وصلت الجماهير العربية الى وضع لا تدري ما هي فاعلة باصواتها، وهي التي كانت تُخرج 70% من ناخبيها لصناديق الاقتراع؟
انهيار الجسر
عدم وجود انماط تصويت واضحة، يتحمل مسؤوليتها الاحزاب العربية نفسها التي لم يعد لها برامج سياسية واضحة تطرحها. الهوية الاسلامية او القومية او الشيوعية، فرغت من مضمونها بعد ان اتفقت جميع الاحزاب على دعم حزب العمل الصهيوني على اساس شعار "اهون الشرين"، وراحت تتقرب من السلطة الفلسطينية التي فقدت ثقة شعبها، وتبتعد بنفس المقدار عن العمل الميداني في صفوف الجماهير العربية في البلاد.
كانت هذه المقدمة لافساد الصوت العربي، الذي اصبح يشترى ويباع ويرتفع سعره وينخفض حسب العرض والطلب، حتى لم يعد يعكس حقيقة انتماءات وميول الجمهور السياسية. التقلبات التي مر بها الشارع العربي كانت النتيجة الحتمية لضياع المبدأ: فبينما صوّت العرب ب95% من ناخبيهم لمرشحي حزب العمل في 1996 و1999، قاطعوا مرشح نفس الحزب في عام 2001، عقابا له على مقتل ال13 شابا عربيا في الانتفاضة.
في هذه الانتخابات تقف الاحزاب العربية امام ازمة هوية. فبعد ان اخذت على عاتقها الجسر بين حزب العمل والسلطة الفلسطينية، انهار حزب العمل بفقدان السلطة ودخول حكومة الوحدة، وقُضي على السلطة وانتهى مشروع اوسلو، فبقيت الاحزاب العربية جسرا معلقا في الهواء بلا اسس. اليوم، تقف الاحزاب العربية عاجزة عن اقناع جماهيرها بمبدأ عدم التصويت المباشر لحزب العمل الذي عاد لمنافستها على العضوية في الكنيست، بعد العودة لطريقة الانتخابات القديمة، ومن المتوقع ان يصارع على كل رئيس حمولة وعائلة لشراء الاصوات.
في هذا الوضع اصبح من المشكوك فيه ان ينجح كل الاعضاء العرب في البقاء في الكنيست. هذا ما يفسر حالة الهستيريا التي تسيطر اليوم على القوائم العربية التي لجأ معظمها لتكتلات غير مبدئية. وتهدف هذه التكتلات ليس لتوحيد الصف العربي كما يدعي النواب، بل لامر ابسط منه بكثير: الدفاع عن الكرسي.
اين البرامج
رغم ان تركيبة القوائم تأتي لانقاذ المقاعد، وهذا اصبح رأيا عاما واحتل العنوان الرئيسي في صحيفة "الصنارة" (6 كانون اول)، الا انها تشير بلا ادنى شك الى تحولات مرت بها القوائم العربية، وتستحق منا الوقوف عندها:
القائمة العربية الموحدة برئاسة عبد المالك دهامشة لجأت للانغلاق على صبغتها الطائفية الانعزالية، بعد ان قدمت نفسها في السابق على انها جبهة اسلامية وطنية. فقد ازاحت هاشم محاميد الذي كان ممثلا عن التيار القومي، لصالح ممثلها في الناصرة سلمان ابو احمد. ابو احمد الذي سطع نجمه في الناصرة من خلال اثارة قضية شهاب الدين التي شقت العرب بين مسلمين ونصارى، يحتل اليوم المكان الثالث في القائمة. ويشير هذا بوضوح الى ان القائمة تسعى لقطف ثمار الاقتتال الطائفي ورمزها هذه المرة شهاب الدين، الذي من خلاله تسعى القائمة لحرف الجماهير عن قضاياها الحقيقية.
