|
شيطان أبوهم يبقى إيه
الصديق بودوارة
الحوار المتمدن-العدد: 4807 - 2015 / 5 / 15 - 13:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أولاً ، سأعتذر من الشاعر المصري الكبير "أحمد بخيت" وأنا أستعير إسماً لإحدى أروع قصائده الرائعات ، والتي اسماها ، "دين ابوهم يبقى إيه " ، فقد أجبرني توالي أحداث هذا الزمن "الأغبر" على التساؤل ، وبإلحاحٍ كبير ، على رسم ألف علامة استفهام لم أعثر لهن على جواب . استفهام واحتجاج وشكوى ووجع ، ومشهد مختلط مزدحم ببشرٍ لا وضوح لهم ولاهوية ،ولامنهج لهم ولا مبدأ ، ولا لسان لهم ولا أمان ، ولا معالم لهم ولا ملامح ، ولا معنى لهم ولا جدوى . بشرٌ لم أجد ما يشفي الغليل أكثر من الصراخ في وجوههم بأعلى صوت ، وبالمصري الفصيح مقلداً أحمد بخيت في صراخه ذات يوم ، مغيراً كلمة "دين" بكلمة "شيطان" ، موجوعاً بحقيقة عجز هائل عن الفهم والاستيعاب ، باكياً مع جمله "الباكين حولي" ، مستنكراً ، هاتفاً ، صائحاً بأعلى الصوت : شيطان أبوهم يبقى إيه ؟ لكن البداية ليست من هنا ، لأني سأبدأ معكم من أول حكاية الشياطين ، لعلنا نصل إلى جوابٍ مختصر لحكاية البشر . لكننا سنقف أولاً على مشهدٍ مات كل أصحابه منذ مئات السنين . إن رجلاً من بني "تميم" ، يقبل على الفرزدق ، وينشده بيتاً من الشعر : " ومنهمُ عمر المحمودُ نائلهُ .. كأنما رأسه طينُ الخواتيمِ " إن الرجل يحاول أن يعرض موهبته الفقيرة على باب مدرسة الفرزدق ذائعة الصيت ،فاحشة الثراء، لكن الفرزدق يتحفنا بجوهرةٍ نادرة المثال ، إنه يرد على التلميذ بحكمةٍ تعيده إلى صوابه : (( ــ يا أخي ، إن للشعر شيطانين ، أحدهما يُقال له " الهوبر" ، والثاني يُقال له "الهوجل" ، فمن انفرد به "الهوبر" جاد شعره وصح كلامه، ومن انفرد به "الهوجل" ساء شعره وفسد كلامه، وقد اجتمع لك الاثنان في هذا البيت ، فكأن الهوبر كان معك في أول البيت فأجدت ، وخالطك الهوجل في آخره فافسدت )) إلى هنا ينتهي كلام الفرزدق ، ليبدأ بعده ما أريد أن أوصله لحضراتكم من كلام ، فهل كنا موفقين حقاً في اختيار الجن المناسب لهذه المرحلة المجنونة ؟ هذا فقط سؤال واحد ، لكن أسئلة غيره تتربص بنا ، وتتظاهر مطالبةً بالرواتب والمنح والجواب أيضاً ، فلكل جنه الخاص ، ولكلٍ عفريت قارورته الذي يسكن مؤخرة جمجمته متحكماً بمقاليد كل شيء فيه ، فهل تسمحون لي الآن أن أحدثكم قليلاً عن الجن ، كمدخل مناسب للكلام عن السياسة ؟ " لكل شاعر جني خاص به " ، تقول العرب في قديمها ، حتى أن الفرزدق نفسه كان يُقال عنه إن له جناً اسمه "المخّبل" ينفث على لسانه الشعر ، فهل لكل سياسي في هذا الزمن عفريت مصباحه الخاص ؟ وكان العرب يقولون عن الشعر نفسه أنه " رقية الشيطان " ، فهاهو "جرير" ينشد ذات مرة : " رأيتُ رقي الشيطان لا تستفزه .. وقد كان شيطاني من الجن راقيا " فهل يجوز لنا أن نقول الآن عن السياسة إنها "رقية الشيطان" ، ولكن ، أي شيطان يمكن أن ينتج لنا هذا الكم الهائل من البلهاء والسفهاء والمغفلين ؟ وكان بعض العرب يطلقون على الشعراء اسماً مثيراً للجدل ، هو مديح في باطنه ، غامض مخيف في ظاهره ، لقد كانوا يسمونهم "كلاب الجن" كما أنشد "عمرو بن كلثوم" في معلقته الشهيرة : " وقد هرت كلاب الجن منا .. وشذبنا قتادة من يلينا " فإذا كان هذا وصف ابن كلثوم للشعراء ، فكيف يمكن أن يصف ساسة اليوم ، لو قدّر له أن يعود إلى الحياة بعد 1100 سنة من موته ؟ لهم صواحبهم من الجن ، أولئك الشعراء الأماجد ، طوراً يقولون هم ، وطوراً يتكلم الجن شعراً على ألسنتهم ، ألم تسمعوا ببيت "حسان بن ثابت" الشهير ؟ " ولي صاحبٌ من بني الشيصبان .. فطوراً أقول ، وطوراً هو " لهم شياطينهم ، وقد اعترفوا بوجودها على رؤوس الأشهاد ، وجادوا حتى بأسمائها شعراً ونثراً ، فلماذا يختبيء ساستنا وراء غموضهم المريب ، ويرفضون ولو مجرد التلميح بأسماء شياطينهم الخفية ؟ إننا نشكر " أبي النجم الراجز" وهو يعترف بشجاعةٍ بوجود شياطينه : " إني وكل شاعرٍ من البشر .. شيطانه أنثى وشيطاني ذكر " هذا الذي أقر بشيطانه ، هو أشجع وأكثر واقعية من كل ساسة هذه البلاد التي ينكرون شياطينهم ، لكنهم ينصاعون لهم في نهاية المطاف . فهل يحق لنا الآن أن نسأل النشطاء السياسيين ، ولاعبي سيرك السياسة المبتدئين ، وجحافل المحليين "الاستراتيجيين" ، والخبراء والحكماء ومختصي معامل السياسة العربية الرديئة ، هل يحق لنا الآن أن نسألهم والمرارة تستبد بنا ، والتهجير يضرب الآلاف في مقتل ، والخوف والقتل والرحيل المر يتلاعب بالوجوه البائسة ، هل يحق لنا أن نسأل عنهم الآن صارخين : شيطان ابوهم يبقى إيه ؟ يحق لنا أن نسأل ، كما يحق لنا أن نموت ، أليست هذه خيارات لنا ؟ أم أن الموت سهل متاح ، لكن السؤال حجر عثرةٍ ينبغي لنا ألا نتعثر فيه ؟ يحق لنا أن نسأل ، والأخبار تطالعنا بأن كل ترشيح لمنصب ، وراءه دولة تناصره وتصر عليه ، وأن كل رأي يُقال ، وراءه جهاز مختص خارجي يدعمه ، وأن كل اجتماع يُعقد ، وراءه حزب ينفق عليه ، وأن كل حزب يُعلن عن تأسيسه ، وراءه قوى اقليمية تسانده من وراء الستار ، وأن كل سياسي يتشدق بحب وطنه ، وراءه وطنٌ آخر يمد له يد العون والمساندة ، وإن كل مقترح يُقدم ،وراءه جهة سيادية هي صاحبته وولية أمره ، وأن كل خطاب يُلقى ، وراءه يد خفيه كتبته ونمقته وأنجزت حروفه وخلقت معانيه ، وأن كل حوار يتم ، وراءه متحاورون لا يراهم أحد ، ولا تشاهد وجوههم قاعة مؤتمرات ، لكنهم هم من يديرون دفة الحوار ، وهم من يسيرون به إلى حيث يريدون . ألا يحق لنا بعد كل هذا أن نسأل هذه الوجوه التي نراها على الشاشات تحلل وتشرح وتفسر ، وهي لاتملك من أمر عقولها شيئاً ، ألا يحق لنا أن نسألها وبأعلى مانملك من مقدرةٍ على الصراخ : شيطان ابوكم يبقى إيه ؟ على الأقل ، نريد أن نعرف من يحرككم ؟ نريد أن نعرف من يمسك بخيوطكم ؟ نريد أن نعرف من بيده قراركم ، ونريد أن نعرف على الأقل إلى متى سنظل نموت بلا حساب . ألا يحق لنا أن نعرف الآن ؟ أم أنكم تريدون المزيد من الجثث حتى تحصلون على الاذن بالكلام ؟ أخبرونا على الأقل كم يلزمكم من الموتى ، وأخبرونا على الأقل كم تريدون من الأيتام والمشوهين وأصحاب العاهات والمشردين في خيامٍ لم توفروها لهم بعد ، لعلنا نطلق حملة تبرع عربية هائلة ، تجمع لكم ما تريدونه من ضحايا وجثث ، لعلنا نصل إلى الرقم المناسب ونستريح . على الأقل ، أخبرونا عن شياطينكم ، هل يريدون التقسيم ؟ واذا كانوا يريدون التقسيم فلماذا لا يسرعوا به لكي ينتهي على الأقل هذا العبث ، وهل نحن بشر عشنا الحياة برفاهية في زمن الوحدة حتى نفتقد الترف في عهد التقسيم ؟ لعنكم الله موحدين ومقسمين ، انجزوا ما يريده شياطينكم ، قسموا هذا الوطن الكبير إلى ألف دولة ، أو اجعلوا لكل شارعين مملكة ، لم يعد يهمنا شيء ، ولم تعد تعنينا التفاصيل ، لقد فاض بنا أيها السادة السياسيون ، كل ما نريده الآن أن يسرع شياطينكم بانجاز ما يريدونه ، قسمّوا ، أو وحدواً ، المهم أن يتوقف القتل ، وأن يعود الناس الى مساكنهم ، وأن يتوقف هذا الدم وهذا الرعب الذي لم يبق لنا مشاعر ولا أبقى لنا على أحاسيس ، ولا وطن . أيها الساسة ، ساسة مسرح العرائس القديم ، لقد اعترف لنا الفرزدق بشيطانه ، وباح لنا جرير بسر وحيه ، وأعلن حسان بن ثابت عن اسم شيصبانه ، وكشف الراجز عن هوية الجني الذي ينفث على لسانه الشعر ، لقد عرفنا شياطينهم واسترحنا ، فهل يمكن أن نعرف الآن أسماء شياطينكم ؟ وهل يجوز لنا بعد كل هذا الخراب أن نصرخ في وجوهكم بلا خوف : شيطان أبوكم يبقى إيه ؟
#الصديق_بودوارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يد .. في وجه الوطن
-
ميم
-
مأزق الحوثيين
-
لعبة شارلي ابيدو
-
مجلس أمن الجثث
-
القداسة .. بذيل قرد
-
الدم الرخيص .. جداًً !!
-
سوق متعة الكذب !!
-
مطلوب غاندي .. ليبي !
-
متاهة الحقائق الضائعة
-
ثورة صباحي أم دولة السيسي ؟!!
-
أحزان الولاية الرابعة
-
أوكرانيا .. الربيع الميت !!
-
الماليزية .. وأختها الليبية !!
-
دروس الثورة الثانية (1)
-
نهاية العصر الأردوغاني !!
-
كلاب -كيم جونغ- !!
-
المترهلون
-
ثور بشار الأبيض
-
ليلة عرس -روان-!!
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|