اما الجبهة فقد فشلت قبل ان يأتي موعد الانتخابات. قد تُدخل نوابا للكنيست ولكن الثمن الذي دفعته لاجل ذلك كان غاليا جدا: انتهاء الحزب الشيوعي الذي كان يشكل عمودها الفقري. فقد قررت اللجنة المركزية للحزب ترشيح المرشح اليهودي دوف حنين، حسب التقليد المعروف وتأكيدا على هوية القائمة العربية اليهودية المشتركة. غير ان الخوف من ضياع الكرسي الثالث، ومصادر مقربة ترى انه الخوف من عدم تجاوز نسبة الحسم، جعل النائب محمد بركة، سكرتير الجبهة وعضو في الحزب الشيوعي، ينقلب على القرار ويكسر الطاعة الحزبية.
وقد اتى بركة لمجلس الجبهة حيث يتمتع بدعم الاغلبية، ومعظمهم اعضاء في الحزب، باقتراح المصادقة على ان يكون في المكان الثالث في القائمة احمد الطيبي. مصادقة الجبهة على الاقتراح كانت عبارة عن انقلاب الاعضاء الاكثر انتهازية في الحزب على قرار المؤسسات المركزية للحزب، وذلك مستغلين اطارا خارجيا (الجبهة) حيث يتمتعون بالاغلبية.
يجب التنويه الى ان الحزب برئاسة الامين العام الجديد عصام مخول (والثاني في قائمة الجبهة) لم يعارض مبدئيا التحالف مع الطيبي. وذلك رغم ان الطيبي معروف بانه اكثر الشخصيات السياسية انتهازيةً، وكانت الجبهة قد رفضت عام 1999 التحالف معه شخصيا، وفضحت التجمع على تشكيله القائمة المشتركة معه. ان اعتراض الحزب هذه المرة اقتصر على ادراج الطيبي في المكان الثالث في القائمة، لان في هذا قضاء على الهوية العربية اليهودية المشتركة. ان هزم مخول في الجبهة يثير علامات استفهام حول من هو الرجل المقرِّر في الحزب: هل هو مخول الذي يتمتع بالاغلبية داخل الحزب، ام بركة الذي يتمتع بالاغلبية داخل الجبهة؟
بلا شك تأتي الجبهة الى هذه الانتخابات وهي تعاني من انشقاق غير معلن. ان ازمة المبدأ العميقة التي يعاني منها الحزب، تفسر السهولة التي نجح بها بركة في الانقلاب على امينه العام. ولو كان للحزب ولمخول الاستقامة والمصداقية والمبدأ لما قبلا بهذا الانقلاب الداخلي، الذي يعتبر استهتارا بمؤسساته وقراراته ولاعلن عن فض الشراكة مع الجبهة.
لقد سدد بركة ضربة قاصمة للعمود الفقري والمؤسسة الوحيدة التي تتشكل منها الجبهة، غير ان هذا ينذر بانفراط عقد الجبهة نفسها والقضاء عليها كليا، وتحولها الى مجرد افراد وشخصيات تسعى وراء البرلمان.
اضافة الى ازماتها الداخلية سيكون على الجبهة منافسة حزب التجمع الوطني الديمقراطي على نفس الجمهور، الامر الذي يفسر تبني النائب بركة للهجة القومية التي هي لسان حال التجمع.
في هذه المرة سيكون من المثير النظر الى التجمع برئاسة عزمي بشارة، الذي يترشح في هذه الانتخابات وحيدا بعد ان احرق كافة الجسور التي اوصلته في السابق الى الكنيست.
تجاوز نسبة الحسم الذي هو الهدف الاساسي والضمان الوحيد لوجود الحزب المفقود ميدانيا، كان امرا عصيّاً على التجمع حتى عندما اعلن للمرة الاولى ترشيحه (1996)، وكان تأسيسه وعدا بقيام حزب قومي وطني قاعدته ورصيده حركة ابناء البلد. واضطر حينها للاعتماد على اصوات الجبهة، فتحالف معها وتمكن من دخول الكنيست. غير انه في اليوم التالي انشق عنها وكوّن كتلة مستقلة في الكنيست وبدأ ينافس الجبهة على جمهورها من المثقفين.
في المرة التالية اضطر لعقد التحالف الانتهازي مع احمد الطيبي، وكانت هذه محاولة من الاثنين لانقاذ نفسيهما وتجاوز نسبة الحسم. وفي اليوم التالي انشق بشارة عن الطيبي وتخلص من التحالف بعد ان وصل، واشتدت العداوة بين الشخصيتين. قبل اغلاق ملف القوائم هذا الشهر تفاوض التجمع، دون نجاح، مع الحركة الاسلامية، وكان في هذا قفزة بهلوانية لحزب يدعي العلمانية والليبرالية. بالاختصار نحن امام حزب يحتاج حاجة ماسة للركوب على رصيد احزاب او اصوات شخصيات اخرى حتى يدخل الكنيست.
نظرة خاطفة على رسالة التجمع لهذا العام وشعاره "هوية قومية مواطنة كاملة"، يمكنها ان تلقي المزيد من الضوء على طبيعة هذا الحزب المتذبذب. فمن النداءات الرنانة في القرداحة حول "توسيع حيز المقاومة" ضد اسرائيل، انتهى اليوم لطلب المواطنة الكاملة. فماذا يريد التجمع بالضبط: المقاومة ام المواطنة؟ في الشعار نفسه تناقض سافر، اذ ان التيار القومي العربي المتمثل بحزب البعث السوري او العراقي، لا يعترف باسرائيل بتاتا، فكيف بالامكان الجمع بين هذا الفكر وبين المطالبة بالمواطنة الاسرائيلية الكاملة؟ لا مجال، الا في حالة واحدة: اذا كان من ينادي بها لا يقصد حقا ما يقول، وان هدفه الحقيقي هو الحصول على المواطنة الكاملة للشريحة العليا والمثقفة من المجتمع العربي التي يمثلها، لتحصل على المزيد من الوظائف في المؤسسة الحاكمة.
اين العمل الميداني
القاسم المشترك بين كل هذه القوائم ان العامل العربي مفقود في معادلاتها، فهي قد ابتعدت عن العمل الميداني الذي له علاقة بمواجهة القضايا الجوهرية للجماهير العربية، وقسمت الادوار فيما بينها لخدمة المقربين منها. فالقائمة الموحدة تدعو الجماهير لتحرير المقابر اولا، بدل تحرير اماكن العمل اولا. وهي في نفس الوقت لا تنسى المقربين الذين هم الاولى بالمعروف، من الشرائح الوسطى في المجتمع والعائلات ذات الاسم في كل بلد ومدينة، وتوظفهم في المساجد برتب خطباء وفي المدارس برتب معلمين ومدراء وفي كليات الشريعة.
اما التجمع فانه لا يرى تناقضا بين صفته القومية وبين استخدام اموال الصناديق الاسرائيلية والحكومية، لتمويل الجمعيات الاهلية المختلفة التي اسسها لتوظيف المثقفين العرب. ويتلقى هؤلاء اجورا تعادل ال15 الف شيكل، مقابل ابحاث ودورات تدريبية، ودون أي ارتباط بالشارع وحاجاته. والجبهة دبرت منذ زمن جماعتها في المؤسسة الحاكمة نفسها، داخل الهستدروت وفي السلطات المحلية، وقضت على وجودها في الشارع وحصرت نفسها في العمل البرلماني.
ان القوائم الرئيسية الثلاث على اختلاف الوانها، الاسلامية او القومية او الشيوعية، تتبع في الحقيقة نفس النهج، وهو نهج التحالفات مع الحكومة لخدمة الشرائح الوسطى، والاستهتار بمصالح وهموم الاغلبية الساحقة من المجتمع، الامر الذي اوصلنا للطريق المسدود الحالي. من هنا فان نجاح هذه القوائم في الدخول للكنيست، لن يكون الا حرقا لاصوات الناخب العربي وتفويضا مجددا للاستهتار به وبحقوقه.
الصبار
كانون اول 2002 ، العدد 159 |